في كتابها الأخير "مديح التأخُّر" (ألبان ميشيل، 2020)، تطرح الفيلسوفة الفرنسية هيلين لويّيه تأمّلات عميقة حول مفهوم الزمن: الزمن الّذي مضى، أو فقدناه، أو الذي نصارع من أجل التحكّم فيه مستقبلًا، وخصوصًا حول هذا الّذي نلهث الآن من أجل تعويضه بأيّ ثمن، بحيث استنتجت من بحثها أنّه في ظل الإيقاع المتسارع للمجتمع الحديث، الذي يعيش فيه المرء باستمرارٍ في عجلة من أمره، لم يعد "التأخُّر" عيبًا أو خللًا في إدارة الوقت، وإنّما هو فرصة ثمينة للتحرُّر والتخفُّف من عبء الزمن.
"ليس لديّ وقت"
كلّما أنجزنا المزيد من الأعمال- وهو أمر رائع طبعًا، إذ لا معنى للحياة الفارغة - كلّما استبدّ بنا الخوف من "التأخُّر" في إنجازها قبل المواعيد المحددة. لكن، رغم ذلك، يمكن النظر إلى هذا الضّغط الرهيب بطريقة مختلفة، على الأقلّ من خلال الاعتراف بأنّه أمر لا مفرّ منه، وليس باليد حيلة لتغيير أيّ شيء. فنحن كلّنا معرّضون باستمرار لمطالب متزايدة للقيام بأكبر عدد ممكن من المهام، بوتيرة أسرع فأسرع وبأسلوب أكثر فعالية وكفاءة من السابق. وبدلًا من المعاناة والاستسلام لعجلة الزمن المتسارعة، تقترح الفيلسوفة هيلين لويّيه، وهي أيضًا محلّلة نفسية وأستاذة للفلسفة في جامعة السّوربون، رؤيةَ الجانب المشرق من "التأخُّر"، من دون إساءة استخدامه.
إنّ العبارة الأكثر شيوعًا بين الناس هذه الأيّام هي "ليس لديّ وقت". وهي عبارة يجب أن تُؤخذ بمعناها الحرفي. ذلك لأنّ حياتنا صارت تخضع لضرورات الاستفادة القُصوى من الوقت. وحتّى في فترات الراحة أو العطلة، لم يعد يُسمح لنا بتبذير هذا الوقت، لأنّه رأسمالنا الوحيد غير القابل للتعويض. لكن المفارقة هي أنّ رغبتنا في تحقيق أفضل النتائج تجعلنا نضطرّ أحيانًا لأن "نضيّع هذا الوقت الثمين" بدلًا من استغلاله. لأنّها توهمنا بالسيطرة المطلقة عليه، وتمنحنا الإحساس بأنّنا نستطيع أن نكرّسه لما نريد، بينما في الواقع هذا "الوقت" هو الّذي يسيطر علينا ويتحكّم بنا تمامًا. وكلّما أردنا له أن يكون مُنتجًا ومُربحًا، كلّما هرب من أيدينا أكثر.
تاريخ مختصر للبطء
على عكس ما كان منتظَرًا، خلق العالم الصناعيّ الحديث، من خلال احتفائه بالسرعة كمثالٍ وحيد للنموّ والحياة، فئةً جديدة من "الناس البطيئين". إنّهم أولئك الذين، مثل شارلو في فيلم "الأزمنة الحديثة"، يكافحون من أجل مواكبة وتيرة سلسلة التّجميع الآليّ قبل التغلّب عليها نهائيًّا وابتكار إيقاع آخر. لقد سبق للُوران فيدال أن أنجز بحثًا حول آثار هؤلاء الإيقاعية، حين درس ظاهرة "البطء" منذ العصور الوسطى إلى وقتنا الراهن. وقد لاحظ في البداية أنّ كلمة "بطيء" لم تكن لها دائمًا هذه الدّلالة المحتقَرة كما نعرفها اليوم. فحتّى بداية القرن الخامس عشر، كان مصطلح "لينتوس" اللّاتيني لا يعني لدى الشعراء وعلماء الطبيعة إلّا ما هو رخو ومرِن، أي عكس الجامد. وهو وصفٌ ينطبق على عالم النبات والطبيعة والكون التأمّلي الذي يفترض مسبقًا وجوده الأبديّ. لكن التّغيير الكبير حدث خلال عصر النهضة: لم تعد كلمة "بطء" تعني "نقص السرعة" فقط، وإنّما تمّت إضافة معان سلبية عليها، مثل: الكسل والخمول، وحتّى الترف. وخلال فترة التوسُّع الاستعماري، أُطلق وصف "بطيء" على كلّ واحد من أهالي البلدان المستعمَرة الذين يفتقرون إلى الحضارة: الهنود الأميركيون أوّلًا، ثمّ جاء دور الأفارقة السود وأبناء المغرب العربي، من دون إغفال العُمّال المُضربين في المعامل والمصانع. ويمكن القول، إجمالًا، إنّ البطء هو ذلك "النصُّ المضمَر في مجتمعاتنا الحديثة"، الذي حاول بشكلٍ منهجي على مرّ القرون أن يكبح مسيرة التقدُّم التي لا مفرّ منها. لهذا، يخلص فيدال في النهاية إلى أنّ وجود الرجال البطيئين فتح "إمكانيات" لم تكن معهودة، أي فتح شكلًا جديدًا من أشكال المقاومة.
