وسط كثرت التحليلات لما يجري في العالم اليوم، وطرح مفهوم "مناعة القطيع" أو "التباعد الاجتماعي"، ينطلق الكاتب في تحليله من محورين، الأول ظاهري ينشغل بفهم الحالة وتشخيصها والمستقبل المتوقع لنهايتها، والآخر روحاني، بناء على أن للعالم أصلاً وجه باطني فاعل يجب الأخذ به.

إلى أين يسير العالم؟

يحيى القيسي

 

كثرت التحليلات من الاقتصاديين والسياسيين، وحتى العامّة والمشعوذين لما يجري في العالم اليوم من عطالة ممنهجة في معظم الدول بعد أن داهمتها موجة الهلع من وباء كورونا، وبالطبع لكلّ محلل رؤيته الخاصة التي يستقيها من خبراته ورؤاه، وما يتوفر عنده من معلومات أو ربما فائض كلام وإشاعات، ولقد تابعت الكثير مما قيل، أتفق مع بعضه وأختلف مع الكثير مما ورد فيه، لكنّي أحترم الاجتهادات الأصيلة، والرؤى المغايرة لما يطرح من “علف إعلامي” لتغذية ما أطلق عليه بـ“القطيع” الذي يرى بعضهم بضرورة أن يتحصّن من الفيروس عبر الاصابة به فيموت من لا يستطيع مقاومته، ويحيا من ينتصر عليه، أو يرى بعضهم الآخر أن ينعزل الناس اجتماعياً عبر “التباعد” فيما بينهم، والغاء كافّة الفعاليات التجمعية، واللقاءات الإنسانية بما في ذلك العمل اليومي تجنّباً للإصابة بهذا الوباء الذي قيل لنا إنّه إلى اليوم بلا دواء!

لقد انشغلت على الصعيد الشخصي خلال السنوات العشرين الماضية من عمري في محاولة مكثفة لفهم العالم، وكيف يدار ظاهرياً وباطنياً، وهي رحلة طويلة وشاقّة، لكنّها ممتعة بسبب الكشوفات التي من الممكن أن تحصل للمرء الباحث عن الحقيقة، والتي تكون بمثابة الضوء الذي يجتاح أعماقه، ويضيئها بالمعرفة أو “الاستنارة العرفانية” للحكمة المقطّرة التي تنشر أقصى درجات الغبطة، أو ربّما أقصى درجات الحزن، لأنّ الحقيقة قاسية غالباً.

ما سأكتبه هنا هو رؤيتي الخاصّة لما يجري في محاولة للفهم، قد تجد أنّها تقاطعت مع رؤى أخرى أحياناً، أو نأت عنها، فالمعارف مبذولة للمتأملين، وبالتالي ثمّة الكثير في العالم اليوم ممن يحاول أيضاً أن يفهم ما يدور حوله، في زمن يجعل الحكيم في حيرة دامسة.

لقد تساءلت مرة عبر صفحتي على الفيس بوك فيما إذا كان للبشر أعداء من غير أنفسهم، وقلت: هل ثمّة كيانات غير بشرية يمكن أن تكون عدوة للبشر وتسعى إلى هلاكهم؟ للأسف فإنّ مثل هذه الدعوة الجادة للنقاش قوبلت بإجابات تقليدية أو ساخرة وقلة منها أخذتها على محمل الجد، أقول ذلك لأنّي سأنطلق من تحليلي لما يجري من محورين، الأول ظاهري ينشغل بفهم الحالة وتشخيصها والمستقبل المتوقع لنهايتها، والآخر روحاني بناء على أن للعالم أصلاً وجه باطني فاعل يجب الأخذ به، وبالطبع فإنني سأبدأ بالأمر المادي الظاهري في هذا الجزء الأول، فيما سأخصص الجزء الثاني من المقال للجانب الروحاني والديني لمن أراد أن يتعرف على ذلك الوجه الباطني.

الحروب المتواصلة ضد البشر
أفرزت البشرية خلال القرن العشرين تحديداً مجموعة من القادة المتهوّرين والجماعات ذات الأجندة الخفية والذين قادوا العالم إلى مذبحتين عالميتين، الحرب العالمية الأولى 1914، والحرب العالمية الثانية 1939 إضافة إلى حروب فرعية أخرى هنا وهناك، مثل حرب فيتنام، وحرب الخليج، وحروب البوسنة والهرسك، ومذابح راوندا العرقية ... وغيرها، إضافة إلى ما يجري منذ بداية القرن الحادي والعشرين إلى اليوم في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وغيرها، وبالتالي فقد دفعت البشرية نحو مائة مليون من أرواح أبنائها على الأقل، عدا عن الدمار الاقتصادي، والعواقب الاجتماعية والنفسية الوخيمة وغيرها، ومن الواضح أن مثل هذه الحروب العبثية لا تعرف حتى الإخوة العرقية، أو الرابطة الدينية، ولا حتى المصالح الوطنية. إنها حروب موجهة أساساً ضد بني البشر أنفسهم، وهم أدوات فيها يسيرون مسرنمين كأنّهم خشب مسنّدة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي له مصلحة في كل هذا الذبح المتواصل للبشر وتدمير حضارتهم؟

