يكتب الروائي المصري شيئا من تواريخ الجماعات الاسلامية السياسية، صراعها مع الاحتلال الروسي لأفغانستان ولمحات لكيفية تكونها ونشوء صراعاتها الداخلية وصراعاتها مع أنظمة الحكم في البلاد العربية حتى ينتهي إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وينبني سرد تلك التجربة على سارد منتم لتلك الجماعات يقدم رؤية من الداخل تكشف في سردها التناقضات التي تحكم رؤاها

أساطير رجل الثلاثاء (رواية)

صبحي موسى

(1)
خريف 1977

توقف قطار المترو أمام المحطة التي كان من المنتظر أن أجد فيها أبا سعيد، كان الموعد قد ضُرب بيننا منذ عدة أسابيع، حفظته عن ظهر قلب ولم أبح به لأحد حسبما طلب مني، لا أعرف بالضبط ما المهمة التي ترك باريس من أجلها منذ عام ونصف، لكنه فجأة جاء إلى مكتبي في لندن قائلاً أنه سيرحل في جولة طويلة لا يعرف متى ستنتهي، فوجئت بالخبر ولم أعرف بما أرد عليه، فمنذ تعودت الذهاب إلى مسجد الصحابة على حدود باريس وأنا أعتبره منقذي من الضلال، رويت له الكثير عني وعن عمارة وأمي وإخوتي وطريقة حياتنا وغربتي الدائمة في عالم لا أشعر فيه بذاتي، روى لي بدوره الكثير عن نفسه وغربته وفراره الدائم وعلاقته السرية بأبي وحلمهما بعالم إسلامي موحد ترفرف عليه راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، كانت له طريقة مبهرة في الحكي والنصح، لا أكذب حين أقول أنني أخذت من اللحظة الأولى بعالم هذا الرجل الفذ البسيط الدمث شديد الذكاء والفراسة، فأدمنت التردد على مسجد الصحابة منذ أخذ بيدي وألقى السلام على الشيوخ الجالسين أمام المحراب، قال هذا أبو عبد الرحمن جاء لصلاة العشاء معنا، وشعرت من ابتساماتهم الهادئة أنهم كانوا ينتظرون مجيئي، لمح الدهشة على وجهي فخطفني قائلاً هذا أبو عتبة شيخ المسجد، وهذا الشيخ عبد القادر من تونس دائم السفر فتعرف عليه قبل أن يختفي، كان رجلاً طويل اللحية ضئيل البنية يكاد يتلاشى لولا عيناه دائمتا الزوغان في المكان كأنهما تبحثان عن شيء خفي، وبدت أسماء الشيوخ قديمة مركبة كأبي حفص،وأبي ذر، وأبي عبد الله، وأبي العباس، ولا أعرف ما الذي دفعه لتلقيبي بأبي عبد الرحمن رغم أن ولدي اسمه عبد الله، صلينا العشاء وجلست أنصت للحديث الذي يعقبها من أبي عتبة، كان يومها يفسر الآيات العشر التي نزلت في حق السيدة عائشة، ولما كان بالمسجد ركن للنساء فقد أخذ يوضح لهن سلوك المرأة المؤمنة في الزى والحركة، ولما كانت الآيات السابقة على حادث الإفك تعرض لحد الزنا فقد ربط بين الآيات والحادث قائلاً أن الله اختار أحب الزوجات إلى قلب رسوله كي يكون المثل واضحاً وعاماً، فلا أحد يسلم من الشبهات، ولا أحد سينزل فيه قرآن يبرئه بعد رسول الله، ونحن في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر.

حين انتهى الدرس أسرعت إلى أصحابي المنتظرين في المطعم، بادروني أين كنت فقلت أبحث عن تذكار أشتريه من المكان، تباروا جميعاً في الإعلان عن أفضل مكان لشراء التذكارات فذهبنا إليه، ولم تمر أيام حتى وجدتني أصلى في مسجد الصحابة من جديد، وجدتني لا أعلم من أمر ديني الكثير، فرحت أغرق في القراءة وشراء الكتب، لا أخرج من بيتي إلا للصلاة أو ملاقاة أبي سعيد، فأهملت دراستي وعملي واعتكفت على ما أنا شارع فيه، كنت كلما ازددت معرفة شعرت أنني أقل علماً، وصار اتهامي لنفسي بالجهل أكبر، حتى فوجئت بأبي سعيد على رأسي، قال:عزمت على رؤيتك قبل السفر فذهبت إلى مكتبك فقالوا أنك لا تجيء، وهاتفك لا يجيب، فقررت المجيء إلى هنا، أوضحت له الأمر كما أشعر، فالمكان مليء بالخطايا، ولي تاريخ أود الهروب منه، ولن يمنعني سوى الله والعزلة، قال ودراستك؟ قلت لا حاجة لي بها؟ قال الإسلام أمرنا بالعلم، قلت وها أنا أعلم نفسي، قال أمور الدين وحدها لا تكفي، راوغته فسألته عن نفسه ولم لم يعد يأتي إلى المسجد، قال أنه يجهز للسفر منذ أسابيع، سأذهب إلى الأردن ومنها إلى فلسطين أو مصر، تعجبت من رحلته المفاجئة إلى الشرق، فقال: السادات يريد أن يبيع انتصاره، ونحن نريد أن نمنعه، والله من فوق كل أمر. ودعته وعدت إلى ما كنت فيه.

لم يأت أبو سعيد في القطار الذي قال عليه، ولا القطارات التي تليه، فجلست منتظراً خمس ساعات على رصيف المحطة أحدق في كل متحرك وساكن، ولما أعياني التعب عدت إلى البيت، كنت أحتاج الرجل لكن ها هو، في الوقت الذي أحتاج إليه فيه لا يجيء، رسبت في دراستي، وعلاقتي بأمي وخالي زادت توتراً، يطالباني بالعودة وأنا منشغل بغير ما يقولون، جددت مسجد الصحابة وقمت بتوسعته بعد عدة اتصالات عبر القنصلية مع الحكومة الفرنسية، كانت التجديدات هدية مني لهؤلاء القابضين على الجمر، لكن خالي بهاء رأى ذلك إسرافاً لا معنى له، قلت أن أبي كان يفعل ذلك وماله يزيد، قال أين أنت من أبيك، حتى دراستك لا تعرف كيف تنتهي منها، وزوجتك هجرتها ولا تراها، هل هكذا قال الإسلام؟ كانت كلماته موجعة فاتصلت بأمي لأعرف أخبارها، لكنها كانت أكثر غضباً منه، قالت: زوجتك تتطاول علي، ولو كنت موجوداً لوضعت حداً لها، قلت: ابنة أخيك وأنت التي اخترتها، قالت: حتى أحتويك من الضياع في المدن الغريبة لكنني أسأت الاختيار، هدأت من روعها بأنني سأعود، حين وضعت الهاتف وجدته يرن من جديد، جاءني صوت أبي سعيد دافئاً كما الطيور التي تعود إلى أعشاشها، فرحت به كما يفرح الغريق بطوق النجاة، قلت أحتاجك، قال إني في الطريق، جلست أنتظره كل هذه الأيام، وكل هذه القطارات لكنه لم يأت، هل أصبح الرجل لا يف بالعهود ولا يأت حين يحتاجه محبوه، أوقفت السيارة أمام المنزل وصعدت إلى شقتي، بادرني الخادم بأن رجلاً عربياً ينتظرني منذ ساعات، حين التفت وجدته في بذلة كاملة كسفير لدولة لا أعرفها، رحبت به وأعتذر بدوره عن تغيير الموعد إذ ثمة من يلاحقه، حكيت له عن أخباري فنصحني بالعودة وطاعة والدتي، وأمرني بترك البلاد والانتظام في الدراسة لأن الأيام القادمة عصيبة وتحمل ما لا نعرفه، في نهاية اللقاء طلب مبلغاً من المال لم يحدده، قال اجعل الشيك باسم ميخائيل بولس أنطونيادس ولا تغلقه، نزعت ورقة من دفتر الشيكات وقعت عليها ولم أحدد المبلغ، في المساء اتصلت أمي تلح في عودتي نهائياً، قلت أنتظر نهاية العام حتى لا يضيع كسابقيه، قالت لا يهم فقد رتبت لك الأمر في جامعة الملك، قلت أصدقائي والمكتب وشراء حاجيات لزوجتي وابني، قالت لو لم تصل غداً فلن ترى وجهي مدى الحياة.

(2)

تنسم الشيخ رائحة الهواء الطري فحمل مصحفه وسجادة صلاته وتوجه نحو باب الكهف، جلس أمامه وأخذ يحرك مسبحته ووجه في السماء، لاح في ذهنه شيء فمسح عبرة همت بالنزول على وجنته وقال: رحم الله أبا سعيد كان صاحب هذه الأوقات، فحين تضع الشمس رحلها ويظهر في السماء ضوء أول نجم يترك لقدميه الطريق، فهما تعرفان كل حصاة ونتوء فيه، وعينه لا تنشغل إلا بضوء نجمه الذي يريده وإن لم يظهر، فقد علمته الصحراء والسنون أماكن النجوم ومساراتها، علمته كيف يحفظ صفحة السماء كخطوط يديه.داعبته ذات مرة قائلاً: هل أحببت؟ فابتسم وهمَّ بقراءة القرآن، كان يعرف ما أرمي إليه، فكل الذين جاءوا إلى الجبال تحدثوا لبعضهم في ساعات الصفا عن حبيبات تعلقوا بهن في الصبا، لكنني لم أسمعه مرة تحدث عن امرأة في حياته، حتى الصبية التي تزوجها من شهور، لم يذكر شيئاً عنها، رغم أنني سمعت من الرجال أنها لم تكمل العشرين، جاءت مع والديها من لبنان إلى بيشاور، حين علم أبوها برغبة الرجل في الزواج أعلن على الفور أنه له ابنة تسمع به وتكاد تعشقه رغم أنها لم تره مطلقاً، ذهب لرؤيتها فتعلق بها قائلاً أنها الفتاة التي رآها في منامه من أيام، أتم الزواج في اليوم التالي وتركها مع أمها وإخوتها الأصغر وجاء ليكمل جهاده على قمم الجبال وباطن الصخور، يومها نظر لي نظرة ذات معنى ثم أخذ في الترتيل كما لو كان داوود يقرأه مزاميره على الطير والغيم والجبال، رحمه الله كان واحداً من الباحثين عن الشهادة، ترك الدنيا خلفه وجاء يطلبها في هذه الكهوف والمغارات، لكنه ما من مكان طلبها فيه حتى فر الموت من أمامه وانقلب على أعدائه، كان يكفيه أن يظهر بمكان حتى يرتاع كل شيء منه، عشرات الصواريخ ومئات القذائف صوبت عليه، جميعها كانت تختار أن تضرب رؤوسها في الصخر عن الاقتراب منه. كان سمحاً لا يترك صلاة تمر دون أن يصليها على وقتها، في معركته الأخيرة لمح انتصاف انزواء الشمس عن كبد السماء فصرخ: صلاة العصر يا أبا عبد الرحمن، كان الروس قد حاصرونا من كل جانب، وكانت طائراتهم ومدرعاتهم تصب علينا النيران بغلظة لا مثيل لها، فقلت:

ـ أية صلاة يا أبا سعيد؟ أما ترى ما نحن فيه؟
ـ مرحا يا أبا عبد الرحمن، أولا تريد الجنة يا رجل؟
ـ أريدها لكن هل نهرب من قدر الله؟
ـ نعم نهرب من قدر الله لله نفسه

حط رحله على الأرض وكبر فكبرت خلفه، هي ساعة من نهار كنت ألمح فيها الطائرات تحوم عن قرب منا، وأصحابنا يولون الفرار إلى بطون الجبال ومغاراتها، ساعة انكشف فيها كل شيء عن نفسه وصرنا عراة أمام جيش حافل بالطائرات والصواريخ، بينما أبو سعيد يتلو سورة الأنفال كاملة، ولا أعلم للآن لمَ قرأها جهراً رغم أننا كنا نصلي العصر، كان جبلاً لا يتزحزح ولا تثنيه الخطوب. حين انتهى سلمت عليه وهممت أن أحمل سلاحي لأنظر في أمر الرجال، فجذبني من يدي وراح يدعو الله وأنا أأمن خلفه، وما انتهينا حتى وجدت عاصفة تحمل الرمال والحصى وتصفع كل شيء، كانت تدور على الأرض كأنها تكنسها ثم تعلو كعامود يصعد إلى السماء، تلك التي ما لبثت إلا أن تزاحمت بسحب سوداء وسيل غزير، فلم يتمالك الملاحدة أنفسهم، راحت مجنزراتهم وطائراتهم تولى الأدبار، بينما رجالنا عادوا من الشقوق بوابل نيران يصبونه على كل شيء، فحصدنا من الروس مئات المئات، وكبدناهم ما لم يخسروه من قبل، يومها أراد قائدهم إفانوف أن يعاند الريح والسيل ويكر علينا كمقامر يراهن بكل شيء، أتى بطائرات من أمامنا وخلفنا وبدا لا يلقى بالاً بمدافعنا الفقيرة، ظل يصوب علينا وأبو سعيد يصرخ كمن يكلم أناساً لا نراهم "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، فما كان من الرجال إلا أن وقفوا ساعة من ساعات القادسية أو اليرموك، كان يصرخ في الطائرات من على قمة الجبل:تعالوا إلى ميعاد بيني وبينكم. ثم يقذف بالقذيفة لا يدري ما الله صانع بها، غير أن كتل اللهب تزداد وتتناثر في الهواء، فصعدنا خلفه نطلق قذائفنا ونكبر، وما إن تخرج من مكامنها حتى يبعث الله من يوجهها فتسقط ما تسقط، وصوت الرجل يدوي "ما رميت إذ رميت لكن الله رمى" فتدوي السماء والأرض من بعده باللهب، حتى أسمينا اليوم يوم الجحيم وأسمينا المعركة موقعة اللهب، لكننا حين انتهت المعركة بحثنا عنه فلم نجده، ولما أعيانا التعب مسحنا دموعنا وعدنا إلى كهوفنا قائلين "ويأبى الله إلا أن يتم وعده".

(3)

لم يكن والدي قاطع طريق، ولم يحترف هذه المهنة إلا بعد ما خلع نفسه من قبيلته، ولم تكن جريمته نكراء، فكل خطيئته أنه تمسك بابنة عمه الميمونة التي خطبها له والده قبل وفاته، لكنها ما إن اكتملت أنوثتها حتى سمع بها الجميع، ووصل خبرها لابن زعيم القبيلة الذي يتزوج بالأربعة في ليلة ويطلقهن جميعاً في ليلة، وكانت عطية المهر أعظم ما يحلم به رجل مثل عمه، فسوف يصبح ذا نوق وغنم ومراعٍ كثيرة، ربما سيكون ذلك إلى حين.. "لا يهم، فربما استطاعت الميمونة أن تنجب طفلاً وتصبح واحدة من سيدات القبيلة" هكذا قال لنفسه، لكن الخطأ الذي ارتكبه أبي أفسد على الجميع خططه، فقد صعد الجبل متجهاً إلى صنعاء، شاكياً للإمام حامي الضعفاء ومذل الشيوخ بما لديه من رهائن، هناك التقى بواحد من العلماء الأشراف مساعدي الإمام، فحدثه عن الميمونة وجمالها وأدبها وطمع شيخ القبيلة وجشعه، فقرر العالم الجليل أن يفض الإشكال الذي دب بين بعض رعاياه، لكنه حين رأى الميمونة قرر أن يرفع الأمر إلى الإمام ليحكم فيه بنفسه. كانت الميمونة فتنة في الرابعة عشر من عمرها، ولمحمد وعد من والدها، فقد تربى في بيتهم بعد موت أبيه الذي خطبها له في الصغر، لكن الوصايا والعهود ضاعت أمام ثقل الثروة القادم من جهة، ورهبة زعيم القبيلة من جهة أخرى، وها هما الآن يتنازعان أمام الإمام عليها.

سكت الإمام كثيراً، واستمع أكثر، ثم أشار بطرف يده إلى أحد مساعديه فغاب في جنح الظلام الذي يلف القصر، حين عاد وجدوا الرجال قد أحاطوا بهم ووضعوا على أعناقهم السيوف، قال الإمام "ليس أمامكم سوى أن تصغوا إلى الحق"، ثم وزع التركة بمساواة تامة، فميمونة أخذها لتضاف إلى جواريه المائتين وتسعين، وحصل والدها على نسب الإمام ولا شيء أكثر، أما زعيم القبيلة وابنه فقد حصلوا على امتياز الرعي في أرض جديدة، لكن الجميع انتبه فجأة لوجود والدي فصمتوا جميعاً وتحدث الإمام: اسمع يا محمد، عندي لك شغلة إن فعلتها زين عدت إلى قبيلتك وصرت فينا مبارك، وإن ما فعلت تبقى طريد ولا نريد لك وجه. لم يكن العمل الذي ينتظره سوى أن يظل طيلة النهار والليل على مسالك الصحراء منتظراً الأجانب ذوي العيون الزرقاء والبشرة الثلجية كي يدلهم على الطريق إلى مساعدي الإمام، ويحصل منهم على طعامه وشرابه ودراهم يتركونها من أجله، وإن لم يأتوا فعليه أن يأكل الرمل والحصى دون أن يبرح مكانه. وذات مساء نسى الجميع أمره، فقد قامت الحرب الكبرى في البلاد البعيدة وما عاد الأجانب يعبرون من خلاله، وما عادت الميمونة ولا والدها يذكرانه، أما الإمام ومساعدوه وشيوخ قبائلهم فما كان لهم أن يذكروا سوى أنفسهم وثرواتهم التي تتراكم، وما عاد أمامه غير انتظار الأشباح بالأسابيع كي تمده بقربة ماء أو كسرة خبز، إلى أن قرر التسلل إلى مضارب قبيلة قريبة منه للحصول على بعض الطعام والماء، كان عليه أن ينتظر ساعة القيلولة كي يصل إلى أحد آبارها دون أن يراه أحد، حين ألقى بالرشأ في البئر خرجت عليه فتاة تقارب الميمونة في حسنها وسنها، شعر بكم هو ضعيف ومخدوع ومغلوب على أمره، فميمونته في أحضان الإمام وهو يموت من الجوع والعطش والقيظ، غلبته نفسه فبكي، ورقت الصبية للشبح المتهالك أمامها، ففكت نطاقها ووضعت خبزها وقالت: كل. بعدها شعر أنه متعب ويحتاج إلى النوم، فنسى أمر الفتاة والقبيلة وتمطى أمام الخيمة الوحيدة في كل هذه الصحراء، ولا يعرف كيف استيقظ على صوت العويل وهم يضربون الفتاة، فانتفض يصرفهم عنها، حين رجموه بالحجارة انقض على أحدهم فصفعه وفر العويل يصرخون في الرجال على البعد، كانت هذه لحظة تحوله إلى شبح يظهر وقتما شاء ويختفي متى أراد.

حين كلَّ من المطاردة قرر أن يخلع أمر الإمام عن نفسه ويبحث عن مسالك وطرق جديدة تؤمن له الحياة، ولأنه ليس مسموحاً له بالتعامل مع أهل هذه الأماكن من الأجانب والمهربين فقد قرر أن يمارس الهواية التي نشأت لديه في الإغارة للحصول على ما يريد، تعلم كيف تكون له كهوفه ومخابئه الخاصة، وأدرك أنه لا بد أن يكون للإغارة قانون وحرمات، فوضع هذه القوانين، لا غارة على صبي أو فتاة، لا بد من نجدة الملهوف حتى ولو كان ألد الأعداء، الماء والزاد مشاع للجميع، قتل النفس آخر الأشياء، الثأر من رجال الإمام هدف أسمى للحياة، والقول بألوهيته ـ الإمام ـ حرام شرعاً، ومن قال بذلك عن طيب نفس يقتل فوراً ولو كان من أعز الرجال، البحث عن أهل وعشيرة جديدة بين هؤلاء المنفيين على مسالك الطرق.

في أسابيعه الأولى ظل يبحث عن كهف أو مغارة تليق بما يمكن أن يسميه حياته الجديدة، ظل لا يمكث في مكان أكثر من يومين حتى كاد أن يجوب اليمن السعيد بأثره، وفي النهاية قادته خطاه إلى أعلى قمة جبل الشعيب، هناك وجد تفريعة بين صدرين، قال سآوي إليها الليلة ويفرجها الله في الغد بمكان أكثر سعة ويسر، حين كاد أن يقترب من القمة وجد أعيرة نارية تنطلق عليه، التصق بظهر صخرة زلقة وشعر أنها النهاية، لم تكن معه سوى عدة طلقات لو أهدرها فقد أعلن عن نفسه وأعلن العداء على الآخرين، قال لا بد من الحيلة للنجاة، وظل يعاند الصخر حتى حرك قطعة منه، مكن نفسه في الظلمة ورفعها نحو شفر الجبل ثم صرخ مقلياً بها، فالتبس الأمر على طالبيه، فمنهم من قال أنه مات متدحرجاً، ومنهم من ظل يخالجه الظن بأن هذا صوت ارتطام صخر بصخر، ولما لم يحدث صوتاً بعدها عادوا إلى أماكنهم يلوكون القات من جديد، يومها قرر ألا يعود إلى المسالك وألا تضيع الفرصة من يده، فلابد أن هؤلاء لديهم مغنم أو هاربين من شيء، فإما أن يغنم مثلهم وإما أن يجعلهم رجالاً له، فأخذ يزحف بجسده على ظهر الجبل حتى صعد قمته وركب الصدرين، فتبين له أن ثمة مخبأ أسفل صخرة عظيمة معلقة، وثمة رجال أمامها وبداخلها لكنه لا يعرف عددهم، لم تسيطر عليه فكرة القتل، فكيف يقتل رجاله، هكذا طغت الزعامة على رأسه حتى نام في مكانه من التعب، حين استيقظ كانت الشمس قد كادت تتعامد على الدنيا وتفلق الصخر، دله الجوع على النزول، فعمر مدفعه برصاصاته القليلة وأتى بقفزة لم يكن يتصور أنها ستكون بهذه البراعة، وجد نفسه واقفاً أمام الكهف ولا أحد، دخل شاهراً سلاحه لكن لا شيء سوى الزاد والقات والبن، أكل وتمطى ونام، حين استيقظ وجد سبعة من الرجال يركلونه بأقدامهم فضحك، وكلما اشتد غيظهم وركلهم كان يضحك، حين رفعوا أسلحتهم وقرروا قتله سألوه عن سبب ضحكه فقال "لم أجد أناساً يركلون رسول الله إليهم مثلما فعلتم"، فما كان من الجميع إلا أن خر من الضحك.

(4)
خريف 1974

لم يكن هذا أول نزولي عاصمة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، فقد زرتها مع إخوتي مرات عديدة، لكنها المرة الأولى التي أجيئها بشكل عملي، للتجارة مثلهم ولكن للعلم، فقد أصرت أمي أن أتعلم في المدينة صاحبة الطقوس الملكية، ولكي تضمن أنني سأتعلم فحسب فقد أصرت على تزويجي من ابنة خالي، ولم تكن لي فرصة الرفض أول القبول، ليس لأنني غير قادر على ذلك، ولكن لأنني لا أستطيع أن أتركها وهي غير راضية عني، تزوجت ومكثت مع عروسي عدة شهور ثم ودعت المملكة والجميع وجئت إلى المدينة التي تعطيك كل شيء وتسلب منك حتى نفسك، لم أكن راغباً في أكثر من هذا، فأطياف المحبين الذين همت بهم يمكنني أن أراها في البارات والصالات والعري المنتشر بطول البلاد وعرضها، يمكنني القبض على بشار وعمر بن أبي ربيعة وعمارة بن الوليد والمنخل اليشكري وغيرهم، فوضعت حقائبي ورفعت هاتفي على عدد من الأصدقاء والصديقات الذين كونتهم في زياراتي الخاطفة، أنا الآن متاح يا آل بريطانيا، أنا الآن مقيم معكم إلى مدى لا يعرفه إلا الله، فهلموا إلي. لم تمض ساعة حتى امتلأ البيت بالضجيج والرقص، ألقيت نفسي في أحضانهم وقلت أريد أن أعيش، أريد أن ألتقي بالمحبين من كل صنف وزمن،جميعهم يعرفون ما عليهم عمله، الشيء الوحيد الذي أفعله هو التوقيع على الورق.

في اليوم الأول خرجنا للرهان على الخيل، أعرف من صغري الخيول وأعشقها كما أعشق النسوة، أكاد أقول أنني أشمها مثلما يشم العاشق ريح عشيقته على بعد، وأعلم أيها أكثر جلداً، وأيها لا يمكنه أن يخسر، ربما كنت الوحيد ـ من بين ستة وأربعين ولداً ـ الذي ورث محبة الخيل عن أبي، فدائماً لا أخطئ في علاقتي بها، ودائماً تستجيب لرغبتي ولو تمنيتها سراً، ونادراً ما أخسر في رهان، كان الجميع يقول أن المال يجلب المال، لم يسألوا أنفسهم في بيت من تربيت، ومن ذاك الثري الذي ترك لأولاده شركات ومصانع وأموال بلا حصر، لا أحد منهم يعرف اليمني الذي تربى على ظهور الجياد وإبل القبيلة، وقضى شطراً من حياته يطارد الوقت وخصوماً لا يعرفونه ولا يعرفهم، ولا منقذ له في بطون الجبال ووديانها إلا علاقته بجياده، كان يختار أصعبها وأشدها شكيمة لتكون مطيته، ويفرح فرح العاشق بلقاء حبيبته إذا وجد واحداً من هذا النوع، فيدفع كل ما يملك كي يكون ملكاً له، ويغضب كمن قتل له ولد إذا جُرح أيٌ منها، ما من مكان نزله إلا ابتنى فيه مكاناً لإقامتها، كثيراً ما رأيته يعطي سائسه دروساً في طرائق ترويضها، وكثيراً ما شرح السائس العجوز كيف أعرف الجواد الأصيل من نظرات عينيه وتشريح جسده وعلاقته بفارسه، وكأنه كان يثبت لوالدي أنه خبير مثله، فكيف بالله أخطئ في معرفة الجواد القادر على الفوز من غيره؟! لم أكن أخبر أحداً بذلك، وأتركهم في أحاديثهم عن الثراء والحظ، جميعهم كانوا يرونني مقامراً قادماً من القرون البعيدة، مقامر يضرب الصحراء والتيه ليل نهار من أجل غزالة أو أرنب دون أن يعرف إلى أين ستقوده الطرق، يقطع آلاف الأميال في الفيافي كي يعود ليحكي عن الأهوال والوحوش التي حاربها من أجل عيون امرأة جميلة، في صغري كانت أمي تقرأ لي قصص الفرسان المحبين، القصة الوحيدة التي تمنيت أن أعيشها كانت لعمارة بن الوليد مع محظية النجاشي، لكن قصته كانت دائماً تنتهي بقبض النجاشي عليه ونفخ السحرة في إحليله، ليهيم على وجهه في البرية وحيداً مشرداً لا يقترب من أحد.

في الصباح كانت كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال التي أصرت أمي على دراستي فيها، وفي المساء كانت النوادي الليلة بما فيها رهان متاح وغير متاح، وبين هذا وذاك كنت عمارة الباحث عن نفسه في كل ما هو معجز وغريب وإن قتلته آلاف الجنيات على أرض آلحبشة، وفي أيام العطلات لا يكون سوى الخيل، وحدها الخيل بكل شكل وطريق، فمنذ الصغر لم تستطع أمي التي تفزع أشد ما تفزع من قفز الحواجز أن تبعدني عنها، كثيراً ما صرخت في وجه أبي أنه السبب في تعلقي بها، وكثيراً ما كان يضاحك قائلاً "يا عزيزتي... علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل، أم أن بيروت لم تعلمك سوى عري الحمامات وسهرات الليل". أذكر أن جوادي تعثر ذات مرة في الحاجز فسقط من على عليه وانكسرت ذراعي، كنا في لبنان يومها، فاتصلت به وهي على وشك الجنون تأمره أن يأتي ليرى جريرة فعله، فحطت طائرته بعد ساعتين في بيروت، وحين علم أن ذراعي فقط الذي كسر رأيته أسداً يعنفها وهي تبكي، ثم هددها بالطلاق لو اتصلت به من أجل شيء تافه كهذا، بالطبع لم تتصل ولم يطلقها لأن طائرته بعدة شهور هي التي اصطدمت بقمة جبل فتحطمت و لم ينج منها أحد.

الرقص مع البنات أجمل ما يحمل لي الليل في عباءته السوداء، ليس أبي مصدر هذه المتعة، ولا حتى أمي التي كانت ترغب دائماً أن تراني وسيماً جميلاً أجذب نظر الجميع، فترسلني إلى أشهر مصففي الشعر، ومصممي الأزياء، لكنها الخادمة الماليزية التي أوكلت أمر حمومي اليومي إليها، مازلت أتذكر نعومة يديها وهي تدعك جسدي، امرأة خبيرة بطرق التعامل مع الرجال، على يديها تعلمت ما لم يتعلمه امرؤ القيس، تعلمت كيف أكون أجمل من عمر ابن أبي ربيعة، كيف أخاطب الجميلات الصغيرات، وكيف أخطف ود صديقات أمي، كانت تدعكني بالزيوت والبرفانات في حمام البخار حتى أصبح ملاكاً يمشي على قدمين في ثياب بيضاء، لكن كل هذا ما كان يروق لأب يعي الرجولة بمعنى مختلف، فأوصى بي سائسه وخادماً هندياً كي يقتلاني في السباحة وركوب الخيل، قال لهما: لا أريد أنثى في ثياب طفل، ولكن صقراً يلعب على ظهور الخيل "ويبدو أنهما كانا يتعاملان مع أوامره على أنها رسالة نزلت من السماء".

في العاصمة الملكية لم يكن هناك التزام بشيء، فكل ما يعن لي أفعله، وكل ما يزينه أصدقائي أراه جميلاً، حتى صرت فرساً جموحاً لا حد لرغباته، وكأنني كنت أود الهروب من نفسي، أود أن أصبح شخصاً لا أعرفه لكنه يشبه أبي وأمي وعمارة والمنخل وكل من سمعت عنهم في القصص، كنت في نهاية الليل أقود العربة كرمح انطلق من قوسه، حتى أكل من التعب فأرتمي على سريري كجثة هامدة.

أمضيت عامي الأول لا أعرف غير العبث والسهر، فلا ثقل لي على السياسة ولا هم لي في التجارة، حتى دراستي كنت أتعامل معها كأمر يخص بعض من أعرفهم، حين عدت إلى المملكة في إجازة الصيف كانت المفاجأة الكبرى، فثمة من كان ينقل تفاصيل كل هذا الجنون إلى أمي التي ظننت أنها أخر من سيغضب، لكن وصول طفلي الأول إلى الحياة وسط إخباريات مفبركة عن الإدمان والهيروين وغيره جعلني في موقف ضعف مدهش، مما جعلها تفكر في تحميلي مسئولية مكتب شركاتنا في لندن، في البدء حاولت الرفض لكنها قالت بشكل قاطع: إذاً تطلق ابنة خالك وما أشوف وشك طول عمري.

(5)

اليمن السعيد هو المحمية الطبيعية للعنصر العربي ـ هكذا قال أبو سعيد ـ زرتها في الستينات والحرب بين عبد الناصر والبدر على أشدها، يومها كنت متحيزاً لفكرة بقاء الإمام ووجود دولة تقوم على مشورة نخبة من العلماء، ربما لأنني كنت حانقاً على هذا الزعيم الطاغية الذي سجن وسحق الإخوان، وربما لأنني كنت أكرهه كما يكره الابن أباه، كنت قد حصلت على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي، ورتبت الأمر لوجود عدد وافر من خلايا الإخوان في بريطانيا، فمنذ وطأت قدمي هذا البلد الاستعماري وقد حرصت على أن يكون مركزاً للجماعة في أوربا، فما أن وصلت إلى لندن حتى أرسلت إلى شيخي التلمساني لأخبره بما حدث للسفينة، وكيف حصلت على جواز سفر مصري باسم أبي سعيد، فطلب مني أن أقيم حيث أنا وأن أكمل تعليمي في الجامعة، وجاءتني مع الخطاب أول حوالة منه. فقدمت أوراقي ومعها صورة من محضر غرق السفينة الذي قال أن كل أوراقي فقدت، فأجروا لي امتحاناً اجتزته بمساعدة عدد من الإخوة العرب، وبدأت سنوات الدراسة في قسم التاريخ، وبدأت حوالات التلمساني تأتي بانتظام وخطاباتي تخبره عما أفعل، في البدء انتهجت طريق شيخنا البنا في الأمر بالمعروف حتى صرنا جماعة بالفعل، بعدها اتخذت طريق الشيعة في الدعوة، حيث السرية والكتمان وعدم معرفة الأمير إلا بأمارات يفصح عنها، وهو بدوره يدعو لأميره المختفي، ساكتاً عن أماراته لحين إعلان ظهوره، وكل خلية لا تزيد عن عشرة أفراد ولا تعرف شيئاً عن غيرها، وكل رجل يتبعه عشرة آخرون، يتلقون منه أوامرهم ويعودون إليه في مشكلاتهم، وجميعهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجمعون التبرعات للجماعة، كنا نوجه الدعوى بالحسنى لدخول الأجانب في الإسلام، وكان منهاجنا التفوق في العلم وحسن الخلق ولين الحديث ونصرة الضعيف وعدم الإلحاح، حتى إذا رفض من ندعوه فلا نخسره، وإذا خسرناه فلا نجعله عدواً، وإذا عادانا فلا يكون مبيراً. ثم أصدرنا جريدة بها عدد من الخدمات كالوظائف، وخرائط المدن، وتاريخها، وتهاني الزفاف، وترقيات الأساتذة، إلى جانب أبواب ثابتة عن الدعوة والدين، تجنبنا الدخول في السياسة، وإن كان لا مفر فبعيداً عن أوربا وخاصة بريطانيا، ووفرنا للأثرياء تخصصات عملية يبحثون عنها فتعاطفوا معنا، وقمنا بعمل رسم اشتراك للمجلة ذات الطبعة المحدودة بين أبناء الجامعة، وكان هذا الرسم غير محدد، فوصلت بعض تبرعاته إلى مئة دولار كاملة، بعد أربع سنوات حصلت على شهادتي في التاريخ بتقدير ممتاز، فأرسلت إلى التلمساني أستشيره في العودة، لكن مصر كانت قد أظلمت على إخوانها، فطلب التلمساني أن أبقى لأكمل ما بدأت، اقترحت عليه إشهار جمعية إسلامية تكون مقراً للدعوة، فأرسل حوالته قائلاً: هذا تبرعي لكم. في ذلك الوقت بدأت دراستي لنيل درجة الماجستير عن "فكر الشيعة في الدعوة وتكوين الدولة"، لم يكن الأمر سهلاً، فقد مرت أيام ليست طيبة، خاصة تلك التي استعر فيها الخلاف بين ناصر وبريطانيا، لكن ثمة تياراً كان يرى في وجودنا ورقة رابحة يمكنه استخدامها، ومن ثم فبعدما ضيقوا علينا وجدناهم يبشون في وجوهنا، وصارت التبرعات أكثر سخاء من قبل، الأكثر من ذلك أن عدداً من أساتذتي قدم ورقة باسمي لنيل منحة من الحكومة لاستكمال دراساتي العليا، ولا أعلم إن كان ذلك صدفة أم تدبير مسبق، فتفرغت للدعوة والدراسة دون قلق على معونة التلمساني التي راحت تتأخر، وسرعان ما علمت بسجنه هو الهضيبي، فكان على أن أدبر وحدي أمر تنظيم بلغ عدة مئات وتوزع في عدة دول، ولأن الدراسة كانت تحتاج الرجوع إلى الوثائق وكتب في مكتبات فرنسية وألمانية وتركية وإيرانية فقد حصلت على تصريح بالسفر إلى هذه الدول، وبرز اسمي كباحث في التاريخ الإسلامي الوسيط بعد عدد من الندوات التي تعقدها الجامعات والمكتبات العامة، لم أكن أتصور أن هذه المحاضرات ستمنح لي حضوراً بهذا القدر، مما ساعد على انتشار الجماعة وقدرتها على جمع التبرعات، كانت أوربا خارجة للتو من حرب أصابت روحها بالخواء، وكان الإسلام بما لديه من قيم دواء ناجع لهذه الأرواح التائهة، حتى أن مريديه فاقوا في انتشارهم مريدي الروحانيات الصينية والهندية وقتئذ، وحين شدد ناصر قبضته على إخواننا في سجونه قررنا أن نريه كم نحن أقوياء، كان الجميع متخوفاً من طموحاته ورغباته بعد تحالفه مع سوريا،ثم نزوله اليمن ضارباً بكل الخطط المستقرة عرض الحائط، وكنا الورقة التي يمكن لأوربا أن تكيل له من خلالها ما تشاء، كانت الصحف تنقل صرخاتنا وسبابنا له على صفحات كاملة، وظل الأمر على هذا النحو حتى حصلت على الدكتوراه وقررت العودة إلى فلسطين.

تنهد أبو سعيد وكأنه عائد من حرب طويلة، لكنه كان قد أثار رغبتي في السماع، فقد بدأ من اليمن وانتهى بالعودة إلى فلسطين، نظرت إلى وجهه المستدير وعينيه المتوقدتين وقلت وماذا بعد، تنهد من جديد وقال: كانت في الأردن حلقة إخوانية آخذة في الانتشار، وكان زعيمها وقتئذ أحد تلامذتي الذين حصلوا على شهادة الحقوق من لندن، وكان لا بد أن أمر على بلاده كي أتسلل إلى فلسطين، سلمت الخلايا التي معي لرفيقي كفاية الله الباكساتني واتصلت بعصمت الحاج في عمان فاستقبلني هناك، سألته عن الأحوال فقال أن الأمر ليس ميسوراً، فأوضحت له حاجتي إلى دخول غزة لجمع الأنصار ومناهضة العدو الصهيوني، فأسر لي بأنه يرغب في الذهاب إلى اليمن، فوجدتها فرصة للأخذ بثأر رفاقي و شيوخي من الطاغية الذي عذبهم في سجونه، ونقل البلاد من الإسلام إلى الإلحاد.

في تلك الآونة كان الملك حسين يناصر البدر، ومن ثم فقد شدد قبضته على الداخل وفتح بواباته للراغبين في اللحاق بقادة الإمام، وجميعهم كانوا وزراء في الحكومة التي شكلها من منفاه في جدة، كنا نكمن بالليل لطوابير الدبابات المصرية فننصب لها الكمائن ونطلق عليها نيران مدفعيتنا، لكنهم ما يلبثون أن يستدعون طائراتهم لتقصفنا من الهواء، كانت جثثنا تتناثر على الأرض بلا رحمة، سنوات من الحروب الدامية بلا معنى، لأن ما نأخذه اليوم يؤخذ منا غداً، وما يؤخذ اليوم نموت بالمئات من أجل استرداده غداً، رغم إعلان الهدنة والمفاوضات والمؤتمرات واللقاءات بين ناصر وفيصل الذي تولى السلطة فيما يشبه انقلاباً من الأسرة السعودية على أخيهم سعود، ذلك الذي استنزف خزانة الدولة على البدر ورجاله، ورغم أن فيصل لم يكن يحب البدر غير أن تعنت ناصر جعله يتورط هو الآخر في تمويله، فقد ضرب الطيران المصري مناطق الجنوب السعودي، واستقدم ناصر سعود من منفاه في أوربا وروج لأنه الملك الشرعي، ثم أخذه في زيارة لليمن ليدحض عزيمة القبائل التي تناوئ مع الإمام، ويثبّت الذين والوا الجمهورية العربية المتحدة، ونفس الأمر قام به فيصل حين بحث عن ملك مصر في بارات إيطاليا وأخذ يقنعه بالعودة والمطالبة بعرشه، لكن هذا الأمر لم يدم كثيراً، فقد قتل فاروق مسموماً، ثم جاءت النكبة التي علم الجميع بعدها أنهم أخطئوا، فالعدو المتربص بنا في الشمال لا الجنوب، وليس البدر أفضل من ناصر ولا السلال، فقررت العودة من جبل رازح عبر سلسلة عسير إلى الأردن، وما أن عدنا حتى سمعنا بانسحاب مصر من اليمن، وهروب السلال إلى روسيا، وسيطرة العمري على زمام اليمن، وتوالت الأحداث كما لو أن الكل تكشف الحقيقة على صخرة النكسة، فتوصلوا إلى أنها كانت فتنة الجالس فيها خير من الواقف، والنائم خير من الجالس، والقاتل والمقتول في النار.

(6)

أرسل والدي إلى أهله أن اخلعوني فقد خلعت الإمام، ولأن عمه أصبح صهراً للإمام فقد خشي على نفسه وابنته وأبلغ من فوره شيخ القبيلة ليبلغ بدوره الإمام، حدث ذلك بعد أن استتب الأمر في جبل "الشعيب" لشبح يدعي معاوية، فقد غير اسمه وأبرز مهارة في القتل والسطو وشاع ذكره هناك، كانت له طريقة جديدة على أمثاله من قطاع الطرق، فهو لا يهاجم أعزل، ولا يجور على ضعيف، ولا يقتل شاة لا يحتاج إلى أكلها، ولا يسلب فقيراً قط، بل إنه إذا رأى أحدهم في طريقه يعطيه مما في يده، ولأن سطوته كانت منصبة على شيوخ القبائل وأبنائهم وحاميات الإمام ورجاله من الأتراك والزيود فقد أحبه الجميع، وكثيراً ما تواطئوا معه ضد أعدائه فضللوهم عن طريقه، ورغم شعوره بأنه منذور لعمل كبير غير أنه لم يكن يتسامح مع خائن، ويؤدب من يشذ عن حسن ظنه بالطريقة التي تناسبه، وإذا وضع يده في يد الشيطان فعلى الأخير أن يلتزم معه بما اتفقا عليه، وإلا فليتبوأ موقعه من القتل الذي يأتمر الآن بأمره، ورغم كثرة الكمائن والدسائس غير أن الموت هو الذي كان يخشى على نفسه منه، ربما لحيله التي لا تنتهي، وربما لأن العيون والخلايا التي بثها في القرى والقبائل التي حوله مكنته من العلم بأحلامهم قبل أن ترد على أذهانهم.

رحل محمد الذي أصبح معاوية من الشعيب إلى الشماخ إلى رازح، وسكن الكهوف والمغارات، جالباً السلاح على ظهور الخيل والإبل من الشمال، وحارماً الإمام ورجاله من تجارة الآثار، وأظهر قدرات عظيمة على التخفي والظهور، حتى أن الجميع كان يتوقعون خروجه عليهم في أي وقت كما لو أنه نبت فجأة من الأرض أو سقط من السماء، وكثيراً ما أحاكوا الحيل والفخاخ من أجله، لكنهم في كل مرة ما كانوا يصدقون أنفسهم حين يجدونه التقط الطعم واختفى قبل أن يضرب الفخ على قدمه، فذات مرة قرر واحد من شيوخ القبائل أن يضرب بأوامره عرض الحائط باحثاً عن الحفائر، فأوقف الرجال بالسلاح على حدود القبيلة، وأرسل للإمام قائلاً أن معاوية سيجيء لينتقم، وهذه فرصتنا للخلاص منه. فأرسل الإمام حامية من الأتراك المثقلين بالخناجر والمدافع والملابس المزركشة، ومعهم سلة من الزيود الذين لم يدفعوا الفدية فدخلوا في الجندية الإجبارية، كانت هيئتهم بزيهم البدوي ومدافعهم الصدئة توحي بأنهم متسولين لا مجندين، ظلوا ثلاثة أيام يحمون شيخ القبيلة والمكان حتى وصل الأجانب إلى بغيتهم، فجدوا المقبرة منهوبة وعلى جداراها وقفت جثة شيخ القبيلة مصلوبة.

شاع اسم معاوية بعدما داهم أكثر من قافلة وشيخ قبيلة، وفرض الجزية على الأثرياء الذين يأسوا من التخلص منه فامتنعوا عن أداء الضريبة للإمام، هنالك ثارت ثورة الأخير حين علم أن أمواله تنقص ولا تزيد بسبب قاطع طريق، وأخذ العلماء الذين تلقوا الهدايا من الشيوخ ينفخون في النار حتى ارتفع اللهب وأعلن الإمام الحرب، حين علم معاوية بالأمر قسم رجاله إلى ثلاث فرق، كل واحدة تتكون من ثلاثات أصغر فأصغر، ثم أرسل بمجموعة أخرى على هيئة حرفيين إلى صنعاء، كانوا عيونه المفتوحة على قصر الإمام وما يدور به، فجاءه النبأ من خلالهم أن الحملة التي ستخرج إلى الشماخ مكونة خمسمائة تركي وثلاثة آلاف مجند، فراح يخزن ما استطاع من سلاح ومؤن ويعد الخنادق والكمائن لحرب قد تطول، وانتظر بالشهور لكن شيئاً لم يحدث، فقد جاءته الرسل من جديد بأن الأتراك هم الذين خرجوا من البلاد بعد هزيمتهم في حرب كبيرة دارت بين الدول الكبيرة، وكانت هذه فرصته التي تمناها لتأديب الشيوخ، فنهض ينهب أموالهم ويحرق مراعيهم استجاروا بالإمام من جديد، فصرخ في مجنديه أن يخرجوا إلى الشماخ، وكاد الإمام أن يصاب بالجنون حين علم أن الحملة عادت وقد سلب منها كل شيء حتى الملابس، هنالك أرسل إلى شيخي مشايخ حاشد وبكيل قائلاً: سأقتل أولادكم الذين في حوزتي إن لم تأتوني برقبة هذا الصعلوك. فصارت حاشد أختاً لبكيل، وصار معاوية رجل الساعة المطلوب حياً أو ميتاً، وفتح الإمام البخيل خزائن المال والسلاح واسطبلات الخيل للجميع، حتى أنهم شعروا لأول مرة أنهم شركاؤه في الحكم، فانقلبت القبائل كلها على معاوية ورجاله، حاشدين عشرة آلاف رجل مدرب على حمل السلاح وركوب الخيل، غير مبالين بالبرد أو الثلج، ولا هم لهم غير القبض على قاطع الطريق في مغارته على قمة الشعيب، كانوا يطاردونه من مخبئ لمخبئ، ومن موطئ قدم لأخرى، حتى كل معاوية من الفرار، ويأس رجاله من الحياة، فأمرهم في ليلة حالكة الظلمة شديدة البرد أن يجمعوا ما لديهم من إبل وأغنام، وأن يربطوا على رؤوسها عشباً ويضرموا فيه النار، وأن يوجهوها على منحدر رفيع من الجبل. حين رأى رجال القبائل النار مسرعة نحو الوادي الفسيح تجمعوا ليتصدوا لمحاولة الاختراق اليائسة، ولم يكتشفوا الخدعة إلا بعدما ولى معاوية ورجاله من الجانب الآخر.

كان من السهل على الرجال أن يعود كل منهم إلى قبيلته، فلا أحد يعرفهم ولا عشائرهم خلعتهم، وحده معاوية هو الذي لم يعد أمامه سوى أن يتلاشى من أرض اليمن، فاتخذ سنيه العشرين وطريقه الجديد نحو مدينة الشمال التي يتوه فيها كل غريب.

(7)

اللهم نجنا من الهم والغم وفساد النفس، وبارك لنا فيما رزقتنا، ويسر لنا مقامنا وترحالنا، وهبنا الحظوة عندك في الدنيا والآخرة، واحتسب أبا سعيد في شهدائك الأبرار. هكذا عطفت التمتمات بصورة الرجل الجليل على ذهن الشيخ، وما أن تذكر صاحبه القديم حتى مرت بذهنه أمسياتهما على سفوح الجبال، تذكر حين استقبله قائلاً: هنا يا صاحبي يتجمع المجاهدون من كل مكان كي يقاتلوا عن دين الله، هنا نأمل أن نبني مركزاَ لتعليمهم فنون القتال كي يعلوا كلمة الله في الأرض.

لم يكن هذا لقاؤنا الأول، فقد التقينا على مشارف نهر اللوار، كان كل منا ذاهب في وجهة غير وجهة الآخر، كنت مازلت مهووساً بعمارة ابن الوليد، فرحت في واحدة من رحلات جنوني إلى هذا النهر، لم تكن الدراسة تعني لي الكثير، أما المال فكان يزيد وينتشر دون جهد في ظل مجموعة من المخلصين الأذكياء الذين لا أعرف عمن ورثتهم بالضبط، عن خالي التاجر المثقف أم أبي قاطع الطريق ذي الفراسة العجيبة، هؤلاء الأوفياء ما كنت أحتاج معهم إلا لأن أخلو لنفسي وهواها، فما الذي حدث؟

هكذا جاءه السؤال وهو يطوف بخيالاته في الماضي، فهبطت على ذهنه صورة رجل في الخمسين من عمره ينتظره في مكتب مدينة الجن والملائكة، ربعة القوام،أبيض البشرة، ذو لحية طويلة منتظمة يشوب سوادها البياض، كأنه أمضى حياته كلها يشذبها ويهندمها ليرخيها على زيه الأزهري، كان لعينيه بريق لا يمكنك أن تفلت منه، ولا يمكنك أن تزعم أنه لعابر سبيل. يومها كنت أرتدي ملابس عادية تماماً لأهرب نفسي من رسميات وتقاليد ما عدت أحتملها في حياتي، بدا الرجل قصيراً بعض الشيء، لا أعلم لماذا ارتبكت حين رأيته، ذكرني بالمدن القاحلة التي تركتها تعج في أبار الزيت، ذكرني بأقاربنا اليمنيين الذين لم أرهم منذ الطفولة، كان ظهوره مباغتاً وملغزاً لي، قال السكرتير حين هاتفني في المنزل أنه سأل عني عدة مرات، وأصر على مقابلتي شخصياً،حين دخلت رحبت به كشخص أليف إلى نفسي، لكنني ظللت أتسائل في داخلي عمن يكون، وما الأمر الذي جعله يلح في لقائي، بعد انتهاء كلمات الود ساد صمت قطعته بسؤاله عما يريد، حين ابتسم شعرت أن شيئاً ما أضاء وجهه، وضع مسبحته على المكتب قائلاً "أنا أبو سعيد"، ثم تنهد وهو يلتقطها من جديد "أظنك لا تعرفني، لكنني صديق والدك"، وكمن يعرف أنني لا أعرف الكثير عن أصدقاء والدي قال "رحمه الله، لم يكن هناك الكثيرون الذين يعرفون صداقتنا، ولم تكن الأمور تسمح بأن آتي لأقدم واجب العزاء للأسرة، لكن لتسمح لي أن أقدمه لك الآن بالنيابة عنهم جميعاً"، دارت في رأسي الظنون حول هذا الصديق الذي جاء ليقدم العزاء بعد أربعة عشر عاماً من وفاة صديقه، هل كان مسجوناً؟ أم أنه فقد ذاكرته كل هذه السنوات؟ وإذا كان هكذا فلماذا يحيط نفسه بهذه الريبة والسرية في الحديث؟ لماذا لم يذهب إلى إخوتي الأكبر أو خالي بهاء الدين؟ قلت ربما يكون محتالاً ولديه خطة ليخرج ببعض الأموال، ومن الجائز أن يفاجئني أن له أموالاً عند أبي، وربما يكون أكثر ذكاءً فيقول أن والدي هو الذي له أموال عنده. هكذا كانت تساورني نفسي حول هذا الجالس أمامي باطمئنان شديد. شكرته على عزائه وسألته عما يمكن أن أقدمه من أجله فقال "صلاة العشاء"، حين فغرت فاهي متعجباً أضاف "نحن نصلي في مسجد الصحابة، أرجو أن تأتي للصلاة معنا"، شعرت ساعتها أنني أمام مجذوب أو درويش، لكنني نهضت للسلام عليه بنفس الحفاوة الأولى، قال "ستأتي؟!."، قلت "إن شاء الله"،

كان من المفترض يومها أنني سأعاقب كل من في المكتب لأنهم أضاعوا وقتي مع رجل لا أعرفه ولا أعرف سبباً لمجيئه، لكنني استقبلت الأمر على أنه طرفة كان يمكن أن تحدث لعمارة ابن الوليد وهو على تخوم أي من القبائل، في المساء كان على أن أتجه إلى بيت صديقة لآخذها إلى حيث دبرت مع آخرين رحلة خلوية، كان علينا أن نقطع مئة كيلو متراً جنوبي باريس، حيث نهر السارون أحد نهيرات اللوار الذي يلتقي بنهر الرون عند مدينة ليون، كانت قد اختارت مع الرفاق هذا الطريق الذي لا أعرفه للاحتفال بعيد ميلادها العشرين، جذبتني المغامرة وانطلقت معهم ما يزيد عن خمس ساعات من الركض المتواصل في الصحراء حتى لاحت قمة جبل متواضع بجانبه نهر، قالت:هذا أحد فروع النهر الكبير الذي شهد موقعة فاصلة بين المسلمين والمسيحيين، قلت ربما كان النهر الذي هزم عنده عبد الرحمن الغافقي فتوقفت معه فتوحات المسلمين لأوربا. حين ترجلنا وجدتهم جهزوا للإقامة عدة أيام في هذا الخلاء، رقصنا ولعبنا وغنينا وتسابقنا وسبحنا في النهر الذي أعاق تقدم أهلي عن العبور بالإسلام إلى باريس، ولم يبق لدينا من الجنون غير أن نكمل الرحلة متخذين الجانب الشرقي من النهر طريقاً لعودتنا، فاتجهنا بسياراتنا بمحاذاة النهر بحثاً عن جسر نعبر من عليه، حين وصلنا إليه وجدنا قرية جميلة اسمها sans "صانص"، فتركنا سياراتنا وهمنا على وجوهنا فيها، ثم جلسنا في أحد المطاعم ننتظر غداءاً تأخر كثيراً، وقبل أن يحضر النادل ما طلبنا سمعت صوت آذان يتهادى على مسافة بعيدة، سألته هل توجد مساجد بالقرية، ولا أعرف هل كان النادل مسلماً أم لا لكنه تهلل بسعادة غريبة، وقال كمرشد سياحي ضل طريقه "نعم يا سيدي، هنا واحد من أقدم المساجد الإسلامية في أوربا، يرجع تاريخ بنائه إلى عام 723، أي بداية القرن الثاني الإسلامي، بناه أول قائد عربي وصل إلى هذه المنطقة وهو عنبسة بن سحيم الكلبي" قاطعه واحد من الرفاق بلهجة ساخرة "الذي قتل في معركته مع شارل مارتل بسبب خوف جنوده على غنائمهم" لكن النادل ابتسم بهدوء مدرس تاريخ قائلاً: ربما تقصد عبد الرحمن الغافقي، هذا أيضاً كان قائداً عظيماً، فبعدما وصل عنبسة إلى هذه النقطة القريبة من باريس بأقل من سبعين كيلو متر، اقتنع أنه قد أمن حدود بلاده بشكل كاف، وعلى عادة العرب بنى هذا المسجد ليرسي قواعد دينه في المكان، مثلما فعل في بقية مدن نهر "الرون" ثم ترك حامية صغيرة وعاد إلى لشبونة،لكنه في طريق عودته داهمته قوات مسيحية لم يتوقع تجمعها بكل هذا العدد في خوانق جبال ألبرت فقتلته.

حين أتى الغداء كان النادل قد ألقى علينا محاضرة عظيمة عن الصراع الإسلامي المسيحي في القرون الوسطى، فصفقنا له جميعاً، ورحت أغمره بكل ما في حافظتي من أموال، كان شعوره بالسعادة كبيراً فقرر أن يصحبني في زيارة سريعة لثروته الأثرية في تلك القرية، قال أن معمار المسجد لم يتوقف على ما بناه عنبسة الكلبي، فقد حرص سلاطين الموحدين والمرابطين وبني أمية على تجديده والحفاظ عليه، بل إنهم أقاموا معاهدات مع ملوك الأسرة الكارولنجية ومن أتى بعدها للحفاظ على هذا المساجد وعدم المساس بمن أسلموا. حين وصلنا لم أجد مسجداً بالمعنى الذي تطلعت إليه، فرغم أن به قبة تشبه قبة المسجد الأقصى، ومئذنة قصيرة على الطراز المغربي، غير أن المئذنة بها أجراس، والقبة يعلوها صليب كبير مضاء بالنيون، وثمة تراتيل تتهادى منها، فقلت "إنه كنيسة؟!" قال كمن يعتذر "لقد استولى عليه المسيحيون حين تدهور ملك العرب، لكن لأن أغلب أهل هذه القرية ظل على إسلامه، فقد أخذوا منهم نصف الجامع والمئذنة وتركوا لهم النصف الآخر، ومع الوقت حصروهم في المصلى الخارجي، فلم يبقى للمسلمين غير هذه الأمتار و ذلك اللوح الرخامي، نظرت فإذا على جانب الباب المشغول بالفسيفساء لوح رخام أخضر، كتب عليه بخط كوفي" مسجد الصحابة، بناه قائد خيل الله عنبسة بن سحيم الكلبي عام 105 هجرياً "فدهشت أن اسمه مسجد الصحابة، ولم أفق من دهشتي حتى رأيت الطيف العربي الذي زارني منذ أيام في مكتبي، متهادياً على الأرض بقامته الربعة وزيه الأزهري وابتسامته الوديعة ونظرته التي لا تدل إلا على أن صاحبها مطمئن بحب الله، زادت ابتسامته في وجهي حين توقف أمامي قائلاً" "إن شاء الله أتيت، فهل ستدخل؟"، فلم أملك سوى أن ابتسمت قائلاً "إن شاء الله".

