يحتفي الباحث السوداني المرموق هنا بهذا الحدث المهم في تاريخ السودان الحديث، والذي تزيل فيه الثورة السودانية عن شعبها عار ما جره عليها إسلامجية الخرطوم من تخلف وتمييز، وكيف أن إلغاء المادة 126 المشؤومة من القانون الجنائي يشير إلى انفتاح أفق الإصلاح القانوني المرتجى.

إلغاء المادة 126 وانفتاح أفق الإصلاح القانوني

محـمد محمـود

 

المادة 126 في القانون الجنائي لعام 1991 والتي تجرّم خروج المسلم من الإسلام وتعتبره "رِدّة" يُعاقب عليها بالقتل كانت بمثابة "عنوان " النظام الذي فرضه الإسلاميون عقب انقلاب يونيو 1989 وأبرز تعبير عن وجهه وتوجّهه (نعني بالإسلاميين في سياق مقالتنا هذه تحديدا حركة الإخوان المسلمين التي اتّخذت لنفسها في السودان مسميات مختلفة). ويمكن القول إن بذرة هذه المادة تعود لنوفمبر 1965 عندما نجح الإسلاميون في ابتزاز الجمعية التأسيسية وإرهابها لتُصدر قرارا بحلّ الحزب الشيوعي بدعوى أنه "حزب يروّج للإلحاد"، وهو انتصار أعقبه أن رفع أستاذان من جامعة أم درمان الإسلامية دعوى حسبة لمحكمة الخرطوم الشرعية العليا ضد محمود محمد طه تطالب بإعلان ردّته عن الإسلام وتطبيق ما يترتّب على ذلك من عقوبات. وأصدرت المحكمة في نوفمبر 1968 حكمها الذي قضى على طه بأنه "مرتدّ عن الإسلام" وأمرته "بالتوبة عن جميع الأقوال والأفعال الي أدّت إلى رِدّته". إلا أن محكمة 1968 ما كان بإمكانها أن تذهب أبعد من ذلك، وكان لابد للإسلاميين أن ينتظروا سبعة عشر عاما لتبعث محكمةٌ أخرى في ظل تحالفهم مع نظام العقيد جعفر نميري الحكمَ برِدّة طه ليُعدم شنقا في يناير 1985 وسط تهليل جماهيرهم وتكبيرها.

  • الإطاحة بالعقيد جعفر نميري في أبريل 1985 وفي ظل الديمقراطية الثالثة قام الإسلاميون في فترة مشاركتهم في وزارة الصادق المهدي بتضمين مادة الرِّدّة في مشروع القانون الجنائي المقدّم للجمعية التأسيسية عام 1988. واصطدمت المادة بمعارضة حادّة عطّلت مسيرتها في مرحلة القراءة الثانية، إلا أنه تعطيل لم يدم طويلا إذ انبعثت المادة بعد ثلاثة أعوام لتصبح نصّا صريحا في صلب القانون الجنائي، نصّا تفرِضه وتحرسه هذه المرة البنادق والدبابات التي جاءت بالحركة الإسلامية للسلطة.

2

ما الذي عنته هذه المادة من دون كل مواد قوانين السودان؟ كانت هذه المادة انتهاكا صريحا واستباحة لأخصّ وأهم حقّ إنساني بعد حقّ الحياة — حقّ حرية الفكر وما يستتبعها من حقّ حرية التعبير. وكان محمود محمد طه من المفكرين والسياسيين السودانيين القلائل الذين انتبهوا ونبّهوا لضرورة هذا الحقّ عندما كتب عام 1968 قائلا: "ويمكن ... أن يقال إن الدستور هو "حق حرية الرأي" وإن كل مواد الدستور الأخرى، بل وكل مواد القانون، موجودة في هذه العبارة الموجزة كما توجد الشجرة في البذرة." وبقدرما انتبه طه لأهمية حرية الفكر فقد انتبه الإسلاميون لخطورة حرية الفكر على المشروع الإسلامي وتوجّه خطابهم ونشاطهم للهجوم عليها وقمعها.