ربما ينبغي قراءة كتاب “السرّ الأكبر” للباحث البريطاني ديفيد أيك لمعرفة بعض هذه الإجابات، وأيضاً المرور على بعض الكتب التي تتحدث عن أولئك النفر من البشر الذين يتحكمون بكل موارده وقياداته، أي ما يسمّى بالمتنورين، ويمكن أيضاً قراءة كتاب صدر مؤخراً بعنوان “دكتاتورية المستنيرين” للصحفية الروسية والباحثة أولجا تشيتفيريكوفا. هذا أمر لم يعد سرّاً وقد تواترت فيه الكتب والبحوث، وحتى الأفلام التوثيقة، وانشغلت السينما منذ عشرين سنة بشكل مكثف للترويج له، فدائماً هناك من يسعى لدمار العالم، وهناك من يقوم بانقاذه، لكن المشاهد من عامة الناس لهذه الأفلام قد يختلط عليه الجانب المظلم والجانب النوراني من الأمر، فحتى من يريد دمار العالم لديه هدف نبيل غالباً، ولكن هناك جهات تتربّص به، وغالباً تبدو على هيئة أجهزة استخبارية سريّة عالية الدقة ومتخفية حتى عن دولها.

في كلّ الأحوال هناك دائماً من يرغب بالتضحية بالجزء من أجل الكل دون عواطف شعثاء أو نوايا نبيلة لأسباب لا مجال لشرحها هنا، فحتى “هتلر” نفسه قام بتبرير جرائمه وغزوه لما حوله على أسس تبدو له أخلاقية فيما تبدو للآخرين إجرامية. إنّ سيطرة شخص واحد معتوه أو مشوّه الأعماق على بعض المقدرات العالمية قد يقود إلى خراب ضخم يصعب اصلاحه. تلك هي مسيرة التاريخ لمن شاء أن يأخذ العبر.

ما يهمني قوله هنا إنّ نظرية المؤامرة التي تبدو حقيقية بشواهد هائلة تشير إلى أن هناك جهات تسعى للسيطرة على العالم بشكل أحادي ليغدو ملكها، أي إيجاد حكومة عالمية موحدة، أو “نظام عالمي جديد” تمّ التبشير به مراراً من قبل رؤساء أميركا السابقين على سبيل المثال، لكن أوانه لم يكن قد جاء في ذلك الوقت، وهذه الجهات التي أطلقت عليهم في روايتي “الفردوس المحرّم” اسم “المسيطرون” أو “المهيمنون” هم السادة الحقيقيون الذين يقبعون في الظل، ويتحكّمون بالاقتصاد العالمي، وإدارة السياسات الكبرى بشكل غير مباشر، لنقل مثلاً إنهم مجموعة من العائلات المتنفذة تاريخياً، ولهم واجهات اجتماعية وسياسية واقتصادية تنوب عنهم، هي التي تقوم بتسيير العالم وفق خططهم، ومن هذه الواجهات الجليّة على سبيل المثال فقط “صندوق النقد الدولي” الذي سيكون له الدور الأكبر في المرحلة الحالية والمقبلة في إفلاس العديد من الدول والشركات الكبرى، فقد بدأت هذه الدول مضطرة إلى زيادة مديونيتها الهائلة نتيجة للضغط الاقتصادي الذي تواجهه، أنا لا أتحدث هنا عن الدول الفقيرة بل المؤثرة، لاحظوا أن دولاً نفطية أو أوروبية متنفذة قد وقعت تحت طائلة هذه الديون خلال الأسابيع المنصرمة، كما أنّ الحكومات الكبرى في بعض الدول الفاعلة في العالم اليوم مثل أميركا ما هي إلا أدوات منفذة لأوامر هؤلاء “الأسياد” السريين، ولا تملك من أمرها شيئاً، وقس على ذلك بقية دول العالم الأقل شأناً وتأثيراً.