(8)

حين خرجت السفينة من الأسكندرية كانت وجهتها بريطانيا ووجهة أبي سعيد المكسيك، رمى الرجل برحله على ظهرها وجلس يتأمل السنوات التي مرت من حياته، كان أكثرها حزناً يوم وفاة والده، مشهد قال لن أنساه ما بقيت حياً، كانا في صحبته وهو عائد من حقله على حدود المدينة، فخرجت عليهما جماعة من الهجاناة التابعة للهستدروت، وكان والده ممن رفضوا بيع أرضهم المجاورة لمزرعة يهودي اشتراها من ملتزم تركي قبيل إعلان خسارة المحور، في البدء فرح الناس برحيل الملتزم الذي طالما تلذذ بتعذيب المدينين له، ورغم أن المالك الجديد كان أوربياً وحيداً بلا زوجة أو ابن غير أنه ما لبث أن جاءه ضيوف لم يرحلوا، فبنى لهم دوراً بجانب القصر، كانت الناس تعمل لديه بمحبة وجد لأنه كان سخياً وليس فظاً كسابقه، لكن الضيوف كثروا ولم يكن الرجل راغباً في بقائهم بلا عمل، فنزلوا مع المزارعين والبناءين وحافري الآبار، في البدء كانوا مطيعين لا يؤذون أحداً، لكنهم بمرور الأيام أخذوا يسخرون من الفلاحين ويعتدون عليهم، وحين اشتكوا للمالك قال أنهم أبناء إخوته ولا يملك طردهم، فانقسم الناس ما بين قابل للعمل وكاره للمهانة فرحل، لم يمر عام حتى أصبحت المزرعة الفسيحة تدوي كخلية النحل بشباب وبنات شقر يرطنون بشتى اللغات، فرغب المالك في توسيع مزرعته، ما يشترى بواحد كان يشتريه بعشرة، والناس يفغرون أفواههم أمام الأرقام، وكان أبي يقول لهم أن الأوربيين ليسوا أسخياء بهذه الدرجة، وأنهم لا يدفعون شيئاً إلا في مقابل أشياء، ولابد أن في الأمر من سر، فلا تساعدوهم فيما دبروا له. كانت كلماته خبيرة بطباع أناس لا يعرفونهم، وكان الناس قد ضجروا من أسعار الأرض التي ترتفع كل يوم أضعاف سابقه، قال أبي من سيبيع أرضه اليوم سيعمل خادماً رغم أنفه غداً، وهؤلاء أناس لا يعرفون حرمة أو دين.

لم تمر أيام حتى علم الجميع أن الحرب الكبيرة بين الدول الكبيرة توقفت، وأن الأتراك لن يعودوا، يومها رأوا أفواجاً جديدة من الضيوف تحط رحالها في المزرعة، وعروضاً جديدة للشراء تحمل لهجة التهديد، كان الضيوف قد ابتنوا سوراً حول مزرعتهم، وكان الصبية حين يتسلقون الأشجار في الحقول يرونهم مصطفين تحت الشمس وثمة من يلقنهم دروساً بالعصي والبنادق، شاع في القرية أنهم يحملون السلاح، وأن ضيوفاً جدداً قادمون، وأن فلاناً وقّع بالأمس على بيع أرضه لأنهم هددوه بالقتل، وأن فلاناً اختفى بأولاده كي لا يبيع أرضه، صرخ أبي في الناس أن يقيموا حلفاً، وألا يبيع أصحاب الأرض المجاورة للمزرعة شبراً منها، وأن يكون على كل بيت خمسة رجال كي لا يجبروا صاحبه على شيء، إلى أن يقضي الله أمره. استجاب الناس وراحوا يخرجون إلى الحقول على هيئة جماعات يحرس بعضها البعض، موصين أنفسهم بعدم البيع أو الشراء معهم، ووصل الخبر إلى الضيوف فأقاموا حراسة على أسوار مزرعتهم، ولم يبدر منهم شيء حتى ظن الناس أنهم خائفون يعدون أنفسهم للرحيل، لكنهم استيقظوا في الصباح على عربات من الجيش البريطاني تنزل المدينة لتمكث مكان الأتراك، وأصبح عليهم تفريق الناس بحجة أن رجلاً وجدت جثته مقطعة بالسيوف على مشارف القدس، قيل أنه يهودي، وقيل تركياً كان يود البقاء في المدينة، لكن أحداً لم ير الجثة ولم يشهد الواقعة، وبدأت الأحوال تنضبط، فلا فرض على أحد في بيع أرضه، ولا رغبة من أحد في البيع، إلى أن فوجئ الجميع بأن يهودياً آخر اشترى مزرعة ورثها الإنجليز عن الأتراك، فتجسد في مخيلة الناس أن البريطانيين سيستولون في العلن ويبيعون في الباطن، فقرروا طرد اليهودي وشراء المزرعة منه، لكنهم وجدوا المزرعة تضج بالحراس ذوي الملابس السوداء والرؤوس الحليقة، وأن القائد البريطاني يتناول الغداء مع صحب المزرعة، فتأكدوا أن الأمر خرج عن الاسترداد وعليهم أن يحموا أنفسهم، كان أبي يجتمع بهم أمام البيوت وعلى الخانات ليحرضهم على مقاطعة اليهود، وكان في الذين يصغون لكلماته بجلال مهيب بعض يهود القدس الطيبين، فبكوا ولطموا خدودهم ودعوا على أنفسهم وأعلنوا أنهم لا علاقة لهم بالغرباء القادمين من الشتات، وأنهم قلباً وقالباً مع العمال المساكين والفلاحين الفقراء، سيشترون منهم محاصيلهم ويمدونهم بالقروض حتى يفرجها الله، و لسبب لا نعلمه أخذت الأشجار تجف والآفات تكثر والمحصول لا يكفي سداد الديون، وكان الطيبون يقرضون من يحتاج ويمهلون من لا يستطيع السداد، لكنهم بعد أعوام لم يتسامحوا أو يطالبوا، فقد ذهبوا ليقيموا مع الضيوف في المزرعة، وجاء البريطانيون بجيشهم ليقولوا الدفع أو الخروج، فثارت ثورة الناس ورفضوا أن يتركوا أراضهم، فأطلق الجنود النار واحتجزوا من أمسكوا به في مخافرهم، فدب الخوف على الأرض وتنازل من تنازل بهدوء، وأُخذت الأرض من قتلوا أو سجنوا، وجاء الدور على أبي، قال القائد البريطاني نحن لا نريد مشاكل، وأرضك المجاورة للمزرعة في قلب أرضهم الجديدة،لكن أبي رفض، قال لقد أصبحوا مستوطنين مثلكم، ومن واجبي حمايتهم وحمايتك، لكنه أيضاً رفض، فترصده خمسة بملابس سوداء،ظلوا يهيمون خلفه من مكان إلى مكان كأنهم ظله، ولم يكن يعبأ بهم حتى أتى اليوم المشئوم، رأى في عيونهم الشر وبأيديهم البنادق، أردفني خلفه على البغلة حتى وصلنا مشارف القدس فقال اذهب لتبلغ عمك ومن تراه أنهم العراك معي. تركته وأسرعت إلى الخان فوجدت عمي وبعض القوم، حين عدنا إليه وجدناه جثة ممزقة ورأسه على مبعدة أمتار، بينما أشباحهم السوداء تهرول في البعيد،جمعنا الجثة في قماش أبيض وعادنا وطفنا المدينة نجمع الناس، فكلما مررنا ببيت خرج من فيه، وكلما مررنا بخان تكاثرنا حتى صرنا مئات، فحملنا العصي والبنادق والخناجر وعدنا مزرعتهم التي غدت ثكنة تتزلزل الأرض تحت أقدام جنودها، كان البريطانيون يملئون المكان، وكانت الأشباح السوداء تتقافز على الأسوار ببنادق تشبه بنادق الجنود، وكان الرصاص في البدء يطير في الهواء وما لبث أن مر على الرؤوس، قال المالك العجوز: لم نقتله، وأتونا بقاتليه ونحن نقتلهم أمامكم! وقال يهودي طيب:لو كان طفلكم صادقاً فلا بد أنه قتل خطأ وعلينا ديته. وقال الضابط: ادفنوا أخيكم وخذوا الدية أفضل من أن تموتوا بلا دية. من يومها بدأ الناس في التواطؤ والجبن، وبدأت الملابس السوداء والرؤوس الحليقة تطوف المدينة كخفافيش تنقض على كل شيء.

بكى أبو سعيد من جديد لترحيله إلى أرض لا يعرف عنها سوى أنها المنفى، واعتزل الناس في سجنه الصغير على السفينة يتذكر ويبكي،فمضت أيام لا يكلم أحداً إلى أن غضب البحر وهبت عواصف لم يرى البحارة مثلها، وهطلت الأمطار وأخذت الريح تطيح بكل شيء، بينما الأمواج جاءت كألواح من جبال تصفق السفينة فلا يوقن بالنجاة أحد، وحده الرجل كان هادئ البال مستقر السريرة، ينظر إلى السماء ويقرأ ما حضره من آيات الذكر. أطاحت الريح بالسواري والكبائن وأخذ المد في انسحابه الربان ورجاله، وتمايل الطود العظيم كالنخل تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال.

كانوا قد قبضوا عليه في طريق عودته من فلسطين بعد هزيمة 48، ولم يكن يعلم أن أمر الجهاز الخاص قد اكتشف في مصر، وأن الجماعة قد حذر نشاطها، فلم يتهرب من نقطة التفتيش على حدود الإسماعيلية، لكنهم فاجئوه بقرار القبض عليه، ولأنه لم تثبت عليه أدلة اتهام واضحة غير زعم اليهود بأنه المسئول عن العمليات الإرهابية في مصر وفلسطين ضدهم، ولأنه ليس مصرياً ولا بريطانياً ولا إسرائيلياً فقد اتفق الجميع على نفيه إلى المكسيك، ولأنه لم تكن هناك سفينة متجهة إلى هناك مباشرة فقد قرروا وضعه على سفينة متجهة إلى لندن ليعاد ليوضع هناك على أخرى متجهة إلى المكسيك، لكن القدر شاء أن ينجو من النفي ليجد نفسه في إيطاليا، فحين تعالى الموج وتحطمت محركات السفينة أرسل الربان رسائل استغاثات عاجلة إلى كل من في البحر أو البر، فالتقطت إشاراته سفينة تراجعت عن الدخول في منطقة الهياج البحري، فأرسل ربانها إلى أبراج المراقبة القريبة منه أن سفينة تغرق في البحر عند النقطة التي حددها الربان المستغيث، ظلت سفن الإنقاذ تناور الموج حتى هدأ لتلملم أشلاء السفينة الغارقة وما على وجه الماء من جثث، كان أبو سعيد واحداً من هذه الجثث، ولا يعرف كيف نجى من بين الكثيرين، فنقله الجنود إلى المستشفى لتجرى له عمليات الإسعاف الضرورية، ولأنه لم يكن يحمل ما يدل على هويته فقد انتظروا أن يفيق ليخبرهم بها، حين سألوه قال أبو سعيد من مصر، وفي كنت في طريقي إلى لندن لأكمل دراستي، لم يكن أمامهم غير أن يثبتوا غرق سفينته في البحر، ويعطونه أوراق بالهوية التي قال بها، ليتخذ طريقه مجدداً نحو البلاد التي حكمت عليه بالنفي.

(9)

حين نزل جدة ظل يتسكع بطوله الفارع وجسده القوي من مكان إلى آخر حتى وصل إلى خان بالقرب من الميناء، كان بعض الهنود يقفون أمام الباب ملحين على الناس في الدخول، فدخل وطلب ما يليق به كسيد لا يناقش ولا يناقش، لكن هيئته ما كانت توحي أنه يمتلك ثمن ما طلب، فانحنى الخادم على رجل في مؤخرة المكان وهمس في أذنه، يومها نهض الرجل كمن لدغه عقرب نحو المنضدة التي جلس عليها معاوية:

ـ المال قبل الطعام.
ـ ومن لا يملك؟! أجاب معاوية
ـ لا يدخل.
ـ لكنكم الذين طلبتم الدخول!

انفجر الرجل ضاحكاً وهو يشير لرجاله أن يقذفوا بهذا المعتوه إلى عرض الطريق، تجمع ثلاثة منهم حوله وأرادوا أن يفعلون ما أمروا به، فاحتمى بجسده القوي وطوله الفارع، وعلت الأصوات وتطاولت الأيدي حتى تدخل رجل ذو هيبة قائلاً: احضروا له ما يريد. فهدأ الجميع وخجل معاوية واستدار نحو الشارع، لكن الرجل أصر على ضيافته، قال أنا الحاج حميد الدين الطولي، مسئول عن أعمال التوسعة في ميناء جدة، فمن أنت ومن أين جئت؟ قال معاوية الذي عاد إلى اسمه القديم أنه من حضرموت، وأنه غضب من عمه لأنه وعده بالزواج من ابنته لكنه زوجها لغيريه، فترك له أرضه وخرجت إلى أرض الله الواسعة. شعر الرجل أن ضيفه صادق لكنه أسقط من حكايته الكثير، فطأطأ رأسه قائلاً: وتبحث الآن عن عمل؟ فأجاب نعم. قال حميد الدين: ومثلك لا يبقى بلا عمل.

كان العمل الذي بانتظاره هو نقل الأحجار من حيث تضعها الحمير والجمال إلى حيث يريدها البناءون، فظل يعمل وسط قطيع من الهنود والأفارقة من شروق الشمس حتى غروبها، ثم يأوي ككثيرين إلى حفرة بلا معالم حتى يتضح النهار، الجميع كان يعتقد أنه أحمق لا يجيد الكلام، لكن بنيانه القوي منعهم من التندر عليه، وكان حظ أول من فعل ذلك طرقة بقبضة اليد على الجبهة كادت أن تودي به، فضربوا عليه العزلة مثلما ضربها على نفسه.

ومرت شهور وهو يعمل مع الدواب ولا يستريح إلا براحتها. حين رآه حميد الدين يئن تحت ثقل حجر كبير لم يعره انتباهاً، حتى انثنت قدمه ووقع الحجر عليه، يومها شعر بالمهانة والضعف فامتلأت عينه بالشرر وأخذ يصرخ فيمن أمامه، حينها اخترق الرجل الحلقة التي حوله وصرف الناس عنه، وظلا يدوران شوارع جدة التي لم يكن يعرفها، قال أنه لم يخلق لمثل هذا العمل، فابتسم الرجل قائلاً "وماذا تريد، ملكاً أم إماماً؟ فنظر معترضاً على السخرية، لكن حميداً الذي يكبره بأربعين عاماً على الأقل ربت على كتفه قائلاً" اسمع يا ولدي، كي تصبح سيداً فلا بد أن تنجح في عمل شيء ما، ولا تولول كالصغار حين يتركون أمهاتهم ليعملوا تحت إمرة رجال لا يبشون في وجوههم، "لأن أحداً لن يعطيك ما تريد إلا إذا أعطيته ما يريد". كانت كلمات أشبه بدواء ناجع لجراحه، فعاد إلى عمله كمن ولد من جديد، عاد يكلم الناس ويفرح لفرحهم ويغضب لغضبهم، فصار كل البناءين لا يرغبون سواه للعمل معهم، بعد مضي عامين أو ثلاثة أصبح رئيساً للعمال، يأمر وينهي ويوزع العمل والكل يرضى بحكمه، وتجمع لديه قدر من المال يمكنه أن يحلم من خلاله، فأغلق عينيه وتخيل ما ستكون عليه جدة بعد الانتهاء من الميناء، لا بد أن سفناً كبيرة ستجيء وتروح، ولا بد أن تجارة أكبر ستفد على المكان، ولا بد أن المدينة ستتسع وأعمالها ستزيد، يومها قال لنفسه أنه لا بد أن يصبح من الملاك، فحمل ما معه من مال في خرقة وذهب إلى الشيخ سعد صديق الأمير، كانت أحلامه يومها تتجسد في قطعة أرض على حدود المدينة ولا تبعد عن الميناء سوى بضع مئات من الأمتار، قال أريد أن أبني بها بيتاً. ففكر الرجل قليلاً ثم قال لابد أن تمتلك صكاً من الإمارة بذلك، قال لهذا جئتك. لكن سعداً لم يقل له أن الصحراء تحت سيطرة الأعراب، فأخذ ما معه ووعده بصك مدموغ بعد يومين.

كان فرحه بلا حد وهو يقطع الليل بحثاً عن الأحجار وأخشاب السفن القديمة ليقيم سوراً حول الأرض، وكان أغلب أصدقائه في العمل ينهون أعمالهم قبل موعدهم ليساعدوه في بناء حجرة تظله من المطر والبرد، لكن فرحه تبدد حين عاد من عمله ليجد قطيعاً من الأغنام والجمال يملأ المكان، وأن ثمة أناس في حجرته، قال أنها ملكه فضحكوا، قال أنه اشتراها من الأمير فأشاحوا بوجههم عنه، أخرج الصك وأعطاه لكبيرهم، كان عجوزاً نحيلاً لا تبدوا عليه أمارات المودة، فنظر إلى الورقة بحذق ثم انفجر ضاحكاً: ماذا تعني هذه؟ فأجاب: أن البيت الذي تجلسون فيه الآن بيتي. قال الرجل ومن الذي أعطاه لك؟ قال: الأمير؟ قال أحدهم بحسم: اذهب إلى الأمير وقل له أن يأتي ليطردنا. فأدرك أنه لا معنى لأمير أو ملك لدى هؤلاء، وأنه لابد أن يحمي حقه بنفسه، كان حنقه شديداً ولم يكن يدري ما الذي بوسع أن يفعله، فولد الغضب بداخله من جديد معاوية الذي تركه على قمة الشعيب، فنزع الباب من مكانه وألقى به عليهم، ثم دفع كتفه في الجدار حتى تهاوى وسقط السقف على الجميع،حين انتبهوا من الصاعقة التي أصابتهم وجدوا الثور الذي هدم المكان يهرول بشيخهم ناحية الميناء، رأوه يطرحه أرضاً ويبصق في وجهه، لكنهم لم يسمعوه وهو يقول له: غداً سأعود ومعي قطيع من الذئاب، ليس للغنم والإبل، ولكن لكل من يفكر في رعي الغنم والإبل.

(10)
خريف 1975

لا أعرف هل أمي التي أقنعت خالي بأن أدير مكتب لندن أم أنه الذي غذى الفكرة في ذهنها من أجل ابنته، تعللت يومها بالدراسة لكنها لم تقتنع، تعللت بأن خالي وإخوتي يديرون أموالنا وأموالهم بعناية كبيرة، وليس هناك ما يستدعي أن نغضبهم لأجله، لكنها رأت كل ما تعللت به حرصاً على بقائي في المتاهات التي أدمنتها، قالت: لابد أن تتعلم كيف تدير أموالك بنفسك، فلم تعد صبياً ولم يبق إلا ثلاثة أعوام على انتهاء الوصاية رسمياً. كنت أعرف أنها عنيدة وإذا قالت شيئاً فعلته حتى لو فيه هلاكها، قلت: ألن تغضبي إذا خسرتم هذا المكتب بسببي؟ أدركت أنني رفعت الراية البيضاء فابتسمت قائلة: لن تكون أقل من أبيك أبداً.

حين عدت إلى لندن بحثت من جديد بداخلي عن عمارة الماجن، لكن وعدي لها وخوفي من غضبها أصبح شوكة تقض مضجعي، فكان على أن أمر على المكتب كل عدة أيام ولو لساعة، وكان على مجتمع المال والأعمال كما يقولون أن يتعامل مع شاب لم يكمل العشرين بعد بشعره الطويل وملابسه الممزقة، كنت أرغب في الحفاظ على عمارة من ناحية، ورضائها ويأسها مني من ناحية أخرى، لكنها كانت أكثر حنكة مني، فلم تتأثر بما أفعل، ولم تنشغل بما يردها عني، ولا أعلم هل المال يجلب المال حقاً، أم أن عمارة الشاطر المغامر هو الذي لم يرد لي الخسارة، فما رميت إلا وأصبت، فاستهواني الأمر يوماً بعد يوم، وصرت أمر على المكتب في الأسبوع ثلاثة أو أربع مرات، وكلما ربحنا صفقة دبرت رحلة لمنطقة لم أرها في أوربا من قبل، فأحمل أصدقائي وأغزوا بهم الصحاري والغابات، لم تشغلني الجامعة في شيء! فما الذي يمكن أن يدرسه العلماء بنظاراتهم السميكة وكتبهم الغليظة التي لا تفهم أكثر من حرص رجال أعمال متواضع، وهل كان عمارة طالب علم في روما أو المدائن حين أنتج أسطورته؟ هل كان إلا مغامراً كتب تاريخه على هواه؟ فأرسل لأهله قائلاً اخلعوني فقد خلعت نفسي منكم، واتركوني وعمراً على السفينة المتجهة إلى بلاد النجاشي، وخلي بيني يا ابن العاص وبين امرأتك، فهي مهرة لست فارسها وما ينبغي لها، وإن تركنا البحر فخذ وجه النجاشي في حضنك، واعطني جاريته الرومية، اتركني يا ابن العاص وأرسل للعبد من خلفي: هذا ابن عمنا جاء بعطر وزيت وقال لجاريتك، قل له أن ابن عمنا أخطأ ونحن نخشى على أنفسنا أن يصيبنا شيئاً من غضبك، أما أنا فأسطورتي قد أكملت، وأتممت اليوم ذكري، فصرت إلهاً للعشق، وسيداً للهب المزدوج، ومبتغى كل ذكر وأنثى في ليلة عرس ألق، حتى وإن قيل تاه في البرية، لا يلوي على شيء، ولا يمسسه شيء، لأنني الآن فكرة لا تنتهي، ولو نفخ في إحليلها ألف ساحر وساحر.

(11)

مر يومان ولم يظهر الشبح فظنوا أنه خشي سطوتهم ورحل، لكن معاوية كان محتجزاً في مخفر الشرطة، فبعد أن تركهم توجه من فوره إلى بيت الشيخ سعد وبرك على صدره إلى أن أعاد له نقوده، لكن الخدم كانوا قد أسرعوا إلى مخفر الشرطة وأحضروا الجند، في الصباح انتظره رفاقه في الميناء فلم يأت، ذهبوا إلى حجرته في الظهيرة فوجدوا الأعراب يتوعدونه بالقتل، عادوا فأخبروا حميد الدين ليبلغ الشرطة عن غيابه، لكنه فوجئ باحتجازه لديهم، حاول أن يسترضي الشيخ سعد لكن الأمر كان قد أصبح أكبر مما يتوقع، فقد ذهب الأعراب إلى الأمير يشتكون من يمني ضرب صبيانهم وسرق أغنامهم واستولى على مضاربهم، وقال أنه لا يعترف بالأمير أو غيره، فخشي حميد الدين على مصالحه مع الإمارة، فعاد يسب ويلعن وجه الشؤم وجالب المصائب.

في الصباح أخذه الحرس إلى الأمير خالد مسئول أمن الإمارة، وكان الأمير في ذلك الوقت مشغول بجواد عصي ألقى بسائسه من على ظهره وطاح بكل ما في وجهه،كان الهرج والمرج قد سيطرا على المكان، وتفرق الناس ما بين خائف ومضطرب لأجل السائس، يومها ألقى الأمير نظرة على الجواد الهائج وقال اقتلوه، لكن السجين رأى غير ذلك، فهو نوع نادر من الجياد، لم يوضع على ظهره سرج قط، ولو أحسن سائسه التفاهم معه لاستطاع ترويضه، هكذا قال للأمير، فضحك الأمير قائلاً: وأي خبير أنت؟ قال أنا من حضرموت، عايشت هذا النوع حياتي كلها، ولو منحتني الفرصة لجعلتك تمتطي ظهره بعد ساعة واحدة. تأمل الأمير حديثه وهيئته وبنيانه، واستوعب أنه الرجل الذي أقلق الأعراب في مقامهم السنوي، فقال مناوراً: وهل تستطيع؟ قال لو لم أفعل فعلقني على بابك حتى أموت ولا أرجع إلى بلادي، فابتسم الأمير دهشة من ثقته الزائدة، ثم أومأ بالموافقة، فخلع ملابسه وأخذ يناور الجواد حتى اقترب منه، ثم فك سرجه ومسح على عنقه ثم تركه من جديد، تعجب الواقفون من سيطرته عليه ثم تركه له، لكنه كان واثقاً من قدرته على خلق الألفة بينه وبين الجواد صغير السن، ودون أن يهجم عليه مد يده وأخذ يسايره في المشي والركض، يبتعد عنه تارة ويقترب منه أخرى، حتى تشكك الجواد في نواياه، واستسلم للعب معه، فراح يتشمم اليد الممتلئة بالسكر ويسير بجانبه كراقصين على قمة جبل، دامت الملاطفة والتودد أمام الجميع والأمير يرقب من كرسيه في الظل حركة أليفين التقيا في بلاد غريبة، بعدها استطال الجواد كأنه يعطي إذناً لصاحبه بالركوب، فامتطاه دون سرج أو لجام، ودار به عدة دورات قبل أن ينزل عنه ويدلكه بالماء البارد والحجراً الناعم، ثم وضع له عشباً على سور الحديقة وتركه يستريح. سأله الأمير بتعجب عما فعل، فقال هل يغضب الحبيب حبيبته؟ هكذا الخيل يا سيدي، تغضب وترضى، ولا ينبغي التشكك في نواياها الطيبة. فهم الأمير من حديثه أنه خبير بالحب، لكنه لم يرد أن يتباسط معه قبل أن يحقق في شأن الأعراب والشيخ سعد، قال لو كان الأمير مكاني ما فعل غير ما فعلت، ثم شرح القصة من بدئها حتى وقوفه أمامه، قال لا يغفر لك إلا ما فعلت مع الجواد، وما أظنك إلا قاطع طريق أو سائس خيل، لم يجد محمد ما يرد به عليه، لكن خالداً أردف: أما الشيخ سعد فلا شأن لك به، وأما الأعراب فلا شأن لنا بك ولا بهم.

يومها فهم من لهجة الأمير أنه غير راغب في وجود الأعراب، فخرج من القصر عازماً على حسم الأمر، لكنه ما إن وصل إلى أصحابه حتى علم أنه فقد عمله، وليس له مكان بينهم، فراح يتجول في المكان وقد ضاقت الدنيا عليه، قادته قدماه إلى رصيف الميناء، حيث الذين يعملون في شحن السفن وتفريغها، وجدهم نائمين على الرصيف كالذباب، حتى دوت صرخة بعثت الحياة فيهم، فقد وصلت سفينة تحتاج إلى العشرات كي يفرغوا شحنها، ساعده بنيانه القوى على المزاحمة حتى وصل إلى رجل يتفاوض بضعة رجال في مقدمة الجميع، قال الرجل خمسين فقالوا مئة، قال ستين فقالوا تسعين، فأقسم أنه لا يستطيع أن يدفع أكثر، لكنهم أبو وانفضوا من حوله، لكن شخصاً قوي البنية فتح يده قائلاً: وأنا وافقت. نظر الجميع نحو الغريب الذي يرونه لأول مرة وضحكوا قائلين لصاحب السفينة:دعه يفرغها وحده، ثم انسحبوا فانسحب الميناء خلفهم، وبقي الغريب وصاحب السفينة قابضين على يد بعضهما البعض، شعر الرجل أنه اختار الشخص الخطأ، لكن أبي الذي علم أن النقود ستكون بالجنيه المصري قبض على الفرصة بأسنانه، وأقسم أنه سيفرغها قبل نهاية الليل لو اضطر للعمل وحده، ثم خرج إلى رفاقه في توسعة الميناء، وأخذ يتفق سراً مع عدد منهم كي يتبعوه، حين عاد بهم إلى الرصيف نادى في عمال الميناء قائلاً: إن خمسين رجلاً في طريقهم إلى هنا، ومن يرغب في العمل فليصعد السفينة قبل أن يأتوا. فلم تمر دقائق حتى بدأ الأقل شأناً في التسحب نحوها، وأخذوا يرشدونه إلى طريقة العمل، فشعر زعماؤهم أن الأمر خرج من أيدهم وليس أمامهم غير اللحاق بقائد لا يعرفونه.

كان العمل الجديد يعني الرهان على الغيب، فلا أحد يعرف متى ستأتي سفينة ولا متى ستقلع، وحده معاوية الحالم بما بعد التوسعة رأى أن مستقبله هنا، فجلس ينتظر مع المنتظرين على الرصيف، بينما ذهنه شارد فيمن استولوا على حجرته، وكيف يمكنه الخلاص منهم، بينما القادة القدامى للميناء لم ينسوا أنه سلبهم ملكهم، ولا سبيل لاسترداده بغير الخلاص منه، فراحت المناوشات الخفيفة تدور بينهم وبينه، ولأنه ذو يد لا تخطئ وقلب لا يعرف الخوف فقد كان النصر في جانبه، لكنهم علموا بأمر الأعراب معه، ومن لا يستطيع حماية بيته فلا يجب أن يبدو أسداً أمام الناس، هكذا راحو يتندرون عليه حتى ضاق صدره، وقرر العودة لعمله القديم، سأل عنه فقيل أنه في الخان، لكنه ما كاد يدخل الخان حتى انطلقت عدة رصاصات أصابت إحداها كتفه، فأغلق الناس الخان على أنفسهم، وفر من أطلقوا النار نحو أغنامهم وإبلهم، ولما رأى الناس لا يجرؤون على الاقتراب منه احتمل على نفسه وذهب إلى عجوز يداوي حمير الميناء، أعطاه ما معه من مال وطلب منه مداواته، حين تماثل للشفاء كان الحنق قد أنضج بداخله معاوية القديم، فانتظر حتى نزلت الظلمة إلى الأرض وهجم على حراس الغنم فحصد منهم جماعة ربطها في حبل أمام الخان، وكتب على الباب: هؤلاء أهل الغنم وأنا صاحب الحجرة.

في الصباح استرد الأعراب أسراهم وهاموا على وجوههم بحثاً عنه، لكنهم لم يجدو له أثراً، حتى حتى نادى بالقرب من الميناء رجل أن الأعراب نالوا من غريمهم ومزقوا أعضاءه، كان الرجل يجري مستغيثاً وعلى ثيابه آثر دم وفي عينيه هلع بلا حد، فقبض عليه الأعراب واستداروا به حيث جثة غريمهم ليتأكدوا بأم أعينهم، وتبعهم كل من يعرف ومن لا يعرف بالأمر نحو خنادق الميناء، هنالك وجدوا بالفعل الملابس ممزقة والدم يملأ المكان، لكنهم لم يجد الجثة، فراحوا يشعلون المشاعل ويبحثون عنها في الخنادق، وظلوا ساعة من الزمن ما بين الشك واليقين يبحثون في الخنادق حتى رأوا على البعد أغنامهم وإبلهم تنعر في الصحراء وقد اشتعلت النار في أجسامها، حين تسابقوا لينقذوا أموالهم من الروح الشريرة التي أصابتها، كان غريمهم قد اتخذ طريقه من جانب آخر نحو الخان، كان كبيرهم الذي لا توحي ملامحه بالطيبة محمولاً على كتفيه ولا يعرف أي مصير ينتظره، لم يكن أمامه غير أن يصلبه على باب الخان كاتباً على الحائط: هذا جزاء من مزق الصك ولم يعترف بالأمير. ولم يكن أمام الأعراب غير يهرعوا إلى الإمارة ليجثوا على أقدامهم معترفين بذنبهم وطالبين الحماية من اليمني قضى على كل شيء، فصالحهم عليه الأمير، وكتب له صكاً بالغرفة وما حولها من أرض، حين خرج والدي من بيت الإمارة وجد جدة كلها في انتظاره كبطل أعاد للمدينة شرفها، فاعتذر له حميد الدين قائلاً أنه أصبح عجوزاً بما يكفي ويحتاج من يعاونه في العمل، لكن سفينة كبيرة كانت قد وصلت الميناء، فهتف فيه رجال الشحن قائلين: أنت رئسنا ولا يمكننا التفاوض على شيء بدونك.

(12)

كنا على قمة الجبل، ولا أعرف هل كان وجهه أبي سعيد الذي ينبثق منه النور أم أن أشعة الشمس والصخور العاكسة للضوء هي التي جعلته مضيئاً بهذا القدر، رحت أتطلع إلى ذلك المشهد مشدوهاً حتى وقعت عينه على فوضع وجهه في راحته قائلاً: لم تنظر لي هكذا؟ شعرت أنني أخجلته ولم أستطع أن أخبره بما أرى، فقلت: بالله عليك، من يكون أبو سعيد؟ لا أعلم ما الذي جعله يضحك حتى تبللت عينه بالدموع، حين انتهى مسح على وجهه فرأيت كأن فراشات بيض وخضر ينطوي لينمن على كتفيه، رأيت عينه تشرد إلى ماض بعيد حيث البلاد التي ودعها من سنين طويلة، قال:أنا الابن الوحيد لرجل بكر أبيه، تزوج من نساء كثيرات ولم يعمرن معه لأنه كان دائم البحث عن الولد، حتى التقى بجماعة من تجار المصريين، كانوا يشترون الزيتون من حقولنا، وعام بعد عام قامت له معهم صحبة وصاروا إخوة، كل منهم مطلع على معاش الآخر، وفي يوم كان والدي في مصر لأمر ما فاستضافوه في ديارهم، هناك لمحت عينه فتاة مال قلبه لها، وتعلق به هاجس أنها التي ستنجب له الولد، سأل أصحابه لمن هذه الفتاة فقال والدها ابنتي، قال أسألك بالله طلباً لا ترده، فقال لو جئت على نفسي ما منعتها عنك، قال زوجني ابنتك هذه، فأسقط في يد الرجل، قالوا أنت أكبر منها بعشرين عاماً، قال أنا مازلت شاباً لم أتخطى الخامسة والأربعين، قالوا أنت كثير الزواج وتبحث عن ولد وهذا شيء بيد الله، قال لن أتزوج بعدها، قالوا قد تطلقها، قال لن أطلق من سأكتب لها نصف ما أملك، قالوا أنت متعجل، قال إني أرى أن الله سيرزقني منها ما أرجو، عقدوا عليها وعاد بها إلى ديارنا، أقامت معه عشر سنين يأس فيها من الأمل، وحفظ وعده بألا يطلقها أو يتزوج عليها حتى مَنَّ الله عليهما بي، ورغم انشغاله بما يجري في القدس وما حولها غير أنه أقام حفلاً دعا إليه كل من يعرف، وأطعم المساكين والفقراء وعابري السبيل عدة أيام، وعمل على أن يترك لهذا الوريث ما يفتخر به من المال والشرف، فكرس نفسه أكثر لحماية الأرض ومقاطعة اليهود وجمع شمل الناس ونصرة المستضعفين، وحين مات جدي المصري قال أبي لأخوالي لا أريد منكم ميراثاً بقدر ما أريد أهلاً لابني الوحيد، وحين استشهد أبي جاءوا للعزاء وطلبوا عودة أمي معهم، لكن عمي اعترض على تربية ابن أخيه بعيداً عن أرضه وماله وأهله، ولما كانت فكرة إقامة سيدة في شبابها وحيدة مع صبي صغير تثير مطامع الجميع فقد عرض عمي الزواج منها، وافقت ووافقوا ولم نعد نرهم إلا من العام للعام، كنت قد حفظت جزءاً من القرآن في حياة أبي على يد محفظ عجوز، لكنني بعد وفاته تمردت على المعلم ورفضت الذهاب إليه، ولم يكن لعمي أن يجبرني على شيء، فنصح أمي بدخولي مدرسة نظامية، لكن العناد كان جزءاً من التركة التي ورثتها، فرغم أنني انتظمت في الدراسة وصرت شغوفاً بمعرفة القراءة والحساب غير أنني لم أرى في عمي ما يستهويني، وكلما حاول التقرب منى كنت أشعر بكراهية تجاهه، ربما لأنني كنت أراه متوافق مع الإنجليز واليهود، زاد الأمر صعوبة بعدما أحضرت وعدد من زملائي إطاراً خشبياً وورقاً وحبراً وجلسنا نكتب ما يعن لنا في شتمهم ونلصقه عليه، لكن ذلك لم يرق لمدير المدرسة فكسر الإطار ومزق الورق، اعتراضنا على فعله فقام بفصلنا، قالت أمي أنني أعادي الإنجليز وثارت في وجه عمي الذي استرضى المدير كي أعود للدراسة من جديد، في العام التالي، وكان الأخير بالنسبة لي في المدرسة الابتدائية ـ ضربنا عرض الحائط بما قاله المدير لأولياء أمورنا، ألغينا فكرة الإطار وقمنا بشراء ورق الكربون لننسخ من الموضوع عدة صفحات يتم تداولها بين طلاب المدرسة، نجحت الفكرة بشكل جعلنا أبطالاً سريين بين التلاميذ، فقررنا فضح من يبيع أو يشترى مع اليهود أو البريطانيين، وضعنا أسماءهم في صفحة أسميناها "الخونة"، وجاء على رأسها اسم المدير، وأصر أحدنا على أن تصل نسخة من هذه الصفحة إليه، فرشونا أحد السعاة بأن يأخذها في مظروف قائلاً أنه وجده على الأرض وعليه اسمه فأحضره إليه، بالطبع انكشف الأمر لأن العامل أخذ الرشوة والخطاب وأسماءنا وذهب إلى المدير بالقصة كلها، كان الفصل هذه المرة نهائي مع حرمان من دخول الامتحان، وكانت تلك هي الكارثة الكبرى، ثارت أمي في وجهي ولطمت خدها، وحين عاد عمي إلى المنزل ثارت في وجهه وأعلنت أنها ستطلق إن لم أدخل الامتحان وأحصل على الشهادة، كان هذا أكبر ما يهدد مصالح عمي الذي يعيش وأولاده على جانب كبير من أرضنا، ورغم ثورته المضادة غير أنه ذهب في نهاية الليل إلى بيت المدير، ويبدو أن ثمة مصالح كبيرة بينهما هددتها أمي بثورتها، فاتفقا على دخولي الامتحان سراً، كنت أذهب متخفياً بعد دخول الطلاب وبدء وقت الامتحان، فأجلس في حجرة السكرتير كي أجيب على الأسئلة وأظل هناك حتى تفرغ المدرسة فأتسلل عائداً إلى البيت، ويبدو أن الاتفاق الذي توصل إليه الثلاثي ـ أمي، عمي، المدير ـ كان حصولي بأي شكل على الشهادة ثم انتقالي إلى أخوالي في مصر لأكمل تعليمي، فبمجرد أن عدت من المدرسة وجدت خالي سعداً يرحب بي في بيتنا، أخبرتني أمي أن ابنته ستتزوج وعلى الذهاب لحضور الفرح إلى أن تلحق بنا، فأخذني حتى قبل أن أعرف نتيجة الامتحان أو وداع أي من أصحابي.

كان خالي يسكن بالقرب من مسجد السيدة في القاهرة، وكان يذهب إلى الحضرة التي تقام في المسجد كل اثنين وخميس، ولأنه أخذ على عاتقه أن يذهب بي إلى كل الأماكن الشهيرة في القاهرة فقد دار بي جولة في مساجد الحسين والسيد نفيسة والسيدة عائشة والإمام الشافعي، وذات مرة أخذني إلى طنطا حيث مسجد السيد البدوي، كان يرى في الطريقة الرفاعية المنهج الصحيح للتمسك بالدين، فداوم على أورادها وأدعيتها، وعادة ما كان يستضيف مشايخها في مولد السيدة. بانتقالي إليه عرفت أن ميراث أمي بيت لا أعرف مكانه، أما هو فلا أعرف بالضبط أين أملاكه التي تشتمل ثلاثة أفدنة في الشرقية يضع إيجارها على مرتبه من وزارة الأوقاف ليتفرغ لزيارة الأولياء واستقبال ضيوفهم.

بالطبع لم يكن هناك عرس، فالأمر كله كان حيلة لإبعادي عن اليهود والإنجليز، فبعد شهر جاءت رسالة من أمي بها شهادتي الابتدائية وباقي الأوراق التي دفع بها خالي إلى مدرسة عابدين القريبة من السيدة، كنت بمثابة فاكهة في غير أوانها للمصريين، فالكل يرغب في التعرف على الطالب الفلسطيني الذي مات والده على يد اليهود، كثير منهم عاملني بود وقلة هي التي أخذت على عاتقها النفور من تدليلهم لي، لم تعبر شهور حتى تعرفت على أغلب الناس في السيدة وعابدين، وصارت لي صدقات ومعارف في كل مكان، كان من بين هذه الصدقات مجموعة من الجوالة التابعين لجماعة الإخوان، كنا نخصص يوم الجمعة للذهاب إلى الأحياء الشعبية لجمع تبرعات للفقراء، بعد عدة شهور تعرفت على عدد أكبر من الإخوان وذهبت للقاء الشيخ البنا في باب اللوق، خطب بنا خطبة الجمعة في المصلى الواسع أسفل العمارة الخاصة بالجماعة، تحدث عن الجهاد وضرورته، تحدث عن فلسطين وما يحدث بها، كانت نقطة انطلاقه الحديث الشريف "من مات ولم يغز، ولم ينو الغزو، مات ميتة جاهلية"، لم يتسنى لنا لقاء البنا في ذلك اليوم، لكن التلمساني قابلنا، كان ودوداً وعلى وجهه علامات السماحة والتقى، يومها سألني عن فلسطين وأحوالها فحكيت كل ما أعرف، وعدني بأن يقابلني بالشيخ في مرة قادمة، وأوصى بي عدد من أصدقائه، بعدها شعرت أنني أنتمي لهذه الجماعة ومبادئها في الجهاد، وأن والدي العجوز لم يمت لكنه جاء إلى مصر وتسمى بالتلمساني، بدأت جولاتنا تنتقل من أحياء القاهرة إلى الريف، صرنا نستقل القطار يوم الجمعة ونذهب إلى خارج القاهرة، ويبدو أن الناس في مصر كانوا يعرفون عن فلسطين وما يحاك لها أكثر مما يعرف الفلسطينيون أنفسهم، لكنني كنت شاهد عيان، وكان الجميع ينصت لي وأنا أتحدث عن استيلائهم كل يوم على أرض جديدة إما بالقوة أو الخيانة أو الخوف منهم، أتحدث عن رجال المعبد اليهودي بملابسهم السوداء ورءوسهم الحليقة، وعن الأسلحة البريطانية التي تذهب إليهم سراً لنرى رصاصها في صدورنا، عن المحاصيل التي صارت تفسد على الدوام، والفلاحين الذين غرقوا في الديون، والتجارة التي بارت، والحلف البريطاني اليهودي على إخراجنا من ديارنا، ويبدو أن الحديث من شاهد عيان كان أقوى مما تقوله الصحف التي يتناولها المصريون، كانت المقاهي مجال عملنا في المدن، والمساجد وحلقات الذكر في الريف، وكنا نعود محملين دوماً بالمال والسلام لشيوخنا، وصارت الرحلة تتسع من الوجه البحري إلى القبلي، وقد أعجب حماسي عدد من الإخوة الأكبر سناً، فحدثوا حامد شريت في ضمي يوم المعسكر فوافق، كنا نذهب إلى منطقة المقطم فنتراص خلف سواتر رملية لنصوب على أهداف ثابتة ومتحركة، كنت أرى في كل هدف منها يهودياً طيباً يغوي الناس بالدين كي يستولي على أرضه صاحب المزرعة، وكان التدريب مشتملاً على عبور موانع واشتباك بالأيد والعصي، ظللت أداوم على يوم المعسكر مدة عام، بعدها كانت الحرب العالمية قد بدأت، وكان البنا قد أعطى أوامره بتوسيع قاعدة التدريب، فذهبت المعسكرات إلى المنيا والمنصورة والإسماعيلية وبور سعيد وبني سويف وأسيوط وغيرها من الأقاليم، فيكفي أن يكون هناك مكان آمن عن الناس والحكومة ليصبح معسكراً، في ذلك الوقت كنت قد أو شكت على الانتهاء من التوجيهية وبلوغ السادسة عشر، طلب مني الشيخ محمود عبد الحليم أن أذهب إلى المنيا لأدرب شبيبة الجوالة هناك، فرفضت حتى لا أضيع عامي الدراسي الأخير، فاعتبر ذلك عصياناً لا يجوز من أخ في التنظيم السري، وأصر على أمره وأصررت على رفضي، حتى تدخل التلمساني فأنصفني.
حين أنهيت الامتحان انتهزت مشكلة وقعت بيني وبين زوجة خالي فذهبت إلى المنيا لتدريب الشبيبة ونقل الأسلحة من معسكرات الجيش البريطاني إلى أماكن تخزينها، وهناك فتحت محلاً للعطارة جعلته مركزاً لتكوين أسر جوالة جديدة، وقمت بالخطابة في مساجد القرى مازجاً في خطابي بين الصوفية الحقة والدعوة إلى جهاد المحتل في مصر وفلسطين، وكان موقف السيد البدوي في جهاده مع ببرس ضد الصليبيين المثل الذي أضربه لجذب متصوفي القرى إلى الجهاد ودعمه بالمال أو السلاح، وكان استشهاد الحسين في كربلاء أكثر ما يشد الحضور انتباهاً وخشوعاً وندماً، وكان حديث رسول الله "من مات ولم يغز، أو ينو الغزو، مات ميتة جاهلية" هو ذروة الخطاب الذي انتقلت به بين مساجد القرى الفقيرة لعدة شهور.

مرة أخرى صدرت الأوامر بتوجهي إلى أسيوط، فسلمت الأمر لأخ جاء بدلاً مني وتوجهت من فوري إلى هناك، ولم تمض شهور حتى استدعيت إلى القاهرة، فقد توفى خالي في إحدى المظاهرات التي اعترضت على أحداث 1942 حين حاصر الإنجليز قصر عابدين مجبرين الملك على تغيير الوزارة، زاد حقدي على البريطانيين وطلبت من التلمساني أن نقوم بعمليات ضدهم، فابتسم قائلاً: هناك شيء آخر أريدك القيام به. كان هذا الشيء إرسال شحنة من الأسلحة إلى فلسطين، فتوجهت مع مجموعة من الإخوة إلى عزبة الشيخ فرغلي في الإسماعيلية، حيث مخزن السلاح المدفون أسفل زريبة مهجورة وسط مزرعة مانجو، حمَّلنا العربات بالسلاح والفاكهة وعبرنا الحدود على هيئة تجار مسيحيين، حين وصلنا إلى بغيتنا تركت الرجال وذهبت لرؤية أمي في القدس، كان الحال قد تغير، فأمي التي لم تعرف بموت خالي أصبحت شاحبة ومهمومة، وأصبح لها ثلاثة أولاد من عمي، حين بدأت في الحديث عن فلسطين نصحتني بعدم الخوض في ذلك أمامه، فهمت أنها على خلاف معه لتعامله مع البريطانيين، قالت يحاول أن يحمي مصالحه، وقلت تأتين معي إلى مصر، قالت أولادي هنا وهو لن يقبل، قلت لدي عمل على أن أنجزه.

كان على أن أقيم معسكرات لتدريب الرجال في خان يونس والجليل والصالحية، وفر لنا الإخوة أماكن التدريب، فظللنا قرابة عام في عمل متواصل حتى أصبح لدينا أكثر من مائتي رجل قادرين على استعمال البنادق وزرع المتفجرات، تلك التي علمنا كميائي من القاهرة كيفية عملها، وقمنا بعمل ورشة في الخليل لتصنيع السلاح، لم تكن فاعليته كافية لكنها كانت خطوة على الطريق لأن يبدأ الرجال مشوارهم الصعب، كانت أولى العمليات التي ذهبت فيها تقوم على استهداف عدد من اليهود في إحدى القرى التي اغتصبوها، كمنا لهم حتى الحادية ليلاً، قطعنا الأسلاك الشائكة وأعملنا السلاح الأبيض في الحراس، ثم تقدمنا مسافة تسمح بإلقاء عبواتنا الناسفة على مخزن السلاح لكنه لم يدوي كما توقعنا، ورغم أن العملية فشلت لكن اليهود تصايحوا وجعلوها جريمة كبرى، واعتبرها الفلسطينيون نصراً عظيماً شجع الكثيرين على الانضمام إليهم، كانت النتيجة سيئة بالفعل، فقد وصل البريطانيون إلى المعسكر الذي انطلقنا منه، وقبضوا على صاحب البيت الذي وجدوا في حظيرته أكياس رمل وفوارغ أعيرة، وبدوره بعد التعذيب ألقى لهم بأسمائنا، فحمدت الله أن الرجل لا يعرف عني أكثر من هذا، وأبلغت السندي في رسالتي أن الرجال يحتاجون إلى الكتمان والتدريب على جمع المعلومات الصحيحة قبل حمل السلاح والخروج للقتال، فاعتبرني اعترف بفشلي وجاء رده بالعودة إلى القاهرة، عدت أشكو للتلمساني ما فعله السندي فأبلغني أنه الذي طلب عودتي إلى مصر، وأن على أن أدفع بأوراقي إلى الجامعة.

كان عام 44 دراسياً قد بدأ في كلية دار العلوم، وكانت الجماعة تمتلك من المال والسلاح والمريدين الكثير، فساد اتجاه بين فقهائها بأنهم أكبر حزب على الساحة، وأن حزب الوفد عدوهم الرئيسي الذي يحول بينهم وبين الوزارة، ولا سبيل للوصول إلى السلطة دون إسقاطه، وشاع أن محمود العيسوي الذي قتل على ماهر من الإخوان، رغم أن العيسوي اعترف أكثر من مرة في التحقيق أنه من أتباع الحزب الوطني، لكن الجماعة رأت إلصاق الإشاعة بالإخوان إعلان جيد عن قدرتها في جمع المال والسلاح والأتباع الذين يقدرون بخمسة وأربعين ألف جوال إلى جانب إلى النظام الخاص.

مع بداية عام 45 استدعاني التلمساني إلى بيته وأخبرني أن الجماعة قررت ضمي من جديد إلى النظام الخاص، ورغم أنني فرحت بالعودة الجانب المسلح للجماعة لكنني قلت: لي شرط واحد، قال: هاته!، قلت: أن توجه العمليات التي أكلف بها ضد اليهود والبريطانيين، فابتسم قائلاً: لن نختلف. بدأت في حضور الاجتماعات وتنفيذ عدد من العمليات، وكان الإخوان أبعد ما يكونون عن الاتهام، وشهد نهاية العام رسوبي في الامتحان وانفجار ضخم لأحد مخازن السلاح البريطانية في الجبل الأحمر، لم تكن العملية بالتحديد تفجير للمخزن ولكن نهبه ثم تفجير جزء منه، ذهبنا إلى هناك بمعاونة بعض البريطانيين، وقمنا بتحميل صناديق القنابل والرصاص وفجرنا ما تبقى، ثارت الاتهامات بين الحكومة والوفد ودارت علامات الاستفهام عن الفاعل حتى ألصقت في النهاية بالشيوعيين المخربين.

في مايو من عام 1946 احتفلنا بصدور العدد الأول من جريدة "الإخوان المسلمين" وبدت الحالة مطمئنة، فالجميع يضع الجماعة على قائمة أولوياته سواء بالرفض أو التفاوض أو التعاون، وهذا رفع من جماهيرية الجماعة، وكان علينا أن نرفع من تواجدنا أكثر بالهجوم على البريطانيين، فشهد هذا العام العديد من حوادث الانتقام منهم، لكن عدداً من زملائنا وقعوا في قبضة البوليس السياسي، بالطبع لم يفصحوا عن هويتهم أو علاقتهم بالجهاز الخاص، فكل ما قالوه أنهم من مريدي الجماعة ولم يتلقوا أية أوامر من أي اتجاه، وهم مثل غيرهم يطالبون بالجلاء والرحيل عن مصر، لكنهم بعد عام من التحقيق حكم عليهم أحمد الخازندار بالإعدام والمؤبد، وشعر عبد الرحمن السندي أن الحكم موجه ضده هو، وأنه لن يكون رئيساً للنظام الخاص وهذا الرجل على وجه الأرض، فاتخذ قراراً باغتياله، ومن جانبي قمت بالهجوم على شيكوريل وعمر أفندي وهانو وغيرها من المحال بالإضافة إلى معسكرات الإنجليز ورجالهم وضباطهم.

لكن عام 48 كان عام النكبة بحق، ففي بدايته اغتال الجهاز الخازندار، وأعلنت بريطانيا رفعها الحماية عن فلسطين، فقامت عصابات اليهود بعدد من المذابح، وطردوا الفلسطينيين من الشمال واحتلوا جزءاً من القدس، وقررت جامعة الدول الحرب تحت قيادة الملك عبد الله،وكدنا ندخل القدس لولا أن عبد الله وافق على هدنة تسللت خلالها لأطمئن على أمي، فعلمت من عمي أنها استشهدت في هجوم لمنظمة اتسل على القدس، ولم تلبث الهدنة أن انتهت، لكن الذخيرة التي كان يجب أن نقذفهم بها كانت تنفجر فينا نحن، بينما اليهود نظموا خطوطهم، وأتوا بمدفعية ومدرعات أخذت تقصفنا في العمق، فقضينا أسوأ أيامنا تائهين في الصحراء.

لم تكن الحرب على الجبهة فقط، فقد انتقل أوارها إلى القاهرة، فخرج الطلبة ينددون بالهدنة والأسلحة، ووقعت الاشتباكات الدامية بينهم وبين الشرطة، ولم ينته الأمر إلا بمقتل حكمدار القاهرة سليم زكي، وكان البوليس قد وقع، في السيارة الجيب التي انقلبت على جبل المقطم، على وثائق بأسماء الجهاز الخاص، فلم يجد النقراشي غير الجماعة ليلصق بها مقتل الحكمدار، وأمر بتتبع أعضاء الجهاز، فضبط البوليس السياسي مخزن الأسلحة الذي في عزبة الشيخ فرغلي، وآخر في جبل المقطم، ورفع النقراشي دعوى قضائية لمحاكمة أعضاء الجهاز، وأصدر قراراً بوقف الجريدة وحظر نشاط الجماعة في شهر ديسمبر، فقرر الجهاز التخلص من كل شيء بقتل النقراشي ونسف المحكمة.

لم يكن أبو سعيد يحكي بقدر ما يبكي وهو يتذكر أحداث 48، لكنه ظل متماسكاً حتى وصل إلى ما أسماه بعام الحزن، هذا الذي ضبطت فيه المجموعة التي ذهبت لنسف المحكمة يوم 8 يناير، فقد كانت الأمور على أشدها عقب اغتيال النقراشي، وكان الجهاز يدفع بالأمور نحو الحافة بأقصى ما يستطيع، هذه الحافة التي هوى من عليها كل شيء باغتيال الإمام على سلم جمعية الشبان المسلمين في وضح النهار.

(13)
خريف 1978

عدت إلى بلادنا حيث أمي التي لم تنم منذ حدثتني بالعودة، كانت الرياض كما تركتها لم تتغير، فقط أصبح وعي الناس بالسياسة والحديث فيها أكثر من ذي قبل، حين تركتها كانت غارقة في صمت يشبه صمت المصريين حين انهزم جيشهم في سيناء، كانت العلاقة وقتها بين المملكة ومصر متوترة إلى حد بعيد، كانت بعض الطائرات المصرية تقصف الحدود الجنوبية للمملكة، بينما الملك يساند بكل ما يملك الإمام البدر، تطاولت إذاعة عبد الناصر أكثر من مرة على سعود وفيصل، ومول الأخيران محاولات عديدة لاغتيال ناصر، لكن الناس كانت ترفض هذا وذاك، وقلة في بلادي هي التي كانت ترى ناصر زعيماً حقيقياً للعرب، بسقوط المصريين في الهزيمة سقط الجميع، حتى الذين كانوا يناصرون الإمام انسحبوا مدركين أنهم أضاعوا أعمارهم هباء، كانت فرصة لأن يكف الملك يده عن تمويل البدر، بل إن إقامته كانت أشبه بمنفى في أرضنا، في حين حسم اليمنيون أمرهم لصالح الجمهوريين، وانسحبت بريطانيا من عدن، وكأن الجميع كان ينتظر هذا السقوط ليتوقف عن عبثه، لم تشهد الرياض فرحة مثلما حدث مع انتصار المصريين على اليهود في 73، يومها كان الجميع يطلق النيران في الهواء فرحاً وابتهاجاً بالنصر، لكن السادات صاحب المفاجآت أجلس الجميع مكانه حين أعلن قبوله الذهاب إلى إسرائيل، تركته منذ سنوات والناس فرحة بانتصاره المجيد، وعدت لأراهم ينصتون إلى المذياع ثم ينفجرون لاعنينه، وها هو الملك خالد وصدام حسين عزلا مصر من جامعة الدول العربية ونقلا مقرها من القاهرة إلى بغداد.

دفعت أمي من خلال اتصالاتها بأوراقي للعام الثاني بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة الملك، لكن علاقتها بزوجتي أصبحت متوترة للغاية، زوجتي لا ترغب في الإقامة بالرياض وأمي أخذت في عنادها، وصرت موزعاً بين إرضائها ومصالحة ابنة خالي، وكلما أعياني التعب والحيلة هربت إلى الدراسة، لكنها صممت على تسلمي أوراق الملكية كاملة، فقد وصلت إلى سن الرشد وعلى أن أتسلم أملاكي من خالي، لم أشأ أن أشعر الرجل بالحرج، ولم أرد أن أغضبها،فصرت ما بين المطرقة والسندان، حتى فوجئت به في الجامعة يتحدث مع رئيسها، لم أشأ أن أشعره بوجودي فمررت كأي طالب دون النظر إليه، لكنه صاح بي فعدت وسلمت وسألته عن الأحوال، قدمني إلى الرئيس قائلاً أنني صاحب الشركة، بوغت بالكلمة ولم أشأ أن أعقب، بعد أن أنهى حديثه المقتضب مع الرجل أمسك بزراعي في ود وقال لقد أصبحت رجلاً، تدارك كلمته بابتسامة كبيرة وقال قانونياً، قلت وهل يفيد هذا؟ قال بالطبع، فقد عبرت الستين من عمري كما ترى، وما عادت أستطيع أن أفعل كل شيء وحدي. أدركت أن أمي قد لوحت له بانتهاء الوصاية فحاول أن يكون كريماً ويسبقها، لكن الحرج الذي يملأنا لا يدع مساحة للوضوح، حاولت أن أغير مجرى الحديث فقلت أن ابنته على خلاف دائم مع أخته، قال أعرف، وهي زوجتك فافعل ما شئت. ثم انتظر لحظات قبل أن يضيف: لو أردت تطليقها فافعل، وإن أردت الزواج عليها فقد فعل من هم خير منا، لكن لا تهنها. بدا لي أن الخلاف الأكبر ليس بين أمي وزوجتي ولكن بينها وبين خالي، ساعتها لم أعرف ما الذي يجب على قوله حتى قطع الصمت الذي شملنا قائلاً: أرجو أن تمر على باكر كي ننهي إجراءات الوصاية. ثم تركني ومضي دون أن يقبلني كما تعود، شعرت أنه لو فعل لانهمرت دموعه أمامي كطفل مدلل.

