يكشف المفكر الاقتصادي المرموق هنا عن ثالوث التحديات الوجودية الذي يواجه مصر: كرونا وسد النهضة والمتغيرات المناخية، وكيف أن الجائحة كشفت مساوئ اقتصادها الريعي، واعتمادها القاتل على الديون، وينبه لضرورة العمل على تغيير جذري في الاقتصاد كي تتحرر مصر من التبعية، ويرتد لها استقلالها المفقود.

مصر وكورونا.. ثالوث التحديات الوجودية

جـودة عبد الخالق

 

كيف نواجه كورونا مواجهة شاملة و فعالة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تفرض علينا الانتباه إلى ثالوث التحديات الوجودية لمصر. فتحدى كورونا في حالتنا يضاف إلى تحديين آخرين هما سد النهضة وتغيرات المناخ، لتشكل معا “ثالوث التحديات الوجودية” لمصر. وفى هذا المقال نركز على تحدى كورونا، على أن نتناول التحديين الآخرين لاحقا. لقد جاءت جائحة كورونا كاشفة لمدى هشاشة نموذج الاقتصاد الريعي الذى اتبعته مصر على امتداد نصف قرن. فنتيجة لهذا النموذج، تم رهن مقدرات بلادنا بأربعة مصادر ريعية؛ ريع الموارد الطبيعية (نفط وغاز وسياحة)، وريع الموارد البشرية (تحويلات المصريين المغتربين)، وريع الموقع (قناة السويس)، والريع الاستراتيجي (المساعدات والمنح المالية، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج). وأهدرنا الزراعة (حتى ما ورثناه من محمد على) والصناعة (حتى ما تركه لنا طلعت حرب)، وأهملنا التعليم و الصحة.

أثبتت التجربة أن هذا النموذج لا يحقق التنمية المستدامة. بل إنه أدخل البلاد في دوامة من اتساع دائرة الفقر وتتابع موجات التضخم العاتية والتآكل المستمر لقيمة الجنيه المصري و تراكم الدين الداخلي و الخارجي تفاقم مشكلة البطالة. أصبحنا لا ننتج شيئا، بل نكتفى بعرض مواردنا الريعية للبيع في أسواق لا سيطرة لنا عليها. وبالتوازي، كان اللجوء المتكرر لمؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي و صندوق النقد الدولي) بحثا عن مخرج من الأزمات تحت مسمى برامج الإصلاح الاقتصادي. ولنقارن حالنا بدولة مثل كوريا الجنوبية اتبعت نموذج الاقتصاد الإنتاجي. فحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، كانت مصر تتفوق على كوريا الجنوبية في كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. والآن اصبحنا أقرب الى القاع وصاروا هم أقرب إلى القمة. ولعل في هذه المقارنة الكثير من الدروس البليغة.
لقد وجهت جائحة كورونا ضربة شديدة لمصادرنا الريعية جميعا، وإن بدرجات متفاوتة. وأصبح الوضع الاقتصادي شديد الصعوبة بالنسبة للجميع: الحكومة والأسر والعمال ورجال الأعمال. فقد أدت الجائحة إلى تخفيض الإيرادات العامة وزيادة النفقات العامة في وقت واحد، مما يعنى زيادة عجز الموازنة العامة للدولة. كما تهاوت إيراداتنا من النقد الأجنبي وانخفض الاحتياطي لدى البنك المركزي وارتفعت البطالة وزادت الأسعار. ولابد أن ندرك أنه لو كان النموذج الاقتصادي الذى اتبعناه هو النموذج الإنتاجي بدلا من النموذج الريعي، لكان تأثير جائحة كورونا على اقتصادنا ومجتمعنا أقل حدة بكثير مما هو الآن. هذه نقطة جوهرية. ولذلك، فالحكمة تقضى بأن نتخلى عن المسار الاقتصادي على طريق النموذج الريعي. وهذا يستدعى مراجعة جذرية للسياسات في مختلف المجالات.