نعود إلى الموضوع الأساسي، وهو مستقبل العالم في ظل جائحة كورونا، بعد ما أشرت إليه من مقدمة مبتسرة قدر الإمكان، وأقول إنّ ما يجري اليوم من إغلاق للكثير من الدول، وتعطيل يبدو مبرراً وحقيقياً أمر مخطط له، لكن من أنجز هذا السيناريو وقام بنشر الفيروس أو تصنيعه بشكل أو بآخر قد تخيّل بالطبع مثل هذه الردود لأنّه من قام بالتخطيط لكلّ ذلك أصلاً، فلا مجال للصدف العمياء في هذا العالم الشاسع، وخلال فترة قد تمتد إلى أشهر كما ترى معظم دول العالم اليوم المصابة بالفيروس أو تمتد إلى سنتين كما يرى بعض الباحثين الأميركيين فإنّ سياسة “التباعد الاجتماعي” ستتواصل، والاغلاقات الجزئية والفرعية للحدود ستكون مؤثرة وكارثية، وهذا سيؤدي حتماً إلى الكثير من الانهيارات الاقتصادية، وبالتالي سنرى بعد وقت ليس بالطويل أنّ دولاً سادت ثم بادت، وأنّ أخرى صعدت وتسيّدت المشهد، كما ستظهر شركات عملاقة وتسقط أخرى، وفي الطريق ستزول مؤسسات ومصانع وقطاعات صغيرة وتصبح من الماضي، وكلّ ذلك تحت مظلة هؤلاء المهيمنين، كما ستتغير المعادلات السياسية القائمة، والتحالفات الاقليمية بل وحتى سلوك البشر الذي ستطغى عليه منظومة الجشع والأنانية وسينشغل كل فرد بنفسه، وستنهار الأخلاق العامة بشكل غير مسبوق، فيما سيتم تنظيم “القطيع” الذاهل عن نفسه من قبل حكومات قمعية ضمن قوانين صارمة لا روح فيها وتخلو من الأنسانية.

لا أريد أن أكرر هنا توقعات المحللين الذين أشاروا مثلاً إلى أن الطب سيشهد تطوراً هائلاً، وأنّه سيكون هناك دور أكبر للروبوتات، وللعملات الالكترونية، والرقابة المشددة على المواطنين إذ أن سياسات القمع للشعوب باسم الحفاظ عليهم ستكون السمة العامة للمشهد المقبل، لكنّي سأقول إنّ المتوقع بعد سلسلة الانهيارات وتغيّر موازين القوى وجود صراع ضارٍ بين الناجين، على الأغلب حرب كبرى قد تأكل الأخضر واليابس، وهذا ما كرره منظّر خطير للنظام العالمي الجديد هو هنري كيسنجر، فهو لا يتحدث جزافاً، بل يقال إنّه أحد القلائل في هذا العالم الذين يصيغون مستقبله، وإنّ معظم الرؤساء في أميركا قد استعانوا بخبراته الاستشارية رغم كبر سنه.

السيطرة على «القطيع»
إنّ الإشاعات التي تتبع نظرية المؤامرة وتنتشر كالهشيم في فضاء الانترنت عن هلاك ثلث البشرية بالأمراض، وثلثها بالحروب لها وجاهتها، وليست ضرباً في الرمال أو وحياً من الخيال، إذ هناك من يسعى لذلك ليصفو له المشهد كي يصنع منظومته العالمية الجديدة، والسيطرة عليها تماماً، وجعل البشر قطيعاً من المستلبين والمحبطين.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هناك طرقاً للسيطرة على البشر من خلال ربطهم معاً في منظومة الكترونية يمكنها التلاعب بمشاعرهم والتحكم بالمعلومات الخاصة بهم من خلال زرع شريحة في المعصم أو في أي مكان من الجسم فيها المعلومات الخاصة بالشخص، وربما تحتوي على حساباته البنكية وملفه الطبي، وغير ذلك بحيث يمكن عبر موجات من أقمار صناعية بثّ الرسائل للناس معاً، أو حجب معلومات أو الابلاغ عن شيء بخصوصهم من أي مكان في العالم، أو حتى شحنهم بطاقة الهلع، ويجري الحديث حالياً عن دور كبير للملياردير الشهير بيل غيتس ليظهر كمخلص للبشر من خلال إيجاد مؤسسته للقاح للفيروس، واجبار البشر على أخذ المطاعيم التي قد تحتوي على مثل هذه الشريحة التي أشرنا إليها بتقنية النانو بحيث تكون مبثوثة في الجسد، ومن السهل اقناع البشر بقبول مثل هذه المطاعيم مع كلّ هذه الموجات المتواصلة من الإعلام الذي يثير الهلع بين الناس.

