ينقلنا هذا الكتاب إلى بلورة مفهوم جديد عن الموت، مستثمراً في ذلك التطورات التي حصلت في ميدان الطب والبيولوجيا. فبدل أن ينظر إلى الموت على أنه لعنة، ينبغي اعتباره حدثاً طبيعياً بيولوجياً، من أجل تحسين نسل الأجيال القادمة، وإعادة نحت وتشكيل الكائن الحي.

موت الموت

طوباوية جديدة أم ديستوبيا غير مسبوقة؟

الفاهم محمد

 

يقول لا رشفوكو في مقولة شهيرة طالما استشهد بها: "ثمة شيئان لا يمكن التحديق فيهما: الشمس والموت" يمكننا أن نتفق مع فكرة الكاتب، ولكن هذا الأمر كان قديماً، أما اليوم فنحن صرنا قادرين بالفعل على فتح أعيننا على اتساع الأحداق، كي ننظر ملياً في الموت من دون خوف أو وجل. هذا على أي حال هو ما يدافع عنه كتاب: "موت الموت" الصادر سنة 2011 لصاحبه لوران ألكسندر، الطبيب والمفكر الفرنسي المثير للجدل، المولود عام 1960.

يرى المؤلف أن هناك العديد من الثورات التي تميز القرن 21، غير أن هناك ثورة تمارس نشاطها في غفلة من الجميع وهي الثورة البيوتكنولوجية، إنها ثورة يجب الاهتمام بها وعقد المؤتمرات لها، كما نفعل عادة مع المشاكل المناخية. هناك العديد من التقنيات التي يعد بها التقدم في المجال البيولوجي مثل العلاجات الجينية، الخلايا الجذعية، التهجين بين الإنسان والآلة، وغيرها، وهي كلها تقنيات تسير نحو منح الإنسان، وعوداً كبيرة بإطالة مدى حياته، بل أكثر من ذلك التغلب على الموت مستقبلاً. يقول الكاتب: "إن فكرة كون الموت مشكلة قابلة للعلاج، وليس واقعاً مفروضاً من طرف الطبيعة أو الإرادة السماوية ستفرض نفسها". وهكذا فإن كل الثورات التي عرفها الطب خلال القرن العشرين، ليست إلا ثورات صغيرة مقارنة بما سنشهده خلال الألفية الثالثة.

في نظر الكاتب ستكون الآثار مهولة في الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، لدرجة يصفها لوران ألكسندر بكونها ستحدث: "فجوة جينية" في حدود 2030، بين الأجيال القديمة التي لن تستفيد من هذه التقنيات، والأجيال الجديدة التي لن تتردد في الانفتاح على ما تعدنا به الثورة البيولوجية الجينية. ويرى الكاتب كذلك أن هذه الفجوة، ستتسع كي تؤدي إلى ظهور طبقة جديدة غير مسبوقة في التاريخ. يقول: "إن أكبر لا مساواة في كل الأزمان تتموقع بين من يوجدون ما قبل نهاية الموت والآخرين".

وعلى غرار راي كوتزفايل ـ وهو أحد كبار المنظرين لاتجاه ما بعد الإنسانية ـ الذي يميز بين الإنسانية 01 والإنسانية 02، يرى لوران ألكسندر بدوره أن الإنسانية البيولوجية، سيتم تجاوزها من قبل الإنسانية الجديدة، التي ستدمج مع هذه التقنيات المتطورة. هذا الأمر سيقلب رأساً على عقب النظم الدينية والأخلاقية والمؤسسات القانونية والاقتصادية بل سيؤثر بشكل مجمل في كل الحضارة الإنسانية.