حين عدت سألت أمي هل خالي غضب مني في شيء؟ قالت وإن فعل؟! فهمت أن الخصومة بينهما بلغت حد ألا تبالي بغضبه، وإن كان الرجل لا يريد أن يخذل صديقه في قبره. لم أشأ أن أتدخل في أمورها مع أخيها فتركتها وصعدت إلى غرفتي، كان عبد الله يصرخ وأمه تبكي وأنا أسأل ولا أحد يجيب في البيت، ظللت مع زوجتي حتى هدأت وفهمت أن أمي قالت لها أنت وأبيك عالة علينا، طلبت مني الطلاق يومها فتضاحكت وجلست ألاعب عبد الله حتى نام، ظلت هي على غضبها فتركتها ورحت أفتت حزني على جواد في الحديقة، حين رأتني أمي أحادث بعض الخدم صرخت في أن أصعد إليها، قالت: إلى متي ستظل طفلاً؟ لقد كبرت وعليك ألا تتعامل من اليوم مع هؤلاء بتلك الطريقة، حاولت تهدئتها لكنها فاجأتني بأن أذهب إلى المحامي كي نتحادث في أمر رفع الوصاية، أخبرتها بما حدث بيني وبين خالي وأننا سنذهب غداً، قالت يجب أن تسرع في هذا الأمر، سألتها عن السبب فلم تزد على أن قالت "الناس تسرقنا"، أدركت أن ثمة من سعى بالوشاية بينها وبين بهاء الدين، ولما شعر الأخير من أسئلتها المتزايدة عن العمل أنها تتعالى عليه وتشعره أنه موظف لديها قرر الانسحاب، لكن علاقته بأبي جعلته يؤثر الصبر حتى يسلمني كل شيء.

ذهبنا إلى المحامي وقمنا بتفويضه في إنهاء الأمر، كان خالي حزيناً وهو يوقع على الأوراق، سألته عما حدث بينه وبين أخته فأخبرني أن إخوتي لا يريدونه أن يدير العمل، وقدموا لها أدلة على أن فروعنا في الخارج تشهد خسارة دائمة، أكد لي أن الأمر ليس بيده، وربما تحدث تجاوزات لكنه لا يستطيع الاستغناء عن أصحابها، أكد أيضاً أننا لا نستطيع أن نتهرب من دفع الضرائب ولا أن نتآمر على العاملين معنا كي لا ندفع مكافآتهم، وثمة منافسة عنيفة لفروعنا في أمريكا الجنوبية من قبل شركات أكثر قوة، وأنه لا يحب الشركات المتعددة الجنسيات لأننا لا نعرف ميول أصحابها ولا أغراضهم، ولا يود أن يفاجأ بأنه مرغم على أشياء تتنافى مع مبادئه. احترمت صراحته وسألته عن السبب الذي لا أعرفه في الخلاف بين ابنته وعمتها، قال أن شكوكها نحوي جزء من خلافها هذا، وأضاف أن ابنته ليست سوى عمتها في شبابها، بيروتية الهوى وترى الرياض سجن يموت من فيه أحياء، فأضفت: تود أن تكون سيدة مجتمع. فتمتم قائلاً: نعم. أدركت أن أمي لن تعيش مع امرأة لا تختلف عنها سوى في عشرين عاماً من العمر، قلت أنت المسئول أمامي عن كل شيء، وأنا المسئول الوحيد الآن عن الشركة، فلا تراجع امرأة من اليوم في شيء. يومها نظر في عيني بفرح وهو يقول: كأنه مازال حياً.

(14)

تحققت نبوءة أبي... فانتهت التوسعة وجاءت السفن الكبيرة من كل مكان، وصارت جدة مدينة لا تهدأ طيلة العام، وصار القادمون يبحثون عن أماكن الإقامة والتخزين، كان عمله بالميناء يدر عليه دخلاً وفيراً، وكان ما حدث بينه وبين الأعراب قد جعله مقدماً على جميع، يتفاوض ويوزع الأجور والأدوار والكل يسمع ويطيع، لكن أحلامه ظلت ترفرف نحو صورة الرجل المهاب حميد الدين، ذلك الذي ذاب كما تذوب القوافل في الرمال، بعدما أهداه بيتاً يشبه بيوت الأمراء، يومها جمع محمد رجاله وشحنوا عدد وآلات الرجل ووقفوا في وداعه، كان بوده أن يسأله كيف يبني بيتاً آخر لكنه خشي أن يفسد جلال الوداع بسؤال كهذا، لم تمض شهور حتى تعرف على تاجر مصري يبحث عن مكان يخزن فيه شحنة غلال، كان الرجل يحضر سفينتين كل عام، أحداهما قمح والأخرى أرز، ولم تكن هناك أماكن مجهزة لمثل هذا التخزين، استضافه معاوية للمبيت عنده فبهره شكل المنزل، قال كأنه قطعة من مصر، وأعجبته المساحة التي ضرب معاوية سوراً عليها، قال تؤجرها لي، قال ضع فيها ما شئت هدية مني، حين باع الرجل ما معه من غلال وبدأ يجهز نفسه للرحيل صارحه معاوية برغبته في أن يبني جزءاً من الأرض، لكنه يحتاج إلى بناءين وأدوات وحمير، ضحك الرجل وقال هذه هدية منى، لم يصدق معاوية الرجل وظنه يمزح، لكن نفسه ظلت تتمنى أن يفي بوعده، مر عامان ولم يأت المصري، ففقد الأمل وبدأ يعيش حياته كواحد من أهل الميناء، يمضي نهاره بين العمال على الرصيف، وليله ساهراً في الخان أو باحثاً عمن يريد مكاناً للتخزين، حين تكَّون لديه مبلغ تزوج من بنت شيخ الأعراب كي يقيم عرى التآخي والصداقة بين أعدائه القدامى، كانت هديتهم لزواجه عشرين رأساً من الغنم وثلاثة حمير استخدمها في نقل البضائع، وسرعان ما أصبح معروفاً أنه صاحب حمير ومخزن، لكن المطر كان يفسد البضائع، والفئران والثعالب والذئاب كانت تروح وتجيء في المكان طيلة الوقت، فبدأ الناس يبحثون عن أماكن أفضل، ولم يكن أمامه سوى تأجير منزله لهم، وفي يوم رست في الميناء سفينة قادمة من مصر، ونزل صاحبها يسأل عن محمد بن عوض، حين ذهب إليه وجده يقول: تأخرت عليك لكنه المرض. كان الرجل قد أصيب في حادث أقعده عن العمل، فندر أن يطعم أهل بيت الله الحرام لو عادت إليه عافيته، وما أن أتم الله شفاه حتى جهز سفينته من كل شيء، ولم ينس هديته، فعلى السفينة جاء البناءون بأدواتهم وخمسة حمير، رحب أبي بالقوم وأنزلهم بيته وشحن الغلال إلى البيت الحرام، لم يكن المصريون معتادين على استخدام الحجر فسألوه أن يأتيهم بطوب، شعر أن أمره باء بالفشل حتى قال أحدهم نضرب من الرمل طوباً ونقيم له قمائم كما نفعل في مصر، جاءه نفر من أهل زوجته الأعراب وبعض رجاله في الميناء وأقاموا عرساً وهم يصبون القار على الطوب ويشعلون فيه النار، قال أريد بناءً كبيراً من دورين، وقبل أن ينتهي البناء كان قد اتفق مع عدد من التجار على تخزين بضائعهم، فأخذ مقدم الاتفاق وأرسل المال مع المصري كي يبعث له سفينة محملة بالأخشاب والنجارين المهرة من بلاده، لم يمر شهران حتى دخلت الميناء سفينة باسمه، فجهز المبنى كواحد من أكبر الأماكن المعدة للتخزين في جدة، بعدها كانت الأموال تجري في يده دون أن يعلم كيف ذاك، ألقى ما معه على سفن أخرى وقمائم جديدة وراح يبني من جديد، وكلما سمع عن شيء في البناء استحدثه ودخل فيه، لم يعد الميناء يشغله إلا مع قدوم سفينة تخصه من هنا أو هناك، وزاد عماله من الهنود والأفارقة والمصريين والسوريين كلما زاد طلب الناس أن يبني لهم بيوتهم وما يحتاجون إليه.

في مساء يوم ثلاثاء كان يجلس مع زوجته في شرفة بيته، فجاءه الخادم مسرعاً ينكب على وجهه، قال الأمير بالباب، فنهض على عجل ليرحب بضيفه الكبير، كان ذلك الأمير خالد الذي لم ينس أنه الذي روض الجواد المشاكس، قال: نريد أن نرصف الطريق الذي يربط بين جدة ومكة، فهل تستطيع القيام بهذه المهمة؟ لم يكن أمامه سوى أن يقول نعم، فهذه هي المرة الأولى التي يطلب منه الأمير شيئاً، وإن كان لا يعرف كيف ترصف الطرق. لم يكن أمامه سوى الذهاب إلى القاهرة بنفسه، بعدها عاد بسفينة محملة بعدد وآلات ورجال، نصبوا أشياءهم على الرمل والصخر وبدءوا في عمل لا ينتهي، فالطريق طويل والرجال تعبوا من الحر والرمل والظمأ، فعاد إلى القاهرة من جديد ليحضر أناساً وآلات ومواداً جديدة، وطلب من صديقه المصري أن يرسل له كل من يفهم في هذا الأمر، ومن لا يفهم فأعمال البناء تستوعب كل شيء، والمصريون أكثر حنكة من غيرهم، لكن المال بدأ ينفد، والأمير أخذ يغضب، والعمل لا ينتهي، قرر يومها أن يبيع منزله ومخازنه ولا يذهب مولولاً للملك , باع نصف أملاكه حتى وصل الطريق إلى قرب مكة، فكر أن يبيع الباقي ليفي بوعده لولا الملك عبد العزيز الذي استدعاه قائلاً: ثلاثة أعوام والطريق لم ينته بعد. فقف لا يعرف بما يجيب، لكن خالداً تدخل قائلاً: لقد باع الرجل كل ما يملك ولم يتقاضى منا للآن شيئاً. أحمر وجه عبد العزيز من المفاجأة، واستدار نحو رئيس خزانته قائلاً: هل استعبدتم الناس أم أننا مملكة جياع يتعطفون عليها بأموالهم؟ ثم صرخ فيه: ادفعوا له أمواله وكل ما يأمر به يجاب على الفور. ساعتها جاءت السفن التي تعطلت وجاء الرجال والقار والأحجار، ولم تمر شهور حتى كانت عربات الملك والأمراء والحاشية أول ما يمر على الطريق، وأصبح والدي واحداً من مسئولي الإنشاءات الكبار في المملكة.

(15)

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده الذي اصطفى، محمد بن عبد الله وآل بيته الغر الميامين، الحمد لله عدد خلقه وزنة عرشه، ونجوم كونه، الحمد لله لا يعدل معها شيء في ملكه.

كان دورق الماء يهتز في يد الصبي وهو يضع الماء على قدمي الشيخ، فصاح فيه انتبه، شعر الغلام أن الكلمة خرجت على غير عهده بها من الرفق، فتجمعت تجاعيد وجهه واختنق صوته بالبكاء، رفع الشيخ وجهه إلى السماء وقال لا حول ولا قوة إلا بالله، ما عدت احتمل عناء طفل بجانبي، اللهم لا تؤاخذنا واغفر لنا، جفف أعضاءه ببردته وألقاها على سجادة الصلاة، ثم توجه إلى الطفل وأخذه من يده إلى باب الكهف، وضعه أمامه وانهال تقبيلاً على يديه: ما بك يا سيدي وابن سيدي، ما بك يا حبيب يا ابن الحبيب، هل يغضب السادة والأحبة بلا سبب؟ انحلت تجاعيد الغلام الذي مسح الدمع عن وجهه قائلاً بتلعثم: أأأخاف. فزع العجوز قائلاً: مني؟! تلجلج الفتى من جديد: للللللا. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما لي وغلام لا يقدر على الكلام، ما عدت أحتمل التفسير والتخمين واستكمال الجمل، ضعفت همتي وقدرتي على حمل الأمانة، رحم الله أباه وأمه، تركته له قطعت من لحم، فتركه لي قبل أن يبلغ الفطام، فهل هذا قدر السادة؟ ثم رفع يديه وعينه معلقة إلى السماء: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، واحلل عقدة من لسانه كما حللتها من لسان موسى كي يفقه قوله، ربنا إنا في أرض ضاقت علي بما رحبت، فآته من لدنك فصاحة وحكمة وعدلا، واجعله مباركاً أينما كان، ربنا إني قد أوكلت أمره إليك وأنت أحكم الحاكمين.

شعر العجوز أن الفتى نام على ساقيه، وأن الظلمة والبرد يحلان على المكان، فهم أن يحمله إلى الداخل لكن قوته لم تسعفه، فراح يسحب نفسه ثم يسحبه، حتى انتفض الغلام مفزعاً وأمسك بعنقه من جديد "إني خائف"، توقف العجوز منتبهاً إلى نطق الفتى دون تلجلج ولا عقد، كبر وحمد الله فرحاً لكن خوف الغلام لم يتركه لحاله، فعاد يكبر في أذنه ويسأله "ما الذي يخيفك يا علي"، قال "أرى رجلاً ربعة يطالبه أصحاب بالخروج، فلما خرج حُبسوا في المسجد فلم يجدهم، يُقتل في معركة بسهم طائش في ظلمة ليل طويل، فيدفنوه ويجروا عليه الماء، لكن أعداءه يخرجونه من قبره فيصلبوه عارياً ويرسلوا برأسه لملك بعيد،فيقول حرقوه وذروا ترابه من على مركب في بحر وريح سموم". بكى العجوز: لا حول ولا قوة إلا بالله، مالك وما لهذا يا على، صغير أنت يا بني على كل هذا الإرث،هذا جدك زيد، خرج نصرة لدين الله، لكن يوسف بن عمر نادى في أهل الكوفة من لم يدخل المسجد فلا عاصم له، فدخلوا ولم يخرجوا حتى سأل جدك عنهم، قيل حبسوا، فقال ما هذا بعذر لمن أعطانا بيعته. هذا زيد وقد سئل ذات يوم عن رأيه في الشيخين فقال:ما سمعت فيهما إلا خيراً، وما سمعت أحداً من أهلي يذكرهما إلا بالخير. قيل فما قولك في ولايتهما وعلي على الأرض؟ قال تجوز تولية المفضول في وجود الأفضل، قيل فيما خروجك إذاً؟ قال ما هؤلاء كهؤلاء. قيل فما رأيك في الولاية ووراثتها؟ قال لا ولاية بلا خروج. قيل ويحك!أخرجت أباك من الولاية؟ قال هذا الأمر عندي. ففارقته جماعة وتمسكت به جماعة. هذا زيد وقد خذلته الكوفة مثلما خذلت الحسين، قتل في المعركة بسهم طائش في الظلمة، فرجع أصحابه مختلفين في أمره، قالوا نجتز رأسه ونرمي بجثته في العراء، قال ابنه يحي: لا أترك جثة أبي للذئاب، فحفروا حفرتين ودفنوه في إحداهما ثم أجروا عليهما الماء، لكن غلاماً لبعض القوم دل يوسف ابن عمرعليه، فجاء بجنده وأخرج الجثة ثم صلبها في الكناسة، وأرسل برأسه إلى هشام ابن عبد الملك مثلما أرسل ابن زياد برأس الحسين ليزيد، هذا زيد الذي قال عنه المصطفى لجدك الحسين "يخرج رجل من صلبك يقال له زيد، يتخطى وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين". هذا جدك يستقبله رسول الله قائلاً: "قد عملتم ما أمرتم به فادخلوا الجنة بغير حساب".

(16)
خريف 1980

تيقنت أن خالي بهاء الدين على معرفة بأبي سعيد، لم يقل لي ذلك أي منهما، لكن المصادفة وحدها هي التي قادتنا جميعاً لذلك، حين قابلت أبا سعيد كانت الأمور قد بدأت تفسح لي صدرها في المملكة، وكانت فروعنا في الخارج قد بدأت تزدهر من جديد، لاحظت أن ما قاله خالي عن منافسة بعض الشركات الأخرى لنا صحيح، لكن هذا لا يهدر كل الأموال التي تلوح بها أمي، انتدبت محاسباً من قبلي وأمرته بإعادة النظر في محاسبات الفروع خلال السنوات الخمس السابقة، على أن يتم ذلك كأنه إجراء روتيني لمعرفة أسباب تراجع النشاط، بعد شهور أسر لي الرجل أن خالي سحب من الرصيد أكثر من مرة، وأن هناك محاسبات لم تكن تسجل في الدفاتر ولا تدخل حسابات البنوك، شعرت يومها أن رأسي تطحن تحت رحى الهواجس، فهل كانت أمي على حق والرجل يخون الأمانة التي تركناها في يده؟ وهل كان أبي لا يجيد معرفة الرجال كي يجعله مكمن أسراره ويؤمنه على أموالنا، أم أنها الدنيا تغر الناس وغير طباعهم؟

لم يكن أمامي سوى العزلة من جديد، تركته يفعل ما يريد وعدت إلى غرفتي وكتبي لأطالع سير الصحابة والتابعين، وكيف لم تستطع الدنيا أن تجر أياً منهم إلى شباكها، فأبي بكر أنفق كل ما يملك وقال لو أن إحدى قدماي في الجنة ما آمنت مكر ربي، وهذا عمر بن الخطاب يحمل جوالاًً من دقيق ويهرع في الظلمة ليصنع حريرة لأطفال امرأة قالت إن الله سيحاسبك يا عمر، هذا عبد الرحمن بن عوف يسمع امرأة تمدح لجارتها عظم القافلة التي جاءته، فيقول والله هي للمسلمين جميعاً، ويأمر بتوزيعها على الفقراء والمعوزين، وعثمان يجهز جيش العسرة حتى يقول رسول الله ما على عثمان بعدها من شيء، لكن علياً هو الذي أدهشني، فقد أنبته بنت رسول لأنه لا يدخل عليها بما يدخل الناس به على أهل بيوتهم، فخرج حزيناً إلى المسجد، يطرح جسده على التراب وينظر إلى السماء، ورسول الله يسأل: أين على يا فاطمة؟ فتخبره بما جرى بينهما، فيتغير وجهه: الله الله في زوجك يا بنت محمد، الله الله في أخي وابن عمي، أتذكري حين قلتِ كأنك ادخرتني لفقير قريش. أتذكري بما أجبتك؟ فتبكي فاطمة وهي تقول: والذي بعثني بالحق ما تكلمت فيه حتى أذن لي الله من فوق سبع سماوات؟! فيتركها ويخرج، فيرى علياً نائماً على التراب فيوقظه: قم أبا تراب، أتغضب من زهراء بني هاشم؟ أتذكر حين سألتني يوم عرسكما: أأنا أحب إليك أم فاطمة يا رسول الله؟

فابتسم على وهو يقول: هي إلى أحب وأنت على أعز.

أخذتني تلك العلاقة بين نبي الله وخنته، فهو الذي يداعبه ويصالحه ويلوم ابنته لأنها طلبت ما يدخل به الناس على زوجاتهم، لكن علياً فقير، فالله الله في علي يا بنت محمد، الله الله في هارون لولا أنه لا نبي بعدي، يحارب على التأويل مثلما حاربت على التنزيل، جيش هو وحده، ليس بفرار ولا جبان.

في لحظة من الكشف تذكرت أن أمي وخالي ينتميان إلى الشيعة، لحظتها وددت لو أنني أرتدي ملابسي وأهرع إلى غرفة أمي لأسألها عن حبها لعلي، لكن الساعة كانت قد تجاوزت الواحدة، وهي لا تحب السهر، فأجلت الأمر للصباح وعدت إلى القراءة من جديد.

كان من المفترض أن أصلي الفجر وأنام، لكنني لم أصل ولم أنم، فقد شعرت بألم شديد يعتصر جانبي، عالجته في البدء بالينسون والمرطبات، غير أنه أخذ في التزايد حتى أنني مع بزوغ النهار صرت أصرخ في جنبات القصر، فانتفض الجميع وجاءوا بالطبيب، أعطاني مسكناً وأمر بنقلي إلى المستشفى، لم تمض أيام حتى كانت الطائرة تقلني إلى فرنسا وسط همهمات الأهل بالشفاء، كان خالي وبعض إخوتي يهرولون بهستيرية غير معهودة، رأيت عينه محمرة من البكاء، لحظتها تطايرت من ذهني كل الأسئلة، وشعرت أنني على وشك النهاية، كان يهدهد على كتفي ويبكي، فتذكرت علياً ورحت أبحث عن التراب الذي على كتفي، فابتسم قائلاً: هل يبكي الرجال يا أبا عبد الله؟ حين وصلنا إلى باريس كان كل شيء معد في غرفة العمليات، هنالك سقط الزمن مني لعدة ساعات، كنت أتألم ألمين، أحدهما من الخارج والآخر من الداخل، حتى أنني ما كنت أبدأ في آهة حتى أقطعها لأدخل في الأخرى، حين انتبهت رأيت أمي وخالي وإخوتي وعبد الله وأمه حول السرير، كان الجميع مبتسماً، والطبيب يهمس في أذني "عمر الشقي بقي"، لم أفهم مقصده حتى حكوا لي أنني فقدت كليتي وأعطيت كلية جديدة، وكنت على وشك الموت لولا تدخل رجل لا نعرفه، أجري تحاليله على عجل وانتظرني، يومها عرفت أن خالي على علاقة بأبي سعيد منذ أيام والدي، كان الرجل قد اتصل به قائلاً أنه في ورطة، فأرسل أبو سعيد عدداً من تابعيه لهم نفس فصيلة دمي، تسابقوا فيما بينهم على من يهبني كليته، حين ضيقت على خالي في معرفة من هذا الذي ضحى بحياته من أجلي ومن أين أتى به، قال لا أعرف، وحين قلت له أن المال جعل جبروته يشترى حياتي على حساب الآخرين، بكى وتركني أكمل حنقي عليه وحدي، لكنني في اليوم التالي وجدت أبا سعيد في هيئة طبيب يدخل من باب الغرفة، كانت سعادتي ودهشتي شديدتين، هنأني بالسلامة وتسامر معي قليلاً ثم قال: بهاء الدين واسطة بيننا وبين معاويه، وما فعله ويفعله ما هو إلا عن وصية منه.

(17)

قلت لمجد الدين ـ وكان باكستانياً ـ ما الذي دفعك لإعطاء كليتك لرجل لا تعرفه ولن تنال من ورائه مالاً؟ قال: رغبة السيد، قلت ومن السيد، قال: سيدي عبد الله أبو سعيد. قلت أتنادونه السيد؟ قال نعم، فهو من آل بيت رسول الله، نسبه يعود إلى سيدي علي زين العابدين بن الحسين كرم الله وجهه. قلت كيف عرفت ذلك؟ قال: شيوخي يعرفونه، رأيتهم مرات يقبلون يديه ويقدمونه في مجالسهم عليهم. قلت: ومن شيوخك؟ قال: أنا أتباع الطريقة القديانية في باكستان، جمعت بين العلم والمعرفة على يد عدد من شيوخها، وذات يوم رأيت رجلاً غريباً يرتدي ملابس تشبهنا، لم أكن رأيته من قبل، فدخل حلقة الذكر على استحياء كأنه يتحسس مواطئ قدميه، حين رآه سيدي أبو يسار وقف كمن لدغه ثعبان وهم على يده يقبلها، ثم أخذه ودخلا الدار، بعدها أرسلني إلى عدد من شيوخ القديانية والرفاعية والقادرية كي أقول لهم: سيدي عبد الله هنا. في مساء اليوم التالي وجدت وزير الأوقاف، وكان تلميذاً لأبي يسار، كثيراً ما جاء وكثيراً ما صنعت له البن، وعدداً من مساعديه وشيوخ القبائل والطرق، بعد ساعات جاء رجال لا أعرفهم لكن أغلبهم من علية القوم، كان الجميع يأتي على استحياء مثلما دخل الرجل، فيتلقفهم أبو يسار ليدفع بهم إلى حجرة الضيافة، كنت يومها صبياً في العاشرة من عمري، ولم أكن مكلفاً من قبل أبي يسار بشيء، فقط يرسلني في إحضار أعلام الطريقة وتقديم البن لضيوفه، وكان يبيح لي الدخول والخروج على زوجاته لأنني كنت صبياً دون الحلم، يومها صرف الرجال جميعاً وصرفني أيضاً غير أنني بكيت وتشبثت بالبقاء، فنادى الغريب على أبي يسار: من الغلام؟ فقال ابن لي في الطريقة يلازم فرشتي ويرفض الآن أن يتركني. قال: مؤتمن؟، فأومأ شيخي بالإيجاب، قال اتركه.فلصقت إلى جانب الباب كجرو صغير حتى غلبني النعاس، حين استيقظت وجدتني نائماً في الغرفة والرجل قائماً يصلي، قمت فتوضأت وصليت خلفه الفجر وعدت إلى فراشي، في الصباح لم أر الرجل في البيت الذي دبت فيه الحياة كسابق عهده، شيوخ ومريدون وأعلام وذكر، سألت أبا يسار عن الرجل فقال واحد من عترة رسول الله، ويقول أنك تعطي الله حقه وتنام. شغلت بمقولته ونسيت أن أسال عن الآخرين، لكنني أدركت فيما بعد أن الأمر سر وعلى أن أتعامل على أنه لم يكن، دارت الأيام وبدأت في تحصيل العلم على يد عدد من الشيوخ في مدرسة الدين، كنت أحفظ عن ظهر قلب كل ما تعيه أذني، لكنني فوجئت به ذات يوم يدخل على استحياء أيضاً غرفة شيخ الشيوخ، يومها تسللت من حجرة دراستي وجلست أرقب باب المدير، حين خرج كان عدد من الشيوخ يتبعونه كزائر كبير، هتفت: سيدي عبد الله. فتوقف الجميع كمن أسقط في يده، استدار الرجل بهدوء ناحيتي وابتسم، أدركت أنه قد سمح لي بالتقدم فلثمت يده، قال كيفك وكيف أبو يسار؟ قلت أصابته سحابة على عينه. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمك مجد وشيخك يسار، فلييسر الله لنا أمرنا ويمنحنا مجد هذه الأمة، ويرشدك لما فيه الخير. أمن الجميع خلفه وتركنا ورحل مثلما أتى، لكن بركته بقيت تهب علي، فقد عاملني الشيوخ معاملة لا يلقاها طالب مثلي، وصرت أدخل وأخرج على المدير وقتما أشاء، وكلما هممت بتركه كرر صيغة الدعاء "اسمك مجد وشيخك يسار فلييسر الله لنا أمرنا ويمنحنا مجد هذه الأمة"، لم نلتق حتى تخرجت وأصبحت شيخاً في المدرسة، رأيته يدخل علىَّ حجرة الدرس فلم أعرف كيف أتصرف، انهلت على يده ألثمها وهو يسحبها خجلاً أمام الطالبان عندي، أخذني وعدنا إلى غرفة المدير، قال: هناك حبيب لي يحتاج إلى كلية وإني أراها لديك فهل تمنحها له، لم أفكر وقلت نفسي فداك وفداه، على الطائرة وجدت أربعة غيري متوجهين إلى نفس القبلة، فتمنيت من الله أن يكون طلب سيدي عبد الله عندي، في المستشفى أجرى الأطباء تحاليلهم وبقيت أنتظر رؤيتك، لم أرك حتى جاءني السيد وطمأنني قائلاً: قريباً تلتقي به. وها نحن نتحدث منذ ساعات وأنت لم تنطق سوى ببضع كلمات. قلت يا مجد لقد صرنا الآن أخوة، فاصبر عسى أن يجعل الله مجد هذا الدين على أيدينا.

(18)

حين عدنا من باريس كان الوضع قد تغير تماماً، وكأن الأمر كان يحتاج لمرضي هذا حتى تنتهي مشكلاتي، فأمي عادت فرحة بي وكأنني ولدت من جديد، أما علاقتها بخالي بهاء الدين وابنته فقد عادت أفضل مما كانت، فوجدتها تطلب مني أن أعيد أم عبد الله إلى بيتها لتعيش معها، قالت: إن البيت بدون عبد الله لا يعني شيئاً. قلت وأمه؟! قالت: الولد بدون أمه لا يساوي الكثير. لم يكلفني الأمر أكثر من مهاتفة إلى بيروت كي تعود أم عبد الله في اليوم التالي، أما خالي فقد أصبح أكثر نشاطاً ويسراً في التعامل، صار شخصاً مرحاً طيلة الوقت لا تفوته فرصة دون أن يعلق بمزحة، صرت أشعر أن العالم عاد لراحتي من جديد، فرحت أقرأ المزيد والمزيد حتى ظنوا أنني سأدخل في نوبة اكتئاب جديدة، وجدت أمي تقترح على ذات صباح أن أذهب إلى أمريكا لدى إخوتي، قالت: لقد عملت هذا العام أكثر مما ينبغي وعليك أن ترتاح قليلاً. قلت: سأذهب لكن دون أن أرتبط بأحد. رحت في جولة على عدد من الولايات الأمريكية، لكنني أعجبت بتكساس وزاد إعجابي بفلوريدا لشيء ما لا أعرفه، هناك أقمت بضعة شهور بلا عمل سوى التنزه والتعرف على عالم جديد لم أره من قبل، وهناك توطدت علاقتي بمهندس طيران مصري، نصحني أن أتعلم الطيران، ضحكت لأنني تذكرت محاولات عباس ابن فرناس حين صنع جناحين من ريش ثبتهما بالشمع، فلما أشرقت الشمس ذاب الشمع وسقط بن فرناس من على قمة الجبل. قال الأمر ليس بهذا الشكل الفكاهي، فهناك معاهد لتعليم الطيران المدني، يمكنك خلال خمسة شهور أن تقود طائرة بنفسك حتى بلادكم، قلت لو حدث هذا فتأكد أنني سأكون هدهد منطق الطير، وجدته فغر فاه ورفع حاجباً فاستدركت قائلاً: في الغد أذهب معك. قدمت أوراقي وبدأت أتردد يومين أسبوعياً لمدة شهرين، بعدها قالوا أنني أحتاج إلى مرحلة أكبر، وافقت وبدأت في الانتظام لولا الحادث الذي غطى على كل شيء، فقد توقفت أجهزة الإعلام أمام مشهد مقتل الرئيس المصري السادات، كان المشهد كاريكاتوري إلى حد بعيد، فهذا الرجل الذي أربك حسابات الجميع يموت هكذا وببساطة في يوم احتفاله بنصره ووسط جنده، ويفر الذين قتلوه دون أن يصاب أي منهم. تصورت للحظات أن هذا جزء من مشاهد السادات التمثيلية، وانتظرت أن يقف على قدميه من جديد ليعلن أنه سيؤدب هؤلاء الأوغاد، لكن الإرسال لم يكتمل، فقد تدخل المذيع والمحللون وأشاروا بأصابع الاتهام نحو الجماعات الدينية التي حاولت اغتياله في حادث الفنية العسكرية منذ ثلاث سنوات، يومها اتصلت بخالي بهاء فرد على بكلمات قصيرة وسريعة تفيد أن كل الأمور بخير، فهمت أن لأبي سعيد علاقة بالأمر لكنه على كل لن يمسه شيء، شغلتني الأحداث وما توالى فيها من اتهام لجماعة الجهاد في مصر، كان الإسلامبولي المتهم الأول، لكن المشهد الذي اعتلى كل ذلك هو سيطرة الجماعة الإسلامية على أسيوط في جنوب مصر، كانت كل هذه الحملات الإعلامية لا محبة ولا كراهية في الجماعة الدينية هنا، ولكن تعلقاً برمزية السادات الذي مثل لمخيلة الأمريكيين بطلاً من القرون الوسطى، بطلاً يحارب وينتصر ويجلس على مائدة السلام، ظلت صور هذا البطل والأفلام التسجيلية عنه تحتل أجهزة الإعلام طيلة أسابيع من الحادث. في ظل كل هذه الأحداث فوجئت باتصال من أبي سعيد، تقابلنا بعده لقاءاً عابراً علمت فيه أن موت السادات لم يكن مطلوباً من طرف واحد. ومن ثم فقد اشترك فيه الجميع، لكننا أضعف الحلقات وأوسعها ـ هكذا قال ـ ومن ثم فإننا المؤهلين لتحمل المسئولية أمام الجميع على الأقل لعدة سنوات قادمة. قال أيضاً أن هذا لن يكون بلا مقابل، إذ لا بد أن تدفع باقي الأطراف فاتورتها. فهمت أن هذه هي الصيغة التي تم على أساسها الحوار، وأن المرحلة القادمة ستشهد توسعاً في العمل، لكنه أكد في النهاية:علينا أن نتحد لأنها لحظة عصيبة سنواجه فيها ضربة كبيرة في واحدة من أهم مراكزنا. بعدها حزمت حقائبي وعدت إلى ديارنا كي أقرأ وأتابع عن بعد في انتظار أن يجيء دوري.

(19)

أرسل عبد الله بن علي بن الحسين للهاشميين كما يفعل كل عام ليأخذ منهم البيعة لابنه محمد، فقد أجمعت الأمارات المتواترة لدى آل البيت عن صفة المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً مثلما ملأت جوراً وظلماً على أنه محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية، وكانت أمارة زمن خروجه قد حانت بوفاة يزيد الناقص وتولي مروان الحمار، فجد عبد الله في جمع الهاشميين لتجديد البيعة، وجاءوا جميعاً إلا جعفر الصادق، فأرسل له عبد الله قائلاً: لقد حضر بنو هاشم إلا أنت، فلم التأخر وهذا ليس عهدنا بك. فجاء أبو جعفر وخطب عبد الله في الناس عن سنة المصطفى التي تحولت، وولاية الأمر التي سرقت، والمهدي وصفته وأوان خروجه، وما قالته صفية عن علي عن رسول الله عن الأمارات التي اجتمعت في ابنه محمد، ثم نظر في عيون الحضور قائلاً: فهلموا نبايعه على كتاب الله وسنة رسوله والخروج معه متى خرج. فتدفق الهاشميون يقبلون يد محمد مجددين له البيعة، ولم يبق غير جعفر الصادق الذي ظل يؤخر نفسه حتى صاح فيه عبد الله: ما بك يا ابن عمي، لم لا تبايع ابن أخيك على طاعة الله والرسول والاجتهاد برأيه. لكن جعفراً تمهل حتى قالها عبد الله من جديد. فقال: يا أبا إبراهيم لو كنت ترى أن الأمر غيرة على دين الله وسنة رسوله التي تبدلت فأنت كبيرنا وأعلمنا، وما كان لنا أن نبايع محمداً وأنت موجود، أما إن كان الأمر غير ذلك فالله يعلم وأنت تعلم وأنا أعلم أن ابنك هذا مقتول على أحجار الزيت، وأن الأمر ليس لك ولا لولديك، لكنه لهذين، وأشار بسبابته ناحية العباس وأبي جعفر ابني محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، هنالك كان العباس والمنصور أول الخارجين من البيت، نافضين الدعوة للعلويين من عنقهما، وكان أخوهما إبراهيم الملقب بالإمام رجلاً ذا فراسة وذكاء ويصلح لتدبير كل أمر، فأخذ يرسل الرسل إلى خرسان مؤكداً على أن لا تصل الدعوة لعربي قط، حتى وقعت عينه على أبي مسلم فأمره بأن ينطلق إلى خرسان قائلاً: اذهب إلى فلان وفلان فخذهم وادع في المسجد، فلما ذهب أنكراه لصغر سنه، فأرسل إبراهيم من يوبخهم ويأمرهم بالتزام أمره، فنصب أبو مسلم راية السحاب ولواء الظل ودعا جهراً لبني العباس، فجاءته في اليوم الواحد أكثر من ستين قرية، حتى انقسمت خرسان بينه وبين نصر بن يسار نائب مروان الحمار، وجديع بن علي الكرماني وشيبان بن سلمة الحروري زعيما الخوارج، فانحاز الكرماني لأبي مسلم وانحاز شيبان إلى نصر، فقتل الأخير يساراً بالحيلة، وقتل أبو مسلم شيبان صبراً، وأصبحت خرسان أولى ممالك العباس.

رفع مجد وجهه من على الكتاب ونظر إلى قائلاً: فيما تفكر؟ لم يكن في ذهني ما يمكنني أن أدلي به، فكل الأمور مختلطة وكل الأشياء متشابكة، العباسيون يدعون للعلويين ثم ينقلبون عليهم، وعبد الله بن علي يعرف أن ابنه مقتول على يد العباس وأخيه ويدعوهما ليجددا البيعة له، وأبو جعفر يسمي ابنه المهدي ويجد في طلب النفس الزكية، حتى إذا ما أجهزت جيوشه عليه بكى في مجلسه قائلاً: الله يعلم أنه لكاذب، وإنني لكاذب، وأنه ليس المهدي، وأن ابني هذا ليس بالمهدي، وما لقبته هكذا إلا تيمناً أن يكون هو.

ظلت الصور تتواتر على مخيلتي حتى توقف مجد عن حديثه وراح يسألني: ما بك يا رجل؟ غالبت البكاء ورفعت رأسي بابتسامة وقلت: لمَ قتل المنصور أبا مسلم؟! فضحك وهو يمشط لحيته الطويلة بأنامله قائلاً: ولمَ قتل أبو جعفر محمداً وهو ابن عمه؟! ساد صمت بيننا إلى أن رفع مجد وجهه نحو سحب كانت تمر في ذلك الوقت على رؤوس الجبال كحمامات بيض ثم قال: إنه الملك! أتدري حين شاور المنصور أصحابه في قتل أبي مسلم ماذا قالوا؟! لم يجب مجد لكنني كنت أعرف الإجابة "لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا"، أو تدري ماذا قال موسى الهادي حين وصله نبأ مقتل إبراهيم بن عبد الله؟! هذه المرة أجبته: الله يعلم أنهم أحق بها منا، لكنه الملك!. فأكمل مجد: ولو جاءنا رسول الله وحاربنا عليه لحاربناه وقتلناه. حين سمعت منه الكلمات اقشعر بدني، وشعرت أن أذني أصابها سقر، وما أدراك ما سقر، فشملتني رجفة اهتزت لها مفاصلي وساحت عيني بالدموع. فلكزني في كتفي: لمَ البكاء يا رجل والحديث مض عليه قرون؟ هربت نفسي من الحزن قائلاً: تطاردني هيئة أبي مسلم وهو يترك منعته في خرسان قادماً على أبي جعفر ليصلح ما بينهما من شقاق، فقد اغتر بما فتح الله على يديه، بينما المنصور أحاك له المكيدة كي يستخلص ملكه لنفسه كما تستخلص الشعرة من العجين، فجعل الأمراء يبشون في وجهه، ويطلبون منه الوساطة لدى الخليفة، والخليفة يضع الحرس خلف الستار ويسأل: يا أبا مسلم، ما الذي دفعك إلى تقديم اسمك على اسمنا في رسائلك؟! وأبو مسلم يقتله الحرج: ألا يشفع لي ما فعلت لتوطيد ملكم؟! فيجيبه المنصور: والله ما زادني جوابك إلا تغيظاً، ولا منقذ لي إلا قتلك. فيقول:ادخرني لأعدائك. لكن المنصور يضحك: وهل هناك من هو أعدى لي منك. ثم يصفق بيده، فيخرج الحرس المختبئ بالسيوف، فلما انتهوا من تمزيقه قالوا: الآن أصبحت الخليفة وحدك لا شريك لك.

أنتبه على صوت طائرة تحلق في أجواء قريبة منا، الجو صحو، والصحراء فسيحة، والجبل شاهق، والعربة كلت من الصعود، أقول يا مجد ماذا لو صرتَ أمير المؤمنين؟ يضحك، ثم يجيبني لن أكون أبا جعفر ولن تكون أبا مسلم. فأمد يدي نحوه وجسدي يرتعد: نتعاهد؟!. فيتلقفاها بكلتا يديه: هذا عهد الله بيني وبينك.

(20)

أستطيع أن أعترف الآن أنني لم أر في ذلك الوقت غير جزأين من العالم، أحدهما يقع في الجنوب الشرقي حيث الجزيرة العربية، والآخر في الشمال الغربي حيث أوربا والولايات المتحدة، أما الشمال الشرقي والجنوب الغربي فما كنت أعلم عنهم الكثير، وأعترف أيضاً أنني لم أفكر قط في دخول أماكن مجهولة كالهند وباكستان، لكن خالي بهاء الدين طرح الأمر كنوع من المزحة، كنت يومها مازلت أتحدث عن فتنتي بالعالم الأمريكي المفتوح اقتصادياً، والحياة السريعة المتنوعة الأنشطة في كل شيء، حتى أن الكسب فيها يعد الأكبر والأسرع بعد الاتجار فيما هو ممنوع، لكن بهاء الدين اعترض على الفتنة والحماس الذين أتحدث بهما وكأنني كريستوفر كولومبوس، قال أن هذه البلدان لا تحتاج إلى فاتحين جدد لأنها انتهكت، وبقدر ما يكسب الناس هناك فهم ينفقون، قال أيضاً أن أمريكا أصبحت نموذجاً ميثالياً للبوتقة، فكل من يدخلها ينصهر فيها، يعتقد أنه جاء ليربح فيكتشف بعد سنوات أنها التي ربحت منه كل شيء، حتى أن بقاؤه فيها يصبح في ذاته أكبر مكسب له. كانت كلماته واثقة وكأنه أحد مؤلفي كتب الفلسفة أو الاقتصاد، قللت من سخونة التوتر الذي بدا على الحديث: افتنا يا سيدي ألفونسو أين يمكننا أن نستكشف العالم إذاً؟ قال هنا... في الشمال. لم تشر أصابعه التي امتدت بهدوء زاحف نحو الغرب، لكنها أشارت إلى مكان لا تكاد تتضح أسماء مدنه من بين الألوان الحمراء والصفراء شديدة الدكنة، قلت في هذه الجبال؟! قال نعم. طرح يومها أسماء كنا نعرفها إجمالاً بجمهوريات الاتحاد السوفيتي، قال لو شئت دبرت لك رحلة لهذا الأماكن. ضحكت: ليس من هوايتي تسلق الجبال.

لم يكن في مخيلتي عمل واضح يمكن المغامرة من أجله في هذه الصحاري التي يحدثني عنها، لكن رسالة جاءتني من أبي سعيد تقول أنه قادم قريباً ويريد لقائي، تعجبت من الرسمية التي تعامل بها الرجل معي، حدثت خالي فقال لا أعرف عن أموره الكثير، فهو دائم التنقل والسفر. كان علينا أن ننتظر ثلاثة شهور حتى أراه مصادفة بين ثلاثة من الأمراء وكأنه في مهمة رسمية، لم أحاول الاقتراب منه أو الحديث معه، لكنه ترك مائدتهم وجاء للسلام على، قال موعدنا غداً في مكتبك تمام الثانية عشر، ثم عاد لمائدته من جديد، أبلغت بهاء الدين في جنيف بما فوجئت به، قال أن ما حدث له دلالات هامة، أولها أن الرجل أراد أن يجعل العلاقة وكأنها علنية، وثانيها أنه أراد أن يعفيك من خطأ الاقتراب منه، في الصباح ذهبت إلى مكتبي فوجدت الأمر مختلفاً تمام الاختلاف عما أعرفه، وجدت كميات من باقات الورود تحف المدخل، والمنطقة مليئة بالحرس من كل جانب، أما العاملين في المكتب فبدو كما لو أنهم في يوم عيد، لا أحد يهمل في أناقته، لا أحد يتراخى، لا مكان ولا رائحة غير نظيفة، ترددت في أن هذا مقر المجموعة لولا أن عدداً من الرجال المهندمين هجموا على الباب ليفتحوه لي، غاصت قدمي في السجاد الإيراني من باب السيارة حتى الكرسي الدوار، حين جلست وجدت الهاتف يرن، كان خالي بهاء يسألني عني رأي، صرخت فيه: ماذا حدث؟ قال أنه علم أن أبا سعيد جاء ليعقد صفقة معي بحضور عدد من الحاشية والأمراء، وأنهم من جانبهم اتصلوا به في جنيف حين لم يجدوه هنا. فأمرت أن يكون المكتب بهياً كما ترى وكما أرادوا. فاستغرقت في الضحك وأنا لا أود أن أكذب الرجل ولا أود أن أفتضح مؤامرته علي. قلت نعم معك كل الحق. أغلقت الهاتف وأخذت أنظر من زجاج النافذة على مشهد الشارع البهي، أخيراً جاءت عدة سيارات سوداء يحفها عدد هائل من موتوسيكلات الحراسة، هرعت إلى الباب ثم الشارع وأخذت في استقبال الضيوف، كان الجميع ملتفاً حول أبي سعيد كأنه ملك غير متوج، كان ولي العهد وعدد من الأمراء ورجالهم يملئون المكان، كان كل شيء مرتب بعناية غريبة لا أعرف كيف استطاع بهاء الدين تدبيرها بهذا الشكل، سلمت على الجميع فأغلبهم أصدقائي، وسلمت على أبي سعيد بنوع من التوجس والغربة، عرفني ولي العهد به قائلاً: الشيخ أبو سعيد صديق باكستاني، بعد عدة دقائق قال أحد الأمراء: أمر صاحب السمو بتكليفك ببناء عدة قصور ملكية جديدة. رحبت وشكرت ولم أزد على هذا، قال أبو سعيد: هل لشركتك فروع في الخارج يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم وأخذت أذكر بعض المكاتب. قال: فلمَ ليس لكم مكتب في بلادنا؟ أبديت علامات الدهشة وقلت ربما لأن أعمالنا في باكستان وشرق أسيا ككل قليلة ولا تحتاج إلى مقر دائم. قال أن العمل هناك كثير ونحن نحتاج لعدد من الرجال المخلصين أمثالك كي ينهضوا ببلادنا. شكرت له كلماته وسكت، فقال من جديد هل تتعاون معنا يا أبا عبد الله، قلت يسعدني، قال بإمكانك زيارتنا للتعرف على المكان ونتناقش حول طبيعة العمل. قلت إنشاء الله، قال إذاً موعدنا بعد شهرين. هل يناسبك؟ قلت: لا مانع. قال ولي العهد: لا تعتقد أن بناء القصور الملكية له علاقة بأبي سعيد، فهو فقط صديق والأمر جرى كما رأيت. قلت هذا كرم معهود منكم. ساعتها قام ولي العهد فقام الجميع وانفض الأمر في خمس دقائق. في المساء فوجئت بأن نشرة الأخبار تقول أن سمو ولي العهد تفقد بعض الشركات والمجموعات الاقتصادية اليوم في المملكة، وكلف شركتنا ببناء عدد من القصور الملكية الجديدة، ولم يرد ذكر أبو سعيد أو صورته في شيء.

(21)

توقف على عن القراءة في المصحف الذي بين يديه، وتوجه نحو العجوز كي يرفع إناء الماء عن الأرض، فمنذ تفزع من نظرة العجوز حين صاح فيه "انتبه" وهو لا يحمل له الدورق، فأخذ العجوز يحضر الماء في إناء واسع ليأخذ منه بأطراف أنامله ويمسح على أعضائه، وحين ينتهي يترك الصبي ما في يده ويرفع الإناء من على الأرض. أغلق المصحف وتقدم نحو الإناء والماء المراق، رأى جزءاً من الرمل المبلل على هيئة رجل جالس، ترك الإناء وراح يجتزئ الرجل من مكانه لكنه تهدم في يديه، شعر للحظة أن هذا الرجل صنعه العجوز وسوف يسأله عنه، ترك الإناء وأخذ يعيد تشكيل الرمل من جديد، أعجبته القطعة التي شكلها فراح يصوغ قطعاً جديدة على هيئات مختلفة، لكن النوم ضربه فجأة فلم يرفع الإناء ولم يخف ما صنع، نام على الأرض الباردة دون فراش ولا غطاء، حين علت غمغماته انتبه العجوز فقام يهزه كي يذهب إلى الفراش، لكنه غارق في سبات عظيم، فكر العجوز أن يحمله فانحنى ليقبض على إبطيه. رأى التماثيل تسعى وتتحرك كأنها تمارس الحياة، دقق في وجه واحد منها فوجده السلطان عبد الحميد جالساً على عرش الخلافة في الأستانة وأمامه جمال الدين الأفغاني. قال السلطان بنظرة ساخرة:

ـ قل لي يا شيخ جمال الدين، ماذا نفعل إذا كان هذا حال المسلمين، وقد اجتمعت عليهم الأمم كما اجتمعت الأكلة على قصعتها، هل نسلمها لهم ونحمل رحلنا ونمشي؟
ـ ما هذا قصدت يا مولاي، ولو تأذن لي أن أقدم تصوراتي لحال المملكة لفعلت.
ـ هات ما عندك.

جلس الأفغاني على مقعد في مواجهة الخليفة ونشر جريدة بها خريطة الإمبراطورية العجوز وراح يدور بأنامله على حدودها من الشيشان وأفغانستان في الشمال حتى اليمن في الجنوب، ومن عمان والبصرة في الشرق حتى تونس في الغرب، ثم عاد ليتوقف بإصبعه أمام قطعة مستطيلة يشقها ثعبان طويل مكتس على جانبيه بالخضرة، قال: أتعتقد يا مولاي لو أن مصر ظلت إمارة ترسل لها الولاة مثل باكير باشا ومحمد باشا اليدكشي وأمثالهما لجمع المال من غير وجه، وتوزيعه على رجال الدولة هنا كما هو معروف وغير خاف على جلالتكم، هل هو خير لمصر وأهلها وللسلطنة؟ أم جعلها خديوية كما كانت قبل أن يلتهمها الإنجليز.

صمت السلطان وكأن حبات العنب الذي يبتلعه قد توقفت في حلقه، شعر الأفغاني أن حديثه أغضب السلطان، فثمة ذكرى أليمة تركتها مصر للسلطنة، حين قطعت جيوش إبراهيم باشا آلاف الهكتارات في طريقها لقنص كرسي الخلافة، يومها لم يجد السلطان أمامه سوى الاستعانة بالغرب وجيوشهم ليقفوا على أبواب الأسكندرية مرغمين محمد علي باشا على سحب جيوشه من أمام القسطنطينية، كادت الدموع تنهمر من وجه السلطان أمام هذا القادم من كابل ليحدثه عن خديوية مصر، غمغم الرجل ومسح العبرة التي تكاثفت على جفنيه قائلاً:

ـ لو قلنا أن وجودها خديوية أفضل من بقائها ترسل الأموال فنوزعها على الحاشية، ماذا بعد؟

هنالك نشر الأفغاني جريدته من جديد قائلاً:

ـ السلطنة كما تعلم جلالتكم تتألف من ثلاثين ولاية، فلم لا تبدؤون بجعلها عشر خديوات فقط؟

تقطب وجه الخليفة فجأة وشخصت عيناه في مواجهة الرجل الذي يحفر أسفل عرشه، لكن الأفغاني أسرع قائلاً: وعزة الحق ما ساقني إلى ما قلت إلا الإخلاص والحرص على ملككم، والرغبة في أن ينتظم العقد، وما أرى من سبيل إلى ذلك إلا ما قلت.
شعر العجوز أن برداً يجتاحه فطوى أعضاءه على نفسه ونظر إلى الذي جمع خريطته بين يديه ووقف ينتظر جواباً على شرحه الطويل، لملم فضل عباءته على صدره ونظر بحزن وصمت نحو السلطان الذي قال، يا شيخ جمال الدين، إن دولتنا قوية ولا تحتاج إلى هذا التخريف، ولن أبكي كالنساء ملكاً لم أحافظ عليه كالرجال.

كانت الدمى تتحرك أمام العجوز كأنها ممالك الأرض، بينما الأفغاني يحمل جريدته ويدور بين الناس داعياً للخليفة ومحذراً من الغرب، والناس يتحزبون من حوله، ولكل طريقته ومنهاجه، فهذا محمد بن عبد الوهاب في الدرعية يطلبها في سيرتها الأولى، لا أضرحة ولا حلولا ولا شجر، وهذا محمد بن نوح في المدينة يدعو لوحدانية كاملة، وذاك ولي الدين الدهلوي في الهند يبطل صلاة الجمعة لأنهم مرابطون على حدود الإسلام، ويقيمون بين قوم يعبدون الشجر والقمر والبقر، وهذا الألوسي في العراق، والمهدي في السودان، و السنوسي في جغبوب يتطهر مع أصحابه في أشد بقاع الأرض قسوة ليعود فيفتح الدنيا من جديد، وفي ركاب الأفغاني تلميذ يقول بالشيئين معاً، يقول بالغرب والشرق معاً، يقول بشطري متوسط معاً، فيخرج من عبائته وهابيون رشيديون مهديون، ومن طرفها الآخر حزميون متأنقون متفرنسون، والخليفة في نزعه الأخير يصرخ في جنوده: ادخلوا حرباً لا تبقي ولا تذر.

كانت الدمى تسعى في كل اتجاه كأنها في متاهة، والخليفة على كرسيه يلف تبغه وينظر إلى جده الفاتح ثم يبكى، بكى العجوز لبكائه وضعفه، بكى لصمته كل هذه السنين وغفلته عما حوله، ونظر في عيني الصورة المعلقة على صدر العرش فرأى ملكاً يعرفه، نصحه كما نصح الأفغاني سلطانه ألا يستعين بالفرنجة على مسلم مهما كان خروجه، لكنه أبى، فضيع حرم الله وقدس الله وأمن الله، فانتفض من بكائه يقتلع الدمى ويقذفها في وجه الخليفة الصامت صارخاً: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

(22)

أصبحت العلاقة بيني وبين خالي بهاء الدين أكثر ثقة وقوة، بل يمكنني القول أنني اكتشفت الرجل من جديد، مثقف واسع الإطلاع، دمث الخلق، عالم بطباع النفس البشرية، تاجر دؤوب ماهر يفهم من يتعامل معه من الكلمة الأولى، أما علاقاته فهي خارطة تسعى على الأرض، لا يمكنك ألا تجد له معارف وصلات في أي مكان، لا يمكنك أن تتوقع مَن صديقه بدءاً من رئيس المكان حتى أصغر عامل فيه، كريم إلى حد الإسراف، أنيق حتى أن من لا يعرفه يعتقده واحد من نجوم السينما، لبق بدرجة متحدث رسمي، ومتواضع إلى حد عشق الحياة بكل ألوانها ومن فيها، قضى شباباً نزقاً حتى أنني كنت أراه الوحيد الذي عاش حياته كاملة دون سؤال عن جنة أو نار، لكن ورعه يصل إلى خشية الله في ذرة تراب. حين اختاره والدي كان صاحب مكتب للاستيراد والتصدير في بيروت، وكانت أموره متعسرة، تعامل معه في عدة صفقات، كانت تقريباً كل عمل مكتبه، في النهاية صارت الديون تحاصره من كل جانب، لم يكن أمامه سوى أن يستنجد بالرجل الذي توطدت علاقته به، فدفع ديونه كاملة في مقابل المكتب نفسه، لكنه رفض أن يكتب عقداً بذلك، كانت وجهة نظر والدي أنها أفضل الطرق لحثه على العمل بجد، أما بهاء الدين فقد أعتبر نفسه قد أضاع المكتب ولم يعد أمامه سوى أن يعمل موظفاً فيه، دارت العجلة وأصبح المكان واحداً من أهم مكاتب الاستيراد والتصدير وتشغيل العمالة في بيروت، توسع الأمر ليدخل هذا المكتب في العديد من الأعمال الأخرى كالمقاولات والتعليب والوساطة في الصفقات وغيرها، لكن أياً منهما لم يغير وجهة نظره، حين رأى أبي أخته في إحدى زياراته لمنزلهم شغل بها، ولمح بهاء الدين ذلك في عينيه، قال يا صاحبي أنت متزوج من كثيرات ولك العديد من الأولاد وأخشى أن يعرضك هذا للرفض فتفسد علاقتنا، ضحك أبي وقائلاً: لا عليك، اسألها فقط. كانت موافقتها السريعة مدهشة لبهاء الدين الذي أخذ يشرح ظروف أبي وسفره الدائم وزيجاته العديدة وأطفاله الكثيرين، لكنها لم تسمع لكل ذلك فعقد عليها في المساء، لم يتوقف أحد فيما بعد أمام فكرة شيعي وسني سواي، فقد توارى الأمر وصارت هي حريصة كل الحرص على ألا تثير أمر طائفيتها في مجتمع سني يصل في كثير من الأحيان إلى التشدد، أما أبي فلم يكن يهمه شيء، ولم يكن هناك من يستطيع الاعتراض أو التفوه بغير ما يريد أن يتفوه به.

بعد عملية نقل الكلى ومصارحة أبي سعيد لي بأمر بهاء الدين صار خالي الفردوس الذي أبحث عنه على الأرض، أستطيع أن أقول أن العلاقة بيننا لم تعد خال وابن أخته ولكن صديقين أنقذ كل منهما حياة الآخر، وصارت أحاديث العمل اقل الأحاديث بيننا، قال أن علاقته بأبي سعيد جاءت من خلال أبي، كانا قد تعارفا منذ زمن حين أراد أبو سعيد ترميم وبناء عدة مساجد في أوربا، لم تكن أحواله ميسورة وكان الدعم الذي يجيئه من بعض الحكومات العربية والإسلامية قليلاً في ذلك الوقت، فتوجه الرجل من فوره إلى جدة يطلب مقابلة والدك، ولا أعلم لمَ حظي بمحبة وحفاوة شديدة منه، ففي أول لقاء بيننا أخبرني أن أتكفل بكل ما يريده على ألا نظهر في شيء، في البدء استفدت من كون المكتب ما زال باسمي والعملاء يتعاملون معي على أنه ملكي فأخذت في تدبير أمور الرجل، أصبحت حلقة الوصل بينهما، ولا أعلم هل كان أبيك يلتقيه أم لا، لكنه كان دائماً يؤكد على أن نفعل ما يريده دون أن نظهر في شيء، وكان هذا أمر عصيب في البدء، فكل الحسابات تجري بطريقة طبيعة ومعروفة للجميع، والعملاء لا يعرفون سوى توقيعاتنا نحن، لكننا بمرور الوقت أخذنا نغير من عادات ومسارات أموالنا وحساباتنا بتعقيد يصعب من خلاله معرفة من أين جاءت وأين صبت وكيف أنفقت ومن قام بصرفها ومن قام بإيداعها، وكان هذا التعقيد يسمح لنا بإمداد الرجل بكل ما يريد في أي مكان ومن خلال أي شخص، وأيقن الجميع في النهاية أنني وحدي المسئول عن ذلك من وراء أبيك، ودارت شبهات حول علاقتي بالرجل وغيره، ووصلت رائحة هذه الشبهات إلى الشخص الذي لم نكن نتصور وصولها إليه، وهو أمك، وكان كلانا كما رأيت على حرج من أن يفصح للثاني بسره، فأخذنا ندفع بالعجلة سوياً دون اتفاق نحو تحملك المسئولية بنفسك. قلت: ومن ثم فقد رتبت أمر الرجل كي يلتقيني في باريس؟ فأجاب: لم يكن أمامي سوى ذلك. قلت: لكن الأمر أخذ وقتاً طويلاً. قال: لم نكن نتوقع قبولك الأمر فأخذنا نتحسس الخطى حتى يطمئن قلبك.