ما هو سبيلنا إذن لمواجهة تداعيات جائحة كورونا؟ أمامنا على الأقل بديلان: الأول، وهو ما اختاره المسئولون بالفعل، هو اتخاذ إجراءات احترازية لدرء خطر فيروس كورونا على الاقتصاد وحياة الناس، وتقديم مدفوعات تعويضية للمتضررين ثم التعايش معه انتظارا لعودة الأمور إلى سابق عهدها (أي استئناف النشاط الاقتصادي والاجتماعي على مسار النموذج الريعي). وبالفعل حصلت الحكومة على تمويل من صندوق النقد الدولي في إطار “أداة التمويل السريع- RFI” بقيمة 2.77 مليار دولار لمواجهة الاحتياجات العاجلة لميزان المدفوعات وكذلك مواجهة الانفاق الضروري لمساندة بعض القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية المتضررة من الجائحة. وحصلت مؤخرا على 5.2 مليارات دولار أخرى من الصندوق في إطار ترتيبات المساندة مقابل الالتزام بإجراء إصلاحات هيكلية لم تعلن تفاصيلها. كما قامت مؤخرا بطرح سندات في الخارج بآجال متفاوتة بلغ مجموعها 5 مليارات دولار. وهذا معناه زيادة الدين الخارجي عن مستواه الحالي المرتفع أصلا. وفي تقديرى أن اللجوء إلى التمويل الخارجي لمواجهة تداعيات كورونا لا يتناسب مع خطورة الوضع. فهو ربما يحل مشكلة السيولة على المدى القصير، لكنه يفاقم الوضع الاقتصادي برمته على المدى الطويل. والمطلوب هو اتخاذ ما يلزم من إجراءات في توقيتات وآجال محددة لمواجهة ثالوث التحديات الوجودية المتمثلة في كورونا والتغيرات المناخية وسد النهضة. وهذا يقودنا إلى البديل الثاني، أي التخلي عن نموذج الاقتصاد الريعي والقيام بتعديلات جذرية على النسق الاجتماعي الاقتصادي السياسي بما يجعل هذا النسق أكثر صلابة في مواجهة الصدمات الخارجية أيا كانت. وللأسف، فإن المساحة المتاحة لنا هنا تحول دون الدخول في التفاصيل، ولذلك سنكتفى بأمهات المسائل.
وبمراجعة الوثائق الأساسية التي تعكس سياسات الحكومة في المجالات المختلفة (مثل مشروع الموازنة العامة للدولة وخطة التنمية) نلاحظ أنها تتجاهل ثالوث التحديات الوجودية تماما. ولا بد أن يعاد النظر فيها. فمشروع الموازنة العامة للدولة 2020/21 المقدم إلى مجلس النواب لم يرد به أي ذكر لتداعيات كورونا وتأثيره على الوضع المالي للبلاد، رغم الإجراءات التي اتخذت بالفعل تنفيذا لتوجيهات رئاسية. كما أن الخطة متوسطة المدى للتنمية المستدامة 2018/19-2021/22 التي من المفترض أنها تحدد التوجهات الأساسية لاقتصاد البلاد قد وُضِعت قبل اندلاع كورونا ولا تتضمن شيئا للتعامل مع الطرفين الآخرين في ثالوث التحديات الوجودية، وتحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء هذا الثالوث. وسنتناول هنا الخطوط العريضة للسياسات المطلوبة للمواجهة الفعالة لتداعيات فيروس كورونا المستجد على مصر.
أولا: اتضح من جائحة كورونا الأهمية البالغة لتغيير النظرة إلى قطاع الصحة. فالخدمات الصحية ليست سلعة خاصة يتم تقديمها من خلال قوى السوق طبقا لمنطق المكسب والخسارة. بل هي في المفهوم الاقتصادي الصحيح سلعة عامة، ويجب توفيرها للجميع وعلى قدم المساواة كجزء أساسي من دور الدولة. ويحدد دستور 2014 معايير تقديم هذه الخدمة وحدود التمويل اللازم لها.
ثانيا: يبلغ معدل الأمية الأبجدية في مصر 26%، وهو معدل شديد الارتفاع مقارنة بنظرائنا في المستوى الاقتصادي، ناهيك عن الأمية الوظيفية وتراجع مستوى التعليم (تؤكد التقارير الدولية ذات العلاقة أن مصر ترتيبها 101 من بين 144 دولة في مؤشر التعليم). وقد تبين من تداعيات كورونا الخطورة البالغة لانتشار الأمية في المجتمع؛ حيث يصعب توجيه الرسائل المتعلقة بالإجراءات الاحترازية الى المواطنين وضمان التزامهم بها بدقة. أضف إلى ذلك تدني مستوى النظافة الشخصية والنزعة التواكلية في النظر إلى مخاطر العدوى بالفيروس (خليها على الله). وكلها ظواهر مرتبطة بتدني التعليم وتفشى الأمية. و تبقى نصوص دستور 2014 ذات العلاقة في حاجة إلى تفعيل حقيقى.
ثالثا: كشفت جائحة كورونا عن اضطراب سلاسل الامداد العالمية، فضلا عن اتجاه الدول المصدرة للغذاء لوضع قيود على تصدير السلع الغذائية الاستراتيجية (مثل الحبوب) وجعل الأولوية لاحتياجاتها المحلية. هذا يضع الدول المستوردة للحبوب وفى مقدمتها مصر في موقف حرج، لولا تزامن موسم حصاد القمح عندنا مع اندلاع وباء كورونا. فمصر تعتمد على الخارج لتأمين أكثر من نصف احتياجاتها من الغذاء. وهذا وضع مثير للقلق من زاوية الأمن القومي، خصوصا في ظل التغيرات المناخية ومخاطر سد النهضة. نحن بحاجة إلى وضع قضية الأمن الغذائي في مكانها الصحيح بين أولوياتنا الوطنية.
رابعا: تستلزم صلابة اقتصادنا في مواجهة الصدمات الخارجية تعديل السياسات وزيادة الاستثمارات في قطاعي الزراعة و الصناعة بعد أن تراجع الاهتمام بهما تراجعا شديدا على امتداد نصف القرن الماضي. فهذا التوجه الاستراتيجي يضمن حل مشكلات الفقر والتضخم والأمن الغذائي ويحافظ على قيمة الجنيه- أهم رمز لاستقلالنا الاقتصادي.