فهل نحن أمام طوباوية جديدة وفرص عظيمة لإنقاذ الجنس البشري وتحسين أوضاعه أم أمام ديستوبيا غير مسبوقة في تاريخ الحضارة البشرية؟

العلوم الطليعية
ثمة علوم طليعية تتضافر جهودها، من أجل إحداث تغيرات كبيرة في الحضارة الإنسانية مستقبلاً وهذه العلوم هي كما يلي:

- النانوتكنولوجي، البيولوجيا، المعلوميات، علوم الإدراك. هذه التقنيات الجديدة هي التي أصبح يصطلح عليها عادة بـ NBIC. إن كل هذه التخصصات تحقق إنجازات باهرة في مجالها، لكنها في الآن ذاته تؤثر في بعضها بعضاً؟ والأخطر هو أنها ستؤدي إلى تغيير مفهومنا للحرية والمساواة والعدالة والوعي والكائن الحي، وبشكل عام زحزحة الباراديغم القديم الذي كنا نعرفه سواء عن ذواتنا أو عن حضارتنا. فعندما تضمحل الحدود الفاصلة بين ما هو حيّ وما هو جامد، وعندما يصبح الجامد، أي الآلة قادرة على الوعي بذاتها، وعندما ستتمكن هذه العلوم من تخليصنا من الأمراض المستعصية، ودفع الموت إلى الوراء، إلى غاية التغلب عليه نهائياً، سيبدأ عهد مغاير تماماً لبشرية جديدة.

في كل الثقافات وفي كل الديانات، نظرة إلى الموت باعتباره المصير الأساسي للإنسان الذي لا مفر منه. بل حتى المجتمعات المعاصرة طورت طرائق معينة، كي يتمكن الإنسان من أن يعيش شيخوخته بسلام، ويتقبل موته راضياً بمصيره في نهاية المطاف. إلا أن هذه العلوم بات بإمكانها أن تعمل على تغيير هذا المصير، يقول الكاتب بكثير من التفاؤل: "غداً، لن يكون الموت هو النتيجة الطبيعية للحياة، بل سيصبح مرضاً كبقية الأمراض".

المفهوم الطبي الجديد للموت
ينقلنا هذا الكتاب إلى بلورة مفهوم جديد عن الموت، مستثمراً في ذلك التطورات التي حصلت في ميدان الطب والبيولوجيا. فبدل أن ينظر إلى الموت على أنه لعنة، ينبغي اعتباره حدثاً طبيعياً بيولوجياً، من أجل تحسين نسل الأجيال القادمة، وإعادة نحت وتشكيل الكائن الحي، أو هو نتيجة لإعادة التكاثر، وأداة تستعمل في سياق تطور الطبيعة.

هناك وظيفة إيجابية يلعبها الموت بالنسبة إلى الكائن الحي، فالخلايا الميتة يقول الكاتب، هي التي تضمن ولادة الخلايا الجديدة، وكأن الموت هو مثل ذلك النحات الذي ينحت قطعة الرخام، من أجل إخراج التمثال. فالموت بصيغة أخرى هو: "الثمن الذي ندفعه من أجل التكاثر، أو من أجل الانتخاب الطبيعي".

وإذن، فالموت من منظور الطبيعة يلعب دوراً إيجابياً. إنه الأداة التي تضمن الطبيعة من خلالها استمرارية الحياة. ولكن إذا كان المنظور الطبيعي التقليدي، قد اعتبر أن الموت شيئاً مبتوتاً بشكل قدري داخل خلايانا، فإن المنظور المعاصر يرى عكس ذلك. مثلاً كما يذكر الكاتب هناك بعض الخلايا التي لا تموت مثل الخلايا السرطانية. كما أن هناك خلايا أخرى في جسم الإنسان، مثل تلك التي تمنح الحيوانات المنوية والبويضات، تظلّ قابلة للتكاثر إلى ما لانهاية. هذا بالإضافة إلى البكتيريات التي يمكنها بدورها التكاثر من دون الموت.