(23)

توقفت الطائرة في روما قبل أن تتخذ طريقها مجدداً إلى باكستان، صحبني بهاء الدين في النصف الأول من الرحلة ثم تركني بصحبة واحد من كبار المهندسين وفريق عمل لا يزيد عن عشرة رجال، حين وصلت كان في انتظاري عدد من الباكستانيين يرتدون الصديري الرمادي على قميص وسروال وعمائم بيضاء، نظرت في كل الوجوه من على سلم الطائرة باحثاً بينها عن أبي سعيد، لكنه لم يكن هناك، استسلمت لقدري ونزلت، كان في مقدمتهم رجل ربعة أبيض الوجه يبتسم بألفة شديدة كأنه يعرفني منذ سنوات، حين سلمت عليه جذبني إلى صدره وتعلق يقبلني، حين انتهى أعادني أمام ناظريه وقال: ألا تتعرفني؟ لحظتها دققت في وجهه، إنه هو، نعم هو، صحت وأنا أضمه إلى صدري بقوة: مجد الدين! قال: نعم مجد يا رجل. أخذني وراح يعرفني على الشيوخ الذين معه، جميعهم عجائز بلحى طويلة وشوارب محفوفة وعيون شاخصة، بدا لي أنه الشاب الوحيد بينهم، خرجنا من المطار واستقللنا عربات جيب أخذت تقطع عشرات الكيلو مترات في الجبال، سألته عما يحدث وما الذي أتي به، قال أنه أصبح مديراً لمدرسة الطالبان، ومن ثم فقد صار شيخ الشيوخ كما يقولون، وقد أمره أبو سعيد بالمجيء لاستقبالي، سألته عن الرجال والصحراء والجبال فقال: هذه بيشاور. ضحكت وقلت:أعرف. قال منطقة تجمع المجاهدين الوافدين من العالم الإسلامي. عرفته على رفيقي المهندس فرحب به قائلاً: عليك أن تهتم بكل شيء، لا تترك كبيرة ولا صغيرة دون دراستها. أومأ الرجل بابتسامة لا تنبئ عن شيء. سألته ما علاقة مدرسة الطالبان بالجهاد؟ قال نتناول الغداء ثم نتحدث. وصلت بنا السيارة أخيراً إلى منطقة قاحلة على ظهر جبل صغير. ترجلنا وسرنا بضع خطوات حتى وجدنا مدخلاً يشبه دبر البعير، دلفنا منه إلى خارطة كبيرة أسفلها عدد من الصناديق الخشبية، كان المكان كما لو أنه حفر في عنق الجبل، دلفنا منه إلى غرفة بها منضدة وجهاز لا سلكي ومجموعة من البنادق والرشاشات. قلت ما كل هذا؟ قال ضاحكاً: غرفة قيادة. على الغداء قال أن مدرسة الطالبان غيرت منذ سنوات فلسفتها، فلم تعد مجرد مدرسة لتعليم الطلاب أصول الفقه والحديث والشريعة والمذاهب، لقد صارت بفضل أبي الأعلى المودودي وسيدي عبد الله أبي سعيد معملاً لتخريج مجاهدين مناضلين ضد السوفيت الملاحيد، لكن سيدي عبد الله رأى أن الجهاد ليس شئناً داخلياً على شهوده العيان القيام به، ومن ثم قام بجولات في العالم الإسلامي وغير الإسلامي لإقناع الحكومات والتنظيمات والجماعات بمدنا بالمال والرجال والسلاح، وصار عدد المجاهدين الوافدين من بقاع الأرض أكبر مما تحتمله إمكاناتنا في التدريب والإقامة، فرأى أننا بحاجة إلى مكان أوسع وتجهيزات أكبر لنقل الجهاد إلى مرحلة نستطيع فيها دحر عدونا، وأظنك المرشح لهذا العمل بحكم خبرتك وما لديك من مهندسين وفنيين. قلت: لكنني لم أعمل في الصحراء من قبل. قال أبوك عمل بها ويكفي أن بهاء الدين معك. قلت: تريد قاعدة لاستقبالهم وتدريبهم ثم توجيههم إلى أماكن القتال؟ قال: بالضبط... قاعدة! ثم ضحك، سألته: علام الضحك؟ قال: كنا نتحدث ـ سيدي عبد الله وأنا ـ عن هذا الحلم ولم نجد الكلمة التي تعبر عما نحلم به، وها أنت قد نطقت بها. قلت: مصادفة تستحق الضحك حقاً. قال: بل الإلهام. ضحكت من مبالغته. قال: لا تعجب فأنت لا تعرف الصحراء، إنها تعري الناس وتصفيهم، حتى أنها تجعل كل ملكة وهبها الله لواحد من عباده واضحة وضوح الشمس، فينطق ويفعل في لحظة ما يبحث عنه الآخر سنوات. حل بعد ذلك صمت شغل خلاله مجد الدين بأشياء تخص الرجال، عاد بعدها متهلل الوجه، قلت: خيراً؟ قال: كل الخير، قدومك فأل حسن، لقد كبد الرجال اليوم ملاحدة الروس خسائر كبيرة. قلت: قد يرد الروس بعنف. قال: متوقع، لكننا نعرف الصحراء أكثر منهم ونعرف كيف نختبئ في أحراشها حتى تمر حملتهم. سألته: هل يغزو أبو سعيد وهو في هذه السن؟ قال: كان موسى ابن نصير شيخاً في السبعين حين فتح الأندلس. قلت: كان مع موسى طارق ابن زياد، وقد عبر المضيق قبله. جذبني مجد للحديث من جديد عن أبي سعيد: لو رأيته في الميدان لأشفقت على الروس منه، كأنه سيف الله المسلول في القادسية، يقتل من يقتل ويسبي من يسبي ويرسل بالأموال والبشارة إلى أبي بكر في المدينة. حين انتهى من جملته نظر في عيني كأنه عاد لتوه من زمن الفتوحات قائلاً: يا صاحبي من مات ولم يغز ولم يكن في نيته الغزو مات ميتة جاهلية. شعرت لحظتها أن عمارة ابن الوليد انتهي من حياتي إلى الأبد، وأنني استقبل رجلاً زاهداً نذر نفسه لحرب القسطين والمارقين والناكثين، فرأيت علياً ابن أبي طالب يخطب على منبر الكوفة: أمرت أن أحارب على التأويل كما حارب رسول الله على التنزيل، فصرخ بداخلي شخص ما: مالي ومال على، مالي ومال حرب لا أرضي فيها أحداً، ولا يرضيني فيها أحد، فتختلف على الأمم في كل زمان ومكان!.

حين التفت مجد الدين نحوي وجدني أتداعى كجدار متهالك فاحتضنني: ما بك يا رجل؟ قلت لقد صرت كهلاً، خذني إلى حائط أستند عليه. توكأت على الرجل مجرجراً قدماي نحو الكهف، أغفو وأصحو وحرارتي تعلو وتهبط، جسدي هنا ونفسي موزعة بين معاوية وعلى، قلبي يرتجف وأنا أرى عمار بن ياسر يحمل حجرين فيصرخ فيه رسول الله: ويحك يا عمار، يحمل الناس حجراً وتحمل حجرين! ‏تقتلك الفئة الباغية يا عمار، وأنت مذ ذاك مع الحق والحق معك. وتمر السنون وتشتعل الفتن، فأرى علياً يخرج للزبير قائلاً: أتذكر يوم قلت لم يفارق أبن أبي طالب زهوه القديم، فقال لك رسول الله ليس به زهو وإنك ستقاتله وأنت له ظالم. فيلوي الزبير عنق جواده ويعود من حيث أتي، ليخرج في الصباح من جديد فلا يجد غير عمار ابن ياسر، فيقول: أتقاتلني يا عمار؟ فيقول: أقاتلك وتقتلني الفئة الباغية. فيعتزل الزبير الحرب: والله لا أقتلك ولا تقتلني ولا أكون مع فئة باغية. وأسمع رسول الله: يا ابن ياسر إذا سلك علي وادياً فاسلكه، وإذا صعد جبلاً فاصعد خلفه، وإن رأيه سلك وادياً وسلك الناس غيره فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردىً ولن يخرجك من هدى. فأري عماراً وقد بلغ الثمانين يمتطي جواده ويحمل سيفه قاطعاً الفيافي خلف على، لكن علياً يعود وحده. فأين عمار يا علي؟ قتلته الفئة التي قال عنها رسول الله، وعمرو ومعاوية يقولان: قتله الذي أخرجه. فهل قتلك رسول الله يا عمار؟! لكن رسول الله يقول صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، وعزائي أن العباس وولده سيخطبون على منبري هذا بعد أن تنز عليه القردة من بني أمية.

كان عليهم أن ينتظروا ثلاثة أيام حتى يجئ أبو سعيد على جواده كفارس من زمن غابر يلقي على وجهي رداءه ويمسح عرقي براحته ويتلو "يسن والقران الحكيم إنك لمن المرسلين" فأنهض من مرضي كأن شيئاً لم يكن. وأدور مع رجالي في جولة طويلة حول المكان، نجس الأرض ونأخذ الصور ونرسم الخرائط حتى شعرت أنني أنجزت مالم أنجزه طوال حياتي، فتركتهم ورحت أناقش مع أبي سعيد صعوبة العمل في مكان مكشوف، فطرق الرجل براحته على كتفي: هدأ من روعك يا ابن أخي، فكل ما نحتاج إليه مكان لتدريب الرجال. وراح يحدثني عما استغلق على من أمر على وعثمان وأبي بكر وعمر، كان كنافذة أطل منها على عالم غابر كأنني أعيش فيه، حتى نزلت الشمس من مركبها ورأيت من يسعى بجواده خلفنا، فاستدار نحوي قائلاً: غداً نكمل ما بدأنا، لكن غداً لم يأت إلا بعد شهور طويلة.

(24)

بدأنا التفكير في سحب جزء من أعمالنا وتوجيهه إلى شبه القارة الهندية، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي تصورناها، فأموال المجموعة متضاربة ومختلطة إلى حد بعيد، ولولا ما بذلته أمي وخالي من معارضات قديمة لهيمنة أخي الأكبر سالم لكنا ضيوف شرف كما يقولون، لكن سالماً توفي في حادث مشابه لحادث أبي، ولم يبق إلا مجلس الوصاية الذي كونه الملك للحفاظ على الإمبراطورية التي تركها صديقه، جعلتنا قوة أمي وعلاقاتها بنساء البيت الملكي قادرين على الوقوف في وجه محاولات سالم للسيطرة على كل شيء، وحين توفي صرنا نحن الفاعلين الأقوى في المجموعة، لكن هذا كان ظاهرياً، لأن الحسابات تقدم بشكل سنوي لمجلس العائلة، ثم مجلس الوصاية الذي يبلغ ولي العهد بكل شيء، أخذت في تدارس كل هذه الأمور مع بهاء الدين، يومها كان الرجل يدخن بشراهة وكأنه مقبل على أكبر مشروعات حياته، سألته: هل يمكن أن نلغي مجلس الوصاية، فطأطأ رأسه قائلاً: ممكن. قلت: فلم لا نفعل؟! قال: لا بد من موافقة الملك شخصياً. تعجبت من اهتمام الملك الزائد بأمورنا، فابتسم قائلاً: لأن والدك صاحب فضل عليهم، وجدتها فرصة للخروج مما نحن فيه، فتظاهرت بأنني لا أعرف القصة: كيف ذلك؟ ويبدو أنه كان يريد أن يستلهم من روح صاحبه الحل الأمثل لمشكلتنا، فرفع وجهه نحو شيء مبهم في سقف الحجرة قائلاً: كانت الحرب بين ناصر والبدر على أشدها، وسعود قد فتح خزائنه لمناصرة بدر ضد ناصر، مما جعل الخزانة تفرغ، وشعر الأمراء أن رواتبهم مهدده، فرأوا أن يخلعوا سعود ويجعلوا فيصلاً مكانه، لكن كيف يحدث هذا، لم يكن أمامهم سوى البحث عن رجل لا ناقة له ولا جمل، وعلاقته بسعود طيبة، ولم يكن هناك سوى والدك، فذهب إليه قائلاً أن من سيجلس على الكرسي لمدة شهر من الآن سيواجه بثورة لا يعرف من أين ستأتيه، فقد فرغت الخزينة، وأصبح الأمراء مهددين بوقف رواتبهم، وهذا لا يرضيهم بأي شكل، فما بالك بالجنود والسفارات والعاملين في الدولة، وما بالك بالغرب الذي يدعمنا في مواجهة ناصر، ذلك الذي يريد أن يستتب له الأمر في اليمن كي يقفز على الرياض، ولا نعرف ما الذي يدبره من المكائد للجالس على هذا العرش، ولا ما الذي سيدبره الأمراء لمن قطع رواتبهم، وفي النهاية لن يمر شهر حتى تشهد البلاد ثورة أو انقلاباً أو تدخلاً أجنبياً، وسوف يرتبط اسم جلالتكم بكل هذه المآسي لو لم تبحثوا عن شخص غير مدرك لحقيقة الأمر، فإذا وقعت الواقعة رأى الجميع أنه المسئول عنها، وأنه ليس هناك أفضل من جلالتكم لإدارة المملكة، ساعتها سيطالب الجميع بعودتكم لتنقذ البلاد من إفلاسها وما يتهددها. يومها فكر الرجل بعمق وحزن ثم سأل عن مصيره، فأخبره أنه يمكنه أن يصل مع الأسرة إلى حل يضمن له الحياة كملك. وافق الرجل كمن يمضى على شروط استسلام، فأعلن في اليوم التالي تنحيته عن المسئولية وتولي فيصل الحكم.

حين رأى خالي اهتمامي بحديثه استطرد في سرده قائلاً: كان فيصل مرعوباً من أن يكون ملكاً في مثل هذه الظروف، وهنا جاء دور والدك للمرة الثانية، فقام بدفع رواتب العاملين ومستحقات الأمراء، وسدد التزامات المملكة وكأن الخزينة تفيض بالأموال، ولم يكن هذا كل شيء، فقد قام بجولات مكوكية ليقنع عدداً من شركات البترول بالتنقيب عن آبار جديدة وتوقيع عقود يدفع بمقتضاها ما يمول الخزينة الفارغة، كان والدك أشبه برئيس وزراء المملكة أو ولي العهد، يتصرف ويأمر ويفعل ما يشاء، وبدوره كان يقاتل كما لو كان أمام التحدي الحقيقي في حياته، فلم تكن أمور المنطقة مغرية لأي من شركات البترول في ظل الحرب الكلامية بين ناصر والمملكة، لكن والدك كان يلوح للشركات الغربية بطلبات عقود روسية، وفي اليوم التالي يلوح بطلبات عقود مشابهة من الولايات المتحدة أمام مجالس إدارة الشركات الروسية، وظل الرجل ينفق على المملكة حتى اكتشفت هذه الشركات حقول بترول جاءت أكبر من كل التوقعات، ولم تنس الأسرة الحاكمة هذا الجميل فأعطته كل عقود الإنشاءات وتركته يتحرك كواحد من البيت الحاكم.

كان الرجل يسرد وقائع تاريخ كان شاهد عيان عليه، وكنت سعيداً بالسماع عن بطولات أبي. فأخذت أحثه على المزيد، قلت: هل هذا كل ما فعلت المملكة للرجل الذي جاهد بماله ونفسه من أجلها؟ فابتسم قائلاً: لا تكن ظالماً فما فعلته وتفعله كثير، فقد أعادت له أمواله كاملة حين استقرت الأمور، وساعدته كي يصبح هذه الإمبراطورية التي تنافس في العالم، ومع ذلك فحين ذهب والدك ليقول لفيصل أنه في سنوات فقره نذر لله أنه لو أعطاه المال والولد ليجددن الحرمين ويوسعهما على نفقته الخاصة، ضحك قائلاً: ونحن هل ليس لنا في هذه المكرمة من شيء؟ فابتسم: كل شيء ملك جلالتكم. قال الملك: إذاً نفعل كل ما تريده بالنصف. قال: يا مولاي هذا نذري أنا. قال فيصل: وأنا خادم الحرمين، فماذا نفعل؟! قال: إذاً أجدد المسجد الأقصى وحدي. قال: لك ما تريد.

كانت حالة بهاء الدين النفسية قد صارت على عكس ما كانت عليه في بدء اليوم، صار مرحاً منتشياً يرد على الهاتف بأريحية كبيرة، ويعامل الناس بلطف شديد، حين لاحظت هذا التغير على وجهه ونعومة النفس الخارج من سيكاره قلت: لكننا مازلنا للآن في ورطة، فسحب نفساً طويلاً ثم نظر إلى النافذة قائلاً: ليس هناك مستحيل. قلت: كيف؟ قال: غداً أذهب إلى ولي العهد لأقنعه بأن العمل مع المجاهدين محاط بالشبهات، وقد يوقع المملكة في مأزق لو تسرب خبر عن دورها في ذلك، ومن الأولى أن نرفع الوصاية عن الذين بلغوا سن الرشد، حتى يكون دخول أبي عبد الله دخول ليس لا تشمله الوصاية ولا الرعاية الملكية، فإذا وقع ما نخشاه كانت المملكة وسيادتها بعيدة عن الشبهات، خاصة وأن علاقات الروس بمجنون العراق على أفضل ما يكون. حين سمعت عباراته ورأيت طريقة أداها عدلت من جلستي، واتخذت موقف الملك قائلاً: معك حق، أنت داهية يا بهاء، وأنا سأجعلك وزيراً للخارجية.

(25)

"لا أحد يعلم الغيب إلا الله" قالها مجد وسكت، كان وجهه وصوته ممتلئان بالحزن، شعرت أن الرجل يعاني من مشكلات عصيبة على الجبال، لم أشأ أن أدخل في تفاصيل قد تزيد من حزنه، فرحت أنظر نحو الرجال الذين يبنون منزلاً من ثلاثة طوابق، قال أبو سعيد: أريده من الخارج كبيوت الباكستانيين ومن الداخل كبيوت المصريين، لم أفهم ما يعنيه بالضبط لكنني قلت لك ما تريد، وأدليت برغبته للمهندس المسئول، حين بدأ البناء في الارتفاع كان الرجال يرونه أول منزل لسكناهم في هذه البلاد، لم أشأ أن أحرمهم من رغبتهم فأمرت ببناء بيت آخر في بيشاور على نفس النموذج. قلت لمجد بعد برهة: لكم عندي مفاجأة. قال: هاتها. قلت: لا تحتفظ المفاجأة بقيمتها لو أفصح عنها قبل أوانها. كان عليهم أن ينتظروا عدة أيام حتى ينتهي العمال من البناء، أخذتهم إلى البيت الذي طلبه أبو سعيد وقلت هذا ما أردت، أعجب الرجل به فقال سنقيم هنا إن شاء الله، قلت لكن المكان لن يتسع لكم وللقادمين بأسرهم، قال نتحمل بعضنا بعضاً حتى يأتي الوقت ويفتح الله علينا المدن، قلت تعال معي، ركبنا عربة كانت بالقرب من المبنى، وذهبنا بضعة مئات من الأمتار، قلت لا يحسن أن يكون القادة وأسرهم على مقربة من القادمين الذين لا نعرف عنهم الكثير، ربما كان من بينهم من جاء لصالح الروس أو غيرهم، قال: معك حق لكن ماذا نفعل؟ قلت: هذا هدية للمجاهدين وأسرهم، أما المنزل السابق فهو للوافدين من كل مكان، يقيمون فيه حتى يخرجوا إلى القتال. ضحك الرجل قائلاً: ونحن أين وضعتنا؟ قلت: لا ضير أن تنتظر نساؤكم في إسلام أباد، فهذا أحوط لهن وأنجى. تمتم مجد الدين: نعم لا أحد يعرف الغيب. قلت: هل كان هذا ما كنت تفكر فيه منذ أيام؟ قال أبو سعيد: لا، فمجد عاتب عليك ولا يريد محادثتك في شأن يخصك. قلت: ما هو؟ قال: اتصالك بغيره من المجاهدين وأنت تعلم ما بينه وبينهم من خلاف، فهم يرون مجداً ورجاله دخلاء على الجهاد، يستقطبون منهم المجاهدين ولا يحققون شيئاً، فيهدرون الجهد والمال بلا معنى. لم أكن أعلم بكل هذا الخلاف القائم على الأرض، كنت أتصور أنهم أشقاء في الجهاد، ومثلما يأتي المجهدون إليه فهناك من يذهبون إليهم، قلت: فلماذا لا توحد الجهود؟ قال: لأن الأمر يدار بشكل قبلي، ومجد من البشتون الأكثر عدداً وأوسع مساحة، لذا يريدون تحييده، حتى إذا ما انتهت الحرب لا ينازعهم مكاسبها. أدركت أن الصراع الخفي أكبر من المعلن، قلت أن لقائي معهم لم يكن إلا لرأب الصدع، فتهلل وجه مجد قائلاً: هل كنت معهم من أجل هذا فقط؟ قلت: وهم يحتاجون لما نحتاج إليه، يريدون السلاح والعتاد والرجال وأماكن للتحصن خلفها، وهذا عمل لا يمكنني أن أتأخر فيه عن أحد. عادت أساريره إلى تجاعيدها من جديد، فغمزت بعيني لأبي سعيد ناحية الوجه المكفهر. قال له: لا تغضب إنه يعمل في صالح الجميع، قلت مازحاً: هل يضيركم أن ترجع الأمم بالأموال وترجعون وفيكم أبو عبد الرحمن؟ قال وهو ينظر إلى أبي سعيد: ما زال يمزح !. قلت وكأن العبارة كان يجب أن تصاغ هكذا: مازال ابن أبي طالب لم يفارق زهوه القديم! ضحك أبو سعيد ونظر ناحية مجد قائلاً: وإنك ستحاربه وأنت له ظالم. هنالك انتبه مجد من شروده ورفع رأسه ناحية أبي سعيد قائلاً: لو كان آخر يوم في حياتي ما فعلت، ولو أجبرني العالم على هذا لقطعت يدي قبل أن تمتد إليه. قال أبو سعيد: إننا نمزح. قال مجد: وأين أنا من الزبير. قلت: وهل أنا علي؟! قال مجد أو لست ابن امرأة منهم؟ قلت بلى. قال والإمامة بالوراثة والنص؟ قلت بلى. قال: فقد نص عليك أبو سعيد. قلت ماذا؟! قال أبو سعيد: من اليوم عليك أن تجهز نفسك كي تأتي إلي هنا، وجودك أصبح ضرورة معنا، وهناك أمور لا أرى من يصلح لها غيرك، فقد شغلني حمل السلاح، ولنا مريدون ودعاة ومصالح في شتى البلاد. قلت: يمكنني أن أفعل ما تريد من هناك. ضحك قائلاً: نحن كالزيدية نشترط وجوب خروج الإمام حتى تتم إمامته. قلت: هل هذا ما أغضب مجد؟ هنالك توقف أبو سعيد عن السير ورفع ذراعيه، ثم أخذني تحت إبطه الأيمن، وأخذ مجداً تحت إبطه الأيسر وجعل وجهينا متقابلين: لا أحد يعلم الغيب إلا الله، ربما تكون الإمامة فيك، وتكون الإمارة في مجد، أو ليست تجوز تولية المفضول مع وجود الأفضل؟!

(26)

كان علينا أن نتحرك في أكثر من اتجاه، فراح بهاء الدين ينثر رجاله كي يقيموا مؤسسات اقتصادية في شتى أنحاء العالم تحسباً لتوقف التمويل في أي وقت، من جانب آخر رحنا نجهز لعدم تواجدي في المملكة وإقناع أمي بأن الأمر جد ميسور ولا خوف على في شيء، أما في بيشاور فقد بنينا معسكر الوعد الحق ومعسكر القادسية، واستأجرنا عدة بيوت لسكنى الأسر بعيداً عما يدور على الجبهة وأخبار القتال، كما استأجرنا منزلاً في مكة لاستقبال الوافدين من شتى البلدان، وفيه يتم تزويدهم بالوثائق والمال ليتوجهوا إلى بيشاور عبر طرق ومسارات مختلفة، اتفقنا أيضاً على استئجار بيوت مشابهة في اليمن وبيروت والجزائر لتلقي المعونات ومساعدة من يريدون التوجه للجهاد، أما القاهرة فقد كان لنا فيها رجال وتقاليد موروثة منذ علاقة التلمساني بأبي سعيد، فعن طريقه وقفت الجماعة بجانب أسر من اعتقلهم عبد الناصر، ولما كان دخول مصر غير ميسور للرجل فقد بعث بمواطنه صالح سرية، كان ذلك في منتصف الستينات، قال له أبو سعيد: اذهب فقد حرثت الأرض وتهيأت للزرع، فنزل سرية في زي طالب علم لتجهيز المجتمع للثورة الإسلامية، فراح يضرب في كل مكان مؤسساً ما استطاع من جماعات، بعضها قال بهجرة المجتمع واعتزاله لإعداد العدة وفتحه من جديد، وبعضها قال أن المجتمع صالح لكن فساد الراعي يفسد الرعية، وعلى من يريد تغيير البدن البدء بتغيير العقل، كانت فرصة سرية لتفجير كل هذه الأفكار كبيرة بعدما وصلت افكار سيد قطب إلى طلاب الجامعات والمدارس، فقال أن الجهاد يجوز في الداخل والخارج، وقد أوقف أبو بكر مجاهدة الروم والفرس حتى يجاهد المرتدين، وكان خالد بن الوليد السيف الذي يسره الله له، فمن لم يكن خالداً فعليه أن يتمنى أن يكون خالداً، ومن لم يغز ولم يكن في نيته الغزو مات ميتة جاهلية، ومن لم يستطع فقد قال لله "ألم تكن أرض الله واسعة لتهاجروا".

كان سرية حكيماً يعرف كيف يصب الكلمات على الزيت في جوف الظلمة الناصرية، ولم يجد السادات غير التلمساني ورجاله ليقضي بهم على فلول الزمن السابق، فخرج الصابرون من السجون، وانتشروا في الأرض يزرعون ويحصدون، لكن السادات ما لبث أن غره نصره فاتخذ وجهة غير التي أرادها الجميع. وكان التلمساني أميل للمهادنة حتى تكتمل العدة، لكن سرية رأى السادات خرج على العهد، والتلمساني تخاذل عن خطى الإمام. فأرسل التلمساني لأبي سعيد قائلاً "صاحبك يفقدنا الكثير، فاسحبه قبل أن تقوم فتنة لعن الله من فيها"، فجاء الأمر لسرية بتسليم بالخروج وتسليم الأمر للرحال، لكن سرية رأى أن أوان القطاف قد حان، فدفع بحصاده في الفنية العسكرية، ولأمر قدره العزيز العليم فشلت خطته، وخرج من مصر بلا نجاح يذكر، وكان الرحال أقل خبرة ودراية بالعمل، فهلك التنظيم الذي قاده في فتنة الزاوية الحمراء، وأمر أبو سعيد بعودة الشيخ الضرير من جامعة الملك عبد العزيز ليقوم على جمع الشمل وتهدئة الأوضاع، فأصبح التمويل في يد الرحال والإمارة في يد الضرير، وأعاد الرحال تنظيمه القديم على جماعتين، إحداها يقودها هو والأخرى يقودها زميله القديم عبد السلام فرج، وفي الوقت الذي أدار الضرير الأمر بحكمة أصدر عبد السلام كتابه عن الفريضة الغائبة، فاشتعل السادات غيظاً وأهان التلمساني أمام الجميع على الهواء، فغضب الأخير قائلاً "لو أن غيرك قال ما قلت لشكوته إليك، لكن أما وإنك أنت الذي قلت فإنني أشكوك إلى الله"، وكانت هذه الكلمة بمثابة القول الفصل، فقام أبو سعيد بجولات مكوكية بين الشرق والغرب، وأقتنع الجميع بأن الرجل قد خرج عن النص، وكما قيل يؤتى الحذر من مأمنه. لكن الجماعة في الصعيد أيضاً خرجت عن النص، معتبرين وقوف عبد السلام والزمر عند ما فعلوه خيانة للإسلام، وما كانوا يعلمون، وما كان للضرير أن يخبرهم، فكانت النهاية التي ما كان سيكون بعدها نهاية لولا أبو سعيد الذي راح في جولات جديدة ليصوب الخطأ ويعيد الأمر إلى نصه القديم.

(27)
الشيخ الضرير

توقفت الحياة عند حدود زيارات خاطفة إلى أفغانستان، ليس هناك من جديد، الرجال يتابعون عملهم في كسل، فشهور الشتاء تكاد أن تكون بلا عمل، والحلم أصبح محدوداً مع شدة اشتعال النيران، وحده أبو سعيد الذي ظل مؤمناً بكل شيء ويستحثني على المجيء، قال أن وجودي معهم سيحسم أشياء كثيرة وسيضبط كفة الميزان، لا أعرف بالضبط عن أية كفة كان يتحدث، أما خالي بهاء الدين فقد ترك لي إدارة المجموعة لأصبح على دراية بها، وشغل هو بفكرة الدفع بالمجاهدين إلى الأرض الأفغانية، في الشهور الأخيرة طرح على أن ندفع بهم إلى جهات كالشيشان وألبانيا، تخوفت من أن يُغضب هذا أبو سعيد المحاصر في الكهوف، حين التقيت بالرجل بدا واثقاً من النصر رغم سوء الأحوال، قال: كله جهاد والأمر ليس وقفاً على مكان بعينه، ولا تخف لأن نصر الله قريب. أمدتني كلماته بالثقة رغم ما يشوبها من يأس. رحت أدفع بالعجلة في الاتجاه الذي أراده خالي، كانت الأموال تتدفق علينا من جهات بعضها غربي وبعضها شرقي وبعضها من منظمات، كان الكل مؤمناً بعملنا على نحو أو آخر، وكان بهاء الدين يدير الأمر بعبقرية لم أكن أتوقعها، كأنه اقتصادي أغفل وجوده البنك الدولي فقرر هو أن يكون بنكاً موازياً، يلعب في كل شيء، ويمول كل شيء، ويجنى أرباحه وفوائده دون جهد، صارت الأرقام تتضاعف والحسابات تتداخل وتتشابك، ووحده الذي لا يخاف منها، وحده يمسك بخيوطها كأنه عقل مركزي لا حدود له، كنت آخذ من أمورها على قدر وأترك على قدر، وكان حريصاً على أن يعطيني مفاتيح الأشياء، ولم يمنعني كل ذلك من المشاكسة معه كلما أتيح الوقت لذلك. سألته ذات مرة عن عبد الله الشيعي، نظر بعينيه المجهدتين من العمل قائلاً: فاتح إفريقة لأبي سعيد؟! قلت نعم. قال رجل عظيم لولا أنه انصاع لوساوس أخيه أبي العباس. قلت ألا ترى أنه كان على حق؟! وضع ما في يده وخلع نظارته ليمسح شيئاً على جفنيه قائلاً: كل ميسر لما أتى له، وهو كان ميسراً حين نقله أبو سعيد من اليمن إلى المغرب قائلاً اذهب فقد حرثت الأرض ومهدت، ولا تحتاج إلا لمن يقلي البذور، فذهب وكأنه شيخ ضرير، يخطب ويعظ حتى فتن به الناس، قالوا كأنه أنت لولا...! فقال: لولا ماذا؟ قالوا كان قبلك شيوخ يقولون أن أوان المهدي قد جاء، وإنا نراك هو لولا أنه مبصر، فقال هكذا..، وفعدل من نظره، وظهر السواد وذهب البيياض فهللوا ثم قالوا لولا... فقال أن فكه لا يطبق على أخيه؟ فقالوا: نعم. فرفع اللثام عن وجهه قائلاً كهذا؟ فهتفوا: نعم، فقال: والثالثة أن ساقيه رفيعتان كخيطين انفتلا على بعضهما؟ فلما وقف ورفع الثياب عن جذعه هللوا وقالوا: الآن أيقنا أنه أنت. فقال: لولا أنني لست المهدي، لكنني كبير دعاته فهلموا ندعو الرجال للخروج، فانتشرت دعوته في قتامة وسلجماسة كما النار في الهشيم، فنازع بني الأغلب ملكهم، وأرسل إلى عبيد الله المهدي أن قد استتب الأمر لك، فلما تولى الرجل أمر دولته حسده العباس قائلاً لأخيه عبد الله: كان أمراً زمامه في يدك فأعطيته لغيرك. وراح يقول إنما المهدى يحي ويميت ويشفي المرضى، فاسألوا صاحبكم إن كان يفعل؟ فبلغ عبيد الله ذلك فأرسل العباس والياً إلى إحدى الولايات، وأرسل البريد قبله أن إذا حضركم فلان فاقتلوه، فجاء قتله في يوم قتل أخيه عبد الله، هذا الذي أقبل على بيت الإمارة فوجد الحراس يشهرون سيوفهم عليه، فصاح: ويحكم إنني الذي وليتكم، فقالوا: إن الذي وليته علينا هو الذي أمرنا بقتلك.

كانت دمعة تكاد أن تفر من عيني بهاء الدين وهو يحكي، فوارى نفسه عني ومسحها في صمت، حين استدار كانت عينه ما تزال مشربة بآثارها، قال هكذا الأمر، وهكذا يسر لكل منهما أمره، هو الداعية لا شيء، وكان أمره ميسراً في مناط عمله، فلما خرج عنه خرج الأمر عليه، ولا تحسب أنه كان يمكنه أن يقيم دولة بنفسه، فقد خرج على المهدي كثيرون فقضى عليهم، حتى أنه حين اختط "المهدية" اتخذها لساناً في البحر، وجعل أسوارها عالية كالجبال، وجعل أسفلها مخازن للغلال من كل صنف، فلما اكتملت صعد بقائد جنده أبراجها وقال: أوتر قوسك. فلما أوتره قال شده ما استطعت ثم أرمي، وحيث سقط السهم قال: إلى هاهنا ينتهي الأعرج صاحب الحمار. فلما كان في نهاية أيامه انتفضت إفريقية وخرج عليه أبو يزيد الخارجي، فأخذ منه ملكه وحاصره في المهدية، وحيث انتهى السهم وقف الخارجي لا يستطيع التقدم، فمات المهدي والمدينة محاصرة، وتولى ابنه القائم من بعده، ثم تولى المنصور والمهدية محاصرة، لا يستطيع الأعرج دخولها ولا يعفي الناس من شره، حتى ضجر منه أعوانه وخرج له المنصور بجيوشه فقضى عليه، واستتب له ملك جده. فهل كان المنصور يملك هذا لو لم يكن ميسراً لأمره.

ضحكت من شدة تأثره بما يحكي ورحت أعابثه: فلما أنت حزين؟ قال لا عليك ـ واستدار قبل النافذة ـ هذا تاريخي وأنا أولى به، قلت هذا تاريخنا جميعاً، قال هم الشيعة، وكلما رأيتني تضيق على أمري حتى كرهت ما أنا فيه. أصابتني جملته بالحزن وادركت كم كنت قاس عليه فقلت: لك ألا أعيد عليك السؤال في هذا الأمر ما حييت. جفف الرجل ما بقى من دموعه قائلاً: دعنا نلتفت إلى ما نحن فيه. واستدار بجذعه فحمل حقيبة صغيرة وضعها على المكتب، كانت أشبه بالحقيبة التي يحمل فيها أوراقه فلم ألتفت إليها، حين فتحها قائلاً هذا حاسب شخصي، أرسلت في طلبه من أجلك. كانت أصابعه تعبث على مفاتيحه بينما الشاشة تغير من أوضاعها، رحت أنظر بتلهف وهو يقول: سوف تحتاجه هناك، يمكنك تدوين كل ما تشاء عليه، فهو كهذا بالضبط. وأشار إلى الجهاز الربض على المكتب، أخذت أعبث في أزراره فوجدت ملفاً باسم الرجل الضرير، شدني مسمى الملف فضغط عليه، طالعتني صورة شاب ضرير بلحية مشعثة وزي أزهري، نزلت بالسهم إلى أسفل ورحت أقرأ:

الاسم:                   عمر عبد الرحمن
السن:                    46 عاماً
مواليد:                   3/ 5/ 1938
محل الميلاد:            الجمالية ـ البحيرة ـ ج. م. ع.
الشهادات:               كلية أصول الدين عام       1965

ماجستير في الشريعة والقانون                       1967
عالمية الأزهر                                        1972
الخبرات:                معيد في عدد من المعاهد الأزهرية في جنوب مصر                            من 1972 ـ 1977

سألت بهاء الدين عن الرجل فقال: ألا تذكره؟ فأجبت بالنفي، قال إنه شغل أجهزة الإعلام فترة طويلة، إنه أحد المتهمين في مقتل السادات ومفتى جماعة الجهاد في مصر، خرج من قضيتين يصعب على أي شخص أن يخرج من إحدهما سالماً. سألته عن جمعه للمعلومات عنه فقال أنه لم يجمعها لأنها موجودة لديهم منذ طلب أبو سعيد تعينه في جامعة الملك، وها قد خرج من سجنه سالماً، ويريد العودة إلى المملكة. قلت: وهل تبحث له طريقة للخروج من مصر؟ قال: إنه يسأل هل يمكن أن يكون مكانه في الجامعة مازال شاغراً؟ المشكلة ليست في ذلك، سألته فيما إذاً؟ قال أنه لن يأمن على وجوده في بلادنا، ولن يكون طريقه إلى أفغانستان كالآخرين، ومن ثم فإلى أين أين يذهب، وهل ستقبل السلطات هنا يوجوده، قلت له لا عليك، فسأقنع الأمير أنني أحتاجه لجمع المجاهدين.

(28)

الطريق إلى أفغانستان ليست كالطريق إلى اسطنبول التي خرجت من بلادي إليها ثم منها إلى باكستان، فالطريق هنا ممرات ضيقة عبر صخور يصعب الوصول من خلالها إلا للعالمين بالمكان ودروبه، بالطبع لم أتحمل مشقة البحث عن هؤلاء لأنهم كانوا في انتظاري، فتوجهنا من بيشاور إلى بيت استقبال الوافدين الذي أطلق عليه أبو سعيد "بيت الأنصار"، كنت أعرف أن هذه الرحلة ليست كسابقاتها، وأنها قد تمتد إلى شهور، وأن على العمل كمجاهد وليس زائر، لم أقلق من عدم استقبال مجد أو أبي سعيد لي، فربما اتفقا على أن أخوض المغامرة كما يخوضها غيري، هكذا عللت الأمر وشحذت نفسي لأن أتعلم بأسرع مما يتوقع الجميع، ليس لإثبات مهارة أو رغبة في القيادة ولكن لأنني أتحمل من المسئوليات أكثر مما يتحمله الآخرون، فما يعتبرونه فعل حياة أو موت كان على اعتباره خطوة لابد من إنجازها لألتفت لسواها.

كنت قد تركت وضعاً ملغماً في بلادي، فقد غضبت مني أمي بعدما تعلقت بشقيقة أحد أقاربنا في حضر موت، ولأول مرة منذ سنين رأيتها تغضب لأجل ابنة أخيها، كان الأمر في البدء مجرد إشاعة سرت في ردهات العائلة، وكنت لا أنفي ولا أثبت، لكن زوجتي زادت في عنادها وأمي هددتني أنها ستتزوج هي الأخرى إذا تزوجت أنا، كان الأمر صادماً بالنسبة لي، فأنا أعرف أنها منذ زمن ترفض طلب واحد من معارفنا القدامى للزواج منها، لكنه في الآونة الأخيرة بدأ في معاودة زياراته للمملكة ومن ثم منزلنا، رددت على زياراته بزيارة إلى بيت صديقي وأخته في حضر موت، وقمت بافتتاح شركة لنا هناك كنوع من توثيق التبادل المالي، فازداد جنونها، بينما خالي المجهد من الانشغال في كافة الاتجاهات بدا وكأنه لا يريد التدخل في أمر عائلي، كنت أرى في عينيه إشفاقاً على، وكثيراً ما كاد يقول لي "ترفق بنفسك وتراجع"، لكنه خشي أن يكون حملاً على أحمالي، فهو الوحيد الذي أعتمد عليه، وهو الوحيد الذي لو تخلى عني لشعرت أن فقارات ظهري تتهشم، لكنه لم يقل شيئاً، حاولت أن أستشيره فبدا أنه اتخذ قراره منذ زمن، رحت أعالج الأمر مع أمي لكنها قالتها صراحة: ها أنت تكافئني على صبري بالزواج على ابنة أخي. قلت لها أن هذا غير صحيح. فأخرجت لي جريدة يمنية نشرت خبر افتتاح الشركة، قالت: وهذا.. أليس مهرها؟ شعرت أنها تتجسس علي، وتعاملني كطفل في حجرها، انتصبت واقفاً: نعم هذا مهرها. غادرت المنزل وبداخلي رغبة جنونية لدفع القاطرة إلى الحافة، اتصلت بصديقي فأحضر شقيقته وأتممنا الزواج، شعرت أن الجميع استقبل الصفعة بكظم غيظ، كنت متعاطفاً مع ابنة خالي أكثر من أمي، أما خالي فقد خرج عن حياده قائلاً: لقد أخطأت ودفعت بالعجلة لقهرها، وهاهي تحبس نفسها في حجرتها بلا طعام أو شراب. شعرت بذنب قوي تجاهها، فرحت أطرق باب حجرتها كالمجنون، قلت لن أرحل حتى تفتحي، ولم تفتح إلا في صباح اليوم التالي، فوجدتني نائماً أمام الباب بملابسي على الأرض، حين أيقظتني الخادمة رحت أضحك وأنا أعابثها، قلت: حتى تعرفي أنني عنيد ويمكنني أن أنفذ ما أقول. قالت: وأنا أكثر عنداً منك وسأنفذ ما قلت. دفعني هذا إلى الجنون، قلت: سأقضي عليه يوم أن تصبحي زوجة له. قالت: افعل.. فقد صرت شخصاً غير ابني الذي ربيته. أوجعتني جملتها، وشعرت أنها مازلت تراني طفلها المدلل، تركتها ورحت أجأر في الخدم الذين ارتعدوا كقطط أمام وحش لا يعرفونه، قلت: لن يخرج أحد من المنزل أو يدخل دون إذن. كان الجميع يعرف أن الحديث موجه إليها فأحنوا رؤوسهم في صمت، تركتهم ورحت أخوض الصحراء بعربة مكشوفة لا أدري إلى أين، حين تعبت من السعي وراء الرمال وسرابها اتصلت ببهاء الدين ليقابلني في مطعم بجدة، قرأت من ملامحه أنه علم بما حدث، قلت: تريدني أن أطلقها! قال: عنيدة. قلت: مازالت تراني طفلاً في حجرها! قال هكذا كل الأمهات. قلت ما العمل؟ قال تسافر. قلت: بيشاور؟ قال: أي مكان يمكنك أن تفكر فيه بهدوء؟.

شعور غريب كان يجتاحني والعربة تخب بنا بين الجبال، شعرت أنني أريد أن أنسى كلماتها التي ترن في أذني، فبداخلي رغبة جنونية لأثبت لها أنني لم أعد طفلاً تملى عليه الأوامر، لكنني كنت أحلم أن يكون هذا عن قناعة منها، قلت لنفسي: ستقتنع أنني على حق، ولا أظنها ستنفذ تهديدها لتهزأ بي أمام الجميع. واجتاحني يقين أنني سأخرج من كل هذه الحرب سالماً، حين وصلت إلى هذا اليقين بدأت أصفو من جديد. أستطيع القول أنني نسيت كل شيء، ورحت أتجول بين الرجال كشاعر هائم بالمكان، كان الجميع يعاملني بدماثة شديدة، أصروا أن ألقي خطبة الجمعة في مسجد "بيت الأنصار"، وجدتها فرصة لدخول المكتبة التي لم أرها من قبل، كانت حالتها فقيرة رغم ما بها من أمهات الكتب التي أحضرها المجاهدون معهم، بعضها يحمل على صفحاته أسماء وتوقيعات وأرقام ورموز، وبعضها يحمل خطوطاً أسفل السطور وتعليقات على الهامش، أغلبها لابن تيمية والغزالي وابن كثير ومحمد ابن عبد الوهاب وابن حزم والبنا وقطب وأبو الأعلى وأبي سعيد والشوكاني والسيوطي وابن الجوزي والخطابي وابن حنبل والأفغاني والتلمساني والهضيبي والصابوني والقرطبي، مددت يدي وقبضت على كتاب "الدرر البهية في المسائل الفقهية" للقاضي اليماني محمد بن علي الشوكاني، راحت عيني تجري على فصوله حتى وقفت أمام "كتاب الجهاد والسير" فوجدتني أقرأ "الجهاد فرض كفاية على كل بر وفاجر إذا أذن الأبوان، وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الديْن ويلحق به حقوق الآدميين، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله، وعليه مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزواً أن يواري بغير ما يريده، وأن يذكي العيون ويستطلع الأخبار ويرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف، ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا لضرورة، والمثلة والإحراق بالنار والفرار من الزحف إلا إلى فئة".

أعجبتني كلمات الرجل فعدت أقرأ من جديد لكنني توقفت أمام ( إذا أذن الأبوان )، فتذكرت أنني لم أحدث أمي في أمر الجهاد مطلقاً، وكل ما دار بيننا كان عن توسيع الأنشطة إلى أرض المجاهدين، أما أن أكون مجاهداً وأحمل السلاح فهذا ما لم تعرفه وربما لا يعرفه أحد سوى بهاء الدين، قلت لن أفعل شيئاً حتى أستشيرها. لكن ذلك يتطلب العودة ومصالحتها، قلت سأفعل، ولو طلبت طلاق اليمنية لطلقتها.

خرجت من مكتبة المسجد فوجدت أبا العباس، وهو جزائري جاء منذ عام، يقيم حلقة الدرس في حديقة البيت، كان الرجال ملتفون حوله وهو يذكر لهم فضل الجهاد وضروراته، حين رآني انتصب واقفاً لاستقبالي، اقسم ألا يتم حديثه حتى ألقي كلمة أحفز فيها الرجال على الجهاد، وقفت مكانه وأنا لا أدري بما أتحدث، فهذه المرة الأولى التي يطلب فيها مني الحديث جهرة أمام جمع من الناس، تذكرت أنني وافقت من قبل على أداء خطبة الجمعة بدلاً من مجد وأبي سعيد المشغولين على الجبهة، فكرت في كلمات الشوكاني التي قرأتها فرحت أقول: إن الله فرض الجهاد أنواعاً، وأن أعلاها هو الجهاد بالنفس والمال، وقد يسرني الله لأبدأ بالثانية، لكنني لست على فضل كفضلكم، وليس أمامي سوى أن أنزل الخنادق مثلكم، وأحمل السلاح كما تحملون، حتى إذا فاضت روحي إلى بارئها أكون قد وفيت ما على، ولا أقف أمام الملكين عاجزاً حين يقولان لي ماذا فعلت وأنت ترى أرض الإسلام تنقص من أطرافها، ماذا صنعت لإعلاء كلمة الله في الأرض، سأقول أنني لم أدخر وسعاً، فلم أجلس في بيتي وأستأجر من يجاهد بنفسه وروحه في سبيل الله بدلاً مني. أيها الأخوة في الله وسبيله الأعظم لإعلاء كلمته وضاحة تعلو كلمات المشركين والمنافقين، من كان منكم ذا فضل فليجاهد بفضل الله عليه، ومن لم يكن فليذكر سعة الله في صحته وولده وأهله وصحبته، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، وليس من هاجر كمن تقاعد، ولا من شهد بدراً كمن لم يشهدها، وها هي دار هجرتكم، وها هي بدركم، وزمانكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم مؤمنين.

حين انتهيت هتف الجميع لا إله إلا الله والله أكبر، وراح العباس يقبل منكبي ورأسي قائلاً: كلنا فداء لا إله إلا الله. أمنت على كلامه وقلت له أن يسأل الناس بعد مجلسهم عمن له حاجة فنقضيها له، حين فعل جاءتني العديد من طلبات النفقة على الأهل والأبناء في ديارهم التي هاجروا منها، فقلت للعباس أن يأخذ أسماءهم وعناوينهم كي نفعل ما يعيننا الله عليه.

مرت خطبة الجمعة أيضاً بسلام، تحدثت فيها عن صحابي جليل وهب حياته للجهاد في سبيل الله حتى أنه حين عزله عمر ابن الخطاب لخلاف بينهما جلس في بيته وهو حزين رغم أنه ما من جزء في جسده سلم من ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وحين حضرته الوفاة كان يبكي قائلاً: أيموت خالد على فراشه كما يموت البعير؟! فلا نامت أعين الجبناء.

في اليوم التالي جاءني مجد وقال ألن تبدأ التدريب مع الرجال، قلت لا مانع، ذهبنا إلى معسكر على مبعدة بضع كيلو مترات من بيشاور، ولأول مرة أمسكت بالسلاح، كان المسئول عن تدريبي رجل يدعى مهيار، كانت في عينه نظرة لا أعرف معناً لتفسيرها سوى أنه كان يرغب في أن يثبت لي أنني سليل القصور والمخادع الحريرية ولن أصمد، وضع أمامه خرقة وبضربة واحدة رأيت الرشاش قد أصبح قطعاً، وفي غمضة عين تحول إلى رشاش من جديد، شعرت رغم انطباعي السيئ عنه أنه ساحر، حاولت أن أعيد ما فعله لكنني فشلت، رأيت في نظره ابتسامة فرح بفشلي، قلت: تمهل على فهذه أول مرة أقبض فيها على سلاح. قال: لتعلم أن كل شيء هنا درس في ذاته، فالسرعة والدقة والمهارة و التعلم من الخطأ أساسيات الحرب، لو فشلت ستموت، فاللعب مرة واحدة ويجب أن تكون الفائز دائماً. وضعني الرجل فجأة في مواجهة الحياة والموت، وكأنه أخذ تعليمات بكشف ضعفي وتعريتي، صاح في أن أنتصب وأمرني بالجري أمامه، مع برودة الهواء شعرت أنني بالكاد ألتقط أنفاسي، كدت أصيح فيه: أنت لا شيء ولا أرضى بك ماسحاً لحذائي. لكن أية حذاء وأنا في هذا الجلباب والسروال القصيرين، حين انتهيت من اللفات التي أمرني بها لم أجده، فقد أوكل رجلاً آخر بإحضار عصير لي، بعد أن ارتشفت رشفات سريعة شعرت أن الآخرين لا ينالون مثل هذه المنحة، أمرت الرجل بإكماله وطلبت منه أن يعلمني فك السلاح وإعادة تركيبه، قال الرجل أن الأمر هين، وأخذ في فك الأجزاء قطعة قطعة، حين وصل إلى النقطة التي ضرب فيها مهيار السلاح بيده قال لي أضرب فإذا بالرشاش يستحيل أجزاءً في يدي، قال ليست المشكلة في تكسيره لكن كيف تعيد تركيبه، أخذ في وضع القطع من جديد منبهاً إياي على أيها في البدء وأيها يليه، كانت عيناي تحدقان كأنهما ستبتلعان الأرض والقطع وأيدي الرجل، كنت أخشى أن يغيب عني شيء فيبطل السحر في يدي، بدأت في تركيبها على مهل حتى لم يبق سوى الخزينة التي فشلت في وضعها مكانها، قال هذه لم أقل لك عنها، أمسك بها وبيدي وهو يقول: لا بد أن تضعها مائلة لأعلى كزاوية حادة، ثم تضغط لتنفرج الزاوية هكذا.. فستسقط في مخدعها، سألته: لماذا نقوم بهذا الفك والتركيب؟ قال: لتنظف السلاح وإلا صدأ وتعطلت القذيفة فانفجر في يدك. ورأيت في عينيه أنهم لا يرغبون في تعذيبي أو النيل مني، لكنها الصحراء التي جعلتهم أكثر جدية مما يطيق رجل مثلي، حين ظهر مهيار على البعد صحت فيه أن يأتي، فجاء يتمشى على مهل، قال: قف. وكلفني بدورات جديدة، صرخت: لم تعاملني هكذا؟ قال: لأنك الآن جندي، وعليك أن تعلم أن مهياراً هذا لا يعمل في حديقة بيتكم، مهيار قائدك وعليك أن تخاطبه بالسيد مهيار، وعليك أن تنصاع لأوامره بالحرف الواحد. درت الدورات كعبد ذليل لا يعرف لمَ يتعمد سيده تعذيبه، قال: قف. فك السلاح، عد تركيبه، قف، أحسنت، انضم إلى الرجال، فوجدتني أركض نحو مجموعة ممن سبقوني إلى التدريب منذ أيام.

في المساء طلبني مجد الدين في غرفة مدير المعسكر، حين ذهبت وجدته لا يتمالك نفسه من الضحك، قلت: أنتم تهينون الناس هنا. قال: هذه حياة العسكرية، لكنك وأنت جندي مدهش. نظرت إلى هيئتي التي ما عدت أعرفني فيها ورحت أضحك، صرت أحكي له ما فعله مهيار وهو يضحك، في النهاية دخل مهيار وهو يتعثر في خطواته، قال: معذرة يا أبا عبد الرحمن. شعرت أنني الآن القائد، فقلت: لا عليك أنا الذي أخطأت. قال بلهجة الحكماء: ليس هناك خطأ، لكنها الأيام الأولى، كل الرجال يكرهون التحكم فيهم، وعلينا أن نحيلهم إلى جنود ينصاعون للأمر لا مدنيين يتصرفون حسب أهوائهم. علمت منه أنه كان جندياً بدرجة رقيب في بلاده، وأنه فصل من الخدمة بسبب ميله الإسلامي، ولما ضاقت به الأحوال إلى تقدم جمعية الجهاد الإسلامي، وهناك دبروا أمر مجيئه، فأوكل له أبو سعيد مهمة تدريب الرجال وإدخالهم حياة الجندية.

كانت الحياة في المعسكر تتمثل في الاستيقاظ المبكر لصلاة الفجر ثم التدريبات الرياضية ثم الإفطار فالتدريب على استخدام السلاح الخفيف، ثم صلاة الظهر والغداء ودرس ديني يمتد حتى صلاة العصر، ثم التدريب على إطلاق النار يليه تدريبات رياضية ثم صلاة المغرب فالعشاء فصلاة العشاء، وعلى الجميع أن يكون نائماً في فراشه بعد ذلك بساعتين لا أكثر، في البدء شعرت بمعانة كبيرة، لكنني كلما رأيت في عين الجميع أنني لن أفلح في مهمتي كنت أعاند نفسي وأنتصب كرجل لا يهزم، تجالدت حتى انتهت دورة التدريب التي استغرقت أسبوعين، كان علينا بعدها الانتقال لمرحلة جديدة، لكنني طلبت إيقاف تدريبي حتى أنهي بعض المهام في بلادي، خمن الجميع أنني لن أعود، فتركوا لي فرصة الهروب بشكل يحفظ لي رجولتي، حين عدت وجدت خالي في انتظاري بالمطار على غير عادته، أخذني إلى البيت وأخبرني بأسوأ ما كنت أتوقع، فقد نفذت أمي تهديدها وتزوجت.

(29)

قلت: مبارك زواجك، بدت دمعة في عينها فوارتها عني قائلة: أشكر لك مجيئك. كنا كقائدين خرجا من معركة مهزومين، لكن أياً منا لا يريد الاعتراف بذلك، قلت: أنا راحل إلى أفغانستان. قالت: عمل جديد؟ قلت:جهاد. صكت صدرها بفزع ورددت الكلمة كأنها صدى الموت، قلت: لا تفزعي، هناك الكثير من الإخوة، وأنا رجل قادر على حمل السلاح في سبيل الله، باحت عينها بالبكاء فتحضرت عيني بالدمع، قالت: ما كل هذا العناد؟ كان بإمكاني الزواج وأنت صبي وما كنت ستمنعني، وقد تزوجت من قبلي عابدات زاهدات. قلت: الأمر لا علاقة له بزواجك. قالت: بل لأنك عنيد. قلت: لي رجاء واحد، لا تجعلي زوجك واحداً من العائلة مهما حدث.

تركتها لأجد خالي منتظراً في العربة، قال أن هناك شخص يود أن ألقاه، لم تكن لدي رغبة في ملاقاة أحد، لكن بهاء الدين أصر، قلت: افعل ما تشاء. طلب الرجل وحدد له ميعاداً بعد ساعة في المكتب. كان شخصاً هادئاً يكبرني بأعوام قليلة، أقرب للقصر منه للطول، عيناه تلمعان بهدوء وسكينة شديدة، شعرت نحوه بطمأنينة كبيرة على نقيض ما حدث مع الشيخ الضرير المتجهم، فقد امتعضت حين رأيته، فأنهيت لقاءه بسرعة مؤكداً أنه سيلقى منا كل مساعدة يحتاجها. أما هذا فرغم أنني لم أكن في حال تسمح بالجلوس مع غيري إلا أنني شعرت بارتياح له، أستطيع القول أنني نسيت أمامه ما لدي من هموم، فهو قائد تنظيم يتبع تنظيم الجهاد المسئول عن قتل السادات، لم تكتشف السلطات نشاطه الذي دام أكثر من خمسة عشر عاماً إلا حين ألقت القبض على صبي كان يحمل بعض أغراضه، رغم هدوئه البادي للعيان غير أن كلماته تحمل حسماً وعزماً لا يخرجان إلا عن رجل عنيف، رجل يحمل مبضع ليس لعمله ولكن لتفكيره، فالثورة لديه لن تأتي من الشارع ولكن من التدبير والتخطيط والاغتيال. ذكرني حديثه بحسن الصباح صاحب ألموت، فهو أيضاً كان صاحب هدوء وتدبير وحسم ويعشق السرية والقوة والاغتيال، لم يعرف نظام الملك أنه على مذهب الشيعة إلا بعد خروجه من سمرقند، بعدها اتجه للري ثم القاهرة ليعطي عهده للمستنصر بالله، لم يتوقع أحد أنه الرجل الأكثر دهاء حتى فوجئوا به ينقل عهد الإمامة من المستعلي لأخيه نزار، ورغم أن الجمالي قبض عليه وسجنه في سرداب مظلم تحيطه الحرس من كل جانب غير أنه استطاع الهرب إلى الأسكندرية، ومنها اتخذ طريقه على ظهر سفينة إلى عكا، ورغم أن السفينة غرقت بمن فيها لكن أحداً لا يعرف كيف نجا ليتخذ طريقه من جديد إلى إيران ثم طالقان، ليستولي على قلعة الموت غير البعيدة عن السلاجقة وغريمه نظام الملك.