ومحاربة حرية الفكر والتعبير تواجه مشكلة أصيلة في الواقع السوداني الذي يتّسم إسلامه الشعبي بتسامح عميق وأصيل لا ينفصل عن ميراث السودانيين المشبّع بجذوره الأفريقية والمنفتح على التعدّد والامتزاج والتداخل. ولكن إسلام السودانيين هذا في نهاية الأمر إسلامٌ "خام" وتقليدي تتوزّعه الولاءات الطائفية التي لا تنفصل عن القبلية وولاءات الطرق الصوفية. والإسلام الشعبي عادة ما يتراجع عندما يتعرّض للهجمة المنظّمة للإسلام "الرسمي"، وخاصة عندما يكون الإسلام الرسمي هو "إسلام دولة" مسنود بجهازها وترهيبها وترغيبها. والإسلاميون كممثلين لإسلام الدولة كانوا بالطبع يدركون فعالية وسهولة تطويع الإسلام كأداة قهر إيديلوجي على كل المستويات في حياة الناس. وعقب انقلابهم أُتيحت لهم تلك الفرصة التاريخية التي امتدّت لثلاثة عقود لتطبيق "تجربتهم" وهم يَعِدُون السودانيين ويُمنّونهم بأن ما سيقيمونه سيجعلهم يأكلون "من فوقهم ومن تحت أرجلهم". وكان ما قدّمه الإسلاميون للسودانيين هو العذابَ من فوقهم ومن تحت أرجلهم والقهر الشامل الذي جسّدت المادة 126 مبدأه وقامت على تنفيذه دولةُ مشروع إسلامي يستبيح كلّ ما يقف في طريقه ليفرض "مشروعه الحضاري".

3

وعندما انفجرت ثورة ديسمبر وهتف السودانيون بملايينهم "حرية، سلام، وعدالة"، وضعوا الحرية في صدر شعارهم العبقري لأنهم كانوا يدركون أن الحرية هي القيمة الأساسية والشرط الأولي الذي لا يمكن في غيابه أن يبنوا سودان السلام والعدالة وكل قيم المجتمع الأفضل الذي يحلمون به. كان الشباب، الذين نشأت أغلبيتهم الساحقة في ظلّ النظام العسكري الإسلامي، هم وقود الثورة وقوتها المحرّكة والدافعة. ثاروا رغم خضوعهم منذ طفولتهم لتلقين النظام وتشريبه العقائدي في المدارس وعبر المساجد ووسائل الإعلام وغيرها، وكان ذلك من أبرز مظاهر فشل المشروع الإسلامي. ما الذي جعل الإسلاميين يخسرون؟ خسروا لأسباب عديدة ولكننا سنركّز هنا على سببين يتعلقّان بنظام القيم. خسروا أولا لأن تربة السودان بتسامحها وتنوّعها وانفتاحها رفضت أن تُنْبِت ما حاولوا غرسه ولَفَظَته. وخسروا ثانيا لأننا نعيش اليوم في عالم أصبحت مرجعيته العليا هي قيم حقوق الإنسان، وهي قيم أقرب لعقول وقلوب السودانيين، وخاصة الشباب منهم، لأنها تخاطب إنسانيتهم وأفضل ما بدواخلهم. وهكذا كان من الطبيعي أن يثور السودانيون لأنهم ما كان من الممكن أن يقبلوا بسيادة القهر السياسي أو الديني ولأنهم أرادوا إعادة بناء ديمقراطيتهم السليبة ليوطّنوا قيمة الحرية كقيمة عليا وقيم السلام والعدالة والمساواة، محتفين بثراء تنوعهم ومنفتحين على عالمهم وإنسانية الآخرين.

إن قرار الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بإلغاء المادة 126 واستبدالها بمادة تجرّم الوَلْغ التكفيري وإهدار دماء الآخرين قرار شجاع وتاريخي يعكس أعمق تجاوب مع أعمق شعار للثورة. إلا أن ما تحقّق ما هو إلا الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح. إن المسيرة لم تكتمل لأن مظاهر انتهاك حقوق الإنسان في القانون الجنائي وفي قوانين تمييزية أخرى وخاصة تلك المتعلّقة بالمرأة لم يتمّ إلغاؤها بالكامل. إن مسيرة الإصلاح القانوني الذي يعكس إرادة وطموحات الثورة السودانية لن تكتمل إلا عندما تتماشى كل قوانيننا وتنسجم مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان بإلغاء كل العقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المُهِينة والمُحِطّة بكرامة الإنسان وبإلغاء كل أشكال التمييز.

 

(*) لمن يريدون قراءة ما كتبناه عن المادة 126 في العدد الثاني من مجلة العقلاني الصادر في يناير 2015 والمكرّس للذكرى الثلاثين لإعدام محمود محمد طه يمكنهم الذهاب للرابط التالي: https://archive.org/details/Al-Aqlani45_20190126/mode/2up

محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان

kassalawi99@hotmail.com