بالمجمل يؤكد الكاتب أن الموت، لن يظل قدراً محتوماً إذا تمكّنا من التحكم في التقنيات الجديدة، وبالتالي سيصبح الموت اختياراً فردياً وليس قانوناً قدرياً. بمعنى أن الإنسان هو الذي يختار بمحض إرادته مغادرة هذه الحياة، أو ربما تتدخل

آفاق العلم المهولة
يسير العلم نحو آفاق غير مسبوقة، إن هذا الأمر يؤكد الكاتب ليس من قبيل الخيال العلمي: "في بضعة عقود سيصبح الخيال العلمي هو العلم". إن تقنيات زراعة الأعضاء واستنباتها، وتقنية حساب الجينومات البشرية، كل هذا سيقود لاحقاً إلى إجراء جراحات دقيقة على الجينات. هذا إضافة إلى البيولوجيا التركيبية التي تمكّننا ليس فقط من التعامل مع العضوية كما هي، بل تصنيع عضوية جديدة. يقول الكاتب: "إن الإنسان الأول الذي سيعيش ألف سنة ربما قد يكون ولد بالفعل". كما يقول في موضع آخر من الكتاب: "الأشياء المهمة لم تبدأ بعد" وإننا بالكاد تسلقنا الثماني ميليمترات في جبل الهيمالايا المعلوماتي. وعلى الرغم من كل هذه التطورات يرى الكاتب أننا ما زلنا في البداية، وهو ما ينعته بالعصر الحجري في ميدان التقنيات الطبية. وعلى الرغم من هذا الاعتراف إلّا أن الكاتب يتحدث في مجمل كتابه كما لو أن كل ما يدعو إليه، وبخاصة الأطروحة المركزية وهي الانتصار على الموت أمرٌ متحقق فعلاً.

لكن إذا كان الأمر على هذا النحو فكيف يمكننا أن نتحدث عما لم يحدث بعد كما لو أنه حدث فعلاً؟

يبدو كما لو أن الكاتب يستشعر هذا الأمر فيستدرك مناقشاً عما إذا كان القول بالخلود مجرد فكرة ساذجة. فهو يعترف بأن الخلود لن يتم بلوغه بين ليلة وضحاها، كما أن تطبيق هذه التقنيات على الجسد البشري، من شأنه أن يؤدي إلى العديد من الآثار الجانبية وعلى رأسها السرطان، ولكننا في نظره سنتغلب في نهاية المطاف على هذه الصعوبات، وسنقترب حثيثاً من تحقيق هدفنا.

تظل أفكار لوران ألكسندر مثيرة ومستفزّة، تتقاطع مع أفكار اتجاه مابعد الإنسانية ومع اليمين المتطرف الفرنسي، بل أكثر من ذلك اتهم بأنه يدعو إلى تحسين النسل eugenics وهو طموح نازيّ كما هو معروف. غير أن الكاتب رفض كل هذه الاتهامات، مؤكداً أنه يصف أوضاعا يقودنا إليها التقدم العلمي، ويثير الأسئلة التي ستواجهنا في المستقبل، أكثر ممّا يتبنى موقفاً محدداً.

ولكن إذا كان الإنسان على طول التاريخ قد أرعبه الموت، وظل دائماً يبحث له عن تفسير، ألا يمكن لفكرة الخلود أيضاً أن ترعبه، فالخلود بدوره مخيف بقدر ما هو الموت مخيف. ثم إن الجسم البشري جدّ معقد، مما يجعل السيطرة عليه بواسطة الأنظمة التكنولوجية، قد يؤدي إلى نتائج كارثية خصوصاً أننا لم نفهم بعد الكثير من أسرار الحياة. لقد كان الطب منذ اليونان يهدف إلى تقويم عمل الطبيعة، أما اليوم فهو يهدف إلى شيء مغاير تماماً، ألا وهو إحداث طبيعة جديدة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة ديستوبيا لا مثيل لها في الحضارة البشرية. ومهما كان الأمر لقد راودت فكرة الخلود البشر منذ قديم الزمان. تحكي ملحمة جلجامش مثلاً عن رحلة الإنسان في البحث عن سرّ الموت، والعثور على الخلود الأبدي. هذا الطموح لم يتوقف أبداً على مرّ العصور، ويبدو أن العلم يمنحنا اليوم بعض الأمل، في فهم اللغز الأكبر في الحياة البشرية. تبقى مع ذلك القضية التي يتم الاعتراض بها على أطروحات لوران ألكسندر، وكل مفكّري ما بعد الإنسانية وهي أن ما نحن في حاجة إليه هو التطبيب وليس تغيير نوعنا.

 

اندبندنت عربية