تفرست في وجه الرجل ولحيته الصغيرة ثم قلت: كيف خرجت؟ قال: قدمت طلباً للسلطات بأنني مسافر إلى جدة للعمل في إحدى المستشفيات فوافقوا. قلت: كيف؟ قال: رفعت قضية على وزير الداخلية لرفع قراره بمنعي من السفر. أعجبتني ثقته وحرصه على أن تبدو الأشياء طبيعية، لكن صورة الصباح ومطابقتها عليه لم تفارق عيني فسألته عنه، قال: كان ذكياً يعرف طبيعة المكان وأهله وكيف يكتسب ثقة من يلقاه، فعل ما أراده سامحه الله. أعجبتني جملته الأخيرة فتذكرت الضرير حين سألته عن الشيعة فامتعض كمن لدغه عقرب وكفر الجميع، قلت: بلغني أنك رفضت إمامة الشيخ الضرير؟ قال: الإمامة للعالم السليم وهو لم يكن سليماً، قلت لكنه كان الأمير. قال: الإمارة كانت لعبد السلام ولا يجب أن يخلفه رجل جبن أمام السلطات ونفاها عن نفسه، وعلى كل هو من الجماعة الإسلامية وليس الجهاد.

حين خرج وجدت خالي بهاء الدين مبتسماً، قلت علاما كل هذا؟ قال صاحبك يتصرف كأنه صاحب سر، ولولا مهاتفة بعض الأصدقاء في شأنه ما التفت إليه. قلت: لا ضير منه، ولو أصبح في كفتنا فلن يعدله سوى الصباح. قال: ومن الصباح؟ قلت مهرباً نفسي من الحزن الذي طفا عليها: كان في سالف العصر والأوان رجل خدع نظام الملك وبدر الجمالي واستولي على قلاع الهند، وبنى جنة الله على الأرض، فكانت له اليد الطولى في الحرب. قال: مازلت تعبث بتاريخي. قلت: لم يعد تاريخك وحدك، فها نحن نصنع ما صنعوا، وكل ميسر لما أتى له. قال أترى أنك نزاراً وهذا الحسن؟ أشرت بيدي وأنا على وشك البكاء نافياً: بل أنا المستنصر صاحب الشدة يا بدراً الجمالي.

(30)
خريف 1985

لأول مرة منذ زمن أجد أبا سعيد في انتظاري على أرض المطار، ألقيت بنفسي على كتفه ورحت أنشج بالبكاء، هدهد على كتفي قائلاً: تشجع يا رجل، فوراءنا مهام كثيرة. بدا لي أنه على علم بما حدث لكنه لم يشأ مخاطبتي في شأن يخصني، دار بي جولة بين الصخور المؤدية إلى بيت الأنصار، قال سمعت أنك قطعت شوطاً طيباً في التدريب، ندت عني ابتسامة ساخرة، قال لقد فعلت ما لم نكن نتوقعه، هل تريد استكمال التدريب أم الصعود إلى الجبهة، قلت: الجبهة. ندت عن الرجل ابتسامة ساخرة، حين رأى أنني لمحتها من جانب فمه أردف قائلاً: تدريبك لم يكتمل. قلت: حدثني عن أوضاع الجبهة. انصاع للجدية التي أتحدث بها وقال الجبهة ليست واحدة لكنها جبهات، نحن لا نتولى مسئولية القتال فيها لكننا نمد ونعاون كل من يريد المعاونة، مجد ورجاله كما تعلم حديثي عهد بالقتال، وأنا لم أرد أن أكون ضيفاً يجلب المصائب، فاكتفيت بأن أكون في معية من يحتاج للمعاونة، قلت: يعني دورنا يتوقف على الإمداد. قال: مجد حاول أن يكون جبهة منفردة لكن هزائمه المتتالية أقنعته بأن يلعب أدواراً صغيرة، أغلبها الإمداد والاتصال، أما المواجهة فقد تركها للآخرين. صمت قليلاً قبل أن يأخذ نفساً سرعان ما أخرجه من أعماقه قائلاً: إننا ضيوف. قلت: نقدم لهم المال والرجال ويعتبروننا ضيوفاً؟! قال: إنهم يعتبرون مجداً ورجاله دخلاء على الحرب؟ قلت: تلك قسمة ظالمة، إننا شركاؤهم وإن لم يعترفوا بذلك انفردنا بمقاتلينا وننظر أي الفريقين أعلى. قال: لا أنصح بذلك. قلت: لكنني جئت من أجل ذلك.

بدا لي أنني وأبو سعيد لأول مرة على خلاف، وكان على أن أعود للتدريب من جديد، طلبت من الرجال أن يتعاملوا معي كأدنى رجل معهم، وأن يكلفونني بأصعب المهام في العمل، أُخذ الجميع بما أقول لكنهم انصاعوا في نهاية الأمر، كنت أركز في البداية على التدريبات الرياضية بشكل واضح، حتى أنني بحثت عن رجل طلبت منه تعليمي فنون القتال باليد، أستطيع القول أنه كان ساحراً من نوع جديد، أنهكني ضرباً وطعناً ورمياً على الأرض، لم يكن أحد يصدق أنني هذا الرجل الذي يُسحل على الرمال ويقف على حجر بالساعات، لكنني كنت كلما تلقيت ضربة أو صفعة أصبحت أكثر صلابة، كان يومي مقسماً إلى استيقاظ مبكر لصلاة الفجر، يعقبها تمرينات رياضية، ثم هدنة الإفطار والتدرب على رمي المفرقعات وتفجيرها، وهذه كانت أنواع غريبة وكثيرة، منها ما يشتعل بالكبريت ومنها ما ينسف بالبطاريات الجافة، كنا نعجنها بأيدينا من مواد الـ تي إن تي، أر دي إكس، سي فور، سي ثري، و البيتان، على هيئة أحبال صاعقة تسمى كروتكس، وأحياناً على هيئة أصابع ديناميت يوضع فيها فتيل يشتعل السنتيمتر منه في ثانية واحدة، وكنا نقدر زمن التفجير بطول الفتيل، وأحياناُ نضع فيها طرفي سلك متلامسين ونمد السك حتى المكان الذي نكمن فيه، وهذه تنفجر بمجرد توصيل الطرفين الآخرين ببطارية 9 فولت، كنا نشكل المواد حسب المكان أو الثقب الذي نود التفجير من خلاله، وكان هذا التدريب النظري والعملي يستمر حتى الظهيرة، بعدها صلاة الظهر والغداء ثم القيلولة بالنسبة لي، وكانت لا تزيد عن ساعة، بعدها تبدأ تمرينات اليوجا التي تتطلب تحمل الشمس ووهج الظهيرة حتى صلاة العصر، ثم التدريب على فك وتركيب واستخدام أنواع من الأسلحة مثل الكلاشنكوف والأر بي جي والهاون، بعد زوال الشمس كنا نصلى المغرب ونتسامر على العشاء حول أخبار القتال على الجبهات، وكنت الوحيد المسموح له بالخروج من المكان بعد الصلاة، عادة ما كنت أذهب مع أدلة إلى قادة الحرب، كنت أحاول أن أقنع الجميع بأن يكون للمجاهدين القادمين من البلدان العربية دوراً واضحاً غير التموين والاتصال، أستطيع القول أن الجميع سخر من العرب الذين لا يحسنون سوى الطعام ومغازلة النساء، ولا أعلم هل كان شاه مسعود ألطفهم أم أقساهم، فقد رحب أمامي بالفكرة دون أن يمدني بأية معلومات واضحة عما يحدث، علمت فيما بعد أنه قال لرجاله "دعوه ينتحر وننتهي منه مبكراً"، في ذلك الليل البارد الساكن إلا من طلقات الرصاص ونعيب النسور والغربان وأصوات التفجيرات كنت أعبر الممرات من هنا إلى هناك، وحين لا يكون العبور آمناً كان القتال باليد يقضي على ما بقي مني، لكنني للحقيقة أقول أنه أفادني كثيراً، هذا ما أدركته حين أدخلني الرجال في دورة جديدة تسمى إعداد الكمائن والتخلص منها، وهذه كانت تتطلب سرعة وقوة ومهارة وعدم انخداع بهدوء الطبيعة، وكان الأمر يقوم على أن يكمن واحد لعدد من الرجال بآلياتهم، بالطبع كانت الطلقات نوعاً من البمب، وكانت المعارك تدار في أي وقت. مرة كان على أن أكمن لرجلين وفوجئت أن الكمين انقلب علي وصرت أنا المحاصر، تذكرت معاوية وفنونه في الهروب، وجلست أقول "ربي إني لما أنزلت إلى من خير فقير"، وفجأة بزغت الفكرة في رأسي، كان المكان أقرب إلى منحدر تبة كمنت تحتها لتثبيت الرجلين عند مرورهم، لكنني فوجئت بأن الرصاص يئز على عمامتي، ولو أنني تحركت من مكاني لقضي علي، كمنت كفأر في جحر أكثر من ساعتين، وأولت الأمر لنفسي على أنه نوع من تدريبات اليوجا، كنت آمل إما أن يتقدم الرجال وإما أن ينهي الضابط المسئول التدريب، وبدا لي أنني خسرت الجولة وسيصبح أمري في المعسكر نكتة عن الهواة أمثالي، حين طال الأمر ولم يصدر الضابط أي تعليمات قلت أسلم نفسي، فوضعت عمامتي على عصا طويلة ورفعتها، أستطيع القول أن كبريائي منعني من أن أرفع صوتي بالتسليم، فثبت العصا والتففت كجرذ حول الصخرة التي أكمن خلفها، حين حصنت نفسي بشكل كاف، قلت لم لا أكمل خطتي وليحدث ما يحدث، سحبت قنبلة رمل من حزام المتفجرات وألقيت بها عبر عمامتي أسفل الصخرة، فأحدثت صوتاً كان الرد عليه أعنف مما توقعت بكثير، فقد انهالت القنابل على عمامتي حتى لم يعد لها أثر، وأشتعل المكان بنار ودخان جعلاني أموت رعباً، كانت متفجرات حقيقية وليست رماداً أو بمب، ولولا ستر الله والصخرة التي التصقت بضلعها للحقت بالعمامة. لم تهدأ تلك الغارة حتى راح الرصاص يمشط المكان من كل جانب، أدركت أن هذا مقدمة لتمشيط بشري قادم، نفضت أذني من أزيز الرصاص في الصخر وانتظرت أول من يأتي نحوي، كان جندياً أفغانياً يتمتع بالهزال وقصر القامة ويجس الأرض بخنجر رشاشه، كان الخوف والشعور بالموت يملأني، فلم أشعر بيدي وهي تلتف على عنقه وترفعه عن الأرض حتى تراخت أعضاؤه في صمت، سحبته خلف الصخرة وأخذت سلاحه وحزام متفجراته، سمعت صوت انزلاق قدم على فتات الصخر فأدركت أن ثمة آخرون يتسحبون من الصخرة إلى أسفلها، كمنت من جديد وأنا أضع محتويات الحزام في يدي، وبينما هم ينزلون من المنحدر كنت أصعد من الجانب الأكثر صعوبة، كانت أنفاسهم قد بدأت تهمهم بشيء ما، أدركت أنهم لم يجدوا سوى جثة صاحبهم وأنهم سيمشطون المكان الآن بكل ما معهم، لم أكن أعرف ما الذي يفعله رجل في وضعي، فرحت أمطر المكان بكل ما معي كغريق يصارع الموت، حين فرغت الذخيرة شعرت أن الأرض تدور من حولي وأنني أسقط.

كان مدهشاً للجميع ـ ولي أنا نفسي ـ أن هذه كانت محاولة لاغتيالي، فقد صحوت على أصوات عدد من رجالنا وهم يحملونني، قمت كالمجنون أضرب الهواء وأبحث عن سلاحي متصوراً أنهم الأعداء، بدا الجميع واجماً وهم يقولون أنها كانت محاولة اغتيال، سألت عن الضابط والتدريب والرجال الذين كنت معهم، فأخبروني أنهم وجدوا جثثهم مذبوحة على مقربة من الهضبة، حمدت الله على السلامة وهنأني الجميع بها ثم جلسنا نبكي على من فقدنا، قلت لا صلاة على شهيد لكن لا بد من معرفة الخائن ولصالح من يعمل، شعرت أن الكلمة كانت صادمة للجميع وأن الكل سوف يتعرض لمهانة وشك لا يرغب فيهما، تراجعت عن الأمر وأنا أدرك أن ما قلته لن يتم ونحن مخترقون من شتى الجهات، قلت لله الأمر من قبل ومن بعد، وقمنا بدفنهم بالطريقة اللائقة بكل منهم حسب رتبته.

(31)

قلت لأبي سعيد إننا سندخل الحرب، بدا على الرجل أنه غير مصدق، شحب وجهه قليلاً وقال مهدئاً من لهجته: لكن هذا سيخلق شقاقاً عظيماً بيننا وبينهم. كاد الرجل أن يقول لا تجعل جنونك يدفع بك لذبح مئات الرجال في أرض غريبة لا يعرفون طبيعتها، ندت عني ابتسامة ساخرة: هم الذين دفعوننا لذلك. وجم الرجل قليلاً ثم انتصب واقفاً: أرى أن تتروى. كنت أعلم أن هذا خروج عليه كما هو خروج على الآخرين، قرأت في عينيه أن هذه نزوة ستزول بمجرد أن يهدأ غضبي، فالذين حاولوا اغتيالي أفغان لكنني لم أعرف في معية من، لم أفرق على أية حال بين هذا وذاك، وشعرت أننا لن تقوم لن قائمة ونحن سهلاً مفتوحاً تضربه الريح من كل اتجاه، أمرت ببناء بيت جديد يسكن فيه من يتم انتخابهم للانضمام لمعسكرنا، وحتى نرفع من روح الرجال قلنا لن يدخله إلا الأسود الذين سنختارهم من بيت الأنصار، وحتى يتسع لنا الاختيار اتصلت بخالي كي يكثف جهوده لتمويلنا بالمجاهدين من كل مكان، ولو وصل الأمر إلى عمل إعلان مدفوع الأجر، من جانب آخر طلبت من المهندسين أن يجهزوا لنا معسكراً جديداً، قال صهيب نسميه بدراً تيمناً بأول معركة في الإسلام، وافقته وأنا أتذكر قول الفارسي لرسول الله أهذا مكان أنزلكه الله أم أنها الحرب والمشورة؟ قلت لا بد من اختيار مجلس للحرب يضم النابهين والعالمين بفنونه، جاءني الرجال بمكانين فقلت نجعلهما بدرين تيمناً بالاسم.

حين زال غضبي وخفت حدتي أرسلت في مراضاة أبي سعيد، جلسنا معاً كصديقين وليس معلم وتلميذ، تسامرنا طيلة اليوم في كل شيء، وحين اختلفنا في مسألة انفرادنا كجبهة في الحرب قلت: لو أنك كنت شاباً في سني ما رضيت إلا بفعلي. شرد بذهنه عدة عقود إلى الوراء، فتذكر كيف كون شبكة دولية من الإخوان، حين عاد من شروده هش ذبابة كانت تحوم على وجهه قائلاً: الناس ينظرون لك نظرة مختلفة. قلت: يرونني ثرياً لا يزيد عن كونه واجهة تجيئهم من خلالها الأموال والسلاح والرجال. أعيانا النقاش فقمت وقبلت رأسه: لي طلب واحد، لا تعتبر هذا قطيعة بيني وبينك، فأنت شيخي ومعلمي وصاحب الفضل في كل شيء. شعرت أن نفسه سرت بذلك وودعته وأنا سعيد. في الصباح وجدتها فرصة طيبة أن نتحلى بسياسة من لا يمانع في معاملة كل الجبهات على وجه حسن حتى ولو تبين غدرهم، فأخذت في إرسال الرجال الذين لا يقع عليهم اختيارنا إلى معسكراتهم مزودين بالسلاح، من جانبهم رأوا ذلك عود حسن لعلاقات طيبة، كان من بين الرجال عيون يبلغوننا بكل شيء، هذه العيون رأينا التوسع فيها ليس على الجبهات الأفغانية ولكن في الشيشان وألبانيا وباكستان، تلك التي تعد ظهيرنا الذي لا نعرف ماذا نصنع لو تغير علينا فجأة، فرحنا ننفق بسخاء على هذا الأمر.

التقيت عدداً من الأمريكان الذين جاءوا ليعرضوا علينا خرائط أفضل مما في أيدينا، طلبت أنواعاً من الأسلحة متطورة الصنع في بلادهم لكنهم رفضوا، ولم يكن أمامنا سوى البحث معهم عن سلاح سوفيتي بديل، قالوا أن بعض الدول العربية تقوم بتغيير تسليحها الروسي بسلاح غربي ويمكننا شراؤه منهم، اتفقنا أن ندفع ربع الثمن دفعة واحدة والباقي على دفعات نصف سنوية، على أن يصلنا السلاح في غضون شهرين، كان ذلك في فندق شبرد بمدينة لشبونة الإسبانية، وكانت هذه الجولة الطويلة قد كلفني بها أبو سعيد منذ عام لكنني لم أجد لها ضرورة وبهاء الدين يوفر كل شيء، زرت عدداً من المسئولين في بريطانيا والهند وإيران والبرتغال وتركيا، كان البعض مشفقاً علينا من الدخول في غمار هذه الحرب والآخر حذر، وظل السؤال الأكثر طرحاً على موائد النقاش عن مصير الأسلحة والرجال بعد الحرب، أي مصيرنا نحن؟ أكدت للجميع أننا في كل الأحوال نحارب عدواً طغى وتجبر وأفسد في الأرض، لم يكن هذا الحديث مقنعاً لأي منهم لكنه ظل الغلالة التي اتفق الجميع على عدم نزعها، حين رأيت ذلك قلت لنفسي: فلنستفد من أي ريح لأجل ما نحن فيه.

أخيراً عدت للرجال الذين كانوا يتدربون على عمل معارك واقعية بالرصاص، جمع صهيب وأبو عبيدة أكبر قدر من الذين سرحتهم الجيوش العربية، ووضعا كلاً منهم فيما يليق به من عمل جاد، حين اكتمل لدينا ما يقرب من خمسمائة مجاهد مدرب قلت لأبي سعيد: ألم تقل أنه لا ولاية لمن لم يخرج؟ قال: نعم. قلت لذا سندخل الحرب.

كانت قرية جاجي إحدى المواقع الأمامية التي تتمركز فيها مجموعة من الجيش الروسي، قمنا بتوزيع أنفسنا إلى جماعات لا تزيد عن الخمسة عشر، لكل جماعة أمير تأتمر به، وكنت أبلغه بتعليماتي عبر اللاسلكي، و بدوره كان يبلغني بأخبار مجموعته، كان مع كل رجل حزام متفجرات به ثلاث قنابل هجومية وقنبلتين دفاعيتين وعدة أصابع ديناميت مصنعة في المعسكر، وضعنا خريطة المكان أمامنا وأخذنا في دراستها، كان الموقع عبارة عن هضبة شامخة تطل على جميع النواحي المحيطة بها، قلنا أن الاستيلاء عليها سوف يجعلنا نتمركز بشكل جيد ويمنحنا موقعاً يمكننا جعله مركزاً لانطلاق عملياتنا، أخرنا أذان العشاء ساعة عن موعدها، ثم نادينا بالصلاة وأممت الناس، جلست ألقى درساً في الجهاد والمناورة وما هو محرم على المجاهدين، ألا يقتلوا طفلاً أو شيخاً أو امرأة لا تحمل السلاح، وما غنموه فلهم منه الأربعة أخماس وللأمير الخمس كي يصلح به شأن المعسكر والذخيرة، وله كفرد مثلهم سهم، والأسهم لمن اشترك في القتال أو لم يشترك، لأننا جميعاً على الجبهة، ومن لم يشترك اليوم فسوف يشترك غداً. تركنا نصف الرجال لحراسة المعسكر وتأمين الظهر، وحملنا أربعة مدافع هاون على البغال، ووزعنا على كل مجموعة مدفع أر بي جي مضاد للدبابات، وخرجنا بعد انتهاء الدرس نقطع مسافة خمسة كيلو مترات عبر طرق رفيعة بين التلال والأحراش، حين اقتربنا من الموقع افترقنا على نحو أربع مجموعات، واحدة معي من القلب وواحدة من يسار الموقع والثالثة من يمينه، وتركنا مجموعة لا تطلق الرصاص ولا الهاون ولا أي من المتفجرات إلا حين يصبح مخزن سلاح الموقع على مرمى نيرانهم، تلونا الشهادة ورحنا نتسلل عبر الأحراش في صمت، على حدود الهضبة استللنا الخناجر ورحنا نطعن بها الظهور والرقاب، نجحنا في الخطوط الأولى رغم الجهد الذي بذلناه، جاءتني معلومات بأن المجموعة المتجهة إلى داخل الموقع لتفجير مخزن السلاح قد دخلت بالفعل، أعطيت أوامري للمجموعة التي على اليسار بنصب مدافع الهاون ودك المباني التي في الموقع، وتسللت المجموعة الثانية إلى الداخل للاقتراب من العدو، فجأة أطلقت صفارات إنذار عالية، لم تكن المدفعية قد ألقت بشيء بعد، أمرتهم بالإسراع كي تتوجه الأنظار نحوهم، بالفعل أطلقوا عدداً من القذائف، لكن أضواءً كاشفة قد اشتعلت لتضيء جنبات الهضبة والموقع برمته، فصرنا عراة أمام الكشافات ومدافع الكلاشينكوف، وراحت طائرة مروحية تحلق على المكان، أمرت الجميع بالاختباء ومحاولة إصابة الطائرة، فجأة أمطرت الطائرة مجموعة اليسار، أمرت مجموعتي أن تتقدم، زحفنا على الصخور ورشاشاتنا مرفوعة نحو الهواء، تناولت مدفع الأر بي جي وهرولت بأقصى سرعة نحو الطائرة التي حومت عن قرب، اصطدمت قدمي بصخرة فتدحرجت على الأرض عدة أمتار، حمدت الله أن الدحرجة انتهت بي إلى مكان يمكنني أن أعدل من نفسي فيه وأطلق، كان الطيار قد انتبه لي فاستدار نحوي، لكن القذيفة لحقت بذيل المروحية فتأرجحت في الهواء قبل أن تسقط على وجهها محدثة انفجاراً زاد من ضوء المعسكر وغيظ العدو، هتفت الله أكبر والرصاص يئز على رأس الحفرة التي كمنت بها، كانت مدفعية الكلاشينكوف المثبتة في أماكن لا أعرفها تمطر زخات هائلة، وبدا لي أن صيحتي بالتكبير كانت مسموعة للجميع، فقد تقدمت مدافع الهاون لإطلاق عدة ضربات في اتجاهات متفرقة، أخيراً أصيب كشاف بعطل جراء زخة مقابلة من كلاشينكوف أحد رجالنا، لكن المجموعة التي صارت على مقربة من دشم السلاح راحت تمطرها راجمات صاروخية، لم أعرف كيف ابلغهم بالتراجع، فقدمي عليها سائل لزج ولا أستطيع الوقوف، بدا لي أن الجميع شغل عني، فرحت أزحف حتى خرجت من الحفرة، وجدت رجلين من رجالنا جاءا يحملاني إلى حيث موقعهم، تناولت اللاسلكي ورحت أجأر في مجموعة اليسار بالتقدم، لكن اللاسلكي لم يكن يجيب، هتفت على المجموعة التي ترجمها الصواريخ بالتراجع، وأمرت مجموعتي بالتقدم، راح الرجال يطلقون زخات من مدافعهم وهم يهرولون نحو العدو ثم يلقون أنفسهم خلف أو تحت أي شيء، أخيراً رأينا دبابة تتحرك من موقعها، طلبت التصويب عليها ففعلوا لكنها لم تصب، ناور قائدها وتراجع لكن مدرعة أخرى ألقت بقذيفة مدوية على موقع التقدم، رأيت وسط اللهب أشلاءً طائرة فاشتعل غضبي ويأسي، لم يوقظني مما أنا فيه سوى انفجار كبير رأيت فيه براميل زيت طائرة، أيقنت أن مخزن الوقود أصيب، لكننا لم نكن قد سيطرنا على شيء، ولو استمر القتال هكذا ستفنى المجموعة كاملة، أمرت بنشر أحبال الصواعق وتلغيم رؤوس المدقات ثم التراجع، هتفت في المجموعة التي كانت بالداخل، لكن أحداً لم يجب، هتفت بالمجموعة التي معي لتخفيف الضغط عن مجموعة الداخل، فجأة نصب أحد الرجال مدفعه وقذف برجاً اشتعلت على إثره صفارات الإنذار، ويبدو أن العدو حدث له ارتباك ما، كانت فرصة لأن نطلق عدداً من قاذفات الأر بي جي عليهم بينما المجموعة التي بالداخل تتراجع، أمسكت بالرشاش الذي معي ورحت أطلق زخات نبهت الجميع لوجود رجال في هذا المكان، هجم على أصحابي وحملوني إلى الوراء، وبينما نحن نتدحرج من على الهضبة هتفت فيهم الصواعق والألغام، تركني أحدهم وعاد يهتف في اللاسلكي بالتفجير، كانت العربات العسكرية قد بدأت تنطلق نحو المنحدر، بينما مدرعتان تتحركتا في اتجاهنا، أخيراً اشتعلت أحبال الكروتكس فأصابت عربة، لكن المدرعة مرت كما لو أن شيئاً لم يحدث رغم كل هذا الضوء الباهر، أدركت أننا منتهون، لا أعلم من أين جاءت هذه الضربة فتعطلت المدرعة، وضعني الرجال على ظهر بغل مصاب وراحوا يلكزونه بما في أيدهم ليسرع، على مبعدة كيلو متر أو أكثر وقفنا ننتظر عودة الرجال، كانوا جميعاً جرحي، وكثير منهم فُقد، لكن أحداً لم نسمع بأسره، نزلت من على البغل وقلت نعود جميعاً متكئين على بعضنا البعض، كان خوفنا أن تلاحقنا الدبابات، لكن أياً منها لم يظهر، فقط لاحت مروحية اختبأنا قبل مرورها على المكان، وظللنا مختبئين في انتظار من قلنا أنها سترسلهم، لكن شيئاً لم يحدث، فخرجنا نجر أنفسنا حتى اقتربنا من موقعنا، قلت لن نخبر الناس بأننا هزمنا، سنقول أننا كبدنا العدو خسائر فادحة، قالوا هذا حدث بالفعل، قلت لا نريد إحباطاً للآخرين، عسى أن يمن الله علينا بالنصر في المرة القادمة، كان الرجال يأمنون على الحديث وهم ينظرون إلى أعضائهم المصابة وصور أصدقائهم التي تطايرت في الهواء.

(32)

لا شيء يمكن إخفاؤه في هذه الصحراء هكذا قال أبو سعيد وهو يشد من أزري، غالبت البكاء وأنا أقول: لقد هزمنا. قال: وهل كنت تعتقد أنك ستفوز من الجولة الأولى؟! الحرب ليست نزهة، أذكر أن شاعراً قال عنها "إنها الحرب، قد تثقل القلب، لكن خلفك عار العرب، لا تصالح، ولا تتوخ الهرب". كاد الرجل أن يضرب لي مثلاً بمجد الدين وتلامذته لكن لا تصالح أمسكت لسانه فقال: مجد... يبلغك سلامه ويشد من عزمك. قلت: مجد يريد أن يقول عليك أن تقنع بما قنعنا به من قبلك. طأطأ الرجل رأسه قائلاً: إنه مشفق عليك، فقد أصبت وكاد الموت أن يأخذ رجالك. قلت: لكن الآخرين ليسوا أفضل، إنهم فقط أحرص على الحياة منا، ولولا هذا ما بقي الملاحدة في بلاد الإسلام كل هذه السنوات، ما يصنعونه ليس حرباً بل مناوشات، أين هم من كابول أو جلال آباد أو مزار شريف؟ أين هم من المواقع المهمة؟ فقط يناوشون ويدعون أنهم يعرفون الحرب أكثر من غيرهم، لا لشيء سوى أن الإصابات والقتلى في صفوفهم أقل. كنت أتحدث كأسد جريح يثأر من الآخرين لأنهم فضلوا الاستمتاع بهزيمته عن مد العون له بأي شكل، وهاهم الآن يريدونه أن يقنع بما قاله عمر بن أبي ربيعة "كُتب القتل والقتال علينا، وعلى الغانيات جر الذيول"، نعم يريدوننا فقط للمؤخرة والإمداد وجر الذيول. هدهد الرجل على كتفي قائلاً: أنت متعب. قلت: الطبيب يمر الآن على الرجال وحين ينتهي سيأتيني. قال: لا عليك. قلت: إنشاء الله سنلتقي في كابول. فغر الرجل فاهه وعينيه وكاد يبتسم لكنه قال: إن شاء الله، إن شاء الله.

خرج أبو سعيد وفي عينيه نظرة إشفاق علينا لا حدود لها، ناديت مجلس الحرب وقلت: ماذا يقول الآخرون عنا؟ فغر الجميع أفواههم وقالوا لا شيء، قلت: تحدث يا أبا عبيدة. صمت الرجل قبل أن يقول: الجميع يرى أن ما فعلناه جنوناً. أدركت أنهم يقصدونني أنا، وتذكرت أن بي جزءاً من جنون، لكن جنون من؟ المختار أم شبيب أم عمارة بن الوليد الذي لم يصدق أي من رفاقه أنه دخل خدر النجاشي ونام مع محظيته، فطالبوه أن يأتيهم في الغد بدهانه وعطره وقطعة من ثيابه كي يصدقوا، علينا أن نقتل المحظية عشقاً إلى أن يسمع النجاشي صراخها في إيوان ملكه. رأى أبو عبيدة ما على وجهي من شرود وحزن فتأتأ مخففاً من وقع جملته: يقولون أننا زججنا بأنفسنا في أمر لا تطيقه الجبال. صرخت فيه: لا يطيقونه هم، أما نحن فقد قال لنا الله تعالي "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل"، يا أبا عبيدة عد إلى تدريب الرجال من جديد، أريدهم أكثر صبراً من البغال وقوة من الأسود وجرأة من النمور، يا صهيب، أريد أكبر قدر من المتفجرات في حوزتنا، أما أنا فأريد الطبيب الآن. هتفوا على الرجال بالخارج أن يرسلوا الطبيب، كانت لحظات قصيرة لكنها متسعة بطول التاريخ والجغرافيا، لحظات تجاور فيها كل شيء، القديم مع الجديد، الماضي مع الحاضر، ابن المغيرة مع أبي سعيد، وأبو طالب يقول: سألت ابن أخي ما سألتموني فقال: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أقتل دونه ما تركته.

حين أفقت وجدت الرجال ومعهم رجل قصير في ملابس أزهرية، قالوا: الطبيب. نظرت فإذا به الصباح، قلت: حسن! دهش الجميع وظنوا أنني أهذي، قالوا: مصري جاء منذ أيام إلى بيت الأنصار فأحضرناه يداوي الجرحى. قلت: جئت في وقتك. مد يده فكشف عن ساقي فإذا هي بيضاء، قال لم يكن أمامنا سوى أن نعطيك مخدراً ونقوم بتجبيرها، فمن عمارة ومن المختار؟ ضحكت حين علمت أنه وضعها في شاش، وعلى الشاش ورقة مغراة، وعلى الورقة شاش محاط بعصي ثم شاش جديد، قلت أهكذا تداوون الناس في بلادكم؟ قال: الفلاحون والبدو ويفعلون ذلك، أما المدن فتستخدم الجبس، قلت والرصاص والجروح؟! قال: الكي أفضل، وابتسم قائلاً: وأيسر. قلت: هل تحزن لو ناديتك بالصباح؟ قال: تيمناً بفاتح القلاع؟! هذا حسن.

حين تماثلت للشفاء ناديت أبا عبيدة والفضل ويسار وصهيب والعباس والصباح وقلت:سأغادر البلاد، فما الذي نريده من سلاح؟ أعطوني ورقة بها مفردات عديدة، قالوا: لا غنى عنها. قلت أريد تقسيم الرجال على مجموعات حسب بلدانهم، وتوجهت بنظري إلى صهيب وقلت أريد مجموعة تبايع الله على الشهادة يتمتعون بالذكاء والسرعة والمهارة، تدربهم على أقسى فنون القتال وتضعهم في بيت خاص لا يعرفه سوانا. ثم توجهت نحو الصباح وقلت: الآن جاء دورك، أريد مجموعة للاستطلاع وجمع الأخبار، أريد أن ندخل ونخرج من جاجي كأنها موقعنا وليس موقعهم، أما أبو الفضل فعليه بنقل السلاح إلى مغارات قريبة منهم، لا أريد أن تتباعد خطوطنا عنهم، وصهيب عليه أن يستقبل الناس ويقسمهم ويوزعهم حسب الخلايا والبلاد، ويرسل لمن استشهد ما يعول أبناءه، وعلى الجميع الحذر والعمل في السر والطاعة لأبي العباس في غيابي.

لم أشأ أن أستخدم العربة أو يصاحبني أحد، فتسللت بالجواد حتى اختفيت عن الأنظار، وقطعت المسافات ركضاً حتى وصلت إلى بيشاور ومنها إلى إسلام أباد، كان مدهشاً لمن هناك أن يطلب رجل بهيئة رثة ملاقاة وزير، قلت ابلغوه أن أبا عبد الرحمن بالخارج، حين جاء دفعت به إلى داخل مكتبه قائلاً: دفعنا أموالنا وأنفسنا لمناهضة الملحدين وأنتم تجلسون في مكاتبكم المكيفة وتتركوننا عراة في الصحراء، أين ما طلبناه من سلاح؟ وأين أنتم من الإسلام؟! هدأ الرجل من روعي قائلاً: لم نتأخر وقد وصلتك دفعة. انفجرت فيه من جديد: السلاح يباع في أسواق الخضار والمجاهدون يصطادهم الروس بالنبال!. قدم الرجل نوعاً من العصائر وهو يبتسم: لو انتصرت في المعركة ما كنت ستعاملنا بهذا الحنق. أخرجت الورقة من بطانة الجاكت وقلت: هذه طلبات الرجال أريدها في أيديهم قبل أسبوع. قال الأمر أصبح عصيباً عليكم، فقد زود الروس الموقع بالمزيد من المعدات، ولو حاولتم... سيسصطادونكم بالنبال كما تقول. ابتسمت بطريقته الباردة: هل تثبط عزيمتنا؟! قال: لا ولكني أخبرك بالواقع، فالروس لن يتركوا جاجي بأي ثمن، وجورباتشوف انزعج مما حدث. قلت لذا نريد أجهزة تصوير واستطلاع ولاسلكي ومدافع مضادة للطائرات وأخرى للمدرعات. قال: لديكم. قلت: أكثر تطوراً. قال: ومن سيدربكم عليها؟ قلت: وماذا تفعلون هنا؟ وقبل أن يبحث في رأسه الصغير عن سؤال أو حكمة جديدة مددت يدي فأخرجت مظروفاً تطل من فتحته حفنة دولارات وقلت: سأرسل في طلب الرجال لتقوموا بتدريبهم حتى يصل السلاح. ابتسم وهويضع المظروف في أدراج مكتبه: نرسل نحن من يدربكم عليها. رفضت وشددت على أن يصل السلاح في أقرب وقت، ثم مددت يدي للسلام عليه قائلاً: أريد جوازاً أحمر. طأطأ الرجل رأسه باتجاه الأدراج وهو يقول: هذا محبة مني.

كانت الرحلة طويلة من كراتشي إلى نيودلهي إلى اسطنبول حيث التقيت ببهاء الدين، طلبت أن يرسل المزيد من الرجال وشحنة من البغال القبرصية، قال أن زوجتي الجديدة تسأله عني، قلت: ارسلها. ثم ودعته متخذاً الطائرة المتجهة إلى برلين ومنها إلى لندن ثم باريس، تحدثت هناك عن العدو الروسي وعدالة الإسلام، شددت على أهمية دورهم في مساعدتنا للقضاء على الدب الروسي إن لم يكن بالنفس فبالمال و السلاح، كان هذا جانباً رسمياً، بدا لي من نظراتهم أنهم يقولون افعل شيئاً نصدقك من أجله، لكنهم على كل زودوني بصور حديثة التقطتها الأقمار الصناعية للمدن والمواقع الأفغانية الهامة، كان من بينها جاجي بالطبع، حصلت أيضاً على عدد من المناظير وكاميرات التصوير الليلية، ووعد بالمال والسلاح في وقت لاحق. درت دورة موازية على عدد من مساجد الإخوة في هذه المدن، وخطبت مرتين في مسجد ببرلين وآخر في لندن، شرحت الجهاد الإسلامي وحاجتنا للمال والسلاح والدعاء، وددت زيارة مسجد الصحابة لكن ذلك ذكرني بأيام أردت نسيانها فحملت حقيبتي واتجهت إلى المطار، استغرقت الرحلة شهراً لكن الخير كان وفيراً، وجدت الرجال عادوا من تدريبهم، والسلاح في أيديهم، والبغال تدب على الأرض، وزوجتي اليمنية تنتظرني في مسكن زوجة أبي عبيدة. رحنا نتدرب على السلاح نهاراً وننقله إلى المغارات ليلاً، والصباح يجمع المعلومات ويرسل من يصور تفاصيل الموقع، أمضينا ستة أشهر ولا نحلم في الليل أو النهار إلا بالثأر لأنفسنا، وكلما رأى أبو سعيد وغيره تدفق الرجال علينا من كل حدب كانت طلباتهم تزداد أكثر، حتى بدا لي أن أحداً منهم لا يصدق أننا سنذهب للقتال،ساعتها شعرت أن العدة قد اكتملت ولم يبق إلا نصر الله.

(33)
خريف 1986

كنا نزحف في تجاويف الصخور بينما أضواء المروحيات تبحث عنا في كل مكان، هكذا استطعنا إثارة غضبهم بعدما ذبحنا عشرات الجنود وأطلقنا العديد من القذائف على مواقع مؤثرة في تلك القرية الرابضة على الهضبة الشامخة، وكلما كانت المروحيات تحلق على أمتار غير بعيدة من رؤوس الجبال كان الرجال يخرجون من شقوقهم ليصوبوا عليها بجسارة فائقة، دائماً ما كانت تتراجع المروحيات وتجيء الطائرات الحربية لتقصف كل شيء، حين نوقن أن الدب قد انتفض من نومه نسكن في مخابئنا لنعاود الهجوم بعد أن تنتهي غارته، هكذا مرت الأسابيع الأولى من القتال والرجال تنقضون في أي ساعة ثم يختفون لتجيء الطائرات والمدرعات فتتنزه في المكان، شددنا على الجميع بتسهيل الأمر عليها مهما كبدنا هذا من خسائر، فراحوا يشعرون العدو بأنهم لا رغبة لهم حتى في الاقتراب من الهضبة، وراح الروس من جانبهم يتعاملون معنا كهواة يريدون التواجد على جبهة الحرب، من جانبنا لم نعد نبكي ونحن ندفن أشلاء أصدقائنا بل نزداد حنقاً ورغبة في تكبيدهم خسائر مماثلة، كان التدريب يتم على هضبة مماثلة في المعسكر، وكان الرجال يتسلقون بالمدافع والمتفجرات إلى سطحها، وكان يكفي أن يصيح القائد بكلمة غارة حتى يختفي الجميع في أقرب الأماكن تحصناً، والويل لمن يتصور أن التدريب فسحة وليس حرب حقيقية، حين كانت تكتمل عدة الرجال كنا ندفع بهم إلى المواقع الأمامية لرؤية الحرب عن قرب، لم نكن نتعجل أي شيء، فقط يتعود الجميع على صوت القنابل والصواريخ والغارات التي تجيء في أي وقت، نقلنا أيضاً مركز القيادة من يدر واحد إلى المواقع المتقدمة لتقترب خطوطنا مع بعضها البعض، وقسم أبو عبيدة رجاله إلى مجموعات لا تزيد الواحدة عن عشرة رجال، كانوا يتعايشون معاً كما لو أنهم كتلة لحم واحدة، يأكلون ويتدربون ويتسامرون وينامون معاً، وجعلنا لكل جناح معسكر يتآلف فيه كأنه جيش مكتمل، وبينما الصباح ينتخب رجاله من بينهم كان صهيب ينتخب رجالاً أشداء يتمتعون بالمهارة والسرعة لتلقي الشهادة. ذات يوم غير الروس طريقتهم وبدلاً من أن تخرج المروحيات أو ترد المدفعية فوجئنا بسرب طائرات حربية تطلق صواريخها عن بعد، لم تسمح المباغتة للرجال بالانسحاب كما اعتادوا إلى المغارات أو تجاويف الصخور، كبدتنا هذه الغارة خسائر فادحة، وراح الرجال جميعاً يطلبون الشهادة ثاراً لإخوانهم، خطبت فيهم بالصبر وانتظار النصر، خطبت أيضاً بالتزام الأوامر والطاعة المطلقة، فقد أبلغ رسول الله الرماة في غزوة أحد بالتزام مواقعهم قائلاً: إن رأيتمونا نهزم فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركونا. لكنهم خدعوا بالنصر، ونزولوا من أعلى الجبل، فتحول نصرهم إلى هزيمة، فهل تريدون الصبر والطاعة أم تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة؟ فهتف الجميع: الصبر والنصر، فقلت: وبشر الصابرين.

كان علينا أن نغضب الدب الروسي بشكل يجعله ينزل إلى السفح، فجهزنا عشرة رجال بايعوا الله على الشهادة والموت، دفعنا بهم إلى الجانب الشمالي من الهضبة لدخول الموقع، قلنا لهم أن يضربوا بكل ما لديهم من قسوة ثم يهبطوا أمام الجميع من جهة الجنوب، نريدهم أن ينزلوا خلفكم، وكلما كنتم أكثر طمعاً في الهروب كلما غرتهم قوتهم وجاءوا إلنا، كالعادة أطلقت المدافع قذائفها، فخرجت المروحيات تحلق على المكان، قلنا للكامنين على رؤوس الجبال أن يفزعوها لتعود، كنا نعلم أن ذلك يعني مجيء سرب طيران ليخمد كل شيء بقذائفه الصاروخية، أصبحنا نعرف اللعبة ونديرها أيضاً، عادت المروحيات بالفعل من حيث أتت، وصعد الرجال إلى حيث أمروا، وجاء سرب المقاتلات ليصفع الجبال بالصواريخ، وكان الروس ينظرون من أعلى الهضبة كمن يشاهد فيلماً معتاد إلى حد الرتابة، ما إن أفرغت المقاتلات شحنتها وعادت حتى بدأ المعسكر يدوي بصفارات الإنذار، فقد تحطم الردار وأطلقت القذائف من داخل المعسكر على أبنية القادة ومبيتات الجنود، وراح الرجال يفرون مطلقين رشاشاتهم على كل ما في طريقهم ناحية الجنوب، كانوا يهبطون في مشهد عبثي، في المقابل دفعنا بخمسين رجلاً في اتجاههم من أسفل التل، بدا السفح كأنه مليء بالأرانب الجبلية التي تحتاج لمن يقتنصها، حين خرجت المروحيات ردت عليها القذائف، ولما كان الرجال عراة وفي حوزة الروس تقريباً تحركت المدرعات والعربات المصفحة نحو السفح، لم يكن الرجال يكمنون كما اعتادوا بل هروا متدحرجين على النتوءات والرمل، وراحت المجنزرات تنطلق خلفهم، مناوشات بسيطة يتوقف الفارون ليقوموا بها، فتطمع المدرعات في حصدهم، أخيراً أصيبت واحدة بعطب، وهجم الرجال نحو طاقمها، بينما انشغلت الأخريات بالدفاع عنها وعن أنفسها، نزلت مدرعات جديدة، وظهرت مروحيتان في الأفق، أصيبت إحداهما ودوت في طريقها إلى الأرض، تراجعت الأخرى وسط نيران وقذائف من رؤوس الجبال، أعطينا أوامر بالتراجع والاختفاء، حين جاءت المقاتلات أفرغت نصف شحنتها بجانب المدرعة التي أصابها العطب، تراجع كل شيء وبدا المشهد ساكناً والروس يحاولون جذب مجنزرتهم، فجأة نادى أبو عبيدة بالقذائف التي راحت تنهال عليهم، لقد خسروا بالفعل هذه المرة وانتقمنا لمن استشهدوا في غارتهم بالأمس.

قال صهيب علينا أن نفعل معهم هذا أيضاً في الغد، قلت: لم يعد هناك غد، فإما أن تقتلهم وإما أن يقتلوك. مددت يدي وأنا أتحدث جامعاً الرمل على هيئة هضبة شامخة: لن يأتي المساء حتى تجدوا هذه الهضبة تنسحب نحونا بمقاتلاتها لتبيد كل شيء، وحين نفر ستعمل المدرعات كما تشاء، سنصبح فريسة لهم. ران الوجوم على وجه الجميع، قلت ليس أمامنا سوى العمل في وضح النهار وبعيداً عن أعينهم، سننتظر اللحظة التي سيخرجون فيها لنحرق لهم فكرة العودة إلى أعلى، علينا أن نتسلل في وضح النهار من هنا وهنا، وأشرت إلى الجانب الشمالي حيث يأتيهم التمويل، والجانب الشرقي الذي ليس به ممرات لنزولهم، خمسون من هنا وخمسون من هنا، ونبقى كما نحن على رؤوس الجبال، وفي المواجهة نعد ميمنة ويساراً وقلب، لن نبدأ القتال معهم حتى نسيطر على الهضبة من أعلى، ومن ينصره الله فلا غالب له.

أخذ الرجال في التسلل نحو الهضبة، وراح الجميع يعد له مكامن جيدة تحسباً لتمشيط الطائرات، أخذنا الحذر دليلاً في كل شيء، وصلت جماعة الجانب الشرقي إلى أماكنها بيسر، أما جماعة الشمال فكان عليهم التخفي والمراقبة حتى لا تلحظهم عربات الدوريات التي تأمِن الإمداد، جاء المساء وكل قد اتخذ مكانه، لكن الروس لم ينزلوا من قلعتهم، كأنهم نسوا ما حدث في الصباح، وكأنهم صفحوا عنا وقرروا البقاء على قمتهم الشامخة، حتى الطيران لم يأت، ولا صافرات الإنذار، ماذا حدث؟ هل هناك من أبلغهم بخطتنا، أم أننا أعطيناهم فوق قدرهم؟ أخذ القلق ينتابني، صلينا العشاء وظللنا نترقب، لا شيء سوى البرد والثلج ونعيق النسور، أخيراً على العاشرة ظهرت مروحية ألقت بكشافها على الأرض في اتجاهات عدة، قلت لقد علم القوم بنا، قلت لو علموا ما تركوا الهضبة محاطة بالرجال من كل جانب، قررت أن أترك القيادة لأبي عبيدة وإلا أصبت بالجنون، خرجت أتمشى أمام الكهف فلم أستطع الصبر ولا التراجع، لدي يقين بأنهم سيفعلون ما تصورته، ليس أمامهم سوى ذلك، قلت لأبي عبيدة أنني سأتسلق الجبل الغربي، صرخ في بأن هذا جنون، الجبل كظهر رجل منتصب وجلد صبية حسناء، قلت الموت بين الرجال أفضل من أن يقول أحدهم أننا دفعنا بهم للموت في الجليد وجلسنا نتسامر في الكهف، حملت سلاحي وناديت على صهيب أن يتبعني في عدد من الرجال، فلا نامت أعين الجبناء. خف الجميع خلفي لنعتلي جدران الشاهق الباسق، أدركت بالفعل أنهم كانوا على حق، فمن الصعوبة أن تصعد نهاراً بنفسك، فماذا عن الظلمة والأسلحة، وددت لو أقول لهم بالتراجع لكنني خشيت من تندرهم فيما بعد، هم أيضاً كانوا يودون القول بالرجوع لكنهم خشوا من استصغاري لهم، بعد عناء طويل وصلنا إلى منطقة نتوءات ومنحدرات بسيطة، كانت أفضل بكثير من الأولى، قطعنا المسافة في ثلاث أو أربع ساعات ألقينا بأنفسنا بعدها على الأرض، ولو أن أصغر جندي روسي جاءنا لسلمنا له أنفسنا بأيدينا، لكن هذا لم يحدث ولم يطل، فقد تعالى أزيز المقاتلات التي راحت تمشط الجبال، تفاءلت بأن الأمر كما توقعنا بالضبط، رحنا نركض ونختبئ حتى اقتربنا من قلب الهضبة، رأينا رطلاً من المدرعات يتحرك نحو الممرات، هتفت في أبي عبيدة باللاسلكي أنهم نازلون إليك، هتف بدوره في الجميع بالاستعداد، رأيت بعض رجال الجانب الشرقي يتسللون نحو مخزني وقود وأسلحة، رأيت مجموعة الشمال تنشر حبال التروتكس في ممرات الإمداد، أرسلت رجلين ممن رافقوني لإمطار غرفة الكهرباء بالقنابل مع أول ضوء للكشافات، لم تكد المدرعات تتخذ طريقها نحو منحدر الهضبة حتى اشتعل مخزن الوقود، ورد عليه مخزن الأسلحة بانفجار أعظم، لم تكن الهضبة في حاجة إلى صافرات الإنذار التي دوت ولا الكشافات التي دارت على الرؤوس، لكن صاحبينا أخمدا كل شيء قبل أن ينتبه الراصدون لرصدنا، فأصبح كل من على الهضبة متساو في الرؤية، وتوالت الانفجارات في أماكن نعرفها ولا نعرفها، رأيت الرجال يرشقون بوابات الهضبة بالقاذفات، رأيت أيضاً انفجاراً على الجانب الشمالي فأدركت أن خطوط الإمداد قد قطعت، دارت بعده معركة بالرشاشات والقذائف لم يغط عليها إلا صوت المعارك التي دارت في الجنوب، بدوره تسلل صهيب نحو مروحية كادت أن تقلع لكن قاذفته أنامتها من جديد، بدا لي المشهد عبثياً، فلم أعد أعرف من يهرب ولا من يقاتل، الكل يجري مطلقاً الرصاص، والانفجارات تدوي في كل مكان، في فرارنا اصطدمت بجندي رطن بكلمات لم أفهمها ثم تشنج في مكانه، أخذت ما معه من ذخيرة وتركته دون أن أطلق عليه الرصاص، بدا أننا سيطرنا على الهضبة، فالنيران تشتعل في كل جانب، والطيران لم يأت بعد، ورجال الشمال استبسلوا في معركة لا يوازيها إلا معركة الجنوب، بدا أيضاً أن رجالنا يزدادون اشتباكاً مع الدبابات التي في طريقها للنزول، وعلى البعد رأيت رجلاً ضخماً يتجه نحو عربة أمام غرفة القيادة، صرخت في صهيب أن يأسر الرجل، رأيته يزحف حتى اقترب من المكان ثم انتصب مهرولاً وهو يفرغ رشاشه على العربة، كان الرجل كمن انتظر قضاء الله فيه فوقف مستسلماً حتى انقض عليه صهيب واستدار به إلى داخلها، لم أعرف من فيهما أسر الآخر لكني وجدت الجنود يتجهون نحوهما، فتقدمت نحوهم وفتحت النار بعشوائة وجنون، ورأيت لهباً يخرج من العربة عليهم، فأدركت أن صهيباً مازال حياً وأن غريمه أصبح شيئاً مختلفاً عما كان عليه منذ قليل، فجأة توقف اللهب وراحت العربة تتلقى الرصاص من كل جانب، بدا أنهم أيقنوا أن من في العربة قد مات فاستداروا يطلقون رصاصهم نحوي، تراجعت وقد شعرت بضرورة الهرب وإلا لحقت بصاحبي، على مقربة مني سقطت قنبلة فألقيت نفسي على الأرض وغطى الرمل الساخن جسدي، ألقى صهيب بالجثة التي حارب من خلالها، ألقى أيضاً بعدة قنابل في اتجاهات متفرقة ثم فتح نيران رشاشه ليغطي انسحابه نحوي، حين وجدني حياً صرخ في وهو يضغط على الزناد أن غريمه كان القائد. خف التوتر حين انسحبنا بعيداً عن مرمى النيران، وقلت ظننتك قتلت لكن هذا أول النصر. حين ظهرت المقاتلات في طريقها نحو الهضبة هتفت في أبي عبيدة لأعرف ما الذي حدث، قال أن بعض المدرعات أصيب بالعطب ويحاولون جرها إلى للهضبة، قلت لا تتركوا الجبناء فيعودوا ليقاتلوكم، لم ألبث حتى رأيت قذيفة انطلقت على دبابة في أول الممر فتعطلت وأغلقته على غيرها، وراحت المقاتلات تدك السفح هذه المرة، كانت تحمي المدرعات الهاربة نحو الشمال، خمنت أن أمراً صدر بتغطية الانسحاب، وأنها عما قليل ستدك الهضبة نفسها، جاءني صوت أبي عبيدة بأنهم يفرون، أمرته بمد جبهة الشمال بالرجال حتى لا يكبسنا الروس بالإمداد منها، قال أن الدبابة العاطبة على الممر تحتاج ساعة على الأقل لإزاحتها، بالفعل غيرت المقاتلات وجهتها وجاءت لتدمر الهضبة من الداخل، لكن هيهات، فقد صعدنا ولن ننزل إلا بالموت، ويبدوا أن الروس أدركوا هذا أيضاً، فلم تأت مقاتلاتهم إلا مع الصباح البارد لإنزال جنود على الهضبة،كانت طائرة الإنزال عظيمة كملكة النحل، بينما المقاتلات تحوم حولها كخادمات تبحث عن غذائها في كل مكان، هتفت في السماء: ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير. حين عدت ببصري وجدت مهيار يرتدي ملابس جندي روسيي وأبا عبيدة أسيراً بين يديه، كانت وجهتهما نحو طائرة الإنزال، فتركتهما المقاتلات يمران دون خوف، فلما بلغا نصف المسافة وقع أبو عبيدة رافضاً السير، وانهال عليه مهيار ضرباً وتهديداً بالقتل، وكاد الروس أن ينتبهوا لولا أن قذيفة أطاحت بالمشهد كله، فقد تحول الدب الجاثم على الهضبة إلى كتلة من نار، وراح مهيار يطلق زخات رشاشه على المروحية التي تحرسمهما، ولم تمض ساعة حتى أيقن الروس أنهم خسروا المعركة والقلعة الحصينة، فرحنا ننشد: قل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.

(34)

لا أحد يستوعب ما حدث، كيف تنازل الروس عن قلعتهم الحصينة؟ وكيف اعتلاها هؤلاء العرب الهواة؟ هكذا كان الجميع يضرب كفاً بكف وهو يسخر من فعل القدر، لكننا لم نكن هواة ولا مجانين، فقد أعددنا لكل شيء وأتم الله علينا الأمر، ويأس العدو من غاراته التي بلا جدوى وصرنا نحن الذين نحث الرجال على الزحف لطردهم من رؤوس الممرات، جاءت حيل كثيرة ومغامرات أكثر، كان أكثرها طرافة البغال، هذه التي صار الروس يعدونها السلاح الأخطر عليهم، كنا في البدء نلغم البغل ونرسله على المدق الذي ينتهي بنقطة التفتيش، ثم نقوم بتفجيره عن طريق سلك في نهاية حشو السرج، حين انتبه الروس لهذه الحيلة كنا نتركهم يتعلمون النيشان على هذا المخلوق البائس ونخرج عليهم من تحت الأحجار لندفعهم أمامنا كقطيع تمزق شمله، لم تكن مواقعهم في هذه المرحلة حصينة أو ذات نفع إلا في فرض النفوذ على الأرض، فكما قال أبو عبيدة "رجل في الأرض خير من طائرة في السماء".

أعطتنا جاجي مكانة لم يحزها من قبل أي من المجاهدين، بل إن الأفغان أنفسهم قالوا: كانوا ضيوفاً علينا فصرنا نحن الضيوف عليهم.أما الغرب فقد رأى أننا فعلنا ما نستحق عليه التقدير، وراح بعضهم يعاملنا على أننا الجواد الأسود الذي جاء من آخر المضمار ليسبق الجميع، ولا شك أننا كنا سعداء بهذا المديح، فرحنا نرد على كل تحية بأفضل منها، قال أبو سعيد:الجميع يريد التنسيق معكم في الحرب. قلت: ونحن نريدك معنا. ضحك قائلاً: لأقوم بعمليات الإمداد والتموين؟! قمت من فوري أقبل رأسه وكتفيه: بل مكانك هنا. أشرت إلى حيث أجلس وأردفت: فأنت أكثرنا خبرة بالقتال وفنونه، أكثرنا دراية بالمكان وأهله، ولنا كل الفخر بأن يكون شيخ المجاهدين قائدنا. شعرت بأن مسحة من الرضا راحت تملأ وجهه، لكنه سألني: ومجد؟! شعرت بارتباك من وقع مقولته، فلم يكن في تخطيطنا أن ينضم إلينا غير من اخترناه بعناية وأدخلناه مأسدة الأنصار، لكنني فتحت ذهني على المكان الذي نحارب فيه، فهذه البلاد لا يعرفها أكثر من مجد ورجاله، والبشتون هم الظهير الذي يجب أن نرتكن إليه، ليس للحرب فقط ولكن لما بعد الحرب، قلت: هذه البلاد بلاد مجد، وما جئنا إلا لننضم إليه. ابتسم الرجل حتى شعرت أن ضوءاً خرج من وجهه فأضاء الكهف: أخ كريم وابن أخ كريم. فلم أتمالك نفسي من الضحك.

في الصباح جاءني مجد برجاله وكانوا أقل مما توقعت، قال: هؤلاء من بقوا من سنوات الجهاد يا شيخ الجبل. قلت: مرحبا بك وبهم يا شيخ الشيوخ. فابتسم قائلاً: لقد تفرغت للجهاد وتركت أمر المدرسة لغيري، وهم بدورهم بدءوا يلتفتون للتدريس بعد كل ما حققناه من خسائر.