من خلال استعراض هذا التاريخ الطويل المناهض لإيقاع السرعة، تقترح هيلين لويّيه أنّه حان الوقت لردّ الاعتبار للتأخُّر. فبعد أن لاحظت أنّ الوقت، بمفهومه الحالي، "في طريق الاختفاء"، وأنّنا "صرنا حطامًا بسببه"، دعت إلى إعادة استثمار هذا الانحراف الطّفيف عن الوتيرة المفروضة بالقوّة. ولكنّها تبقى دعوة غامضة: إذ كيف يمكن الدّفاع عن بعض مظاهر "اللّامبالاة المعاصرة التي تتمثّل في تجاهل وقت الآخرين، وتغضُّ الطرف عن الغيريّة الزمانية للآخر"؟ كيف يمكن إعادة الاعتبار للتأخّر دون الإقرار باختلال ميزان القوى بين "الأمير"، قديمًا وحديثًا على السواء، الّذي يستطيع أن يفرض على النّاس الانتظار، ويطالبهم بآجالٍ لا يمكن تجاوزها، وبين أولئك الّذين من المفروض أن ينفّذوا أوامره؟ إنّ التأخُّر الذي تدعو إليه لويّيه لا ينطبق على الوقت الذي نقرضه من الآخرين، بل يعني وضع مسافةٍ جديدة مع النفس، ومنح الأولوية للرّغبة على حساب الاندفاع، من أجل استعادة "قيمة الحياة". فوفقًا للتحليل النفسي، تتسارع حياتنا جنبًا إلى جنب مع الإرضاء الفوريّ لغرائزنا، وذلك كلّما طالبت الرّغبة - وهذا من صميمها- بالوقت الكافي لتلبيتها. والمثال على ذلك هو استهلاكنا السّريع للروايات البوليسية، ذات الحبكات المتقنة والمليئة بالتشويق الموزون، في غفلة من سيرورة الزمن
استعادة قيمة الحياة
هل يمكن أن يصير التأخّر شكلًا من أشكال المقاومة؟ وما السبيل إلى ذلك؟ تجيب هيلين لويّيه بأنّ الأمر ممكن، شرطَ عدم إساءة استخدام هذا التأخّر. إذ تجمعنا علاقة هرميّة مع الزمن. وعندما تسمح لنفسك بالانتظار لمدّة ساعتين، فهذا شكل من أشكال التحكّم وليس مقاومة في شيء. إنّه نوع من التأخّر السيّئ. ومع ذلك، تعترف لويّيه بأنّنا صرنا أكثر صرامة مع مرور الوقت. فحين يتأخّر شخص لبضع دقائق، يزداد توتّرنا فعلًا وتصبح علاقتنا مع الآخرين معقَّدة. وهذا هو "اغترابُنا المعاصر"، بحسب رأيها. ولكن هل الأمر سيٌّء إلى هذا الحدّ؟ كلُّ هذه "الحوادث" الصغيرة - التأخّر عن موعد بسبب طارئ: مترو مزدحم، اختناق مروري، عطل آلي... - تمنحنا استراحة غير منتظَرة، بإمكانها أن تنقذ يومنا. بل يمكننا أيضًا أن نُهدي أنفسنا هذا الهامش من الحرّية، عبر اغتنام الفرص المتاحة أمامنا، أو نأخذ وقتنا الكافي بلا استعجال، حتّى لو أدّى ذلك حتمًا إلى وصولنا متأخّرين.