إذن ثمة رؤى في الأفق تشير إلى أن المشهد يبدو قاتماً، وتوجه لفرض العزلة لبني البشر، وصراع البقاء، وانهيارات بالجملة في شتَى القطاعات، وهذا سيقود بالضرورة إلى تبدّل في الجغرافيا القائمة مثل تفكك الولايات الأميركية والاتحاد الأوروبي وما تبقى من التحالفات القديمة حتى فيما يتعلق بالهياكل التي أصبحت صورية مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي وغيرها، ومع زيادة موجات الهلع عبر الحروب والأوبئة ستظهر طبقة المستنيرين إلى العلن من خلال البدء بانشاء دولة عالمية موحّدة، وهنا ستظهر ترسانتها الحقيقية من الأسلحة السريّة التي قال عنها هنري كيسنجر في مقال له قبل سنوات قرع فيه طبول الحرب ضد الصين وروسيا “سنأتيهم بأسلحة لم يروها من قبل قط”، وهذه المنظومة يجري العمل على تطويرها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم بشكل سري، ويكفي أن نعرف أن هناك نحو 100 مليار دولار من ميزانية أميركا تذهب سنوياً للموازنات الخاصة بالبرامج السريّة التي قد لا يعرف عنها كبار قادتهم، “يمكن للراغبين بالمزيد مشاهدة برنامج وثائقي على نتفليكس بعنوان:غير معترف به” ومن هذه البرامج تطوير الأطباق الطائرة التي تحمل الأسلحة، وهناك مشاهدات لها بالالآف في شتى أنحاء العالم، ومن يرغب بالمزيد يجد الكثير من الفيديوات الموثقة، وثمة تضليل للبشر بالقول إنها تأتي من حضارات أخرى غير بشرية، والحقيقة أنها من صنع البشر، ولم يأت أوان الكشف عنها بعد، هذا عدا عن برامج أخرى سرية تتعلق بالحرب البيولوجية، والتحكم بالطقس العالمي، والتضليل الإيحائي عبر الهولوغرام الصوري، وتسليط التيارات الكهرومغناطيسية التي تعطل التكنولوجيا، وغيرها مما لا يتسع المجال للخوض فيه هنا.

الفردوس الأرضي المنتظر
سيتطور الطب في عهد المستنيرين حتى يظنون أنّهم قد سيطروا على الموت والحياة، وستكون هناك تقنيات مذهلة في شتى مناحي الحياة تشبه أفلام الخيال العلمي إذ سيبدو قدومهم كمنقذين للبشر، فيما هم في الحقيقة يمثلون الجانب المظلم منها، بحثاً عن السيطرة النهائية على ما يدعونه بالقطيع وجعلهم عبيداً لهم ضمن قبضة محكمة عليه، لكن هناك من يرفض ذلك من الدول الأخرى الناهضة التي تختلف في ثقافاتها ومنظومتها الأخلاقية عن توجّهاتهم، والتي تكون قد صمدت في موجة الدمار بالوباء أو بالحرب، لهذا قد لا تبدو لي خططهم ناجعة تماماً رغم كلّ ما يملكون من قوة، ففي داخل كلّ منظومة تكمن عناصر هلاكها، فثمة اشتغال أيضاً للعناصر النورانية في هذا الكون من شتّى الأديان والتوجهات ضدّ تشييء البشر أي “معاملتهم كأشياء لا كمخلوقات إنسانية لها حقوقها العالية”، وبالتالي لا أرى أنّ النجاح سيكون حليفهم، خصوصاً أنّ سيطرتهم على هذا الكون مستمرة منذ آلاف السنين في الخفاء وبشكل غير مباشر، فهم وراء كلّ حرب وكلّ دمار ومعاناة، لكن ظهورهم العلني سيقود إلى نهاية سيطرتهم الباطنية رغم تشبثهم بالبقاء حتى أخر رمق، ومع زوالهم سيبزغ فجر جديد للمتنوّرين الحقيقيين الساعين لإعمار الأرض بالخير والمحبّة والسلام ضمن منظومة أخلاقية سامية لا حروب فيها ولا ألم، وسينكشف للبشر حجم التضليل الذي طالهم في العلوم والتاريخ والدين..وغيرها، وسيتمّ “فكّ التشفير” المفروض على وعيهم، وسيبدأ العصر الذهبي الجديد الذي تنهض فيه كلّ عناصر العلوم والآداب والإبداع الخلاّق حيث تغدو الأرض فردوساً مذهلاً ووطناً واحداً حاضناً لكلّ بني البشر من كلّ لون وجنس وفكر.

 

*روائي وباحث أردني يعيش في بريطانيا

(ثقافات)