لم نكن في هذه المرحلة نريد سوى نزعج الروس على رؤوس الطرق والجبال، وصارت قندهار الغاية التي في نهاية المطاف، جلسنا وتدارسنا ما كان لدينا من أخطاء في المعركة، درسنا أيضاً وضعنا وقد أصبح معسكرا بدر لا يتسعان لرجالنا ورجال مجد، قلنا نعد معسكرين آخرين، قال صهيب: القادسية على اسم معركة خالد بن الوليد مع الفرس. وقال الصباح: الفتح، تيمناً بفتح مكة. في الصباح اتخذ صهيب طريقه لتأسيس المعسكرين، بينما اتخذ الصباح طريقه إلى باكستان لطلب المزيد من السلاح، رفضوا أنواعاً بعينها لأنها أمريكية الصنع، فتركهم واتخذ طريقه إلى اسطنبول حيث التقى بهاء الدين، أفصح له عن رغبته في شراء أسلحة أمريكية، جاءه في اليوم التالي برجل كوري حصل على نصف مليون دولار، قال: سأرسلها على أنها مواد بناء قادمة لمكتب مقاولات عملائكم في بيشاور، حين نظر إليه الصباح مستنكراً أردف الرجل: ومعها من يدربكم على استخدامها. وافق الصباح وعاد من طريق غير الذي ذهب منه، حين مر الموعد الذي اتفقا عليه رحنا نتندر بأن المافيا سرقت المجاهدين، كان الصبَّاح حزيناً لكن وجهه الهادئ لا يستشف منه سوى ثقته العميقة بأن الصفقة ستصل، صرفنا نظرنا عن الأمر برمته وقلنا نريد متفجرات، أرسلنا صهيباً هذه المرة فجاءتنا البغال محملة بالعديد من المواد ومعها من يدرب الرجال على تصنيعها، بدا لنا أن ما يفعله الرجل سحر عظيم، فقد قضى على بضع حيوانات في مغارة بوضع سائل شفاف على بابها، قال: يمكنكم استخدامه كعجائن أو زيوت أو غازات عن طريق ماكينة تقوم بتبخيره. صنعنا كمية لا بأس بها في كهف أسميناه المعمل، حرص الصباح على ألا يعرف الرجل من أين جاء ولا من أين يذهب، وفي الوقت الذي بدا فيه صهيب فرح بما أنجز كان الصباح يشاغل نفسه بتجهيز المعسكر الجديد، لكنني كنت أعلم أنه يواري شعوراً بالفشل، خاصة أن العلاقة بينه وبين صهيب بها الكثير من المنافسة على إثبات الذات، علمت فيما بعد أنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد، فصهيب من أتباع الرجل الضرير في تنظيم الجماعة الإسلامية، وكلاهما يجتهد في جمع رجال تنظيمه القديم ليكونوا في مقدمة المجاهدين، حين انتبهت لهذا الصراع قلت: لا ضير وليتنافس المتنافسون.

افتقدت الصباح، ولم أعد أشعر بوجوده بجانبي، وكلما سألت عنه قيل يتابع العمل، امتطيت جوادي وخرجت أتابع مثله، لم أكن في الحقيقة بحاجة لم متابعة شيء بل لرؤية الرجل، وجهه الهادئ يشعرني بالطمأنينة وسط هذه الصخور، حين عثرت عليه سألته: لم اعتزلتنا يا واصل؟ وضع رأسه في الأرض وكأنه يبحث عن شيء مفقود: أضعت من مال المجاهدين خمسمائة ألف دولار. ضحكت: وأين بهاء الدين منها؟ قال: الرجل لم يكن سوى وسيط ولا يمكنني أن أحمله وزري. أعجبني تحمله المسئولة وتبرئة خالي الذي لا أعرف كيف وافق على صفقة خاسرة كهذه، قلت لنفسي أن الهرم بدأ يدركه، وهاجمني شوق كبير له، فتذكرت محاوراتنا الطويلة وحرصه على تعليمي كل شيء، تذكرت ذكاءه وعلمه وأمانته،وكادت أبكي لولا ظهور أبي سعيد ومجد، قالا: فيما تفكران؟ قلت في الصباح. قال مجد: صاحب القلاع؟! أتدري أننا لسنا ببعيد عن عاصمة ملكه؟ قلت كيف؟ أشار بيده نحو المثلث الذي يربط إيران بأفغانستان وباكستان قائلاً: هنا... حيث أصفهان ودمغان ومنصور آباد. قلت: أهذه قلاعه؟ قال: لا، لكنها منطقة نفوذه، فقلعة ألموت في طالقان، وهي منطقة قلاع حصينة أشهرها ألموت التي تعني بالفارسية تعاليم العُقاب، وليس الموت كما يظن الناس، فالذي بناها أمير ديلمي كان مغرماً بالصيد، أطلق عقاباً ذات يوم وأخذ يرقبه حتى رآه يحط على تلك الهضبة المستديرة كالكعكة، فأمر ببنائها قلعة لجنده وأسماها أله موت. أُخذت بحديث مجد عن قلعة الصباح فسألته: وكيف استولى الصباح عليها: نظر الرجل إلى أبي سعيد وكأنه يستأذنه، فطأطأ رأسه بابتسامة جعلته يقول: لم يبذل الصباح كثير جهد في هذه القلعة ولا غيرها من القلاع، لكن الحق يقال أنه كان تقياً لا يستولي على حق أحد. زادنا مجد دهشة بمديحه للصباح، فأشرنا له أن يكمل: بعد أن خرج من مصر اتخذ سفينة متجهة إلى عكا، لكن الأقدار شاءت أن تقوم الرياح والعواصف وتتلاطم الأمواج، كان الجميع على ظهرها فزعاً من الموت، وحده الداعية الإسماعيلي الشاب الهارب من جنود الأفضل بدر الدين الجمالي كان أكثرهم ثقة بالله والقدر، ولم تغير فيه الأهوال شيئاً وهو جالس في مكانه يقرأ القرآن، فجأة انكسر الساري وسقط أمامه، وراحت الأمواج تلطم السفينة بشدة حتى تفصدت الألواح، لكن مشيئة الله جعلت الصباح يمسك بالساري الذي جرفته المياه، وظلت الأمواج تأخذه حتى اقترب من شواطئ حلب فأنقذه الصيادون هناك، وأظهر ورعاً لا مثيل له وهو يعظ الناس التي توافدت على من نجاه الله من الأهوال، بعدها غادر حلب إلى الري، وهناك كون أول مجموعة تدعوا لإمامة نزار ابن المستنصر، ثم انتقل إلى أصفهان لينشر بها الدعوة، لكن السلاجقة ضيقوا على دعاته، فخرج منها إلى الشمال حيث مازندران والديلم وجيلان وقزوين، متخفياً من تجمعات الناس وومبتعداً عن المدن والقرى حتى وصل طالقان، كانت ألموت هدفه منذ خرج من الري، فراح يرسل دعاته لينضموا إلى أهل القلعة، ففعلوا حتى استطاعوا التأثير على من فيها وضمهم إليهم، لكن واحداً من الدعاة رأى أن الأمر قد اكتمل ولم يبق إلا دخول صاحب القلعة، فصارح الرجل الذي تقبل الأمر بصدر رحب، مما جعل الداعية يعرفه على من معهم من الرجال، في الصباح جمعهم الحرس من مخادعهم وألقوا بهم خارج القلعة وأغلقوا الأبواب، ونبه صاحب القلعة على حراسه بأن يقتلوا أي اسماعيلي يقترب، فارتدى الصباح المسوح وصعد القلعة وأخذ يبكى الإسلام وفرقة المسلمين، حتى تأثر شيخ القلعة بعلمه وورعه فأدخله وأجلسه بجانبه ليتبرك به، وتركه يعظ جنوده وأهل قلعته مقابل نومه وطعامه، لكن شهراً لم يمض حتى دخل الصباح عليه قائلاً: خذ أشياءك واخرج من القلعة. فدهش الرجل وظنه يمزح، لكن الحرس أحاطوا به وجمعوا أغراضه ونقدوه ثمن قلعته وتركوه ينزل بسلام.

وددنا لوأكمل مجد حديثه غيرأن لكن رجلاً دخل علينا وفي يده ورقة أعطاها للصباح، حين فتحها تهللت أساريره، قلنا أشركنا معك. قال: الأسلحة وصلت. للوهلة الأولى لم نصدق، لكن شهراً كاملاً والبغال تفاجئنا بما ورد إلينا، لم تكن سوى صواريخ مضادة للطائرات والدبابات، مصحوبة بمن يشرح للرجال كيفية استخدامها، فرحنا بما جاءنا من خير، وشاهدنا إطلاق صاروخين أو ثلاثة على أهداف كنا نختبئ قبل ظهورها، جاءت النتيجة بارعة وفوق ما نتخيل، فقد توقف تحليق الطيران على رؤوسنا لمدة أسبوع بكامله، كان الصباح يسعى في المعسكر كطاووس منشرح الصدر، بينما اختفى صهيب عن المشهد، لكن الفرح لم يكتمل، فقد فوجئنا برسالة من بهاء الدين تخبرنا أن أمريكي يسعى للقائنا، أكد الأمر بعض الأصدقائنا في باكستان، فأرسل الصباح من يحضره، حين دخل الحدود خدره الرجال وحملوه إلينا، قال أنه يطلب شراء ما لدينا من صواريخ أمريكية، قال أن الصفقة قام بتهريبها للمافيا وقد علمت حكومته بها، وأن هذا سيعرضه لمخاطر لا حد لها، قلنا له أمهلنا عدة أيام وسوف يصلك الرد، أرسلت لبهاء الدين أستعلمه عن الأمر فلم يفدنا بكثير، أرسلت الصباح إلى أصدقاء في طهران فعاد يقول أن صحيفة روسية ذكرت أن الروس يحاربون بأسلحة أمريكية، فارتعد الأمريكان من التورط في الحرب. طلبنا من الأمريكي خمسين ألفاً مقابل القطعة ذات العشرة آلاف فوافق، لكن رسالة جاءت من بهاء الدين تقول لا تفرطوا في الصقور. أعطينا الرجل خمسمائة قطعة وقلنا هذا ما لدينا. لم تمر أيام حتى وجدناه يطلب اللقاء من جديد، قال: العملية التي قام بها رجلكم احتوت على ألفي صاروخ، فأين الباقي؟ قلنا موزع في أيد المجاهدين ومازلنا نتفاوض معهم لاستعادته. فأخذ الرجل يدفع مقابل كل قطعة تظهر أضعاف سابقتها، حتى شعرت أمريكا أنها خسرت في هذه الحرب أكثر مما خسره الروس أنفسهم.

(35)

حرمنا من أسلحة الأمريكان، وأصبح علينا أن نواجه الموت عراة لا نملك سوى الحيلة والرغبة في الشهادة، ويبدو أن هذا كان سلاحاً مفاجئاً للروس، فليس هناك أناس أكثر جرأة على الموت منا، ليس هناك رجل يتناول السم بيديه قائلاً إن كان ذلك أمر الله فلا مهرب منه، وإن لكل أجل كتاب لا يبلغه دونه، ولا يمتنع عنه إذا جاءه، هكذا قال خالد بن الوليد على أبواب الحيرة، وهكذا نفعل على أبواب "خوست" و "كالات"، الطريق وعرة والجبال شديدة القسوة، لكن الرجال أصبحوا قطعاً منها، يعشقون الليل أكثر من النهار، فما أن تحل الظلمة حتى يتحولوا إلى أناس آخرين، كأنما الجن تتلبسهم والملائكة تحفهم، عيونهم كعيون الذئاب، وسواعدهم نسائل من عروق الجبال، وأذهانهم تلمع كنجوم الليل، ترى برقها في الخطط والقذائف والهجوم والفرار، العالم يعرف الآن أن هذه منطقة الأسود فلا يدخلها إلا بأدلاء، وهؤلاء لا يمكن أن تكون هذه مهنتهم إلا لو أخذوا العهد على يد الصباح، فرجاله يمكنهم الوصول إلى عنق من شاءوا، ولا يمكنك أن تقلب حجراً عن حجر إلا وتجد واحداً منهم، لله دره، يعشق التدبير والتخطيط، أما صهيب فهو ريفي يعشق العمل على خط النار، لا نسأل عنه إلا وقيل في مهمة ما نلبث حتى نسمع بأخبارها، يعتمد على الخلص من رجاله كما يفعل الصباح، وحده أبو عبيدة الذي لا يعترف بهذه التقسيمات، والويل كل الويل لمن عصى أمره أو قال أنه من أتباع فلان، كل الرجال لديه مجاهدون جاءوا للشهادة. عينته قائداً عاماً وجعلته المنسق بين رجالنا ورجال مجد الدين، أما أبو سعيد فقد صار ـ مثلي ـ شيخاً للجبل لا يفعل غير الحيطة والحذر، كلانا أصبح مطلوباً من قبل الروس وغير الروس، كلانا صار هدفاً للاغتيال، ولم يعد أمامنا سوى الانصياع لأوامر الصباح وترتيباته، نغير أماكننا في اليوم الواحد عدة مرات، ونحفر خنادق تربط بين الكهوف وبعضها البعض، وكل شيء في حاسبي المحمول، فهو رفيقي أكثر من الجميع، أضع عليه الملاحظات والأفكار والخطط والخرائط وانسخ منها صوراً أبقيها على أجهزة بعينها، تعلمت هذا الدرس حين تعطل وفقد بعض الملفات، يومها أدركت أنني بدونه ما عدت أستطيع التفكير، فأرسلت في طلب عدة حواسب أخرى للرجال، أصبحت بدورها غرفة علميات، حين رأى الصباح قدراتها لمع في ذهنه إصدار مجلة للمجاهدين، قال:علينا أن نتعامل كأهل للمكان، وأن نرسي قواعد الدعوة ونُشعر الجميع بأن هناك ما يربطهم به. وجدتها فكرة لا بأس بها، هو بدوره راح يخططها ويصمم غلافاً يليق بها، لا أعرف من أين يأتي بالوقت لفعل كل هذه الأشياء، لم تمر شهور حتى أصبح لها رونق وصرنا نتلهف لقراءتها، كان اسمه كمحرر عام قد أصبح ذائعاً بشكل جدد الغيرة بينه وبين صهيب، هذا الذي وجدته يدور في حديثه حول إصدار مجلة مشابهة، لم أرد أن أخذله، فرجاله يتحملون المزيد من الأعباء ويحصدون الكثير من النصر، لم أر فرحاً في عينيه مثلما رأيت وأنا أقول: ماذا لو أصدرت مجلة مثل الصباح؟ انعقد لسانه من الفرح ولم يعرف كيف يرد، أستطيع اليوم أن أقول مجلة الصباح كانت أشمل لكن مجلة صهيب كانت أكثر دقة وعمق، وكان لهما فعل السحر في نفوس الجميع.

خوست وكالات هما المدينتان اللتان كان علينا الحصول عليهما قبل التفكير في كابل أو كندهار، ورغم أننا كنا نتجه إلى كابل غير أن الصباح أخبرنا أنه سرب خبر توجهنا إليها، فنشبت أزمة بينه وبين وعبيدة وصهيب، واتهماه بالحمق، وصار مجلس الحرب أكثر التهاباً عما قبل، عقدت اجتماعاً للمجلس وأمرت بعدم فتح باب الكهف إلا في الصباح، تشاجر الجميع وعلت الأصوات وقال كل منهم ما يريد قوله من تجريح واتهامات للآخر، وجلست وأبو سعيد ومجد ننصت، كان كل من المتخاصمين يحتمي حيناً بواحد منا، ثم ما يلبث أن يذهب ليحتمي بالآخر، وكنا لا نعرف ماذا نفعل بين إخوة صاروا ألد الخصام، شعرت لو أن أسلحتهم في أيديهم لدمروا بعضهم بعضاً، شعرت أن عبيدة جارعلى الصباح أكثر مما ينبغي، أما صهيب فقد حرك الريح في الاتجاه الذي يريده، حين حل عليهم التعب من النقاش والشجار أجلستهم في ركن ورحت أستدعيهم فرادى ليشرح كل منهم وجهة نظره، قال عبيدة أن هذا جعل الأمر أصعب علينا من جاجي، وقال صهيب هذا خطأ حربي فادح، فلا يمكن أن نكون كالسادات حين قال لا يمكنني الدخول في سيناء أكثر من هذا لأن منصات صواريخي لن تستطيع حماية قواتي، شعرت أن صهيب يكره السادات أكثر من الجميع لكنه على حق، فلا يمكن أن يعلن قائد عن نفاد ذخيرته وضعف إمكاناته، ولو كان عليه أن يفعل فليس أمامه إلا ما فعله القائد النصراني مع طارق ابن زياد، فقد أمر النساء بارتداء ملابس الفرسان ووضعهم على الأسوار كقوة أمامها زمن طويل كي تستسلم، وخرج بخادمه على هيئة رسول من صاحب القلعة فأتيا طارقاً، قال: إن سيدي يطلب الصلح حقناً للدماء، ولو أردتم الحرب فانظروا ما على الأسوار من رجال، ولدينا في القلعة أضعاف أضعاف، ولا سبيل لدخولها إلا بالقضاء على كل هؤلاء، لكنه يرى حقن الدماء على أن يخرج بكل أمواله ومن معه، فصالحه طارق على ذلك، لكنه حين دخل القلعة في الصباح لم يجد بها من الرجال إلا صاحب القلعة وخادمه، فشعر أنه خدع ونقض الاتفاق، لكن الرجل اشتكاه لموسى ابن نصير الذي قال لقائده: إنما الحرب خدعة.

حين استدعيت الصباح وجدت له منطقاً مختلفاً، قال أن الجميع يعرف وجهتنا، وإن لم يكن يعرفها فهو على الأقل يخمنها، فلمَ لا نضرب تخميناته وشكوكه، لمَ نتعامل معه بوضوح وصراحة، إنما الحرب خدعة، وغداً سيذهب الروس للدفاع عن مدينتهم العملاقة، ليس لنا مأرب الآن في كابول، إنها كسرطان البحر، حتى نصل إلي رأسه فلينا أن نجتز أطرافه، حتى إذا كبسناها تكون قد تهاوت على عروشها، فيتركها أصحابها غير آسفين. أدرت الفكرة في رأسي ووجدت لها وجاهتها، فالروس يحشدون الآن قواتهم نحو كابول، ونحن نسعى في الطريق الذي يرسمونه، ولا بد أن لهم عيونهم التي يعرفها الصباح ولا نعرفها، فماذا لو أكدنا لهم أننا في الطريق الذي يهيئونه، هم ينسحبون ونحن نبحر خلفهم، وفي الوقت نفسه نفاجئهم في غير ما يتوقعون، فنكبدهم خسائر ليست الأفدح لكنها مهمة لوجودنا. ابتسمت بدوري واستدرت نحو أبي سعيد ومجد، بدا لي أن الاثنين ما زالت تدور في ذهنهما الفكرة، وأنهما يقلبانها على وجوهها العديدة، يمكنني القول أنني في تلك اللحظة خشيت من توصل أي منهما إلى ما يفسد على الرجل طمأنينة صدره، نظرت إليه فوجدته يقبع أمامنا كأرنب مستأنس، ندت عن ثغري ابتسامة فبرقت سعادة ما في عينه، خشيت أن يأخذه الغرور ويتيه على صديقيه، ولهما ما لهما من الفضل، فعدت إلى الوجوم من جديد قائلاً: لقد أخطأت. وقبل أن أستطرد ناديت الغريمين القابعين في الزاوية، وجلسنا في حلقة حول راكية نار مشتعلة، قلت لصهيب أعد لنا القهوة، فبدا عليه أنه قد أوقع صاحبه في سوء عمله، قلت لعبيدة هل سمعت ما قال أخوك الصباح، قال سمعت، قلت فما رأيك. ساد الصمت واحتار الرجل في الحديث، فأدرت وجهي عنه ونظرت لصاحبي، قال مجد لست أعلم. وقال أبو سعيد هناك صواب وهناك خطأ، هناك جرأة ولؤم وهناك كوارث قد يجلبها الأمر، ناديت على صهيب ورحت أعبث في أزرار الحاسب، جاءتني خريطة مفصلة لأفغانستان، أخذت أكبرها حتى ظهرت جاجي، حركت الخريطة وقلت نحن هنا، حركتها لليمين فظهرت كابول كسرطان بحري يتربع على هضبة محصنة بالجبال، يدخل فيها وتدخل فيه، قلت من الصعب اختراق مكان كهذا وحوله كل هذه الأماكن والتجمعات، وبه ما به من معدات وذخيرة، والروس يعلمون ذلك، ولو فقدوها فقدوا نصف البلاد، ومن الصعب أيضاً أن نترك ظهورنا عارية لقواتهم هنا، وحركت الخريطة نحو اليسار فظهرت خوست وكالات وخلفهما المدينة الحصينة قندهار، قلت لا يمكن لفارس مغوار أن يفعل كل هذا، ولو كان خالد بن الوليد حي لمر بجيشه ليحصد هذه المدن قبل أن يدخل على الملكة المتوجة.

كان الجميع يطأطئ رأسه بالإيجاب، فلما وضع صهيب القهوة قلت: لكن الصباح أخطأ. ورنوت بعيني فوجدته ازداد انتباهاً لم أشهده منذ ناديته وأبا عبيدة، قلت أتعرف فيما أخطأ يا صهيب. ترك الرجل ما بيده قائلاً: وكيف يخطئ؟ قلت أخطأ حين تعامل على أنه الأمير هنا، وأخطأتما حين تعاملتما على أنكما الأميران عليه، ولو كان فيهما آلهة غير الله لذهب كل إله بما صنع، أليس كذلك يا أبا عبيدة؟ نظرت إلى الجرم الجاثم أمامنا فوجدته قد وضع رأسه في الأرض قائلاً: كذلك يا أبا عبد الرحمن. فدرت نحو الغريمين فوضعا رأسيهما في الأرض، ويبدو أن الوقت كان قد أصبح مهيئاً لتدخل رفيقي، فقال أبو سعيد كل اجتهد وكل أصاب وكل أخطأ، قلت لكن الأمر شورى، وليس لرجل أن يقطع برأي دون علم الآخرين، وليس لهذا المجلس أن ينفض دون تكدير للجميع.

(36)
خريف 1988

لم نكن وحدنا الذين يسابقون الأحداث، فالآخرون يسابقونها أكثر منا، ليس على قادة الحرب فقط ولكن الدب الأبيض والأفغان أيضاً، فقد اتهم الروس خادمهم بابرييل كارجيل بأنه أعجز من ذبابة عن فهم ما يجري، وأنه لا يمتلك من الكياسة ولا الشجاعة ما يجعله يتصرف بحنكة أمام ضراوة المجاهدين، هكذا ألقوا بالتهمة كاملة على كاهله، فثار بدوره في وجههم إن الفساد الذي تعيشه روسيا هو السبب. ونقل عنه حديث قال فيه أن حماقة جورباتشوف وعدم فهمه لمن معه ومن ضده هي التي ستودي بالاتحاد السوفيتي إلى النهاية التي يبحث عنها الغرب. وأن سياسته الجوفاء لا تزيد عن خيانة للتاريخ الشيوعي كله، وأن ستالين لو كان حياً ما وسعه إلا أن أطلق النار عليه في الميدان الأحمر. حين نقل الوشاة هذا الحديث إلى أعضاء الكرملين ثار جورباتشوف وسب كارجيل في اجتماع الحزب: أن ابن الداعرة لو لم ينتبه لحجمه وعمله لأطلقن عليه الرصاص بنفسي. ولأنه لا شيء يختبئ في إناء ينضح بما فيه فقد نقل الحديث بزيادات وتصاريف إلى كارجيل، مما جعله يشعره بالمهانة من كل جانب، فبحث عما يمكنه عمله لوضع موسكو والرجل ذي الخارطة السوداء على وجهه في موقف حرج، فلم يجد غير تقديم استقالته، وبقيت أفغانستان دون حاكم حتى جاءها رئيس جهاز شرطتها السرية السابق نجيب الله على دبابة من موسكو، هذا الرجل الذي أثنى عليه الحزب الشيوعي الروسي، ووجده الأقدر على تحقيق ما يريده في أفغانستان، وبدوره لم يتوانى نجيب في إرسال معاونيه إلى شتى جبهات القتال، قال لا بد من وقف إطلاق النار والتعاون معاً لإخراج الروس من البلاد، لم يشك أحد في ولائه لروسيا، وأن الأمر لا يزيد عن كونه تهدئة وكسب للوقت حتى يرتبوا جبهتهم بعد أن فقدوا "ميمنة" و "مزار شريف" على يد مجاهدي الشمال، هؤلاء الذين أصبحوا أكثر شراسة في الحرب، وردوا على رسل نجيب الله بتوجيه قواتهم نحو هرات، فأفقدوا الروس صوابهم.

من جانبنا أبدينا ارتياحاً لفكر القيادة الأفغانية الجديدة، وأرسلنا أبا سعيد ليظهر ميلاً نحو وقف الحرب التي أكلت الجميع، أغضب ذلك الأفغان الذين قالوا له: جاء وقت البيع فأفرخي وبيضي يا نعامة. وعلم نجيب الله بما حدث فأرسل من يدعو أبا سعيد للقائه، كانت هذه لحظات زحفنا السري نحو الجنوب، حيث تتربع بالقرب من الحدود الباكستانية خوست وكالات، وبدا لنا أن بإمكاننا أن نأكل القضمتين مرة واحدة، فقسمنا الرجال على هيئة جيشين، أحدهما يقوده صهيب والآخر يقوده أبو عبيدة، أما الصباح فكان صاحب فكرة الميل بالحديث نحو وضع الحرب أوزارها، شعرت كم غضب منه أبو سعيد حين عنفه المجاهدون ووصفوه بالنعامة، كان كلما أعاد علينا الحديث لم نتمالك أنفسنا من الضحك، وحين مثل صهيب شكل النعامة وهى تحفر بأقدامها لتضع رأسها في الرمل شعرت أن الرجل سيبكي حنقاً، نهرت صهيب وصرفته والصباح عن مجلسنا، هدأت من خاطره وقلت علينا إتمام ما بدأنا فيه، ندت عن ثغره ابتسامة سرعان ما لملمها , فتذكرت مشهد النعامة الذي مثله صهيب ولم أتمالك نفسي، حين عدت بنظري تجاهه وجدته يضحك، وما لبث أن عاد الجميع على صوت ضحكنا ونحن نمسح بأطراف أثوابنا دموعاً لا نعرف مصدرها.

أما الروس فقد بدؤوا يتعاملون معنا على أننا حلفاء سريون لهم، فأوقفنا غاراتنا على المواقع التي يتمركزون بها، وتركنا الحرب تأخذ طريقاً مغايراً حيث ثوار الطاجيك على هضبة تخار وبدحشان، كانت انتفاضة قوية حاول الروس إخمادها بكل ما لديهم من قوة، ومثلما كنا نغز السير في طريقنا نحو خوست وكالات كان الشماليون يغزون سيرهم لإسقاط هرات التي حاصروها في الغرب، فدارت بينهم معارك قاسية لم يكن أمام الروس فيها إلا تهدئة الأوضاع على واحدة من الجبهات الملتهبة، وكنا نحن بفضل الله ثم أبي سعيد المرشحون لذلك.

حشدنا المجاهدين للتربص بالقرب من كالات، وفتحنا خط إمداد لتخزين السلاح هناك، وكانت المفاجأة الأكبر هي شحنة الصواريخ المضادة للدبابات التي وصلتنا عبر إيران، كتمنا الفرح في صدورنا ورحنا نخدر الدب الروسي بالمباحثات التي لم تتوقف إلا بالقصف المباغت على خوست التي حوصرت من كل جانب، كان الضرب عنيفاً ومستفزاً وخارجاً عن كل السيقات المعهودة بيننا، لم يكن أمامهم سوى الرد بالمثل دون علم بما وقع في أيدينا من سلاح، ولم يكن هناك ظهير لخوست سوى كابول من الشمال وكالات من الجنوب، فراحوا يلهثون بعجلة مفاجئة من كالات نحو خوست، وكانت هذه فرصة أبو عبيدة ليصطاد كالات بالراجمات، سقطت أكثر من خمسين طائرة ودبابة في معركة فوجئ الروس أنهم دخلوها على غير استعداد، وراحوا ينسحبون من هذه مرة للدفاع عن الثانية والعكس، ثلاثة أيام من الضرب والشراسة التي هلل لها مجاهدو الشمال، ولم يعد أمام الروس سوى الهروب كحل وقائي، فقد عجز الطيران عن تغطية جنوده مثلما عجزت الدبابات عن فسحتها المعتادة بين الممرات، ولم يسعها سوى التقهقر من شرك لتسقط في شرك جديد، أستطيع القول أن الخديعة التي نسجها الصباح وأحاكها أبو سعيد جعلت المفاجأة أكثر وطأة، بينما السباق الذي اشتعل بين رجال صهيب وأبو عبيدة على الدخول قبل الآخر أحدث الزلزلة التي تمنينا أن نرى الروس فيها، فرحنا نشهد دباباتهم تفر من أمامنا كجرذان جبلية، بينما طيرانهم العنيد الذي طالما كنا نختبئ بمجرد سماع أزيزه كان يتهاوى على الأرض كطير مسموم. كل ذلك وضعنا فجأة على الطريق قندهار الذي لم نتوقع أن يكون مفتوحاً بهذه السهولة.

(37)

كان وجه أبو سعيد مشرقاً وبه بهاء عجيب، كانت ملامحه ممتلئة بالرضا وثغره يخرج منه نور، بينما عيناه المشتعلتان بالفرح كقذيفة في عتمة الليل كانتا تتنقلان من اليمين إلى اليسار ومن البعيد إلى القريب وأنا أنظر إليه، كان حيياً كعثمان وجميلاً كمصعب ومطمئناً كسعيد بن جبير، لم يشأ أن يلتقي بؤبؤ عينيه بعيني كي لا أشعر بالحرج، فتوقف عن الكلام واستدار نحو الشمس التي توقفت على جبهته، زاده المشهد بهاء على بهائه فاستدرت لأرقبه بشكل أفضل، ندت عنه ابتسامة خجل: لم تنظر لي هكذا؟ كانت عينه مسبلة إلى الأرض كفتاة وهو يسأل، نظرت إلى وجهه من جديد وقلت: أليس النظر إلى وجهكم عبادة آل البيت. شعرت أن هزة ما اجتاحت الرجل من الأعماق وظلت تطفو حتى أحدثت رعشة شملت أعضاءه، لا أنكر أنني بوغت بما حدث للرجل لكنه تمالك نفسه حتى نزلت السكينة عليه، مرت دقائق وكل منا سادر في صمته، أخيراً التفت نحوي: من أخبرك؟ كنت قد علمت من مجد أن هذا سر لا يجب الحديث عنه إلا إذا باح هو به، كتمت الأمر سنوات طويلة ورجوت الله أن يخبرني بنفسه، لكنني في اليوم لم أستطع أن أمنع نفسي من النظر إليه كما أحب، ربما أطلت النظر أكثر مما ينبغي، وربما كانت الأحداث الطويلة التي مرت هي التي شغلتني عنه، لكنني أستطيع القول أن وجهه في ذلك الصباح كان بهياً أكثر مما اعتدت، فرحت أتأمله بلذة وفرح، ولا أدري لمَ قلت ما قلت، ربما كانت رغبة في أن أفصح عن السر الذي جمعنا كل هذه السنوات دون اتفاق معلن، وربما لأني شعرت بالغيرة من مجد إذ خصه بهذا الأمر دوني، كثيراً ما أزحت هذه الفكرة جانباً وقلت لنفسي أن أبا يسار هو الذي أخبر مجداً به، لكن شعوراً ما ظل ضاغطاً على نفسي بأنه اختار مجداً لشيء لم يختارني إليه، وأتمنه على شيء لم يأتمني عليه، ولما لم يكن أمامي غير أن أجيب عن سؤاله قلت: مجد. دار الرجل بوجهه بعيداً: كنت أعرف. قالها كمن يعترف، فانتظرت أن يسترسل في حديثه لكنه لم يفعل، فقط أخرج مسبحة فضية من سرواله وراح يتمتم على حباتها، شعرت أنني اقترفت ذنباً وما عاد الرجل يود الحديث معي، تبعته كخادم ذليل وهو يجر الخطى على الحصى والرمل، الصمت وحده هو الذي كان يطن على رأسينا، ولا تقطعه سوى صرخات النسور والصقور، ظللت مشتملاً بحزني حتى فرغ الرجل مما هو فيه، فوضع المسبحة في مكانها ونظر لي فرأيت وجهه مشوباً بالحمرة والبكاء: مرت أعوامي عبثاً ولم أصنع شيئاً، بدأت من القدس ثم مصر فلندن، وجبت العالم من أدناه إلى أقصاه، وها أنا أنتظر نحبي على صخور لا أعرفها دون أن أفعل شيئاً، سنوات طويلة وأنا أحوم كنسر كلما سعى للوصول إلى بيته كان البيت يبتعد ومعالمه تتشبه مع غيره. كان الرجل يتحدث وكأنه يستخرج جمراً من جوفه، شعرت أن غصته كبيرة وأن بهاءه تضاءل، قال: عبرت الخامسة والستين، وصرت شيخاً عجوزاً، حملت السلاح والقلم ودرت سفيراً لجماعة منبوذة، فلا أخرجت اليهود من بلادي ولا انتقمت من الإنجليز لأبي ونفسي، ولا رفعت راية الإسلام على بقعة واحدة من الأرض، قتيل من سلالة كتب عليها الزمان الشقاء والقتل، كأنما خلق ابن الإنسان ليشقى ويقتل، وأنا الآن أشعر أن شقائي اكتمل، ولم يبق سوى رشفة الخل.

وجدتني أتابع الرجل في هذيانه، وأنساق إلى الغرفة المعتمة التي أدخلت نقسي إليها، لكنني نفضت كل ذلك قائلاً "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"‏‏. فتهلل وجهه من جديد: أتظنني خائف من الموت؟ كلا والله، لكنني مشفق على هذه الأرض وما سيجري عليها، مشفق عليك قبل الجميع، وما كنت أظنك خلقت لهذا، رحم الله أباك كأن أكثر تأملاً منك، لم ينزل البحر، فما الذي جعلك ترمي بنفسك فيه؟. تسرب إلى حزن الرجل وقلقه، فرحت أفكر فيما آلت بي الأيام إليه، من لاه عابث إلى مجاهد يقود آلاف لمصير لا يعلمه إلا الله. لكنه قطع على شرودي: أتعرف عيسى ابن زيد؟ أنا من سلالة هذا الرجل الذي عاش مطارداً من بني العباس، ولم يرد أن يثلج قلبهم بظهوره لهم، أنا من سلالة من دعى الله أن يأخذ ابنته كي لا تتزوج من هو أقل منها قدراً، أنا من كتب عليه وعلى آله هذه المصير، وليس أمامي سوى أن أورثه لك. فزعت مما قاله الرجل، وشعرت أنني أصبحت مطارداً بمصير لا أحتمله، فنظرت إليه كمن أورطني في الجحيم، لكنه قال: سامحني يا بني، فكم حاولت وبهاء الدين إبعادك، لكنك كنت كالشهاب المنفلت من مساره إلى القدر المكتوب عليه، سامحني يا صاحبي لأنني الذي أدخلك هذه المغارة، فأنت الطريد المطارد، أنت عيسى ابن زيد، وشارب دم الحجامة، فويل لك من الناس، وويل للناس منك.

شعرت أن الرجل يهذي، وأن حزنه المتراكم كل هذه السنين طفى عليه فجأة، ولم أستطع منع نفسي من الخوف قائلاً: لمَ تخبرني بذلك الآن؟ فأجابني: لأن العلامات ظهرت، أكاد أبصرها كما تبصرني، فالروس خارجون غداً أو بعد غد، و تعميدك اكتمل، وعلي ولد، وأمه تركته في حجري، ولن تمر أيام فاطمة بعد أبيها حتى ألحق بها، وليس أمامي إلا أن أتركه أمانة في عنقك، فهل تقبله يا أبا عبد الرحمن؟ باغتني بسؤاله، فتذكرت طفله الذي هنأناه عليه منذ شهور، طفله الذي انتظره كل هذه السنوات، وتزوج من أجله زيجات عده، فلما جاءه وجدناه حزيناً كجاهلي بشر بأنثى، ولم نلبث يوماً أو بعض يوم حتى قيل أن أمه ماتت، فرأيناه فرحاً كأعرابي وجد ناقته من جديد في الصحراء، قلنا أنه يهرب نفسه من الحزن، وقلنا أن الله أنزل السكينة على قلبه فأحال حزنه فرحاً، لكن مجداً ظل واجماً كأن زوجته التي ماتت، ولم نكن في فسحة من الوقت لتدبر أمرهما، كان الترقب والحذر يسودنا ونحن نعد للهجوم على خوست وكالات، فتركناهما للحزن والفرح ورحنا ننتبه لما علينا إتمامه، وكان للنصر فرحته التي طغت على كل شيء، ولولا أن نور وجهه جذبني هذا الصباح إليه ما توقفت ليسقطني في بئر حزنه. خففت على نفسي بأن الرجل يهذي، فمن أين له بمعرفة الغيب، وما علاقتي بعيسى زيد؟ وما العلامات التي ظهرت ونحن نزحف إلى قندهار، ومجاهدو الشمال يدكون هرات بمدافعهم، والروس يردون بكل مالديهم من قوة، لابد أن الرجل مس عقله شيء بقده أم علي، ولا بد أنه مصاب بالحمى. كدت أمد يدي لأضعها على جبينه لكنه فاجأني من جديد: هل تقبل علياً في معيتك؟ فلم أجد أمام العينين المتوسلتين غير أن قلت نعم، فلس على الأرض رفعاً يديه إلى السماء: اللهم إني أخلع ما في عنقي لعنق هذا الرجل، ثم خر على الأرض يهيل الرمل على وجهه وجسده، حين انتهى من طقسه الذي لا أعرفه انتصب قائلاً: كم أنت قاس على نفسك، رحيم على غيرك، فتحمل ما استطعت لأنه جواز مرورك بين آل البيت.                       

(38)

الطريق إلى قندهار ليس أقل صعوبة من غيره، لكن الحماس أكبر، وارتباك الروس أكثر، وهذا يجعل الكفة في صالحنا. هكذا قلت في مجلس الحرب المنعقد بشكل شبه دائم، كان الجميع على قدم وساق، الكل يعبئ فرقه ورجاله، ومجد يمول الناس بالسلاح، بينما الصباح يجمع المعلومات عن كل شيء، جاءنا أن الروس غيروا قائد جيشهم في الجنوب وجاءوا برجل عنيد يدعى إيفانوف، رجل يمكن وصفه بضمير مستريح أنه مجرم حرب على أقل تقدير، له سوابق عديدة في الإبادة الجماعية، يكفي أنه قضى على ثورة الشيشان بمئات الأطنان من المتفجرات على رؤوس الثوار، سحق بدباباته الأطفال والصبيان والنساء والشيوخ، كان ينزل من مركبته ليخوض في الدماء بحذائه قائلاً: هانحن نجوس في دمائكم فهل من مزيد؟ بالطبع لم تكن تجيبه سوى طلعت الطيران الروسي التي كانت تتعامل مع الناس على أنهم ذباب، يرشونهم بغازات وقنابل غريبة، وكأن الدب الروسي لم يعد قادراً على حاملي السلاح فراح يصب جام غضبه على الأطفال والنساء والعجائز حبيسي البيوت، ليثبت أصحاب النياشين لأنفسهم أنهم مازالو قادرين على سفك الدماء، ويبدو أن جورباتشوف قد خرج عن حلمه وصار أكثر عنفاً من إستالين، لكن العنف هذه المرة موجه نحو المسلمين فقط"، سنريه كيف يعتدي على الإسلام ويهزأ بآيات الله "هكذا قال أبو عبيدة رداً على ما جاء به الصباح من أخبار، فعقدنا العزم على أن نخطف منهم قندهار قبل أن يفيقوا من خوست وكالات، وقبل أن يستوعب إيفانوف ما يجري على الأرض.

في هذه المرة لم نذهب إلى قندهار مباشرة، كل ما صنعناه كان الخروج من أفغانستان إلى إيران، فحولنا توجهنا نحو الجنوب الشرقي أكثر، ومررنا من الحدود لنسكن في تكتلات متفرقة، كانت عربات الأسلحة تجئ على هيئة معونة تحمل علم الأمم المتحدة، وما تلبث أن تفرغ الشاحنات ما بها في الطريق، ليقوم الرجال بحمله على عربات تجرها البغال والحمير إلى المواقع التي اتخذناها، ظل العمل أكثر من شهرين في الظلمة والعتمة، لم نكن نحرك ساكناً من قبل كالات، ولم نكن نعلن أكثر من أننا فرحون بما حققنا وعلينا الحفاظ عليه، كانت طائرات الروس تشن هجماتها بشكل عشوائي في البدء، وما لبثت أن أصبحت تجيء في مواعيد ثابتة كالرابعة والنصف صباحاً، والثالثة ظهراً، وأحياناً بعد الغروب، صرنا نعرف مواعيدها بالغريزة فضلاً عن ردار أصلحناه في خوست وعدد من أجهزة الاستطلاع التي أمدنا بها الإيرانيون، ووسط كل هذه الغارات كنا نتحول من بيشاور إلى إيران ثم جنوب ققندهار، نزحف في الليل كأسراب نمل على بطون الجبال لندشن السلاح. إيفانوف يستعمل الطائرات أكثر من البشر، وغضبه سيكون بحجم كرة النار التي ستنفجر في وجه الجميع، وعلينا أن نخلص الجنوب من قبضتهم. هكذا قلت معرباً عن رغبتي في تحميس الرجال، قال الصباح أن الروس استوعبوا الدرس، وإذا ذهبنا إلى الشمال فسوف يتوقعون ذهابنا إلى الجنوب، هذه المرة علينا أن نتعامل على أننا أغبياء، فنذهب مباشرة نحو الجنوب. للفكرة وجاهتها لكننا لا نريد المغامرة، هكذا قال صهيب، نريد أن نعلن أننا متجهون نحو قندهار بأعداد قليلة، سيتوقعون من قلتها أننا نعد لعمل كبير في الشمال، ربما هو كابول بالطبع. اتفقنا على أن يذهب أبو عبيده برجاله من بيشاور إلى قندهار، وأن يعبر صهيب الحدود الإيرانية إليها، بينما أنا ومجد وأبو سعيد سنتخذ الطريق الرسمي المباشر، رفض الصباح قائلاً أن هذه المغامرة غير مأمونة، فرغم ما بها من جسارة ومخادعة لكنها علنية وظاهرة، قلت له أن يجهز ملابس رجال وسيدات من البشتون، وأن يجهز أكبر قدر من فرو الغنم والعربات التي تجرها البغال، كنت أعرف أن الفكرة تقليدية تماماً، لكن منذ متى ونحن لا نستخدم كل ما هو تقليدي هنا، أعجب أبو سعيد بالفكرة وراح يمشي وراء الرجال الذين وضعوا الفراء على أجسادهم كأغنام تسعى في السهول، بينما ركبت على عربة يجرها حمار وخلفي أقفاص وأجولة تبن تغطى السلاح والرجال، كنا ندرك أننا نعبر من مناطق البشتون، وأن الروس يسيطرون على بعض الممرات، لذا رحنا نخترع طرقاً مخالفة، حريصين على أن نكمن وقت استيقاظهم لنمر بهدوء في غفلتهم، كان لنا أعوان وعيون بالقرب منهم، وكان الصباح قد جهز على مقربة من كل موقع عدداً من الرجال لمشاغلتهم إذا انتبهوا إلى عبورنا، اتخذت الرحلة خمسة أيام بين السير والكمون، لم تحدث مفاجآت كبيرة، فقط تعجب الروس من كثرة النساء المتشحات بالسواد في عز الظهيرة، مرة نزل أحد الضباط من موقعه ليشاكس امرأة انفردت بنفسها لتبول، حين انتهت من عملها سمعت صوتاً يرطن بلسان لا تفهمه، رنت بعينها من أسفل الخمار فرأته وحيداً، قامت تلملم نفسها وقبضة من الرمل، ظلت تتأخر وتتأخر حتى اقترب منها، كان فرحاً ببندقيته التي مد خنجرها نحو ظهرها، أبدت التدلل فطمع فيها حتى شعرت أن اللهجة ليست حادة ولا حازمة، فاستدارت وألقت بالرمل في عينيه، لم يكد يصيح حتى انحنت على حجر وقذفته به فسقط فاقداً للوعي، حين أخبرنا الرجل بما فعله شعرنا أن هذا الحدث سيجر علينا الكثير، جعلنا اعتمادنا على الله وطلبت من الجميع أن يتمسك بالصبر وطول النفس، نزل ضابط وخمسة جنود يهرولون خلف العربة التي يجرها الحمار وأوقفونا، كنا عشرات من النسوة ورجل بشتوني وآخر يقود الحمار، أمرت النسوة بالبكاء والعويل والصراخ في وجهه وحمل التراب على رؤوسهن، بينما رحت أجر الحمار بالبشتوني الذي يرتدي عمامة كبيرة وصدرية على قميص وسروال من قماش فاخر، كان الرجل مسناً وبدا أنه سيد الجماعة، لم تكن اللغة المشتركة بين الجنود وبيننا كثيرة، لأنهم لا يعرفون العربية، ونحن لا نعرف الروسية ولا البشتونية، لكننا كنا نرطن بما يفيد أن كبيراً لنا مات وعلينا الوصول قبل أن تفوتنا الجنازة، رطن الضابط مع البشتوني قليلاً فانهال البشتوني ضرباً على المرأة التي أشار إليها وأغرق رأس الضابط بالقبلات، وسرعان ما بصق الأخير على الأرض وأشار بمقدمة بندقيته للموكب بما يفيد استكمال السير، حين وصلنا بالقرب من قندهار وجدنا الذين سبقونا إليها يقيمون في كهوف متفرقة، ووجدنا الذخيرة قد دشنت بشكل طيب.

كان أبو سعيد قد نسي حزنه وأصبح طائراً خفيف الظل، يمكنني القول أيضاً بعد كل هذه السنوات أنه كان أكثرنا حماسة للقاء الروس، أكثرنا همة وقوة، لا يكل من التعب ولا يضجر من العمل، حين تجمع الرجال في جيوب جبلية حول قندهار أخذنا نترصد يوماً لبدء المعركة، كنا نرغب أن تكون المبادرة لنا حتى نستثمر وقع المفاجأة، أربكنا الطقس شديد البرودة كما أربكنا النشاط الزائد لإيفانوف الذي زار قندهار ثلاث مرات متتالية، توقعنا أن يكون أمرنا قد أكتشف، لكن إمدادات جديدة لم تعقب أياً من زياراته، يبدو أن الروس يتوقعون عملاً ما في مكان آخر، هكذا كنا نخمن، لكنهم فاجئونا بغارات مكثفة على جاجي هذه المرة، واستبسل رجالنا هناك في صد عبور سرب من الدبابات إليها، بدا لنا أن الرجل يهوى المباغتة مثلنا، تأكد أيضاً أننا إن لم نحصل على قندهار فسوف يضيع منا كل شيء، فأجمعنا أمرنا على أن نبيتهم ليلاً. دارت أسراب الأغنام في الظلمة حول المدينة، وراح المستطلعون يدلون بما لديهم من أخبار، جاءنا أن الروس خففوا قبضتهم عن جاجي لأنهم اكتشفوا أن عدداً من قوات الشمال في طريقها إلى كابول، رأينا الوقت مناسباً فضربنا بكل ما نملك من قوة، كان تركيزنا في البدء على إفقادهم السيطرة على الأمر، فدخلنا المدينة وأطلقنا النيران على كل شيء، ما عادوا يعرفون من أين تنهال عليهم القذائف، علمتنا الحروب أن مولدات الكهرباء هي العصب الرئيس، حين يصبحون مثلنا فنحن الذين نتفوق، لأننا تعودنا على الظلمة والرغبة في الموت، دمرنا أجهزة الردار وأشعلنا النيران في مبيتات الجنود وسطونا على مخزن أسلحة في جنوب البلدة، كلانا الآن يضرب في الداخل، كلانا متعانقان وليس أمامهم سوى أن يضربوا أنفسهم كي يضربونا، كان أبو سعيد يكمن ثم يكر كشبيب وهو يردد: أسد على وفي الحروب نعامة صفراء تصفر من صفير الصافر. رأيته يطارد الطائرات بأر بي جي، رأيته يصيح فيها: تعالوا إلى موعد بيني وبينكم. أصبنا عدداً من المجنزرات ونصبنا العديد من الكمائن ولم تمر أيام معدودة حتى سقطت المدينة، رأينا العربات تهرول على الرمل والقادة يولون الأدبار والجند لا يعرفون أين يلقون بأنفسهم، كنت أشعر أنهم لا يقاتلون لكنهم ينتحرون فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيد المؤمنين.

كنا نعرف أن إيفانوف لن يستسلم بهذه السهولة، فكان علينا أن نستقبله في طريقه لتدمير كندهار على من فيها، تركنا بها صهيباً ورجاله ورحنا نكمن على رؤوس الجبال، نصبنا الفخاخ بحيث نجبرهم على المرور من المواقع القريبة منا، اعتليت وأبو سعيد قمة هضبة تطل على الموقع وأمرت الرجال بالتضييق على المجنزرات، نجحنا بالفعل في ردهم، ولم يبق إلا الطيران الذي يقصف بعنف مذهل، كنا نختبئ ثم نخرج فجأة كأسود جائعة فتتحول السماء إلى قذائف تصطدم بقذائف، سقط منا الكثير وأسقطنا منهم الكثير، ولم يكن أمامنا سوى الصمود كي لا يضيع كل شيء، فجأة هدأت الغارات وانسحب المجنزرات بعيداً، وهتف بي أبو سعيد" "الصلاة يا أبا عبد الرحمن"، لم أكن واثقاً من أن هذه التقهقر صحيح، ولا بد أن الروس سيغيرون من جديد، لكن الرجل قال:

ـ مرحا يا أبا عبد الرحمن، أولا تريد الجنة؟
ـ أريدها لكن... هل نهرب من قدر الله؟
ـ نعم... نهرب من قدر الله لله نفسه.

فقمت وكبرت وأمني للصلاة، كان صوته يتردد كترنيمة مبهرة شغلتني عما يدور حولنا، فقد عاد الروس واختبأ رجالنا في جحورهم، كانت القذائف تنهال على مقربة منا، بينما المجنزرات تسعى كجراد غطى الأرض، لكن الرجل ظل مطمئناً منعزلاً عما يدور حوله، سورة الأنفال بكمالها يا أبا سعيد؟! كان يرتل وكأنه يتحدث إلى ملائكة أو قوم آخرين، حين انتهى كان الطقس قد تغير، فغامت السماء وجاءت بريح شديدة وغبار كثيف، استدار وشد على يدي طويلاً ثم قبض على سلاحه وصعد الجبل: تعالوا إلى ميعاد بيني وبينكم. كانت قذيفته تنطلق فلا تخطئ هدفها، حين رأى الرجال ذلك خرجوا خلفه من جحورهم غير مبالين، كان الغضب من كلا الطرفين شديد، الروس لا يريدون العودة خاسرين، ونحن لا نريد التزحزح، أخيراً هطلت الأمطار بشدة، وانزلقت أرجل الرجال عن الصخر، لكن الطائرات أيضاً ترنحت، والمجنزرات لم تعد تعرف طريقها، خرج الجميع يضرب في كل اتجاه، رأيت الطائرات تتناثر في الهواء ثم تهوي إلى الجحيم، وأبو سعيد يصرخ: تعالوا إلى ميعاد بيني وبينكم. وكلما رأى الرجال شيخهم واقفاً كملاك يستدعي أعوانه على قمة الجبل كانوا يقبضون على الموت بأيديهم ويلقون به في وجه الروس، حتى صار اللهب أكثر مما توقعنا، وخسر الروس أكثر مما تمنينا، وانسحب إيفانوف إلى غير رجعة، لكن أبا سعيد لم يعثر له على أثر، بحثنا عنه في كل مكان، بحثنا عن رفاته أو أي من روائحه، فلم نجد غير بكائنا عليه، فعدنا إلى مواقعنا قائلين: ويأبى الله إلا أن يتم وعده.

(39)

لا مثيل لدخول السوفيت منذ عشر سنوات إلا خروجهم، فالجنود الذين تباهوا ببقائهم في أفغانستان كل هذا الوقت اختفوا فجأة من الوجود، ولم يبق سوى حطام ما دمروه في طريقهم، فقد دكوا كل شيء بعد أن سقطت كابول، لا أستطيع القول أنها كانت معركة فاصلة لأنها لم تحدث من الأصل، فبعدما سقطت مدن الشمال في أيدب مقاتلي الأفغان، وسقطت مدن الجنوب في أيدينا، توجهت الجميع إلى العاصمة المثقلة بالعتاد والجنود، كان الكل يعلم أنها ستكون مذبحة، ولا مفر من دخولها، لأنه ليس هناك اكتمال للنصر دون الحصول على العاصمة، لذا احتشدنا جميعاً وبدأنا في الزحف، كانت كل الهواجس تقول أن روسيا لن تترك شرف الإمبراطورية يسقط على الأرض، لكن جورباتشوف المشغول بالمصالحة بين الرأسمالية والشيوعية لم يكن ليهتم بشرف أي شيء، كنا نعد أنفسنا للحاق بأبي سعيد كلما اقتربنا من أسوار المدينة، لكن السوفييت فروا في صباح مليء بالغيوم، فوجئ الجميع بالدبابات تهرول على الرمل تاركة خلفها رئيساً أفغانياً لا يحسن تدبير أمر، كان هذا الصباح أسعد ما شهدنا على جبال البلاد التي لا ترحم أحداً، هللنا بتكبيرات النصر ورددت الجبال في كل مكان هتافنا، وحين انتهينا من التهاني بالنصر المؤزر ووقفنا أمام السؤال الذي تهربنا من مواجهته طيلة أعوام النضال، ماذا بعد الحرب؟ وما مصير كل هذه الأسلحة والرجال الذين جاءوا من كل مكان؟ ماذا عن مصيرنا نحن؟ لم نكن نجيب عن ذلك، بل لم نكن نلتفت للسؤال ذاته ونحن نفر ونكر تحت القصف، لكننا بعد أن وضعت الحرب أوزارها لم يعد لنا سوى مواجهته.

كان نجيب الله شخصاً هشاً لا يحتمي سوى بترسانة أصدقائه الروس، فقد كان سكرتير الحزب الشيوعي الأفغاني السابق، ثم جاء من موسكو ليكون خلفاً لكارجيل الذي قدم استقالته فجأة، ولم يكن مطروحاً في الحرب ولا بعدها سوى الخلاص من الروس، وكانت أغلب الجبهات التي خاضت الحرب أحزاب مدنية تحولت بحكم النضال إلى قوات عسكرية، كان أبرزها قلب الدين، ذلك الجنرال السابق في عهد كارجيل، والذي اختلف مع نجيب الله وانضم إلى جبهة الإنقاذ ليكون آخر الداخلين إلى النضال، وبحكم خبراته العسكرية ومعلوماته شديدة الثراء عن الجيش الروسي استطاع أن يحدث تطوراً كبيراً في الحرب بالاستيلاء على مزار شريف وغيرها من مدن الشمال، وكان برهان الدين الرجل المستنير الذي دعا الجميع للتكاتف في جبهة إنقاذ رأسها صبغة الله مجددي، أما عبد الرشيد دستم فقد كان رئيساً لفيلق العسكريين الذين رفضوا دخول السوفيت، وظل منذ ذلك الوقت قابضاً على بندقيته حتى انطوى الجميع تحت راية مجددي في جبهة الإنقاذ، ولطول نضاله وخبرته بحرب المدن فقد أقر له الجميع بالفضل، أما الجماعات الأصغر فعلى رأسها حزب الاتحاد لإسلامي، وحركة الانقلاب الإسلامي، والحركة الإسلامية الشيعية، وجماعة عبد رب الرسول وغيرها، وهذه في مجملها لا تجيد سوى الكلام، لكنها خرجت من الحرب كغيرها بعدد من المعدات والأسلحة وشرف الجهاد.

تدارست مع الصباح وصهيب هذه التفاصيل، ووصلنا في النهاية إلى أن هذه البلاد على وشك حرب أهلية، فنجيب الله ذو ميول شيوعية، ولن ينسى أحد مجيئه من موسكو، ولا يخفى على أحد رغبة كل الأحزاب والجماعات في حصد ثمار العيش في الكهوف الكهوف والمغارات، ولا يمكن التنبؤ بمن سيصل منهم إلى الحكم قبل الآخر، ولو حدث فلن يتركه الآخرون يهنأ دونهم، وهذا صراع طويل قد يأخذ وقتاً أطول مما أخذت الحرب مع الروس، تذكرت أمبرطورية الرجل المريض وكيف أجلت أوربا تقسيمها حتى ظهر من ظن نفسه أنه اللاعب الأوحد، فلم يسمحوا له أن يأكل الكعكة التي تركوها تتحلل أمام أعينهم، قال صهيب لا بد أن الأمر سيكون بهذه الطريقة، قال الصباح لكنا لا نعرف من الذي سيعجل بدخول الجميع إلى الحلبة.

في اليوم التالي التقيت مجد الدين وسألته عن أمره ووضعه، قلت يمكننا أن نساعده كما يشاء إن أراد أن يكون الجالس على الكرسي بدلاً من نجيب الله، لكنه رفض: لا يمكنني أن أكون آخر من أسلم وأول من ارتد. قال أيضاً أنه سيعود إلى مدرسة الطالبان ليمارس مهامه كرجل علم لا حرب، شعرت بكم هو حزين فنكست رأسي ورحت أمشط وجه الرمل بأصابعي، حين رفعت وجهي نحوه وجدته يضعني أمام السؤال الذي هربت منه كل هذه الأعوام، لم أعرف بما أجيبه، فظللت أتذكر وجه أبي سعيد وهو يوصيني بعلى، ووجوه الرجال وقد خرجوا من بلادهم بطرق شرعية وغير شرعية، تذكرت جيش على وأن قواده من قتلة عثمان، وكيف لم يستطع المطالبة بدم عثمان، قلت يا لها من فتنة لا تفرح إلا أهل الشمال. ولم يكن مجد يرغب في إجابة، فسكت ثم أمر رجاله أن يأمنوا طريق عودته، فودعته وعدت أمشط الرمل من جديد.

