تصور الكاتبة المغربية في نصها المكثف العذاب المخفي لطرفي الوجود الرجل والمرأة في مأزق المجتمعات التقليدية حيث يعاني كليهما من عذاب كتم مشاعره الحقيقية فيتصرف حتى في علاقات الجنس مع عشيق تمثيلاً لا يعبر عن أحاسيسها وتعزوها إلى العوز، بينما زميلها المعوز أيضاً يلجأ إلى المخيلة والأحلام .

الخبــز

هـدى الشماسي

 

حلم الرجل بأنه قد عاد طفلا.

في منامه الطويل كان قد رأى أشياء أخرى كثيرة، والده وهو يرقص يوم ختانه، مقلاة احترقت بالكامل، وكلب صيد يركض وسط طريق سيار لم يره من قبل.

تمطى وفتح عينيه. إن الجو مظلم، وربما تكون الساعة قد جاوزت العاشرة. ابتسم لنفسه: قيلولة طويلة، وظن أنه سينهض ولكنه عاد وانقلب على جانبه الأيسر.

على الجدار صورة للاعب كرة كان قد وضعها هناك مستأجر سابق. اللاعب أسود البشرة ويبتسم عن أسنان بيضاء تماما.ابتسم له هو أيضا. إن النوم الطويل يجعلنا طيبين.

فكر بأنه جائع. داهمه الجوع كفكرة فقط فهو لم يشعر به في معدته. قال أنه سينهض وسيأكل خبزا مع زيتون حتى يمتلئ ثم يعود لفراشه، ولكنه لم يأت بأي حركة، وسمع أصواتا من الشقة التي بجانبه.

إنهم يحبون أن يتحدثوا بصوت عال. تصيح الأم عادة: ياسمين، ثم تجيب الفتاة: يا أمي، ويحدث هذا بهرج كبير مهما كان الوقت، وعدا ذلك فإنهم يؤذونه قليلا.

قال الأب في البداية لصاحب البيت: لن ينشر غسيله على السطح، السطح للنساء.

وظن هو أن الأمر مزحة، ولكن الرجل الأصلع كان واضحا: نحن هنا نحترم النساء.

هذا أمر جيد. سمع صوت ياسمين أحيانا وهي تغني بالانجليزية، ليس مقاطع طويلة أبدا، بل صمت تخرج بعده بجملة أو جملتين، ولا شك أنها تحسن الغناء.

سمعها أيضا تصرخ ذات مرة: ابتعد عن أمي.

وكان هناك أيضا صراخ وتكسير أوان. قال لنفسه بصوت عال: أتمنى أن لا يقتلها على الأقل.

وبدا له بعدها أنه من المخيف أن يتحدث على هذا النحو. زميلته قالت له: الرجل الذي أضاجعه يضرب زوجته كل يوم تقريبا.

إنها صريحة ووحيدة كثيرا بسبب ذلك. شتمت له كل زملاءها المنافقين والمرتابين، وأنهت ذلك بإطلاق وعد كبير: ذات مرة سأنام معك.

يا له من وعد. أدخلها بعدها أحلامه. تدلف إلى غرفته وتندس معه تحت الفراش ليحدقا بالسقف، وحينها يبدأ الجنس.

- أنت تكذب.

- أنا صادق تماما.

- لم تنم مع أي امرأة سابقا؟

- أقسم على ذلك.

إن هذا يجعله مضحكا لكنها لا تنبذه. يبدو له أنها تنوي أن تعلمه كيف ينام مع أنثى، ولكنها تأجل ذلك بسبب الانشغال فقط.

قبلته ذات مرة في علية المقهى حيث يعملان، وقالت له بعدها: ستبلي حسنا فيما بعد، ولكنها لم تتابع دروسها له أبدا. جاءت للعمل ذات مرة دون زينة. بدت شاحبة وبعيدة عن القبح مع ذلك. سألها عن ما حدث لها فشرعت بالبكاء: سوف أغادر المدينة.

عادا للعمل بجدية عند ظهور المدير، ولكنها كانت تتجنب النظر إليه، وعندما انتهت ساعات العمل ركضت إلى الخارج دون أن تنتظره.

إن النساء غريبات الأطوار. صرخت المرأة هذه المرة: ياسمين! ولم يجبها أي صوت. صمتت قليلا ثم عادت تقول: حسنا لا تنسي تنظيف الصحون.

كان ذهنه مشوشا بسبب النوم الطويل. أصاخ السمع مجددا ولكنه لم يتلق سوى الصمت. إن هذه الجدران تجعله يسمع ما يدور في الشقة المجاورة بوضوح. حزم أمره: إن الأم تُمثل.

بدأ حينها يشعر بالجوع فعلا. هدأ نفسه بأنه سينهض فيما بعد ويشتري خبزا ساخنا، وبقي متكئا على ذراعه اليسرى.

- إذا كانت الأم تعرف بغياب ياسمين، فأين ذهبت إذن؟

أغمض عينيه وتذكر الكلب الذي كان يجري في حلمه. لقد طارده كلب شوارع في صغره وانتهى الأمر بعضة وتمزيق قماش بنطاله. قالت له أمه حينها: كان يمكن أن ترميه بالحجارة.

وحينها أحس بالخجل أكثر من الألم في ساقه. عاوده نفس الشعور وهو يستمع لزميلته قبل مغادرتها للعمل نهائيا.

- إنه ينفق علي، والآن علي أن أطيعه.

أراد أن يقول لها بأن تعيش براتب العمل لكنه استحى، وتحدثت هي.

- لا يمكن أن نعيش براتب كراتبنا. أنت تعلم.

إنه يعلم طبعا.قبلته مرة أخيرة وقالت له أنها ستتبع عشيقها. سيغادران إلى مدينة أخرى لبعض الوقت، وأمور لا يفهمها:

علي أن أكون كل يوم جميلة أكثر. كل يوم سعيدة وشهية ومحتالة ومغرية. هذا عذاب.

قال لها أنه يراها كذلك فعلا، فقبلته على جبهته: أنت لا تعرف الثمن الذي أدفعه كي أكون كذلك.

إنهم يغسلون الأواني الآن في الشقة المجاورة، وهو لم يفكر حتى بالنهوض لشراء الخبز. يغمغم صوت بلحن شبيه بأغنية معروفة، ولكنه لا يقول الكلمات. يفهم أنها ليست ياسمينا بل أمها، ويظهر خوف مفاجئ في قلبه.

- لماذا تصر على التمثيل هكذا هذا اليوم؟

يغمض عينيه ويجعل ياسمين تكون زميلته التي غادرت المدينة مع عشيقها. غنت قبلها عن معاناتها حتى تّقرح حلقها، ولكن دائما بلغة لا تفهمها والدتها.

- في أحلامي أراك وأحسك.

ولكن هل كانت تقصد عشيقها؟ لا شك أنها كانت تقصده هو، ولكنه كان جبانا. قالت له أمه من قبل: لماذا لم ترم الكلب بالحجارة؟ سوف يذهب ويبحث عن زميلته وسيأتي بها. سيقول لها أنه يحبها، ولا يهمه إن لم تكن عذراء ولا ماضيها مع عشيقها. سيقول لها وهو منحن على ركبته: تزوجيني، وستكون هذه نهاية جيدة لكليهما، وحين يصل إلى هذا القرار النهائي يغمض عينيه مؤجلا أمر الخبز والطعام للصباح.