إنّ اندفاعنا المجنون يجعلنا ننسى أحيانًا الأشياء الأساسية بالنسبة لنا. بينما يفرض علينا التأخّر وقفة زمنية تسمح لنا بإعادة توجيه أفعالنا، دون أن يعني ذلك أنّنا يجب أن نتأخّر كثيرًا في الأشياء التي تهمُّنا حقًّا. ولنأخذ مثالًا على ذلك، يتعلّق هذه المرّة بالإيكولوجيا: لقد تركنا الأمور تنفلت طويلًا حتّى تدهورت أحوال هذا الكوكب. وبدلًا من أن نردّد باستمرار: "كونوا حذرين، نحن نعيش حالة طوارئ"، وهو ما يبقينا دائمًا في لعبة التسارع، سيكون من الأفضل أن نعترف ونقول ببساطة: "إنّنا تأخرنا". وهكذا، عندما نتراجع خطوة إلى الوراء، سندرك أنّه بإمكاننا الحصول على مهلة مناسبة لاقتراح الحلول، بطرقٍ ربّما تكون أقلّ مردودية وأقلّ ارتباكًا، لكنّها ستكون حتمًا أكثر فعالية. سنفكّر فقط في الوقت الذي يسمح لنا بالقيام بما نراه مناسبًا، بدلًا من الاستمرار في ملاحقة الزمن الضائع بأيّ ثمن.
التأخّر باعتباره منقذًا
لا شكّ أنّ السباق مع الزمن هو السبب الأوّل لما نعيشه اليومَ من قلق متنامٍ في مواجهة إيقاع الحياة المتسارع، ومظهر من مظاهر الأزمة الوجودية التي يمكن اختزالها في رفض الإنسان لفكرة فنائه المحتوم. إنّ عصرنا الراهن يسمح للناس بالعيش لفترة أطول، ولكنهم صاروا يجدون صعوبة بالغة في تقبُّل الشيخوخة. والسبب هو أنّنا كائنات زمنية. لأنّ الزمن هو ما يمنحنا الوجود، وهو ما يهزمنا أيضًا: نحن نولد، ونتقدّم في السن، ثمّ نموت. في النهاية، الزّمن هو المنتصر دائمًا. وهذا لا يعني أنّنا يجب أن نستسلم. على العكس تمامًا، فالعمر يمنح الحياة قيمتَها. والاستقرار طوال هذا العمر يكون عبر اختيار ما يناسبنا ويسمح لنا بالعيش إلى آخر نفس. لهذا تعتقد هيلين لوييه أنّنا نفقد قيمة الحياة من خلال التفكير الدّائم في ضرورة الاستمتاع بكلّ لحظة. ولولا كلّ هذه الفواصل الزمنية المُنقِذة، التي نسمّيها "لحظات تأخّر"، سوف لن يكون للحياة معنى، وأيضًا لن تكون لها أيّ قيمة. ذلك لأنّنا سنفقد السبب الحقيقي لسباقنا مع الزمن. ثمّ إنّ ما يهمّ في التأخُّر هو أنّه لا يتعارض مع التنوُّع الكبير في علاقتنا بالزمن. فالبعض بطبيعتهم أسرع من الآخرين، والبعض الآخر أكثر بطئًا. كما توجد اختلافات في الإيقاع الخاصّ بكلّ واحد. وهنا لا مجال للحكم فيما إذا كان من الأفضل أن يكون المرء بطيئًا أم سريعًا. إذ يجب أن تكون علاقتنا بالزمن أقلّ خضوعًا للمعايير الموحَّدة.
ينظر كثيرون إلى العيش في الحاضر كأحد الحلول لمعضلة السباق واللُّهاث مع الزمن. لكن هذا الحلّ يفترض تجاهل الماضي والمستقبل، كما أنّه لا يمكن أن نطالب أنفسنا بالمستحيل. ومع ذلك، نستطيع التخفُّف ولو قليلًا من الجري المحموم لاستباق الزمن. إنّ التفكير المستمرّ فيما هو قادم يجعلنا نغفل عن الحاضر وما هو ضروريّ بالنسبة لنا. وفي مثل هذا الوضع، لا نستمتع بأيّ شيءٍ في حياتنا. ويظهر ذلك بأشكال مختلفة، خصوصًا في فترات الأرق. ففي هذه الحالة، يعود الوقت الذي لم نمنحه لأنفسنا عند الحاجة ليُفرَض علينا بشكلٍ آخر. وبين عدم مطالبة النفس بالمستحيل، والعيش بغباءٍ خارج الزمن تحسُّبًا لما هو قادم، هناك دائمًا هامش لعيش تجربة الزمن بمتعةٍ وفعالية أكبر. وهذا يتطلّب فقط أن نقبل ما هو غير متوقَّع، ونتصالح مع "التأخّر".
الضفة الثالثة