في الصباح اتصلت ببهاء الدين فهنأني على النصر قائلاً أنه لابد من عودتي، قال أيضاً: لم تعد هنا إمدادات ولا أموال تجيئ رغم إقرار الجميع بفضلكم في النصر. تركته وعدت إلى الصباح، قال أنه لا يستطيع العودة، ولا يمكنه طرح ذلك على رجاله لأن أغلبهم بلا مصدر رزق في بلاده، والسلطات التي سمحت بخروجهم لن تسمح بعودتهم وقد احترفوا فنون القتال. شعرت بالانكسار والحاجة لأبي سعيد، ولم يكن أمامي سوى الاتصال بمن ساعدناهم على عدوهم، فجميعهم يدينون لنا بالفضل، لكن الأيام دول، وكل يوم هو في شأن. وكان الأمر كما توقعت، فقد استقبلني قلب الدين استقبال الفاتحين، لكن طبيعته كعسكري صارم جعلته يقول: الحرب انتهت، وأنتم ضيوفنا، لكن البلاد على أبواب خلاف كبير، ولا نود أن تتدخلوا فيها. لم يبتعد برهان الدين عن هذا كثيراً، لكن حديثه كان ودوداً ويحمل الكثير من التخوف، وحده عبد رب الرسول الذي قالها صراحة: لقد قد انتهت الحرب، فما بقاؤكم إذاً؟! عدت كما يقولون بخفي حنين، ولم أجد من يرحب ببقائنا، وحسبما علمت من بهاء الدين أن آخرين خارج أفغانستان لا يرحبون ببقائنا، ولا يرحبون بعودتنا أيضاً، والكل عن القرار الذي سنتخذه. "لم تبق إلا وجهة أخيرة"، هكذا قلت لنفسي وأنا أعبر المررات بين جبال الشمال وجبال الجنوب.

في الصباح اتخذت شاحنة متجهة إلى بيشاور، ومنها إلى إسلام أباد، الأمر واضح تماماً، على قدر ما تدفع على قدر ما تأخذ، قلت لهم أريد رجالي كما هم في معسكراتهم، لن يدخلوا في شان أحد، ولا يدخل أحد في شأنهم. قالوا والسلاح؟ قلت: بكل ما معهم وما يحتاجونه. قالوا لن تقدر على ذلك لوقت طويل، قلت لن نعدم من ينفق على رجال لا يريدهم أحد على أرضه.

(40)

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر                    لعل منايانا قريب ولا ندري
ألا عللاني بالزجاج وكرروا                    علىّ كميت اللون صافية تجري
أظن خيول المسلمين وخالداً                    سيطرقكم قبل الصباح مع النسرِ

هكذا استقبلني بهاء الدين فاتحاً ذراعيه في مطار جدة، ضحكت من حماسته وهو يلقي الأبيات بفرح شديد، قلت: لقد أصبحت شاعراً في غيابي. ضحك كمن تلقى مكافأة: يا ليتها لي، لكنها لشيخ من سوى، أنشدها حين علم بتوجه خالد بجيشه من العراق إلى الشام، وأنه سيمر على قريتهم، فراح ينشدها من الخوف، لكنني كنت أنشدها فرحاً كلما سمعت بانتصاراتك، حتى نذرت لله أن أقف أمامك لأنشدها كما كان المتنبي ينشد سيف الدولة قصائد مديحه. ضحكت من نذره وأرد رد التحية بمثلها:

وكنا كندماني جذيمة حقبة                    من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً                    لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

فتغيرت ملامح الرجل كأنه قد أوشك على البكاء، قال أمتدحك وترثيني؟! أما علمت أن هذا ما قاله تميم في رثاء أخيه مالك. شعرت أنني ارتكبت جريمة دون أن أدري، فرحت أعتذر، لكنني كلما اجتهدت نظرت إلى ضرب ملامحه ففسد على اعتذاري، في النهاية أعفاني من حرجي: يبدو أن الحرب جعلت وقحاً. ضحكت وبدا أنني صرت وقحاً بالفعل، وأن سنوات الكهوف والجبال أفقدتني دماثة القول وحسن اختيار الكلام، ولم ينقذني من حزني وشرودي سوى سؤاله: إلى أين تريدنا أن نذهب؟ تذكرت أنه ليس هناك سوى البيت أوالمكتب، تذكرت أمي وزواجها فضاقت نفسي: ارسل الأولاد إلى البيت ودعنا نذهب إلى المكتب. همهم قليلاً ثم أمر الرجال بما قلت، حين وصلنا تدفق الجميع مهنئين من كل حدب وصوب، كنت أتذكر البعض وأنسى البعض، لكنني طردت حزني وأحتضنتهم مبتسماً شاكراً، في النهاية أعلن بهاء الدين عن مكافأة بمناسبة عودتي سالماً، فهمت من حديثه أنه أمر لهم بمكافأة حين علم بانسحاب الروس وانتهاء الحرب، لم تكن الهواتف تكل من الاتصال والتهاني، وبهاء يشكر ويعتذر، بعد ساعة قال لا يمكن أن نستقبل الناس في مكان العمل، ولا بد من العودة إلى البيت، قلت: جهز لي مكاناً غير الذي تقيم فيه أمي.

مكثت عدة أيام أستقبل زواراً في القصر الذي جمعت فيه زوجاتي الثلاث، جعلت لابنة خالي الكلمة العليا على الجميع، وجعلت لليمنية جناح يخصها، وللسورية التي تزوجتها في بيشاور جناح آخر، ورحت أتهرب من لقاء بهاء الدين حتى شعر الرجل بالحرج، كان على قلبي حزن بحجم أحد، وكانت عاداتي قد تغيرت في كل شيء، فصرت لا أنام، وإذا نمت فلا أرتاح إلا على فراش جاف في غرفة بلا أثاث، وأهرب من أم عبد الله قدر ما أستطيع، حتى شعرت أنني رجل غير الذي فارقها، قالت: عمتي اتصلت كثيراً ويجب الذهاب لملاقاتها. فنهرتها وتركتها وعبد الله يبكيان من الخوف، لم يكن أحد يدري بما يجتاحني من حزن، عدت على طائرة خاصة لأنام في قصر بينما رجالي ينتظرون مصيراً مجهولاً في كهوف جبال لا ترحم، كان حزني وغضبي وحيرة أمري فيما أوصلتهم بلا حد، وكانت غربتي عن القصر أكبر من أن تحلها الكلمات، كنت أتمنى لو آخذ عربتي وأنطلق لأصطدم بصخور جدة، أو ألقي نفسي في حضن أمي وأبكي كما كنت أفعل قديماً، لكن كبريائي كان أكبر من أن يهزم برغبة أو قرار، فظللت معتكفاً في غرفة عارية من كل شيء حتى جاءني الخادم: الشيخ بن باز في الخارج. هرعت من فوري أستقبل وأرحب بالرجل كما ينبغي لعالم جليل مثله، هنأني على الانتصار قائلاً أننا فخر الأمة وحماتها. لا أعلم لم رغبت أن يبقى الرجل أطول وقت، لكنه قال: لولا مسئولياتي لأمضيت النهار كله معك، لكن هذا ليس آخر ما بيننا. فهمت منه أنه يريدني أن أحضر درسه في الحرم المكي لأحدث الناس عن الجهاد وضرورته، شعرت أنني وجدت ضالتي، وأن هؤلاء المنعزلين في الكهوف لن يعدموا من يناصرهم، صرخت في الخادم أن يجهز الحمام، وفي آخر أن يحضر السيارة، وما أن رآني بهاء الدين مقبلاً عليه حتى احتضنني وهو يتلعثم بكلمات لم أعيها، فلما انتهى من ضمه وتقبيله قال:

فلما تفرقنا كأني ومالكاً                    لطول اجتماع لم نبت ليلة معا.

(41)

توجهت الطائرة بنا إلى باكستان، كان بهاء الدين يرغب في رؤية الرجال وتهنئتهم بنفسه على النصر، حين وصلنا إلى معسكر القادسية وجدنا حالة من الغليان، فقد شعر الرجال أن الكل تخلى عنهم، كان صهيب كارهاً لفكرة الانتظار دون موقف واضح، فتباينت الآراء وازداد الشد والجذب، وبدا على بهاء الدين الضيق من ارتفاع أصواتهم، فخرجت خلفه وأنا أقول "لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، فتعلل بظروفه الصحية وعدم القدرة احتمال الصوت العالي في سنه هذه، أخذت في شرح كيف تعودنا أن يكون الأمر شورى، وكيف تعلمت منه أن أنصت حتى اتخذ أمري عن بينة، قلت: قيادة رجال يحملون السلاح وسط صخور لا ترحم ليست كإدارة أناس لا هم لهم إلا المكافآت والمرتبات العالية. وكأني ذكرته بوالدي في شبابه فابتسم ودفعني لأعود إليهم، حين عدت وجدتهم كلوا من الخلاف والنقاش وأصبحوا راغبين في الوصول إلى حل، قلت: لقد أبدينا أسوأ ما فينا أمام الرجل الذي حلم أن يرى ملائكة الله التي نصرت دينه ورفعت كلمته، هذا الرجل الذي ندين له جميعاً بالفضل جاء ليرى الله في قلوبكم وأيديكم، لكنه رأى الفرقة والضغينة وحب الرياسة والتحزب، فهل هذا ما أرتم أن تستقبلوه به؟ رأيت الأسف علا الوجوه، وراحوا يعتذرون له ولبعضهم البعض. قلت: من منكم يريد أن يعود إلى بلاده؟ رأيتهم يؤخرن قدماً ويقدمون الأخرى، فنحيت الكبار وسألت أكثر الأطراف تشدداً وهو أبو قتادة، قال أنه يرغب في العودة إلى بلاده، فجبهة الإنقاذ على وشك عمل كبير وهو يريد أن يشاركهم فيه، وجدت للرجل منطق طيب فسألت الصباح عن رأيه، قال أنه لا يرى ضرورة للعودة، ولو كانت الأحداث في الجزائر تسمح بعودة أبي قتادة فإنها في مصر لا تسمح به ولا بغيره، ولا يمكننا أن نجلس هكذا بلا هدف أيضأً، استدرت إلى صهيب فقال: أنا لا مع ولا ضد، لكنني أحتاج إلى معاقبة الذين يرفضوننا في بلادنا، أحتاج أن أعاقبهم على كفرهم وفسادهم وتعطيلهم شريعة الله في الأرض، ولا يمكننا أن نهزم الروس هنا ولا نحرر بلادنا من الناكثين والقاسطقين. جلست أسأل وأنصت، وكلما سمعت ازددت يقيناً أن الرجال يحتاجون إلى عمل يشتثمرون فيه طاقاتهم المهدرة على قمم الجبال، قلت ما كنا نحارب كل هذه الأعوام حتى نضع سلاحنا ونعود أذلاء أرقاء في الأرض، وما كان مشروعنا قتل رجل أو اثنين، أو مناصرة حليف أو شخص، ما خرجنا إلا إعلاء لدين الله، وهذا لن يكون إلا بقيام دولة تطبق شرع الله وتحافظ على حدوده، لكن هذا الحلم الذي ورثناه عن شيوخنا وشيوخ شيوخنا لن يأت بين يوم وليلة، ولا بد أن نوطن أنفسنا على أنهم لنا كارهون، ولن يستقبلونا على بساط من ذهب، وإذا أردنا للحلم أن يتحقق فلا يجب أن نتعجل، لأن كل البلاد ليست أفغانستان، وكل الجهاد ليس جهاد الكفرة الملاعين، فجهاد النفس أكبر، وجهاد المخطئ والمتعنت أشد، ولا بد أن نتدبر كل خطوة بعيداً عن التعجل أو الكاسل، وغداً سيذهب منكم أناس ويبقى أناس، وليس الباقي في حل من مسئولية الذاهب، وليس الذاهب إلا أميراً في موقعه، راع لأناسه، يتدبر معاشهم وأمنهم، وليس للجماعة أن تختلف إلا لوجه الله، فاصبروا وقاتلوا، فما صبركم إلا بالله.

حين انتهيت شعرت أن الخزي كلل الجميع، فراحوا يعتذرون من جديد: ما تراه إن شاء الله إنا له فاعلون. قلت لهم لست وحدي، فأنتم معي، ومعنا آخرون، من على رأسهم ذلك الضيف الذي أغضبتموه. فتذكروا بهاء الدين وتسابقوا على مصالحته، ولم تمر دقائق حتى عادوا به محمولاً على أعناقهم، رأيته يضحك وهم يدورون به مقبلين رأسه ويديه، خشيت على الرجل من كثرة السعال والضحك فصرفتهم وجلسنا نحتسي شاياً أخضر، بعد أن صفت النفوس أومأت لبهاء الدين أن يتحدث فقال: العودة إلى البلاد أمر لابد أن يحدث، لكن ما الذي ستفعله بنا حكومات متربصة، وجيوش لا تفعل إلا ما تؤمر به، وما الذي سنفعله نحن هناك إذا عدنا فرادى مسالمين، لا بد أننا سنجد مسقبلاً طويلاً في السجون المظلمة، وربما يكون القتل نهاية الطريق، وليس من اليسير القول العين بالعين والسن بالسن، فنحن لسنا جيشاً يحارب جيشاً، ولا يمكن أن نشيع الفساد أو نكرس له، لذا علينا قبل كل شيء أن نعرف أعداءنا من أصدقائنا، وعلى أية أرض سنضع أقدامنا قبل أن نحركها من مكانها.

في طريق العودة قال بهاء الدين رجالك يتصارعون، فصهيب يزايد على الصباح، وأبو قتادة يزايد على الجميع، ولا بد من حل قبل أن يخرج الرصاص من البنادق. خففت من تخوفه ورحت أشرح له الصراع الذي ورثاه عن الجهاد والجماعة الإسلامية، ذكرته بلقائنا مع الشيخ الضرير والصباح، وكيف كان كلاهما لا يطيق سماع شيء عن الآخر، وما صهيب إلا تلميذ الشيخ، وما الصباح إلا بقية من الجهاد، كلاهما جمع رجاله خلفه على هذه الصخور، وكلاهما يسابق الآخر لتكون له الكلمة العليا، وخبرة الصباح في السياسة أوسع، بينما جرأة صهيب في الحرب أكبر. بعد ساعات من النقاش طأطأ الرجل رأسه: لو لم تهاجمني الشيخوخة لفعلت شيئاً من أجلك، سألته عما يعنيه، قال أن الأمر يحتاج لعدة جولات لتنشيط العلاقة بجبهات الإخوان في العالم، فما حققتموه نصر رفع من شأنكم لدى الجميع، ومؤخراً اعتلت جبهة الإنقاذ الإسلامية في السودان الحكم، والأخبار التي تقول أن التيارات الإسلامية في الجزائر توحدت في جبهة يقودها عباسي مدني لإسقاط نظام الشاذلي بن جديد، ويمكننا أن نتفاعل مع هؤلاء وهؤلاء عبر قنوات الإقتصاد.

أصابني حديث الرجل بالحماس والقلق، وشعرت أننا مقدمون على أمور لا نعرف إلى أين ستأخذنا الأحداث فيها، فمكثت أتابع أخبار العالم كخبير عسكري، كانت مصر وسوريا والعراق على وشك توقيع اتفاقية دفاع مشترك، وكان جورباتشوف يعاني من مشكلات خروجه من أفغانستان، ولم يكن أمامي سوى التفكير فيما قاله بن باز، فعقدت مؤتمراً إعلامياً تحدثت فيه عن دور العرب في دحر السوفيت وتحرير أرض الإسلام، ذاكراً عدة إحصئيات عن المجاهدين وجنسياتهم، والذين يسلمون في العالم كل عام، وفي النهاية ألمحت إلى أن نصروا الله وأعزوا الإسلام يحتاجون العون بشى أشكالعه. ويبدو أن ظهوري لأكبر قدر من الناس لاقى قبولاً لم أتوقعه، قال بهاء الدين أن الهاتف لم يتوقف طيلة اليوم، وأننا في حاجة لفتح حساب في البنك لجمع الأموال المقدمة كدعم للمجاهدين، فناقشت معه كيفية جمع المال، سواء عبر أناس بأعينهم أو على رقم حساب باسم "أنصار الله"، لكن الأمر لم يخل من قلقل المسئولين في المملكة وغيرها من عودة المجاهدين، فطلبت منه يعلن للجميع أنهم لن يعودوا إلى بلادهم طالما نستطيع أن نكفلهم في معسكراتهم.

(42)

كانت بدايتي مع الأحلام ومهاجمتها لي في النوم واليقظة هذا العام، فوجدتني أغفو وأصحو ولا يفارقني الحلم إلا بانتهاء أحداثه، فما إن ودعت خالي وعدت إلى البيت كي أنام، ما إن وضعت رأسي حتى رأيت شيخاً يجتمع بسبعين رجلاً في دار لأحدهم، علمت أنه صالح بن مسرح زعيم الصفرية، وهؤلاء رجاله، كان يحثهم على القتال والصبر فيه، ثم خرج بهم إلى دواب محمد بن مروان فأخذوها وانطلقوا فأقاموا في أرض تسمى دارا نحو خمسة عشر يوماً، فأرسل لهم محمد بن مروان أرسل فارس فأعملوا فيهم السيوف حتى نجى منهم القليل، فلما عادوا لبن مروان استشاط غضباً وأرسل جيشين، كل منهما ألف وخمسمائة فارس، فهزموا صالحاً وطاردوه إلى أرض الموصل ـ تللك التي تحت إمرة الحجاج بن يوسف، فأرسل بدوره ثلاثة آلاف فارس لملاقاتهم، فوزع صالح راله بينه وبين شبيب وسويد بن سليمان، فقتل صالح وفر سويد وجرح شبيب، فالتف حوله من بقى من الرجال ودخلوا داراً وأغلقوها على أنفسهم، فحرق جند الحجاج الباب وانتظروا أن يأخذوهم أسرى، لكن شبيباً ومن معهم خرجوا مبايعين أنفسهم على الموت، فقتلوا من جيش الحجاج الكثير، وطاردوا من بقي منهم.

استيقظت على صوت الخادم، قال ان بهاء الدين يريدني أن أتصل به، فأمرته بتجهيز الحمام والفطور وذهبت إلى أم عبد الله، قالت أن أمي أمي تشتاق لي وتريد أن تجيئ لرؤيتي، فقلت أنني لا أريدها ولا أريد سمع شيئاً عنها، ثم تركتها غاضباً ورحت أجهز نفسي للخروج. في الطريق إلى المكتب تذكرت ما رأيته في منامي، تذكرت صورة شبيب وهو يقاتل بدرواة أسد جريح، وفجأة لاحت في ذهني خارطة العالم العربي، فرحت أبحث عن دولة تصلح أن تكون مركزاً لإمارة المسلمين، لا في ذهني عبيد الله المهدي وهو يأمر داعيته الشيعي أن يتجه من اليمن إلى المغرب: لقد مهدت الأرض وحرثت ولا تنتظر إلا زارعها،. تذكرت الأدارسة في موريتانيا، والأمويين في الأندلس، والخوارج في تشاد، وسيطرت على فكرة العودة لأنشر الخريطة أمام عيني، وأتدبر المكان المناسب لينتقل رجالنا إليه، كنت كلما فكرت في الأمر ازددت حماساً ورغبة في بهاء الدين لمناقشته في ذلك، نشرت الخارطة واتصلت به صارخاً: وجدتها يا صاحبي. قال: ما هي؟، قلت: البلد التي تصلح لأن تكون إمارة لرجالنا. فأغلق الهاتف في وجهي، حاولت أن أتصل من جديد لكن لم يجب، فلعنت الشيخوخة وخرفها وجلست أتدبر الأمر وحدي، لكنني شعرت أن رأسي مثقل، وحاجتي النوم تزاد، فوضعت رأسي على الخارطة واستسلمت له، رأيت شبيباً يخرج لجيش للحجاج بن يوسف فيهزمه، ويتجه برجاله إلى المدائن، فيخاف منه جند الحجاج ويفروا إلى الكوفة، فلما وصلوا إلى الحجاج بها جهزهم في جيش جديد من أربعة آلاف فارس، فذهبوا إلى المدائن يطلبون شبيباً، رأيته يفر بين أيديهم كالخائف ثم يرتد عليهم فجأة فيكسر مقدمتهم وينهب ما فيها، ولا يواجه أحداً إلا هزمه، والحجاج يلح في طلبه، فيجهز السرايا ويرسل المدد، وشبيب لا يبالي بأحد، وما معه إلا مئة وستون فارساً، يحملهم في طريق جديد إلى الكوفة نفسها، فيخرج الحجاج جيشه بتمامه لملاقاته، رأيت شبيباً ينزل بدير في المدائن ويطلب شواءً، قيل له‏ قد جاءك الجند فأدرك نفسك، وهو يضحك قائلاً لصانع الطعام أجده وأنضجه، فلما أستوى أكله على مهل، ثم توضأ وصلى صلاة كاملة، وتقلد سيفين وعاموداً من حديد وخرج قائلاً ‏:‏ أنا أبو المدله ولا حكم إلا لله. وتقدم نحو أمير الجيش الذي يليه فضربه بالعامود فأرداه، ومال على الجيش الآخر فصرع أميره وهرب الناس من بين يديه إلى الكوفة، فدخلها في آخر آخر الليل قاصداً قصر الإمارة، فلما وصله ضربه بعاموده فكسره.

استفقت على بهاء الدين الذي دخل كالثور الهائج، قال مازلت طفلاً، تأكل وتنام ولا تدرك جرائر عملك، شعرت أنه أصبح شخصاً غير الذي أعرفه، فلأول مرة يخرج عن هدوئه وحكمته، وأيقنت أنني أحدثت مصيبة لا يمكن تداركها، فتمالكت نفسي وأنا أسأله من جديد عما حدث، فتركني وأخذ يوصل هاتفي بجهاز أخرجه من علبته، ثم أمرني أن أتصل بأي شخص آخر، لم يأت على ذهني غير هاتف سيارته فاتصلت به، حين رد على السائق ورأيت الجهاز الذي أوصله يطلق رنيناً وضوءاً أحمر، فأخذ السماعة ووضعها فصمت الجهاز كجثة هامدة، مرت لحظة توقف فيها ذهني عن العمل، ولم أستطع الربط بين صوت السائق وما حدث، قال خطوطنا كلها مراقبة، وأنت تحدثني عن رجال ودولة كأنك تتحدث عن منام رأيته، باغتتني جملته الأخيرة فتوزعت ما بينه وبين شبيب الذي يطاردني، ثم رفعت السماعة من جديد واتصلت بالمكتب فجاءتني الصافرة والضوء الأحمر. قال يمكننا أن نترك لهم الهواتف، ويمكننا أن نرسل في إحضار جهاز يمنع المراقبة، وأن نتحدث عبر هواتف لا يعرفون أرقامها، قال كلاماً كثيراً لكنني لم أسمع منه شيئاً، لأنني كنت منشغلاً بضربة شبيب التي صدعت باب الإمارة، قلت: يمكننا أن ننشئ سنترالاً نتحدث من خلاله. فقال من الغد أتحدث مع الأمير في إنشاء شركة اتصال، فشوارع أوروبا الآن تمتلئ بكابينات الاتصال، فلم لا نكون أول من يدخل هذه الخدمة؟

أخرجتني المفاجأة وحماس بهاء الدين لفكرته عما أردته من أجله، لكن بهاء لم ينس، فنشرت الخارطة بحماس فاتر ورحت أشرح فكرتي عن تكوين دولة إسلامية في الشمال الغربي من إفريقيا، تماماً كما الأدارسة والشيعة، حين انتهيت من حديثي رفع نظارته ومسح عينيه: الأمر ليس بهذه البساطة. قلت: لكنه ليس مستحيلاً. قال لم يعد العالم كما كان منذ ألف عام، فعلى كل شبر أسوار وحكومات وخونة وأعوان، وهذه الأحلام تحتاج إلى تخطيط وعمل طويل. شعرت في منتصف حديثه أن رأسي أخذة في الثقل، ووجدتني أتثائب في وجهه حتى انتقلت العدوى إليه، فقطع فجأة: اذهب فنم ولا تصيبني بالخمول معك، وحين تستيقظ أكون قد جهزت لك معلومات عن بعض الدول، لكن قبل أن تنام ضع وصلة هذا الجهاز في أذنك لتتأكد أنهم يتجسسون على أحلامك أيضاً.

(43)

لم يمر يومان حتى وجدت على مكتبي عدة ملفات بلون أزرق عن السودان والجزائر والصومال وموريتانيا وليبيا، ملف واحد كان باللون الأحمر عن اليمن، طلبت من مدير المكتب ألا يدخل على أحد ثم شرعت في القراءة، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساءً حين انتهت من قراءتهم، هاتفت بهاء الدين: ما رأيك في عشاء فاخر على حسابك. وصلت المطعم متأخراً فوجدته اختار ركناً قصياً، صرفنا الخدم والحرس وجلسنا نتناقش، قلت السودان مكان رائع، يمكننا أن نتقارب مع الترابي ونقيم دولة قوية، فهناك سنكون بعيدين عن الأعين وفي قلب العالم أيضاً، ويمكن لرجالنا أن يتسللوا لرؤية أهليهم أو تكوين خلايا الت نريدها في بلادهم. قال والجزائر؟ قلت صحراء شاسعة يتوه فيها كل البشر، ولا يمكننا أن نغامر على مشروع جبهة الإنقاذ، لأن بن جديد لن يسكت، وإذا سكت ففرنسا وأوربا لن تسمح بأن تكون مستعمرتها الججميلة دولة إسلامية. قال: جبهة الإنقاذ على أبواب الانتخابات، ولو ساعدناهم في معركتهم سيساعدونا في مشروعنا. ناقشنا أوضاع دول أخرى ولم نتفق إلا على هاتين، بعدها سحب الملف الأحمر ملوحاً في وجهي: وماذا عن هذا؟ قلت العقيد لن يترك فرصة للإسلاميين، وأقصى ما يمكن عمله هو اقتناص عدن منه. قال إنها شيوعية، قلت الشيوعيون ينهزمون دائماً، ولو أوعزنا إلى الغرب برغبتنا لتركنا ننفصل بها عن الجنوب، لكننا سنظل محصورين، فالبحر من أمامنا والعقيد من خلفنا، ولسنا أهل بحر ولا جو. قال: وماذا عن حاشد وبكيل؟ لم أفهم ما أراده الرجل، فأوضح: خطواطتنا مراقبة، وأمورنا لا تسير كا نتمنى، فما الأقرب لنا؟ قلت: اليمن، قال: فلم نترك بيتاً تركه الأجداد لنا؟ كانت دهشتي من رجل المخابرات الجالس أمامي كبيرة، فأردت أن أجادله، لكنه حسم الأمر: لا أقول أن تتجه بنفسك، لكن هذا مخبأ جيد. قلت: لم لا نوسع الأمر ويكون لنا في كل مكان أهل ومخبأ، قال سنعود إذاً إلى هيكلة الجماعة من جديد، وهذا يحتاج إلى معانقة الإخوان الذين أغفلناهم، فهم الذين لديهم شبكة باتساع العالم. وأنا مازلت قادراً على أن أفعل شيئاً من أجلك، فقط تأهب للقاء عباس مدني.

في الصباح أخذت طائرة إلى تركيا ومنها إلى فرنسا ثم الجزائر، مستعملاً عدة جوازات مرور مختلفة الأسماء والجنسيات، حين وصلت اتخذت سيارة من المطار إلى أحد الفنادق الشهيرة بالعاصمة، ارتحت من سفري ثم اتجهت إلى المطاعم لتناول الغداء، بعدها جاءني من يقول أن الدكتور ينتظرك في مزرعته الآن، اتجهنا إلى بيت كبير في مزرعة على حدود تميمون في الصحراء، فخرج الدكتور عباس للقائي، وقبل أن أنطق بكلمة قدمني لأصحابه: هذا الرجل هزم الشيوعية في عقر دارها، فوجدت الحفاوة تنهال على من كل جانب، حتى أن بعضهم قال أنه سأل الله ألا ينتهي أجله حتى يراني، أخجلتني الكلمات وحرارة الاستقبال فقلت أن ما صنعناه لا يزيد أهمية عما تفعله الجبهة الآن في الجزائر، ونحن كمؤسسة اقتصادية إسلامية نريد أن نتوسع في بعض المشاريع في إفريقيا، ورأينا أن الجزائر ورجالها المجاهدين خير من يستحق أن نتعاون معه. قالوا أن الجزائر عما قريب ستكون دولة إسلامية، وأن الجبهة ترحب بكل ما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين. اتقنا على إنشاء شركة مقاولات ومصنع فوسفات، ثم وقعت شيكاً بعشرة ملايين ركته قائلاً من أجل الثورة.

لم يكن طريق الدخول طريق الخروج، فقد اتجه بي الرجال إلى الجنوب الشرقي حيث عبرنا إلى موريتانيا، ومنها اتخذت طائرة إلى إيطاليا ثم تركيا، كانت وجهتي حتى ذلك الوقت العودة إلى المملكة، لكن نفسي اشتاقت لرؤية الرجال والاطمئنان عليهم، فأتجهت إلى إيران ومنها إلى باكستان، حيث فوجئ الجميع بمراسل صحفي أمريكي الجنسية يحمل خطاباً من أبي عبد الرحمن لملاقاة الصباح أو صهيب، كنت أعلم ما في الأمر من مغامرة، لكن رغبتي في أن أرى الحياة كغريب عن المكان جعلتني أصر عليه، خضعت لممارسة أمنية شديدة من قبل الرجال الذين نشرهم الصباح على الحدود، ثم شممت رائحة ذكية وجدت نفسي بعدها في كهف أنتظر مجيء الصباح، ما أحدثته من تنكر في تركيا خال على الرجال الذين مارسوا مهامهم بروتينية مفرطة، حتى وجدتني أضحك وأنا أقدم للصباح الخطاب الذي كتبته في الطائرة ودمغته بخاتم أبي سعيد، شعرت حين نظر الرجل لوجهي متجهماً أن الأمر خال عليه، فسألته بالإنجليزية عن الصباح، فابتسم قائلاً ما كان لأبي عبد الرحمن أن ينسى رفاقه بهذه السرعة، ثم رفع ذراعيه ليحتضنني، فألقيت نفسي بين ذراعيه قائلاً كيف عرفتني، قال لأنني أشمك، لكنني لم أتخيل أنك تحب اللهو إلى هذا الحد. ثم احتضنني من جديد وخرجنا نتفقد الأمور، كانت فرحة الرجال بمغامرتي ودخولي إليهم دون سابق إنذار أكبر مما أتوقع، سألتهم عما يفعلون، قالوا يأسنا من التدريب وقلنا نشغل أنفسنا بزراعة أي شيء، دهشت من الأمر فقال الصباح: خشخاش. بدا لي أن المفاجآت أصبحت أكثر مما أتوقع، فأردف قائلاً وجدناه ينبت مع الحشائش في السهول، ووجدنا الأفغان يحصدونه ويبيعونه لأناس يجيئونه من آخر العالم، فقلنا: لم لا عتني به، قلت ثم ماذا؟ قال: فكرة ليس أكثر، ربما نتدبر من خلالها ما يعينك على إقامتنا هنا، لم أستوعب ما أراد أن يرمي إليه، فقال: ليس هناك فتوى صريحة بتحريم الحشيش، وإذا كان محرماً فإننا لن نتناوله، لكننا سنبيعه لأناس يتناولونه، أناس في الهند أو الصين وربما الروس أنفسهم، فهم لا دين ولا خلاق لهم، وليس لديهم محرم ولا ممنوع، وإذا لم يجدوه عندنا اشتروه من غيرنا، فلم لا نزرعه ونحصد منهم ما يعيننا على جهادهم، وهذا شرع الله الذي قال "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، بدا لي الحديث مقنعاً وإن ظلت الريبة تساورني، فسايرته قائلاً فماذا فعلتم؟ قال: أحضرنا عدة أجولة من البذور، ورحنا ننثرها في السهول التي تحت أيدينا، ثم أحضرنا قطيعاً من الغنم ورحنا نمرح به في المكان طيلة الأيام السابقة، وها نحن في انتظار أن يمن الله علينا بالمطر. ضحكت من عبثهم: يبدو أنني لست الوحيد الذي يحب اللهو على كبر. وفي غمرة الضحك بزغ في رأسي صهيب وجديته والتزامه، قلت وما موقف صهيب من ذلك، قال منشغل في معسكر بدر بتجهيز عدد من الراغبين في العودة إلى بلادهم. قلت يثنيهم؟ قال بل يخبرهم بطرائق الدخول وبمن يتصلون. طلبت أن يرسل في إحضاره هو وصهيب وأبي قتادة والبنشيري، وأخذت أدور على جواد حول المعسكر لأرفع من روح الرجال وأبشرهم بالخير.

في المساء كان الأربعة ينتظرون عودتي، سألت صهيباً عن أخباره فقال أن بعض رجاله سافروا إلى مصر، وبعضهم في الطريق إلى تونس، وأنه جهز لهم بطاقات هوية وجوازات مرور، وأمرهم أن يدخلوا عبر الصحراء، سألته عن كيفية الاتصال فقال أن بعضهم من البدو والبربر، وهؤلاء من خلال ذويهم يشكلون شبكة سرية في الصحراء الكبرى، نصحته أن يترك تنظيم الإتصال للصباح، وأخبرتهم بما توصلت إليه مع بهاء وعباسي مدني، وطلبت من أبي قتادة أن يجهز نفسه ومن يريد للعودة إلى الجزائر، أما البنشيري فطلبت منه أن يجهز مجموعة أخرى ليغزو بها السودان، وأخبرته أن عليه أن يجمع أكبر قدر من الرجال حوله، وينشئ معسكراً لهم بعيداً عن الخرطوم، وكلما استطاع أن يجند الغرباء فذلك أفضل، وأكدت عليه ألا يأتي بنشاط مخالف للحكومة هناك، وقلت للصباح أن يعد طريقة ليتواصل بها الجميع معه ومع بعضهم البعض، وقبيل أن ننهي الاجتماع سألت صهيباً عن رأيه في خشخاش الصباح فقال، لقد صدقت حين أسميته بذلك، فما قلعة ألموت ببعيد. ضحكنا ونحن نتذكر كيف بنى الصباح ملكه على جنة من الخشخاش والخمر المعتق، ثم تركتهم والسماء أميل إلى السواد من كثرة الغيم المحمل بالماء.

في المملكة كان بهاء الدين قد أقام الدنيا بحثاً عني، كان قد خشي أن أكون قد أصيبت بأذى في أجواء الجزائر المتوترة، انفجرت من الضحك وأنا أعابث الرجل الغاضب، ثم أخبرته بمغامرتي في الدخول كصحافي أمريكي، وكلما وصفت معاملة الرجال لي وحيرتهم في أمري كان غضبه يشتد، ولم يضحك إلا حين أخبرته بمشهد الصباح وهو يمشي وراء الأغنام في السهول كي يواري حبوب الخشخاش , قال لعله الآن يصلي مستسقياً الله لبذوره قبل أن تأكلها الطيور أو يفسدها الطل. وكاد يموت ضحكاً حين سألته عمن يبتاع ما قد يحصده الصباح هذا العام، فلم يتمالك نفسه وهو يقول جابريل جارثيا ماركيز، فسألته ومن هذا المركيز، فقال مرشح الحزب الحاكم لرئاسة إحدى دول أمريكا اللاتينية.

(44)
خريف 1990

في السادسة والنصف، صباح الثاني من أغسطس استيقظت على هاتف من بهاء الدين: فعلها المجنون واجتاح الكويت. كنا قد تحاورنا كثيراً عن أجواء التوتر بين صدام حسين وكل من الكويت والسعودية والإمارات، وكان خالي يراه منذ وصوله إلى حكم العراق عام 1979 جزاراً خائناً، زادت هذه الكراهية حين ألغى اتفاق الجزائر عام 75 للتفاهم حول شط العرب، بعدها بدأت ثمان سنوات من الحرب الطويلة بينه وبين إيران، وكنت يومها مقتنع بما يردده الإعلام من أنه حامي الجبهة الشرقية للعالم العربي من غزو الثورة الشيعية، وكانت المملكة والكويت يساعدانه بكل ما يملكان حتى لا يسقط ويجدوا أنفسهم في مواجهة إيران، ظللت أنصح بهاء الدين أن يقلل من تعصبه للشيعة حتى إلى أن وعدته بألا أحادثه في أمر الشيعة ما حييت، وظل هكذا الأمر حتى انتهت الحرب الإيرانية العراقية، فاتصلت به من بيشاور لأهنئه على حقن الدماء بين الطرفين، لكنه قال كلمة الخميني "إنها كأس السم"، ولم أرد أن أجادله فيما يؤمن به، لكنه أردف "إنه مصاص دماء، لو لم يجد فريسة غرس أنيابه في عنق أقرب الناس إليه"، دعوت الله ألا تتحقق نبوءته وتركته لأعود إلى الحرب، ومع أول خلاف بين صدام ودول الخليج لإلغاء ديونه ـ وهي مليارات ـ قال لهم أنه حارب نيابة عنهم، ووجدت بهاء الدين يقول لي: أرأيت، يعشق الدماء ولن يهدأ حتى يغرس أنيابه في أعناقهم، قلت أن مطلبه يستحق النظر، فلم لا تخفض الدول العربية إنتاجها من النفط كما فعلت عام ثلاثة وسبعين، فيرتفع سعر البترول ويسددوا ديونه من شرايين الغرب. قال أنه واهم، فلا الغرب سيقبل ولا ثلاثة وسبعين هي تسعمائة وتسعين، ولا تستطيع عائلة الصباح التي أعاد لها البريطانيون ملكها في بداية القرن أن تقف أن تخالفهم في نهايته، ولوا فعلوا فمن سيحميهم من دراكولا لو قرر أن يغرس أنيابه في أعناقهم. أدركت أن وجهة نظر بهاء صائبة، فخرجت للناس محذراً من دراكولا، لكن علاقات المملكة معه كانت على أفضل حال، وما كان لأحد أن يتوقع هذا التوتر الذي تتابعت أحداثه بشكل غريب، كنت أحذر كالمجنون بكل ما قاله وما تصوره بهاء الدين، لكن أحداً لم يسمع، فكتبت رسالة طويلة شرحت تحدثت فيها عن نفسية صدام وطريقته العدوانية، وقلت أنني لدي أكثر من مئة ألف مقاتل يمكن للمملكة أن تستضيفهم لتؤمن حدودها من هذا الغادر، وذهبت بها إلى الأمير نايف طالباً منه أن يقدمها لولي العهد، وانتظرت أن يسمع لي أو يرسل أحداً لمناقشتي، لكن شيئاً لم يحدث.

أغلقت الهاتف وخرجت أستطلع قنوات الأخبار، كان الحدث كما وصفه بهاء الدين، اجتياح عام لتلك الإمارة التي قال صدام عنها أنها محافظته الثامنة والعشرين، ولم تمض ساعات حتى تأكد هروب أمير الكويت إلى المملكة بعدما قاتلت قواته بضراوة لحماية قصره، لكن الأمير الذي فر ترك خلفه عائلة كبيرة للانتهاك والأسر، فخرجت كالمهووس مرة أخرى أحذر الناس من خطر هتلر جديد، وأن علينا الجهاد للدفاع عن أموالنا ووطننا وحرمنا الشريف، لكن الناس كانوا سكارى وما هم بسكارى لكن عذاب الله شديد، فرجعت أكتب رسالة جديدة أحث فيها الأمير على إعلان الجهاد، مؤكداً على أن تحت إمرتي أكثر من عشرة آلاف مدرب على حمل السلاح، ويمكنني إحضارهم غداً لو شاء، ومثلما فعل مع الرسالة الأولى فعل مع الثانية.

في اليوم التالي رأيت اجتماعاً طارئاً لجامعة الدول العربية، كنت أعرف نتيجته المسبقة وما به من شجب وتنديد ولا شيء أكثر، وفي اليوم الرابع عقد مجلس الأمن جلسة طارئة فرض فيها عقوبات على العراق، كان الغرب يتحرك في تلك اللحظة بأقصى سرعة، لأن الرجل الذي طالب بتقليل إنتاج النفط بالأمس سيتحكم فيه غداً، وكان الخوف في المملكة يجتاح الكل، البعض يهرب بأمواله، والبعض يهرب بنفسه، ولا أحد يفكر في أرض الإسلام، أما أنا فكنت مذهولاً مما يحدث، تقابلت مع بن باز فتحمس لفكرة إعلان الجهاد دفاعاً عن الحرم في وجه أي عدوان، واتفقنا على أن نعقد في الغد مجلساً لكبار العلماء يعلنون فيه الجهاد ويطلبون من كل مسلم الخروج دفاعاً عن قبلة الإسلام، فلا نريد حجاجاً جديداً يمطرها بالقنابل، ولا قرامطة يسوون بها الأرض ليحتفظوا بحجرها الأسعد في متاحفهم، لكنني ما إن عدت إلى البيت حتى سمعت أن المملكة طلبت من الولايات المتحدة أن ترسل جنوداً لحمياتها، شيء ما انفجر في رأسي، فهذه البلاد التي حرمها الله على الكفار نطلبهم نحن كي يدافعوا عنها، نترك جند الله ونطلب من أعدائه أن يحموا بيته مسلم ولو كان أحمد بن قرمط، يومها لم أنتظر أن أستشير بهاء الدين ولا أن أخطط لشيء، فخرجت من فوري إلى قصر ولي العهد، حاول رجاله أن يبلغوني أنه مشاغله ستمنعه من لقائي، وأنا أقول "لن أرحل دون لقائه"، وظللت منتظراً حتى الثانية صباحاً، كانت كلمة صدام "خائن الحرمين" ترن في أذني كلما طال انتظاري، لكنني تحملت من أجل بلادنا وقبلة الإسلام، قلت له أن هذا المكان المقدس لم يدخله الكفار منذ نزلت "براءة من الله ورسوله"، ولا يمكن أن نكون أول مدخليهم، فنظر لي باستصغار ثم قال: وماذا تريدنا أن نفعل؟ قلت: نعلن الجهاد وندعو الدول الإسلامية أن ترسل فرقاً من جيوشها حرم الله، وإخراج العراقيين من الكويت، قال وإذا رفضوا؟ قلت لدي أكثر من عشرة آلاف مقاتل يحملون السلاح، ويمكنني أن أحضر مثلهم ومثلهم مرات. ونحن قادرون على حماية المملكة وإخراجه من الكويت كما أخرجنا الروس من أفغانستان. فنظر لي من أعلى لأسفل ثم قال: نفكر في هذا الأمر. قلت بالله وبرسوله وبعزة الإسلام أسألكم ألا تجلبوا الكفار لأرض طهرها الله منهم. فأشار بيده أن المقابلة انتهت، وأدركت أن كل ما قلته لم يقترب من شحمة أذنه، فخرجت ولا أدري إلى أين أذهب، بهاء الدين نائم ولا يمكنني أن أوقظ عجوزاً مريضاً من نومه ليمسح على رأسي، كنت أمخر بسيارتي في الطرقات كشيطان يريد أن يشعل المدينة، حتى وجدتني أمام قصرنا القديم، هذا الذي تقيم فيه أمي وزوجها الآن، فاجتاحتني الرغبة أن ألقى برأسي على صدرها وأبكي، ترددت في الدخول، وأخيراً حسمت أمري فناديت على الحارس ليستأذن لي، لكنه قال وزوجها سافرا بالأمس إلى لندن، لعنتها ولعنت كل الخونة في كل زمان، وخرجت أهدر بسيارتي في الصحراء حتى نفد الوقود، فأجهشت بالبكاء، ومن بين الدموع رأيت شبيباً يجوس في الكوفة بحثاً عن أماكن الجند ليقاتلهم، والحجاج يصرخ: يا خيل الله اركبي، فتجمع له ستة آلاف فارس، فخرجوا خلف غريمهم، وهو يغفو بين أيديهم ويصحو ثم يكرعليهم حتى تفرق شملهم، فأرسل الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بجيش لكنه رجع ولم يقاتل، فأرسل عثمان بن قطن فقتله شبيب ومزق شمله، وانتفض عبد الملك بن مروان خائفاً على عرشه، فأرسل جيشاً من الشام، وأخرج الحجاج من الكوفة أربعين ألف بقيادة عتاب بن ورقاء، فلما بلغ شبيب الخبر قام فصلى وانتظر حتى أضاء القمر الأرض، ثم حمل على عتاب قائلاً:‏ أنا أبو المدله ولا حكم إلا لله. فقتل عتاب ومزق شمل جيشه، فانهزموا راجعين إلى الكوفة وشبيب يقول: لا تتبعوا منهزماً، وخطب الحجاج في الناس:‏ يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، فلا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء.

(45)

حين عدت إلى القصر وجدت الشرطة ذهبت وبعثرت محتوياته، وأخبرني الخدم أنهم أتوا بكاميرات صورت كل شيء، حتى الحديقة، لكنهم لم يأخذوا سوى الجهاز الذي أحضره بهاء لمعرفة إن كان الهاتف مراقباً أم لا، اتصلت ببهاء الدين أساله عما حدث فقال أن قراراً صدر بمنعي من السفر، أظلمت الدنيا في عيني، وشعرت أن الحصار أصبح أضيق مما أحتمل، فتركت الهاتف وخرجت كالمجنون على الأمير نايف، قال أنه لا علم له بالأمر، رغم أنه المسئول الأول عن الشرطة، سألته عن منعي من السفر فقال إن كنت لا أدري عن الأولى فهل سأعرف بالأخيرة، لم أعرف أين أتجه، فالأمريكان ينزلون بجنودهم، والسلطة تمنعني من السفر، وبيتي أصبح أقل الأماكن أمناً، والناس يرتعدون من تهور مجنون في العراق، قادتني خطاي إلى بيت بن باز، كان الأمل الأخير لي، فحين نعلن الجهاد سنكسر كل هذه الحواجز، وهو الذي يمكنه أن يفتي في أمر كهذا، لكنه تعلل بالمرض، رأيته أكثر عافية مني رغم تظاهره بعدم القدرة على التماسك، شعرت من الحديث بالتراخي والتراجع، لم يكن هكذا بالأمس، ولم يكن هذا ما اتفقنا عليه، كان يجب أن نعقد اليوم مؤتمراً يحضره جميع الشيوخ والعلماء ليعلنوا الجهاد، فما الذي حدث؟ خرجت ألعن المرتزقة في كل مكان، ووددت لو أنني لست محاصراً هنا، كنت سأقلب الدنيا على من فيها، وأصدر الفتوى التي تكفر الخائن وشرطته، لكن الوقت فات، والغيظ يأكلني، كانت العربة تهرول على الطرقات من مكان لمكان، وأنا أتحمل النكبة بسكينة مفرطة، فقد وجدت من يمكنه أن يمنحني كلمة السر علانية، ابن عثيمين وحده يمكنه أن يجهر بصوته أمام الجميع، وحده الذي قال الجهاد فرض عين على كل من في الجزيرة، ليس ضد العراقيين والأجانب ولكن ضد من يساعدهم على النزول إلى هذه الأرض الحرام. شعرت أن جملته الأخيرة قد تثير المتاعب، لكنني تركته يكمل، فلا بد أن نصفع الأمير في كل اتجاه، ولا بد أن يعلم الجميع أننا لسنا ضعفاء وأنهم ليسوا أمناء الأمة، كانت كاميرات التصوير تبث على الهواء المباشر، وفوجيئ الكل بخروجنا عليه في ذلك الوقت، ولأول مرة أرى بهاء الدين منزعجاً بحق، قال أنهم حذروه بلغة واضحة، وأنهم جادون في تهديدهم، شعرت أنني لو تراجعت سأكون قد تواطأت على الخيانة، وددت لو قلت "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري" لكن عجزي وقلة حيلتي جعلاني أصرخ في وحهه: ليفعلوا ما أرادوا. ثم خرجت من فوري أجهز لمؤتمر في مكة، حضر الناس ولم تحضر وكالات الأنباء، حضر أمراء ومشايخ وموظفون كبار ولم يتكلم أحد، وحضرت الشرطة في النهاية فهدمت كل شيء وطردتنا من المكان، ولم يوقف أي من ذلك الحرب، ولم يخرج صدام من الكويت، أو يمنع الأمريكان من نزول الأرض التي حرمها الله، وكل ما حدث أنهم اعتقلوني في بيتي، قطعوا الهواتف عني، وأوقفوا الحراس أمام الأبواب، ولم يبق أمامي سوى التلفاز الذي عرض بكثرة كما لو أنه يحتفل لجحافل الكفار وهي تدوس أرض الله، وتنطلق منها إلى أرض الإسلام، لتهطل طائراتهم ثمانية وعشرين يوماً بالمتفجرات على رؤوس أطفال ونساء ومشايخ، على أبنية وقباب ومساجد، على بيوت ومستشفيات ومدارس، على تاريخ وخلافة وعزل، وكلما رأيت وجه الأمير كنت أصرخ: هل هكذا أمر الله؟ أم أن الملك عقيم؟ ولم يجيبني سوى البكاء والحجاج، فقد عزم على قتال شبيب بنفسه، فخطب في جيشه قائلاً:‏ يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة، والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأراجس حقكم، فغضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوهم بأطراف الأسنة. وقسم شبيب أصحابه ثلاث فرق، واحدة معه، والأخرى مع سويد بن سليم، والثالثة مع المجلل بن وائل‏، وأمر سويد أن يحمل على جيش الحجاج فصبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم، فأمر شبيب المجلل أن يحمل فثبتوا له، ثم حمل شبيب بمن معه حتى إذا غشى أطراف الأسنة وثبوا في وجهه، فلما رأى صبرهم نادى‏:‏ يا سويد احمل في خيلك على أهل هذه السرية فأتِ الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه‏، فحمل لكن ذلك لم يفد، فقد جعل الحجاج عروة بن المغيرة في ثلاثمائة فارس ردءاً له من خلفه، فأمر شبيب أصحابه على الحملة معاً، فنادى الحجاج:‏ يا أهل السمع والطاعة اصبروا لهذه الشدة الواحدة، فورب السماء والأرض ما بعدها إلا الفتح. فلما غشيهم شبيب وثبوا في وجهه، فنادى شبيب: يا أولياء الله الأرض الأرض، ونادى الحجاج‏:‏ يا أهل السمع الطاعة هذا أول النصر. وما مع شبيب إلا عشرين رجلاً، فاقتتلوا حتى أقر كل لصاحبه بالعزم، حتى استأذن خالد بن عتاب أن يأتي شبيباً ورجاله من خلفهم، وانطلق في أربعة آلاف فقتلوا مصاداً أخاه، ثم غزالة زوجته وارتبك شبيب ومن معه ففروا أمامهم. 

(46)

انتهت الحرب وخرج العراقيون من الكويت ولم يخرج الأمريكان من المملكة أو غيرها، وكل ما حدث أنني وجدت الخدم يهرعون إلى غرفتي صائحين: لقد رحلوا. تصورت أن الأمر يخص الأمريكان: كيف؟! لكن أحدهم اختصر الحلم قائلاً أن قائداً كبيراً جاء ـ بعدما أمر رجاله من الشرطة والحرس الوطني بالانصراف ـ ليخبرهم أنه من اليوم يمكن لأهل القصر أن يخرجوا ويدخلوا كما يشاءون. شعرت لحظتها بدوار غريب، فما جدوى رحيلهم عن القصر وآلاف الأطفال قد اندثروا تحت ركام الحوائط وأطنان المتفجرات في العراق، ما جدوى رحيلهم والكفار جاثمين على أرض حرمها الله عليهم. كان حزني أكبر من أن يزيله رحيل عبد الملك بجيوشه من أمام بيتي. وانطلق الهاتف يدوي، قال نايف: لولا جهود بهاء الدين لدى ولي العهد ما حصلت على هذه الحرية، صحت: وأي معنى لها وقد صرت خصياً، بلادي محتلة وقبلتي مدنسة. كانت الكلمات تخرج مني كطلقات رصاص لا أعرف إلى من أوجهها، فاختنق صوتي وأجهشت بالبكاء، قال: نحن نقدر موقفك وغيرتك، لكن النظام يجبرنا على ما لا نريد. أغلقت الهاتف: يجبركم أنتم، لكنني من اليوم لي شأن آخر. شعرت في هذه اللحظة دون أن أدري أنني أعلنت الخروج عليهم، وأنه على أن أتعامل مع نفسي من الآن على أنني من الخوارج، لأنهم أيضاً لن يعاملونني إلا على هذه الصيغة.

هاتفني بهاء الدين منزعجاً، قال أنه لم يكن أمامه غير أن يهدئ من ثورة نايف، فقد أغلقت َ الهاتف في وجهه، ولم ير ما قلته إلا إهانة له. أشعرت من كلمات خالي أنني صفعتهم جميعاً فسترحت، لكن الرجل أنهى المكالمة قبل أن أتفوه بشيء جديد يغضبهم، وكان على أن أكتم غيظي حتى يجيء.

حين دخل رأى شبحاً لم يره من قبل، فقد صرت أكثر نحولاً، بملابس رثة، وشعر مهوش، وعينين متورمتين، وكانت النوافذ مغلقة، والهواء مليء بالعطن، وكل الأشياء متناثرة على الأرض، في البدء احتضنني كوالد عاد له طفله، ثم بكى: توحشتني، كنت كل يوم أمر على القصر متطلعاً نحو الشرفة عسى أن تظهر فأراك. كدت أن أضحك لكنني تماسكت كي لا أهين مشاعر الرجل، ولم أعد أعرف من الذي كان يواسى الآخر في تلك اللحظة، لكنه سرعان ما تماسك وانتفض يضيئ الأنوار ويفتح الستائر والنوافذ، ثم دفعني إلى خارج الغرفة وراح يصرخ في الخدم أن يهرعوا لتنظيف المكان وتجديد الهواء، اصطحبني إلى الحديقة قائلاً عليك أن تخرج إلى الناس اليوم. تساءلت: ما الفائدة؟ قال: الجهاد. قلت: أي جهاد ينتظره الناس؟ قال: لا أظن الأمريكان سيخرجون اليوم أو غداً، وما أظنهم جاءوا إلا ليمكثوا ما شاء لهم الله، ولن يخرجهم إلا رجال وهبوا أنفسهم لله ورسوله وحماية أرضه، رجال باعوا الدنيا وعرضها الزائل ليدخلوا الجنة، ولا يدخلها إلا أولو العزم، فهل أنت من الضعفاء؟ أشعرتني كلماته بالأمل فابتسمت، منذ ساعة كنت محدد الإقامة، والآن يحثني على الخروج كشبيب لأصفع باب الإمارة بعامود حديد، لكنه قبض على ذراعي من جديد ودلف بي إلى القصر، هتف في الخدم أن يجهزوا الحمام وجوادين لأنه يريد أن يهزمني في الفروسية، حين رآني الجواد تشممني كأنه لم يرني منذ عام، وحين اعتليت ظهره راح يركض كأنه إلكترون يريد أن يخرج من دائرته، فنسيت نفسي وأنا أستسلم لهزهزاته، وسرعان ما شعرت أنني واحد من الفاتحين في بلاد السند، وعلى أن أسابق الريح لأنقذ أرض الإسلام قبلما يقع الكفار على أهلها، شعرت أنني أقفز منحدرات وجبال ومضايق، وأمرق كالسهم بين أشجار غابات وأسوار قلاع وبوابات مدن عجيبة، ورأيت شبيباً يكر على جند الكوفة والشام والجزيرة ولا يوقفه أحد، وددت لو أن عاموده الحديد الآن لأضرب به باب نايف قائلاً: أنا المدله ولا حكم إلا لله.

لم يكن بهاء الدين في حاجة للتريض، لكنه عرف كيف يعيدني إلى الحياة، فما أن دار دورتين بجواده حتى نزل وتركني أقطع الأرض كمهووس يطارد غزالة فرت بين الأحراش. فظللت أدور حتى هدني التعب وغسلني العرق وكاد أن ينفق منى الفرس، فصحت بالسائس أن يأخذه وعدت إلى الحمام كي ألقي بنفسي في ماء دافئ، وجاءني الخادم كي يساعدني فاستسلمت لأنامله متذكراً خادمة الصغر وهي تدهنني وتدللك أعضائي، ولم يكن الخادم العجوز أقل مهارة ومحبة لي منها، فلم يتركني إلا كما كانت تحب أن تراني أمي، فصعدت إلى حيث تقيم أم عبد الله فاحتضنتها، لم يكن عناقنا كرجل وزوجته، لكنه أشبه بأم وأبنها، كان الفرح يملأ وجهها كما لو أنني ولدت للتو على يديها، فاستأذنتها للذهاب إلى زوجتي الأخريان، فأصرت على أن نأكل معاً، أمرت الخدم بتجهيز المائدة لنأكل جميعاً في جناحها، ولعبت ورقصت وغنيت وضحكت مع الجميع حتى الخدم، وفي النهاية جمعت الأولاد والأمهات وأمّرت من جديد أم عبد الله على النساء وكل من في القصر، ثم أمّرت عبد الله على الصبيان، وقلت أيكم أختلف مع أخيه على شيء فعبد الله مرجعه في الحكم، وكل من اختلف في البيت مع عبد الله على شيء فأم عبد الله المرجع ولا يرد لها أمر.
حين هدني التعب ونمت كمن حاز الدنيا بحذافيرها رأيت شبيباً ينزل أمامي من على جواده ليعطيني عاموده ذي الرأسين، ثم استدار فامتطى جواده وفر كشهاب نحو السماء، بعدها رأيت عجوزاً يتجه نحوي ليأخذ العمود من يدي، فنظرت إليه مستنكراً فإذا به أبو سعيد. فانتفضت من نومي فزعاً، وأخذت سيارتي واتجهت إلى قصر بهاء الدين، قال: ما الذي أتي بك في هذا الوقت؟ قلت فرطت في أمانة الشيخ، قال: كيف؟ قلت تركت علياً في أفغانستان ورحت ألهو مع زوجاتي وأبنائي هنا. قال: فما تريد الآن؟ قلت: لا بد أن أسافر إليه غداً. قال: ما زالت ممنوعاً من السفر، قلت أهرب، قال العيون تترصدك حتى في بيتك، قلت: لا بد من طريقة. قال: غداً نتدبر أمراً كان مفعولاً.

لم يكن أمامي إلا أن أنتظر شهوراً محاصراً في بيتي وعملي، الكل يراقبني وأنا أمعن الخروج عليهم، وكلما ضيقوا على تشددت في نعتهم بالخيانة والتخاذل، كنت أسعى بين أيديهم ليل نهار ما بين ندوة ومؤتمر أو خطبة في مسجد، ورغم تهديد الشرطة لكل من يحضر غير أننا أسسنا جماعة الفتوى الإسلامية، وهيئة علماء الدين المستقلين، ولجنة الأمر بالمعروف، وطالبنا بالجهاد وإعداد العدة من أجله، وأرسلنا عدداً الشباب إلى صهيب ليعلمهم فنون القتال، لم أكن الذي يقوم بذلك، ولا حتى بهاء الدين، فقد تركنا المهمة لأناس لا يشك الأمن في ولائهم له، لكننا ألفنا قلوبهم بالمال والموعظة الحسنة، ولم يكن ذلك مثيراً لغضب السلطة التي أرادت التخلص من كل من يريد الخروج عليها،ولم يثر حنقها إلا النعت بالتخاذل والخيانة، حتى أن نايف أرسل رجاله فأخذوني إليه، قال أنت لا تساوي رصاصة وينتهي أمرك، قلت لو شئت فعلتها أنا، قال ألم تتعظ؟ قلت: لو كنت أتعظ بالخوف ما تركت قصري وسكنت الكهوف ناشراً صدري للرصاص والموت، حدث غيري عن ذلك كي يرتعد ويجثو على ركبتيه، قال: يمكنني اعتقالك. قلت: يمكنني فعل الكثير، فلا حكم إلا لله. قال: أخارجي أنت، قلت: وما بهم؟ قال: كفروا الصحابة. قلت: بل خرجوا على وراثة الإمامة وحصرها في قريش، وإذا أخطأ الصحابة فيجب تكفيرهم لأنهم لا يجب أن يخطئوا، وإذا حاد أولى الأمر عن جادة الطريق حملهم الناس عليها، فإن لم يرجعوا فأمر الله واضح "قاتلوهم حتى يكون الدين كله لله"، فما بالك بمن استعان بالكفار على المسلمين، ومن أنزل الكفار أرضاً حرمها الله عليهم، ومن جعل الكفار أولياءه والله ولي المؤمنين؟ قال: أتكفرنا؟ قلت: لست أنا، لكنه الذي حرم نزول الكفار إلى هذه الأرض. قال: ومن أنت كي تكفر أناساً ربوك بينهم، وأعطوك من أموالهم؟ فابتسمت قائلاً:أنا المدله ولا حكم إلا لله.

(47)

كان الأمر أبسط مما فكرت وتوقعت، فقد اقتربت أشهر الصيف وكان على الأمير نايف أن يذهب ليقضي إجازته في أوربا، هكذا تخمرت الخطة في رأس بهاء الدين، فترك توتري تجاه نايف يتصاعد كما هو،ولم يفعل غير تهدئة نايف كلما ثار في وجهه، كان كلما حكي لي ما دار بينهم كنت أنفجر ضاحكاً، لكن بهاء لم يرى في الأمر ما يضحك، فلا بد أنهم جادون في تهديدهم، قلت: فليقتلوني ما أرادوا. قال: يمكنهم ذلك، لكنهم لا يريدون أن يصنعوا منك بطلاً الآن، وإلى أن يجدوا الوقت المناسب فعلينا أن نتحرك بأسرع منهم. ومن هنا بدأت الخطة، فتصعيدي للأمر صنع حماية لي، وأكد لهم أن معركتي هنا، وليست لدى نية للرحيل. أما الشق الثاني فقد قام به بهاء الدين سراً، حيث استقطب الأمير عبد العزيز الذي يتولى مسئولية الأمن نيابة عن نايف في حال غيابه، وأقنعه أن تعنت رأيسه ضدي هو ما جعلني أكثر تشدداً، ولو كان هناك من يقود الأمر بحكمة ما حدث ما يحدث، وحين توطدت الأمور بينهما أسر له بطلب بسيط، وهو خروجي إلى أفغانستان لأنهي بعض المعاملات التجارية التي مازالت متعلقة هناك، فقال عبد العزيز أنني أستطيع أن أكلف من ينوب عني بذلك، فأجابه بهاء أن في الأمر معاملات قامت على الثقة وليس الأوراق والعقود، وإذا لم تحسم هذه الأمور فسوف تواجه المجموعة خسائر كبيرة، وأن ثمة سر أكبر من المعاملات التجارية وغيرها، وهوأن أبا سعيد كان قد أنجب طفلاً لم يلبث أيام حتى ماتت أمه، وأنه مصاب بعيب خلقي يعوقه عن الكلام، وقد تركه أبو سعيد أمانة في عنقه، ولا بد من ذهابه ليسترد الطفل ممن أودعه لديهم، ولأن عبد العزيز كان رجلاً مدتيناً وكثيراً ما سمع عن أبي سعيد وفضله فقد تأثر بالأمر، ومن ثم طرق بهاء الحديد قائلاً فهل تسمح ولو بذهاب ولو ليوم واحد إلى باكستان كي يعود بالطفل ليعيش مع أولاده بدلاً من الجوع والموت في الكهوف، بكي عبد العزيز لطلبه وقال أنه لا أمانع لكن نايف لن يقبل، هنالك طرح بهاء الجزء الثاني من خطته، وهو أن نايف معتاد على أن يمضي إجازة الصيف في أوربا، ولن ينتبه أحد لغياب أبي عبد الله يومين أو ثلاثة عن المملكة. ويبدو أن بهاء أجاد إحكام خطته وجهز لكل سؤال جوابه المقنع، فلم يستطع عبد العزيز الفكاك من الدائرة إلا بالموافقة، وأخذا الاثنان ينتظران إجازة نايف كي يهباني جواز مروري إلى الخارج.

حين حصل بهاء الدين على ذلك الوعد جاءني: غض الطرف فإنك من نمير، فلا كعباً بلغت ولا كلاباً، وحين لم أستوعب ما أراده من بيت جرير شرح لي الأمر بتمامه، وطلب مني أن أخفف من توتري وأقلل من ذهابي ورواحي، وأن أتجنب نبرات الخطاب العالية ضد الأمراء وغيرهم حتى يسافر نايف بسلام، كانت المفاجأة مذهلة بالنسبة لي، ولم أكن في حال تسمح بالاعتراض على أي مما ما يقوله الرجل، فرحت أقبل رأسه شاكراً كأنه أعطاني ماء الحياة، وشعرت أنني مازلت حياً وأن علياً يرفرف بجناحين على مقربة مني، وما أن تركني الرجل حتى غفوت فرأيتني على جوادي ممسكاً بالعامود ذي الرأسين، وأبا سعيد يمسح على رأسي قائلاً تمسك به فإنه جواز مرورك بيننا نحن آل البيت، قمت مغتبطاً أقبل أولادي وأحتضنهم حتى شكوا أنني مقبل على الموت، وبدت لي تعليقاتهم مثيرة للضحك، وكلما رأوني أضحك كانوا يتوجسون خيفة، وكلما توجسوا كانت رغبتي في الضحك تزداد، حتى أنني حملتهم جميعاً على ركوب الجياد والركض بها أمامي، كانت أمهاتهم تطل من الشرفات لتنظرن إلى أي شيء ستنتهي تلك الحالة من الجنون، كنت أسمع الشهقات والصرخات كلما علا جواد بأي منهم، حين خفت من أن ينقلب الأمر كارثة قلت أغير اللعبة، فحملتهم واحداً تلو الآخر وقذفت بهم في حمام السباحة، وحده أبو الفضل الذي نجى من الجنون لأنه رضيع، لكنني كنت مصراً على أن أراهم يسبحون أمامي كما رآني والدي أسبح أمامه، حين رأت ذلك أم عبد الله ذلك الجنون المتزايد اتصلت بأبيها، فرأيته يحضر وكأن على رأسه الطير، قال أتريد قتل الأولاد أم تريد السفر، قلت ألم تطلب التهدئة؟ قال: نعم. قلت: لا بد أن نايف يعلم بهذا العبث الآن، ويشك في أنني فقدت صوابي من الغيظ والفشل، وربما أحتاج إلى مغازلته شخصياً، قال يمكنني أن نرتب لكما موعداً فوافقت، لكن هذا الموعد لم يأت، فقد سافر نايف فجأة إلى أمريكا، ووجدت بهاء الدين يحتضنني وفي يده جواز سفري، فلم أعد الحقائب ولم أودع الأطفال، فقد تسللت من القصر إلى المطار، وهناك وجدت من ينتظرني من قبل عبد العزيز فأومأ لموظف المطار فختم جوازي، يومها لم أصدق أنني على متن الطائرة المتجهة رأساً إلى باكستان، فتذكرت طرق الهروب التي فكرت فيها كجرذ مختبئ في عربات نقل ومخازن سفن وبطون جمال، لكن ما أجمل بهاء الدين، وما أيسره خططه، كأنه ولد ليكون ملاكي الحارس. بعد أن عبرت أجواء المملكة شرعت في كتابة رسالة إلى بهاء الدين ليدفع بها إلى الأمير عبد العزيز: خالي العزيز، لم يكن أمامي سوى أن أغادر أحب البلاد إلي بعدما نزل الكفار على أرضها، ورضي قادة الإسلام بنزولهم، لم يكن أمامي غير أن أغادر بلا عودة بعدما اعتقلت في بيتي، وصارت حياتي أهون عليهم من جناح بعوضة، فاغفر لي خديعتي إياك وإياهم، وقل لهم "لا نامت أعين الجبناء، وما فعلت ما فعلت عن أمري، لكنه الله القائل" "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها". ثم دفعت بالرسالة إلى قائد الطائرة ليسلمها لأمن المطار حين عودته.

(48)
خريف 1993

عبرت الحدود الباكستانية قبل أن يصل خطابي إلى عبد العزيز، كنت أعلم أن المملكة لن تقبل صفعة رجل كانت تظنه من صنائعها، فتركت المطار وتوجهت إلى أقرب نقطة لرجالنا، فتنادوا الأمير قد حضر، وحملوني إلى القادسية، ووقف الصباح وصهيب يتبارون في ذبح الأغنام ابتهاجاً بفك أسري، قالوا علمنا بما حدث، قلت أن الأيام القادمة ستشهد انقلاب الكثيرين، وليس أمامنا سوى أن نشتري ولاءهم، فاتجه الصباح في جولة إلى بعض الدول ليجدد العلاقات وينثر الأموال ويطلب المعونة، وإلى حد ما نجح فيما ذهب إليه، فأصبح لدينا خط مفتوح مع بعض أجهزة الاستخبارات، كان في مقدمتها باكستان، قال أنها ظهيرنا الذي لابد منه، ولو حدث شيء فستجعل علمه عندنا قبل منفذيه، مدحته على ثقته بنفسه ورحت أتابع الحياة التي لا حياة لي سواها الآن، كانوا قد حصدوا خشخاش العامين الماضيين، وجاءهم أناس من قبل الباكستانيين لشرائه، لكنهم فضلوا الإيرانيين والأتراك عليهم، ويبدو أن هذا قد أحدث جفوة بين الصباح وصهيب، فوجهة نظر الأخير كانت أننا لا نستطيع أن نستغني عن فنائنا الخلفي، لكن الصباح على أنهم يعطونا شيئاً إلا بثمنه، فكيف نعطيهم بأقل من الجميع. بدا لي أن كل منهما اتخذ قراره بأن ينفصل عن الآخر، ففي الوقت يرسل فيه صهيب برجاله إلى كل مكان، فإن الصباح بقامته القصيرة ولحيته التي تغطي صدره يومئ ويبتسم دون أن يناقشه في شيء، فبعد أن نجح في زراعة الخشخاش ووجد من يطلبه صارت كلمته هي لعليا، وأصبحت مجلته تقرأ على مساحة أكبر، وصار الجميع ينظر له على أنه الأمير أو نائبه، وهو بدوره كان يستمتع بهذه النظرة ويسعى إلى تأكيدها، عجبت لقدر الدنيا، فصهيب المقدام الشجاع المحارب ليس النائب، والصباح الوديع المهادن يصبح بضربة حظ كل شيء، لكنني فيما يبدو لم أكن قدراته بشكل كاف، ففاجأني ذات مساء بأن حياتي في خطر، وعلى أن أغير مكان إقامتي، فثمة من تم شراؤهم من مجموعته لصالح بعض الباشتون، لكنه لا يتوقع أن الأمر خاص بهم، ربما كان الخطر من غرباء لم يرد تسميتهم في ذلك الوقت، ابتسمت وأنا أتوقع أن هذه إحدى حيله ليجعلني دمية أتحرك من خلالها، قلت لا ضير من اللعب، ونفذت ما كان يريد وانتقلت، مضى يومان ولم يحدث شيء، كان يؤكد كل ساعة من خلال تشديداته الأمنية على رجاله أنه متأكد من مصادره، وأن شيئاً ما سيحدث، فقد أرسلت المملكة خلفي رجالها إلى باكستان، لكنه لا يعرف إن كان الأمر سيأتي على أيديهم أم على أيد غيرهم، فرحت أرميه بالكلمات، وأرفع من روح صهيب الذي عاملته كرجل حرب يعتمد عليه، كنا نفكر في أمر الجزائر وما آل إليه بعدما نزل الجيش إلى الشوارع وقبض على جبهة الإنقاذ عقب الإضرابها العام، سألته عن وضع رجالنا هناك فقال أن بعضهم اعتقلته السلطات، لكنهم لم يحاكموا، ويبدو أن هذا لن يحدث. شعرت أن الأمر مخيب للآمال، فقد كان الأمل يحدوني في الانتقال إليها، ولا يمكنني القول بأن ما قاله الصباح لم يثر في نفسي الخوف، بل شعرت أن سخريتي من دواعيه الأمنية ليست سوى محاولة لأبدو قوياً أمام الرجال، فزايدت عليه وطلبت أن أعود إلى مركز القيادة كما كنت فرفض، ورفض صهيب والبنشيري وغيرهم، شعرت لأول مرة أن الكل خائف، والخوف أصبح عامل مهم في توحيد صفنا، في النهاية أستعذت بالله ووضعت رأسي على فراشي لأنام، لم يكن شبيب الذي جاءني، لكنه ابن فجاءة القطري: أقول لها وقد صارت شعاعاً من الخوف ويحك لا تراعي، فصبراً في مجال الحرب صبراً فما نيل الخلود بمستطاع. وصحوت على ضربة لشبيب لباب الإمارة، حين صرخت على الحارس وجدت خمسة يقفزون إلى غرفة نومي فأخافوني أكثر من كنت عليه، قلت ما الذي حدث، قالوا أن طائرة ألقت عدة صواريخ وفرت، أخذت سلاحي وأردت الخروج فمنعوني قائلين أن لديهم أوامر بعدم الخروج مهما حدث.

حين جاءني الصباح شرح الأمر قائلاً أن المملكة والولايات المتحدة ضغطا على باكستان من أجل الوصول إلينا، وقد مدهم بعض القادة بصور وخرائط عن مكان إقامتك، فوصلنا الخبر كما أبلغناك، لكنك كنت هازئاً من كل شيء، لم تكن هذه محاولة للاغتيال ولكن للقبض عليك، فقد قامت طائرة بعملية إنزال على مبعد كيلو متر من الموقع القديم، فتركناهم ينزلون ثم تعاملنا معهم، كان من بينهم أمريكان وسعوديون، وكانت صرخاتهم واضحة بالليل، حين فشل أمرهم تراجعوا نحو الطائرة التي هبطت على الأرض، بينما قامت مروحية أباتشي بإطلاق صواريخها علينا. لم نعكن مستعدين لذلك، فتركناهم يحملون موتاهم ثم رحنا نمطرهم برشاشاتنا عن بعد، والمدهش أن الأباتشي اختل توازنها وارتطمت في الجبل فسقطت، بينما أقلعت طائرة الإنزال تاركة بعض جنودها على الأرض، فقبضنا عليهم وأودعناهم كهفاً لا يعرف مكانه الجن الأحمر. يومها علمت أن الأمر جاد، وأن الكفرة الذين لوثوا أرضنا جاءوا خلفي ليلوثوا هذا المكان، فحمدت الله على ما منحنا من نصر وأمرت أن يصبح حطام الأباتشي مزاراً ندعو إليه الصحفيين والإعلاميين كي يكتبوا عنه، رفض الصباح قائلاً أن هذا يسهل أمرهم ويضعف خطتنا الأمنية، لكنني أصررت على موقفي، فأحضر عدداً من رجال الإعلام بطرقه السرية كي يحاورونني، يومها خرجت على العالم مهدداً الأمريكان، ومفتضحاً حكام المسلمين الذين لم يرعوا ذمة الله ولا ملته، ثم شرحت كيف انتصر جند الله على الطغاة الذين أرادوا قتلي لأنني أطالب بجهاد المسلمين وخروج الكفرة من أرض أعزها الله وحرمها عليهم، ثم صورنا حطام الطائرة وعليه الجنود المأسورين.

حين انتهى اللقاء أعادهم الصباح إلى باكستان لينطلقوا منها إلى بلادهم، وانتظرنا أن نسمع دوي اللقاء، لكننا لم نسمع سوى خبر عابر عن محاولة سعودية فاشلة لاغتيالي، لقد اجتزءوا الأمر وحولوه إلى خبر سابق، ولم يمر يومان حتى وجدنا أصدقاءنا يتحدثون عن رغبة أمريكي في لقائنا، رفض صهيب وقبل الصباح، وكنت أميل إلى الرفض من القبول، لكن الداهية أقنعنا بأهمية التعامل كأقوياء لمعرفة مقاصدهم، كان الرجل في الأربعين من عمره، حسن الثياب، يتحدث بالعربية كالإنجليزية، علمنا منه أنه من أصول مصرية، وكان يعمل بالجيش الأمريكي حتى تقاعد، وأن اسمه روبرت، ويعشق التاريخ العربي القديم، كان منبهراً بالمكان والرجال وحياة الكهوف والجبال، قال أن هؤلاء الشجعان هم الذين وقفوا أمام الدب الروسي العنيد، وبدا لي أنه جاء في مهمة غير التفاوض، فازداد ارتيابي وخوفي، همست في أذن الصباح ألا يغفل عنه، فقال: لعلكم تستغربون أنني أحب الإسلام وأتحدث عنه رغم أنني لست مسلماً. قال أن آباءه كانوا مسلمين، لكن أمه رحلت به إلى أميركا وجعلته مسيحياً، فتعلم العربية نكاية فيها، ودرس التاريخ العربي رغبة في تأكيد أصوله، ودخل الجيش الأمريكي لأن هذا كان الرغبة الأخيرة لأمه التي لم يرد معاندتها وهي على فراش الموت، لكنه لم يكن يحب الأمريكان كي يفقد حياته من أجلهم، فتقاعد بعد عشر سنوات من الخدمة ليأخذ معاشاً لا يضطره للبحث عن وظيفة جديدة. شعرت أن الأمر لا يعدو قصة محكمة من أجل التعاطف في التفاوض. فسألته عما يريد، قال أن مهمته التفاوض من أجل حطام الطائرة، قلت والجنود، قال إن شئتم أن يكونوا في التفاوض فلا مانع، وإن رفضتم فلا ضير، ابتسمت فقال أن هذا طلب بلاده، يومها قمت من مجلسي تاركاً للصباح مفاوضته، لكن الصباح في المساء جاءني يبتسم، قال أن روبرت أعلن إسلامه، وأمنيته أن يأخذ العهد على يديك، فضحكت: إلى هذا الحد هو بارع؟ قال وما الضير، نعطيه الفرصة ونجربه، فلن يعرف أكثر مما عرف، قلت لا بأس، تفاوض معه كما تريد. قال: على أن يقبل يدك ويصلي خلفك. قلت: أهذه شروطه؟ قال بل أمنيته الوحيدة.

في المساء انتهى التفاوض على عشرة ملايين في مقابل حطام الطائرة، وعشرة في مقابل الجنود، وجاء الرجل فقبل يدي وتلا الشهادة ثم طلب أن يصلي خلفي، تعجبت من رجل لا يعرف شيئاً عن دينه ويريد الصلاة، فقلت أو تعرف الصلاة؟ قال: سأقف كما تقفون وأفعل كما تفعلون، فطلبت من الرجال أن يعلموه وأداء الصلاة، وحين جاءت صلاة العشاء وجدته ارتدى ثوباً باكستانياً وراح يزاحم للوقوف خلفي، لم يكن هناك ما يثير الريبة، بل كان الجميع مستبشراً بدخول أمريكي في ديننا، شرعت في الصلاة وعلى ابن الخامسة يقف ملتصقاً كما اعتاد بجانبي، لكنه هذه المرة انشغل بالرجل ذي الملامح الشقراء والثياب الباكستانية، وفجأة وجدته يتأتئ وفي يده قلم ينبض بضوء خافت، ووبفزع تذكرت جهاز مراقبة الخطوط الذي أحضره بهاء الدين، ودون أن أترك الصلاة نزعت من يده القلم وألقيت به بعيداً، فما كان منه إلا أن انفجر مثيراً على وجوهنا الرمال والحصى، فارتميت على على الذي صرخ متفزعاً، ووارتمى الرجال بعضهم على بعض كما لو أنهم في أرض المعركة، حين أفقنا من المفاجأة بحثنا عن الغريب الذي اختفى، وبينما أخذت في هدهدة على وتخفيف الصدمة عنه كان الرجال يطاردون شبحاً يتقافز بين الصخور، لكن إلى أين المفر وتحت كل حجر رجل.

(49)

تكررت المحاولات وتنوعت، لكننا كنا أكثر حذراً وكان روبرت الأكثر جرأة، بعد معركة غير حاسمة أصيب بعدة رصاصات أودت به، كان قاتله يرغب في أن يحافظ على حياته، لكنه خدعه وفر من يده، فلم يجد الرجل سوى أن يرميه بزخة من رشاشه قضت عليه، ولم نستطع معرفة المزيد عن الرجل الذي أسلم أمامنا، وكان على وشك أن يقضي علينا في أول صلاة له، لكنه ترك لنا أمراً واضحاً وضوح البدر، وهو أن هذا المكان غير آمن، خاصة وقد نشب الانقسام بين زعماء الحرب الأفغانيين، وقد حدثت تطورات كبرى في الدولة الشيوعية التي شاخت سريعاً، فقام انقلاب على جورباتشوف وتمت إقالته، لكن يلتسن خان الانقلابيين وأعاد جورباتشوف إلى الحكم، ولم تمض شهور تأكد فيها يلتسن من قوة موقفه وهيمنته على الأمور حتى أسقط جورباتشوف وأعلن نفسه رئيساً إلى أن جاءت به الانتخابات العامة، فقام بحل الاتحاد السوفيتي داعياً إلى كومنولث بديلاً عنه، لكن عدداً من الدول الاتحاد رفضت الدخول في التحالف الجديد، وكان ذلك تأكيداً لمدى الضعف الذي وصل إليه الدب العظيم، مما شجع الأفغان على إسقاط نجيب الله ونظامه، فعقدت باكستان اجتماعاً لرئيس حزب الجماعة الإسلامية برهان رباني، ورئيس الحزب الإسلامي حكمتيار، ورئيس الحزب الإسلامي يونس خالص، ورئيس جبهة التحرير صبغة الله مجددي، ورئيس الاتحاد الإسلامي عبد رب الرسول سياف، وحركة الانقلاب الإسلامي نبي محمدي، وحزب المحاز الملي بير جيلاني، والجمعية الإسلامية الشيعي إسماعيل خان، واتفقوا جميعاً على أن يتولى مجددي رئاسة البلاد لمدة عام، ثم يأتي من بعده رباني رئيساً، وحكمتيار رئيساً للوزراء، إلى أن تقام انتخابات تشريعية، لكن الخلاف دب بمجيء رباني للحكم، فرغم أنه رجل قوي ويريد لبلاده أن تكون دولة قوية غير أنه لم يعلن موقفاً عدائياً ضد الأمريكان، بينما كان حكمتيار متفقاً معنا في ذلك، وطالب بخروج الأمريكان من ديار الإسلام، وكان التنسيق بين كلا الرجلين غائب، مما دعا كلاهما إلى تكوين تحالف من بقية الأحزاب، ورأت باكستان الأمر ذاهب إلى حيث تريد، فرباني الهادف لبناء دولة قوية لا يجب أن يدوم في الحكم، ولا بد من إذكاء نار الخلاف بين الرجل ورئيس وزرائه، لكن أحمد شاه مسعود قائد جند رباني تمركز في قندهار ولم يترك الفرصة لحكمتيار ورجاله كي يسقطوا الحكم، فدارت الحرب بين الفريقين، واستقل اسماعيل خان بهرات، وانعدمت السيطرة على الأمن، وسادت الفوضى، واخترقت أجهزة استخبارات من شتى الجنسيات.

لم يكن أمامنا سوى الصمت بعدما حاولنا التوسط بين الإخوة الأعداء، لكن رباني رفض أي صيغة غير التي اتفق عليها الجميع في بيشاور، قلت ربما يرى الآخرون أنك ستستغل سلطتك في تهيئة البلاد لانتخابات تفوز فيها. لكنه قال أن عدداً من حكومات الجوار والدول الإسلامية لا تريد حكماً يسعى إلى توحيد البلاد واستقلال قرارها، وأن ما يفعله حكمتيار ما هو إلا ما يريدونه بالضبط. شعرت أن الرجل يمتلك جانباً قوياً من الحقيقة، وكان لا بد أن أسمع من الجميع، فتوجهت إلى حكمتيار، قال أنه لا يريد غير قيام دولة دينها الإسلام ودستورها القرآن وغايتها الله،وهذا ما لا يريده رباني. حاولت أن أجعله يهادن حتى موعد الانتخابات الذي لم يحدد فقال: وهل تعتقد أن شاه مسعود سوف يتركنا نقيم انتخابات حقيقية؟ قلت أنتم توزعون أنفسكم وتمزقون بلادكم. قال عدونا الأمريكان والروس وكل من لا يريد أن تقوم للمسلمين قائمة، ولن أترك رباني يجيء بهم إلى بلادنا، كما جاء بهم أمراء مملكتك إلى الحرم.

لم يكن أمامي غير مجد الدين الذي يمكنني أن أرتمي على صدره وأبكي، كان لقائي به تحت جناح الليل، وكان صوته منكسراً وزاهداً في كل شيء، ولم تعجبني نبرته اليائسة، قال ما الذي يمكنني فعله، إنهم لم يدعوننا إلى مؤتمرهم، لم ينظروا إلينا على أننا شركاؤهم في الحرب، فماذا أفعل؟ قلت أنت شريكهم، وكان من الممكن أن تكون رمانة الميزان في أي خلاف، لكنك فرقت رجالك، وأهدرت فرصة كانت بيدك، وليس عليك الآن أن تتأهب لاستعادتها من جديد، ومازالت معسكراتنا قوية وآمنة، ومازلنا نستطيع تدريب مدارس الطالبان كلها، وقد أمرنا ديننا بالجهاد الأكبر مثلما أمرنا بالجهاد الأصغر، وليس هناك أكبر من درء الفتنة التي قد تأكل شعباً بكامله لسنوات طويلة. حين انتهيت من كلامي قال: كأنكما اتفقتما على هذا. قلت من تعني؟ قال مولانا فضل الرحمن الذي تحالف مع بينظير بوتو، وتولى لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الباكستاني. حاولت أن أدفع بالأمر إلى الأمام مؤكداً على ما قاله فضل الرحمن، لكنني وجدت مجداً متحرجاً من الصراع مع حكمتيار، لأن كلاهما بشتوني، فقلت: حكمت لم يستطع السيطرة على البلاد بعد، وبوتو ترغب في استقرار الوضع في فنائها الخلفي، ولن يدوم صمتها على هذه الفوضى، وإن لم تتحالف معك اليوم فسوف تتحالف مع غيرك غداً، وليس أمامك إلا اغتنام الفرصة التي جاءتك على طبق من ذهب.

كانت فتنة، ولم يكن الوضع مؤهلاً لدخول غرباء فيها، فحاولنا قدر ما نستطيع تأمين معسكراتنا التي قد يطولها الخطر، رغم تعهدات الجميع بحمايتها ما لم نتدخل في شيء، تدارسنا كل ذلك وقلنا أن علينا أن نتحرك قبل أن يخطئ أي منا أو منهم، لكن إلى أين؟ قال صهيب: إننا نقف في موقف المدافع، وأعداؤنا تغرهم جيوشهم وأجهزتهم العديدة، فلم لا نبرز لهم جزءاً من قوتنا، فنفعل بهم كما نفعل في مصر والجزائر، وكلما شعروا أننا قادرون على الرد بالمثل قبل أن يفعلوا شيئاً. لاقت فكرته صدى في نفس الصباح وأبي حفص والخباب، فوضعنا الخرائط وجلسنا نناقش ما لديهم من نقاط ضعف ونقاط قوة، فكانت الصومال واليمن مرشحتين لتنفيذ الضربة التي نريدها، لكن أبا حفص قال ولم لا نضرب أمريكا نفسها؟ باغتتنا الفكرة لكننا شعرنا بالحماس تجاه ذلك، فالعين بالعين والسن بالسن، لكن كيف؟ حين أعيتنا الإجابة والأفكار جعلت الأمر في عنق أبي حفص والخباب، قلت فخذا من أردتما من رجال ودبرا صفعة تليق بنا، ثم استدرت لصهيب قائلاً: لكنني أشتاق لسماع أخبار تسرني عن الأمريكان في الجزيرة.
لم تعبر أيام حتى سمع العالم بانفجار فندق في عدن أودى بحياة ثمانين من رجال المارينز، هللنا بالفرح وشارات النصر، لكن الفرحة الأكبر جاءت مع انفجار مركز التجارة العالمي بواشنطن، فقد أحدث الرعب في قلب الإدارة الأمريكية، وأدركوا أننا لسنا ضعفاء، ويبدو أنهم استوعبوا الرسالة، فلم تمض أسابيع حتى شهدنا تغيراً طيباً من جانبهم، وإن حلموا الشيخ الضرير التهمة كاملة، لم نبال بذلك، لأن أغلبنا لم يكن متعاطفاً معه، ولم نشعر بالحرج إلا تجاه صهيب، لأن الضرير شيخه، واسيناه بأن الرجل كان ومازال مجاهداً، وأنهم وإن حكموا عليه بالسجن مدى الحياة فلن يمنعه هذا من ممارسة جهاده، وغداً أو بعد غد نتفاوض معهم من أجله.

كانت هذه بدايات النصر، لكن القلق ظل يقض مضاجعنا في أرض غير آمنة، وكان لا بد من توفير ملاذ آخر، كانت السودان بجزيرتها الخضراء ومستنقعاتها العديدة هي الفردوس الذي نبحث عنه، وكان لا بد من جس النبض، فقلنا للبنشيري أن يعبر إليها ليرى إن كان ثمة قبول لوجودنا في أرضهم أم لا، وحملناه رسالتين للترابي والبشير، كانتا تحثاهما على مواصلة الإصلاح وبناء الدولة الإسلامية، وتقولان أنه لولا شواغلنا لكنا أول من يضع أيدينا في أيديهم من أجل نهضة جادة لبلاد الإسلام. فكتب لنا البنشيري أنه وجد قبولاً من كلا الطرفين، وإن خيوط اللعبة الآن في يد البشير أكثر من الترابي.

طرحت على الصباح فكرى تأكيد علاقتنا بالبشير، فاتخذ طريقه إلى السودان ليشاركهم في احتفالات عيد الثورة الإسلامية، ولقي من الجميع، لكنهم أبدو تخوفاً على ثورتهم، فالأمريكان رفضوا استقبال الترابي ويريدون فرض عقوبات عليه بسبب الانفصاليين في الجنوب، ورأى الصباح أنها فرصتنا كي نقدم لهم ما يتمنونه، وفوجيء به مجد الدين واقفاً على رأسه في مدرسة الطالبان، هناك أقنعه بالتعاون مع فضل الرحمن، على أن يقنع الآخر بوتو أن تذيب الجليد المتراكم بين الترابي وكلينتون، حين ذهب مجد لزيارة فضل فاتحه الأخير في معاودة الجهاد، فاشترط عليه ما طلبه الصباح، ولم يكن أمام فضل سوى أن يبلغ الرسالة لرئيسة وزرائه فضحكت: مجد مغرور. لكنها ما إن التقت مادلين أولبريت حتى طلبت منها زيارة واشنطن، وهناك استطاعت أن تذيب الثلج على مائدة منفردة، ورغم أن كلينتون أضاع الكثير من الوقت في مغازلة عيون الشرق وأدبه غير أنه استسلم في النهاية قائلاً: يبدو أنك تفضلين البشرة السوداء عن العيون الزرقاء، فلما اعتذرت له كافأها بالسماح للترابي أن يزور واشنطن.

استغرقت الوساطات والاتصالات ستة أشهر بعنا خلالها محصول العام من الخشخاش، وطورنا طرائق اتصالنا بمجموعات صهيب في العالم العربي، وأرسلنا مجموعات أخرى إلى جنوب السودان، ونزلت جماعة شواطئ عدن، فاتسعت خريطتنا في اليمن، وكان علينا أن نخلي معسكرين لرجال مجد، ولم يكن أمامي غير أن أنتظر شهراً من رحلة الترابي والبشير إلى واشنطن كي أفاجأ بطائرة خاصة تجيء لنقلي إلى الخرطوم وسط حراسة مشددة.

(50)
خريف 1996

حين يقف المرء أمام شخصيتين كالترابي والبشير فلا يسعه إلا أن يحب الأول ويعمل مع الأخير، فالترابي مفكر كبير وإن اختلفت مع آرائه، أما البشير فيرى الواقع ويمشي حسب معطياته، هكذا وجدت نفسي أفضل بين الرجل، وما أن وصلت حتى علمت أن انقلاباً قاده البشير وأخرج رئيسه من السلطة، فبسببه ساءت العلاقات مع كثير من الدول، وساءت علاقته نفسه برفاقه وأصدقائه ورجال جبهتة، وعلى رأسهم البشير الذي تحالف معه للقضاء على حكم المهدي، ومن ثم ترك الجبهة وأسس حزباً أسماه المؤتمر، ثم طوره إلى المؤتمر العربي، وضم إليه ممثلين عن خمسة وأربعين دولة، لكن سخريته اللاذعة من أصدقائه واستبداده برأيه جعلت البشير يتفق مع كثيرين على التضحية به في أول انتخابات تجرى، ليكون هو رئيساً للدولة والوزارة معاً بحكم القانون، وعلمت فيما بعد أن جزءاً من رسالة البشير التي حملها الصباح لفضل الرحمن ثم بونازير بوتو التي أبلغتها لكلينتون كان من بين سطورها فتح الطريق أمام رجل معتدل يقود البلاد بعد الترابي، ويبدو أن الأمريكان رأوا ذلك حلاً أمثل لما تعيشه السودان من خلافات في الداخل والخارج.

يمكننا القول أن فترة وجودنا في السودان كانت أزهى فترات عملنا المنظم، فقد أقمنا العديد من المصانع والشركات والسدود، وزرعنا مئات الهكتارات في أرض الجزيرة، وحفرنا الترع ومهدنا الطرق وأرسينا قواعد الموانئ والمطارات، حتى أننا شعرنا أن السودان كان مملكتنا الضائعة، وكان البشير فرحاً بالإنجازات التي لم تحقق إلا في عهده، ولم يقلقه غير جون جرانج الذي رفض تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب وأصر على الانفصال، حاولنا أن نمد يد العون في هذا الاتجاه، فأسسنا ستة معسكرات للتدريب في عطبرة والنيل الأزرق، وحملنا الرجال من شتى البلدان لتدريبهم على أهداف حية، حتى بتنا مناوئين لجارانج، وصرنا نسيطر على مناطق النزاع التي تركها لنا الجيش، ورحنا نعد للذهاب إلى الصومال، كان البنشيري المسئول عن هذا الملف المعقد، فكان يجمع المعلومات ويرسم الأهداف ويدرب الرجال وينزح بهم إلى المعارك، حتى أن الغرب المناصر لكل حركات الانفصال بدأ يشعر بالقلق، واليهود الذين بنوا عشرات السدود في كينيا وأريتريا وأثيوبيا راحوا يصرخون من خطرنا على مصالحهم، أما الأمريكان فقد هبوا لنجدة إخوانهم الفرنسيين في الصومال، فانسحب من جاءوا لنجدتهم وتركوهم يواجهون مصيراً لا يحسدون عليه، في البدء كانوا يخشون الفضيحة، لكنهم سرعان ما خلعوا ملابسهم.

لم تخل الحياة من منغصات، فقد كشرت المملكة على أنيابها وهددتني بأولادي، لكن كل شيء بعد رضاء الله يهون، وكل أمر بعد نصرة دينه وطرد الكفار من بلادنا هين، فأرسلوا من جديد يتوددون، ولم أنخدع برسلهم وكلماتهم المعسولة، فراحوا يرفعون من درجة تهدياداتهم إلى الحالة جيم، فعددت أهلي وإخواني وبني في زمرة الشهداء، وأرسلت لهم أن اخلعوني كما خلع معاويةَ أهلهُ، فقرأت على شبكة المعلومات الدولية بيانهم بخلعي، وقرأت أسماء الموقعين وفي مقدمتهم أمي وزوجها، وحمدت الله أنني لم أقرأ اسم أي من زوجاتي وأبنائي، فعدت أبحث عن بهاء الدين فلم أجده، أرسلت له: لله درك، ما حملك على هذا الشقاء، بع ما لديك والحقنا. فقال ما عادت الشيخوخة تسعفني على ذلك، لكنني سأبيع ما يعينك على ما أنت فيه، ثم أرسل بأسماء رجال كنا نستثمر أموالنا لديهم: احلبوا بقرتكم ولا تبيعوها. وأرسلت المملكة من يقول لي: لم تعد سنخلع عنك حمايتنا، فأطحت في وجهه بجواز سفري: خذوه وأريحوني من عاركم، وعلمت في الصباح أن الملك أصدر قراراً بحرماني من دخول البلاد وسحب جنسيتها مني. تملكني الحنق وخشوا الرجال أن تعاودني نوبات الحزن، وعرضوا على فكرة إنشاء هيئة عالمية للجهاد الإسلامي عوضاً عن لجنة علماء الإسلام التي أوقفت المملكة نشاطها، فوافقت وانشغلت باختيار أعضائها والترتيب لظهورها، واخترت لندن مقراً لعملها، لكن حزني لم يرفعه غير استيلاء مجد على قندهار، فهللت بالتكبير: لعلها البشرى والله ولي الصابرين، وكلما سمعت بانتصاراته هللت فرحاً، ثم جعلت الصباح سفيراً لي في عدد من المهام، وأرسلت صهيب في أخرى قائلاً: أنت رجل الملمات فكن لها كما هي لك، ولم يخيب الرجل ظني، حتى أطلقت عليه الأجهزة السرية مسمى الشبح، وشعرنا بضرورة توحيد المجاهدين في كل مكان تحت راية نرفعها سوياً، وكان الصباح الداهية الذي أقنع الجميع بالانضمام لرايتنا، فجاءوا من شتى الأرض قادة وأمراء جماعات ومنظمات ولجان وأحزاب وحكومات، قلنا عدونا كبير ومتعدد الوجوه والأذرع، ونحن لانملك حكومة ولا دولة، لا نملك إلا ما وهبنا الله له من حب الإسلام وطلب الشهادة، وليس أمانا إلا الاتحاد ليكون جهادنا واحد، ولا يقتلنا، فانظروا ماذا تفعلون. قالوا أنت أمير المؤمنين، قلت أتبايعون على هذا، فوضوعوا أيديهم على كتاب الله ويد الله مع الجماعة. بعدها خطبت فيهم، وذكرتهم بسيرة الصحابة والصالحين المجاهدين، وقلت إنما أضعف المسلمين فرقتهم، واتخاذهم الكفار أولياء لهم من دون الله، ثم أعلنت الحرب على الكفار ومن والاهم من المسلمين، فوقع الخبر على الأمريكان وأعوانهم كالصخرة على رأس الرضيع، ولهجت وكالات الأنباء في كل مكان، وانتفض الأعداء يغازلون البشير ويرهبونه، وما كان لنا إلا أن نوريه من آياتنا ما يجعل قلبه آمناً مطمئناً، فكانت موقعة أديس بابا، وغزوة الصومال واليمن ولندن والرياض وعمان، وقلنا نوريه الذهب، فاستكان إليه ونهض السودان من كسله إلى العمل، فكنا نمد الطرق ونبني المدن وننشئ محطات الكهرباء والمياه، ونستخرج المعادن، ونصنع الأسلحة والأسمدة ومواد البناء وأجهزة الكهرباء، وتوجنا عملنا بمفاعل، أحضرنا أجزاءه المعقدة من دول السوفيت، ولم تسع البشير الدنيا حين بدأنا في تشغيله، لكن الفرح لم يكتمل، فقد فقدنا البنشيري في إحدى غزواته بأعالي النيل، تجالدت أمام الرجال كي لا يعلم أحد أن الذي يطالبهم بالشهادة يرتعد من الموت، ولم نتعافى من مصابنا حتى أغارت من مصر طائرات على مشروعنا السري فدمرته، ثم توالت الضربات على رجالنا في كل مكان، فعلمت أن خيانة حدثت، واجتهدت في معرفتها حتى شككت في أصابعي، وكدت أقضى على أخلص رجالي لولا ألهمني الصبر، فاستغفرته ورحت أعيد ترتيب البيت، جعلت صهيباً قائداً عسكرياً، وأبا ماجد أميراً على الجزيرة، والعباس رجل المهمات، وفضل الله مسئولاً عن البيانات والإعلام، وأبا حفص مسئولاً عن الجماعة في أوربا، وأرسلت سويداً برجاله إلى البوسنة، وبركات الله برجاله إلى الشيشان، وأخذت أراجع أمر السودان، فوجدتها ضاقت علينا بما رحبت، ووجدت العقوبات تلاحقها من كل جانب، وناسها يعتقدون أننا جئنا لنأخذ بلادهم منهم، وما يأتيهم من خير فمن أنفسهم، وما يأتيهم من شر فمن الجماعة، بينما الأمريكان يذرعون الدنيا ذهاباً ومجيئاً، والبشير ما يلبث يئن أنين الجارية: وضعي في الداخل وعلاقاتي في الخارج. ونحن نعلم ما في صدره وجوفه ونسأل أنفسنا: أين يحط صقر قريش هذه المرة.

كان السؤال يطن في رأسي كنعيق غراب، فكل الدلائل تقول أن البشير أزمع على تسليمي، وكان على أن أسابق الزمن وأستحث الخطى قبل أن يلحقوا بي، فأعبرت إلى تشاد ومنها إلى الجزائر لتحملني سفينة إلى اليمن السعيد، كانوا دوماً في إثري، ولا يصحبني غير خوفي وعلى، لكن اليمن فناء المملكة ورجالها، ولا أمان بين أناس قلوبهم معك وبنادقهم عليك، فكيف رأيتها يا بهاء الدين ملاذي الأخير، تعبت يا صاحبي من التنقل والترحال وفي عنقي صبي صغير، وما عدت أحسن تحسس الخطى بين فكي شرك لا حدود له، وأعداء من كثرتهم لا معنى لملامحهم ولا أنفاسهم اللاهثة في أذني.

كدت أفقد صوابي وأطلق الرصاص على نفسي ومن حولي، لولا أن لاح لي أبو سعيد بوجهه الواثق الهاديء، تماماً كأول مرة رأيته فهيا، قال: إلى مجد يا أبا عبد الرحمن. وانتبهت إلى أن الصوت حقيقة وليس هذيان، فاستدرت أتيقن منه، لكنني لم أرى غير علي يغط في نومه.

(51)

اكتب يا على: لله الملك من قبل ومن بعد، خسرنا دولة كنا نظن أنها عاصمة ملكنا الآتي، وعدنا إلى التنقل والترحال والهرب، كنا كفأرين مختبئن في صندوق تتناقله الأيد و العربات من مكان لآخر، فلا نرى النور إلا حين يتذكرنا شخص لا نعرفه بكسرة خبز أو شربة ماء، كانت الرحلة أكثر مشقة، والأيام أطول مما نحتمل، ولم يكن أمامنا سوى الصمت والالتزام بكل ما يملى علينا من تعليمات، فالأعداء شددوا على جميع الموانئ، وصورنا كمطلوبين ألصقت على الحوائط، والمال المبذول أكبر مما تحتمله عزيمة الضعفاء، وليس أمامنا سوى أن نرتدي ملابس النسوة ونركض في جنح الظلام، وكلما سقطنا في كمين قلنا لله الأمر من قبل ومن بعد، وكان الله معنا حتى دخلنا على برهان الدين في تابوت انتظره بالأسابيع، فلم نشأ أن ندخل بهيئتنا هذه على مجد الدين، برهان أرحم من نظرة ساخرة، فالفارق بين أن تكون صاحب دولة وبين أن تكون جرذ صغير في صندوق كبير بلا شك، بكى الرجل حين رأى وما وصلنا إليه، قال أما كان لرجالكم أن يحضروكم بطريقة أفضل، قلت ولى زمان النعم، ومات بهاء الدين، وما كان لي أن أحضر جنازته ولا دفنه، مات آخر الأحضان التي كنت أرتمي عليها، وكانت آخر رسائله إليك. تمتم الرجل وعينه تنهمر بالبكاء: رحم الله بهاء الدين، كانت رسالته توصيني بك خيراً، قال أعرف أنك تحبه وهو يحبك وأن الخلاف بينك وبين مجد مستعر لكن بالله عليكم جنبوه كل هذا الصراع، جنبوه القتل والدم، فالله لا يجمع ظلمين على قلب بشر. قرأ برهان الرسالة وهو ينتفض، قال هذا عام الحزن، وهذا أول الفقد، لكنك آمن، هزمنا أو انتصرنا أنت آمن. سألته عن أخبار رجاله وموقفه في الحرب، قال لقد أخذ مجد كل شيء، ولم يعد أمامي ما أبكي عليه، لقد سيطر على قندهار وكابول ومزار شريف وهرات، ولم تبقى سوى بعض الأماكن التي يهيمن عليها الطاجيك ويحتمي بهم قلب الدين، وبعض الجبال التي يتحصن بها شاه مسعود، ويبدو أننا نستحق ألا نكون حكاماً على هذا البلد، لأننا فكرنا في أنفسنا ولم نفكر في مصالحه، وحده مجد الذي خرج لدين الله ولنصرة وطنه، لم تشغله خلافاتنا، ولم ينشغل بقتل الناس كما فعلنا، لكنه أسلم أمره إلى الله ودخل الجهاد، خسرنا جميعاً وكسب الطالبان، فهنيئاً لهم ما ربحوا.

كنت قد أرسلت لبهاء الدين أسأله أن يطلب من برهان الدين استقبالي، فقال أن مجداً وضعه في الحرب أقوى وأفضل. لكنني كرهت أن يشمت مجد، وأن أكون تابعاً بعدما كنت متبوعاً، فالموت أفضل من الهوان والذل. فتفهم بهاء ما أشعر به وأرسل قائلاً: برهان ينتظرك، لكن لا تركن إلى أحد، ولا تصعب على نفسك أمر مجد. تذكرت أبا سعيد وهو يقول منك الإمامة ومنه الإمارة، لكن أبا سعيد رحل، وبهاء الدين أيضاً رحل قبل أن أصل أفغانستان، جاءني الخبر في الطريق، قالوا أن المملكة دست عليه خادمة فدست له سماً، فكيف الحياة من بعد الأهل والأصحاب؟

بكى على وهو يكتب، وبكيت وأنا أملي، فتركته يضع القلم ليغسل وجهه بالماء، وتذكرت الصلاة فهتفت فيه أرحنا بها يا علي، فصعد على صخرته وأذن بصوت كالنحيب، فاستغفرت الله ودعوت بالرحمة لرجل رسم الطريق وتركنا في مفترقه، فكيف عرفوا بأمره، وهل وقعت رسائلنا في يدهم؟ أتعبتك يا صاحبي مثلما أتعبت كل من عرفوا بي، وقتلتك مثلما قتلت البنشيري وأبا سعيد والفضل صهيب وغيرهم، فأي محنة نزلت على كي أرى أصحابي موتى، وأي لعنة تطاردني فيحل الدمار والهلاك أينما حللت، اللهم خذني إليك إن كان في ذلك خيراً لي، وأبقني إن كان في ذلك خيراً للإسلام والمسلمين، اللهم إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي.

هزني على من كتفي وقال أنت متعب، نظرت إليه فرأيت شارباً خفيفاً يرتسم على وجهه، فضممته قائلاً: لقد صرت رجلاً يا علي، في سن كهذه كان جدك قد استقر في المدينة مع ابن عمه، في سن كهذه حمل السلاح وخاض المعارك بجوار إمامه، وها قد صرت قادراً على حمل السلاح وخوض المعارك، فهيئ نفسك لذلك، فلا بد للقائد أن يكون فارساً مهاباً، وهذا أمر قدره الله على آل بيتك، فلا تخذلهم بأنك لا تقدر الحرب، أو لا تحب الدم، فما قامت دولة أو سقطت إلا عليه، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، فهذه سنته فنا إلى يوم لا يعلمه إلا من قدره على الخلق.

(52)

لم تمر أيام حتى بدأت أخرج للناس من جديد، كان برهان الدين من ساعدني على تجاوز المحنة، هزني قائلاً أريد أن أحقن دماء المسلمين، ولا أجد سفيراً لذلك أفضل منك، أريد أن أترك الأمر لمجد على ما تركه الحسن لمعاوية، قلت لكن مجداً ليس معاوية، قال ولا أنا الحسن، لكن لكل زمن رجال، ولكل دولة قادة، وأنا أرى مجداً أقدر مني وأحق، ولا يجب أن يقتل البشتون أنفسهم من أجل رجلين منهم، ولا أظن إلا أنني خسرت الحرب. قلت وحكمتيار؟ قال هذا شأنه، لكنك لو خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى وضع السلاح وحقن الدماء لسمعوا منك. هزني الرجل بكلماته، وشعرت أنني مازلت قادراً على عمل شيء لصالح المسلمين، توجهت من فوري إلى قلب الدين، كانت معسكراته في بطون الجبال، لم أفعل سوى أن اخترقت بجواد المسافة العازلة بين قواته وقوات برهان الدين، تصورت أنهم سيأخذونني أسيراً مغمض العينين حتى أصل إلى الجنرال الثائر، لكنهم لم يفعلوا، بل حين اقترح أحدهم ذلك سبه قائده أمام عيني قائلاً: ما كان لإنسان أن يعامل أبا عبد الرحمن كأسير وأنا حي، ولو دفعت حياتي مقابلاً لذك فلن أندم، شكرته واتجهت معه حيث يكمن قلب الدين، وما أن سمع بما حدث حتى أنعم على قائده برتبة أعلى قائلاً: من أحسن لأبي عبد الرحمن أحسنا إليه، فمثله لا يعامل معاملة الغريب، ولا يشك في خلقه وعمله، ولولا أنه شفع للجندي الأحمق لقتلته أمام عينيه. شكرت الرجل قائلاً لقد أثلجت صدري ومهدت الطريق لما جئت من أجله، قال من عند مجد أم برهان، قلت لا هذا ولا ذاك، لكنه من السماء، فضحك، قلت: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهم، وقد حسم الأمر من قبل من هو أفضل مني ومنك، وهو الحسن بن علي، فقد تنازل عن الإمامة حقناً لدماء المسلمين، قال: أتريدني أن أتنازل لمجد؟! قلت أريدك أن تحقن دماء المسلمين، ولك ما اختاره الحسن لنفسه وما اختاره برهان. قال دعني أتدبر أمري وأستشير رجالي. فتركته وتوجهت إلى مجد فلقيني غاضباً: أكان برهان رفيقك في الحرب حتى تتركني وتذهب إليه، أهذا ما أوصاك به أبو سعيد، هل تراني أقل شيئناً منهم أم أقل قدرة على حمايتك، والله لو جئتني وطلبوا دمك أو دمي لتقدمت فذبحوني كالبعير ولا أتركهم يمسون شعرة منك. بكيت من فرط ما وبخني به: أنا في حال لا تسمح لي بالعذر أو الجدل، لقد فقدت أعز من رأيت على وجه الأرض، لقد فقد سندي وحصني وعقلي المدبر. تأسف الرجل وأخذ في ومواساتي وتعزيتي في خالي، فرحت أغير الأمر إلى الوجهة التي جئت لأجلها، قلت لم لا تحقنوا الدماء، قال لا حاجة لنا بذلك، فثلثي البلاد في أيدينا، ونحن الأعلون، فإن أرادوا أن يبايعوا قبلنا بيعتهم وأعطيناهم ما أرادوا، وإن رفضوا فهي الحرب. قلت أترفض حقن الدماء؟ قال لا، ولكن كيف أترك لهم أمراً كان في أيديهم، فأفسدوا واقتتلوا وأضاعوا البلاد، قلت فلم لا نحكم الناس، قال أخشى أن تكون الخديعة، قلت لكل منكم خراج قريته التي يقيم فيها، وله الحكم عليها، والشورى على الحاكم، وإن اختلف إثنان على شيء فما توافق أي منهما مع الثالث عليه. رأيت مجداً يستجيب لكن نفسه ليست راضية، هدهدت عليه قائلاً: لا تحزن إن الله معنا.

أخذت في جولات لا تنتهي بين المتخاصمين حتى توافق الجميع على التحكيم، الوحيد الذي رفض هو شاه مسعود قائد برهان الدين، ذلك الذي يشعر بثأر شخصي بينه وبين مجد منذ هزمه وأخذ منه قندهار، فما أن علم بقبول رئيسه للتحكيم حتى أخذ الموالين له في الجيش وانفصل مهدداً بقتل برهان ومجد، تعجبت للخارجي الجديد، وأرسلت من يطلب منه لقاءنا لكنه رفض، قلنا نحسم أمر الكبار ثم ننظر في شأنه، فجاء مجد وبرهان وحكمت وقرأنا أم الكتاب وياسين وابتهلنا أن لعنة الله على الكاذبين، ثم قلت لهم أن يفوض كل منهم أمره إلى حكم يتفاوض عنه، وأن لهذا الحكم أن يخلعه أو يثبته إذا ما ترامى الأطراف حتى يظهر الله الحق، قالوا لك ما تريد، فجمعت العلماء ورؤساء القبائل، وأناب رباني عبد رب الرسول سياف، فأناب حكمتيار عبد الرشيد دوستم، وأراد مجد أن ينيبني عنه فقلت له لا يجوز للحكم أن يكون خصماً، فأناب أحد مشايخ الطالبان ويدعى عتاب الراجفي، وتحدث كل من النواب ساعة عن صاحبه وأخطاء خصومه، ثم اقترعنا على أيهم أولى بالأمر من صاحبه، وقبل أن نبدأ تلونا القسم بالتزام ما تكون عليه النتائج، ثم ناديت باسم مجد فوقف خمسة عشر رجلاً، فأخرجناهم عن الحلقة، ثم ناديت باسم برهان فوقف عشرة، فأخرجناهم عن الحلقة، ثم ناديت باسم حكمت فوقف ثلاثة عشر، ولم يبق سوى سبعة ظلوا غير قادرين على الحسم، كل هذا يجري ولا علم لأي من المتنافسين بالنتائج، حين انتهينا أحضرناهم وأعدنا الناس إلى أماكنهم وقلنا لبرهان أن يبايع للرجلين على ما اتفقنا عليه ففعل، وقلنا لحكمت أن يبايع لصاحبيه على ما اتفقنا عليه فقال إن حكمتُ فلابد أن يخرجا من البلاد، وقلت لمجد أتبايع على ترك صاحبيك في الأماكن التي يسيطرون عليها ومشاورتهم في الحكم فبايع، قلت وأنا يدي في يدك، ثم أجلسته على كرسي ورحت أنادى الناس كي يسلموا عليه، حتى إذا اكتمل الأمر أمرت الناس أن يحملوا برهان وحكمتيار على المبايعة، ثم أمرتهما أن يكتبا لقادة جندهما أن يأتوا فأتوا، وأن يرسلا بدلاً منهم رجالاً من رجال مجد ففعلوا، ثم خصصنا لكل منهما قصراً محاطاً بالحرس، لا يدخله أحد ولا يخرج منه أحد إلى أن يبايع آخر رجل من رجالهما، فقال رباني ليس مسعود مني ولا أنا منه، فأعفيناه من أمره بقذيفة أطلقتها كاميرا كانت تصور المؤتمر الذي عقده ليشكك في نزاهة الاقتراع والبيعة لمجد الدين.

(53)

انتقلت إلى قندهار بموجب الاتفاق الذي تم بيني وبين مجد، وأرسلت في طلب صهيب والصباح وأبي حفص والفضل والبشير، وأقمت مجلساً لشورى الإمارة، حاولنا في البدء أن نكون هيئة مستقلة عن إمارة أفغانستان التي أعلنها مجد الدين، وقلنا أن مهامنا ليست في الداخل لأن هذا شأن الأفغانيين، لكن عدونا كبير ومتعدد الأطراف، وعلينا تقليم أظافره وقض مضاجعه انتقاماً للبنشيري وبهاء الدين، وطلبت منهم إعداد تقارير عن السفارات والقواعد والجاليات الأمريكية في بلدان الإسلام وغيرها، واقترح الصباح عمل منظمة لجهاد اليهود والأمريكان في العالم، فوافقته وأعددنا بياناً بها، وكان الرجال قد تعودوا على استخدام الأجهزة الالكترونية بشكل واسع في السودان، فحذرتهم من مغبة الوقوع في ذلك، وقلت أن الأمريكان يمكنهم أن يهزمونامن خلال أجهزتهم، وإذا أردنا أن نهزمهم فعلينا أن نبتكر طرقنا الخاصة بعيداً عنهم، لكن الصباح أقنعني بأن الله لم يخلق داءً إلا خلق له دواء، وأنه الآن يمتلك شبكة رجال في العالم أكبر مما يتخيل الغرب، شكرته هازئاً من مبالغته، فأخرج من حاسوبه عشرات الصور لمسئولين غربيين ممن يطلق عليهم الصف الثاني، كان بعضهم جنرالات وأعضاء مجالس برلمانية، ضحكت وأنا أقول أين رجال المافيا، وبوغت به وهو يفتح ملفاً آخر لوجوه تفننت في تمييز أنفسها، ملامح هندية وروسية ويونانية وعربية وصينية، كانت شتى الأجناس على شاشة الجهاز، والصباح يبتسم كأنه الشيطان الذي أوقع العالم في مخالبه، حين سألته كيف استطاع ذلك؟ قال ورثت تركة فحافظت عليها وطورتها، وحين يتوفر المال تستطيع أن تشتري من تشاء. كانت هذه المرة الأولى التي أدرك فيها أن الصباح قطع مسافات بعيدة عن رفاقه، وأن جناحه أحدث تحولاً كبيراً لم ألحظه من قبل، وقفت لا أدري هل أصفق له أم أكذبه، لكنني قلت أريد أن أعرف فيما يفكر أعداؤنا الآن، قال الأمر ليس بهذه الطريقة، فهم يفكرون ونحن نفكر والذي يستطيع أن يتحرك قبل الآخر هو الذي سيصيب، ومهمة هؤلاء الرجال أن يخبرونا بما لديهم، وعلينا أن نفكر ونتكهن بما ينوي الآخرون عمله، ولا ننسى أن لهم عيون علينا، والذي يكشف أوراق الآخر مبكراً هو الذي سيربح. شعرت أن الصباح يتحدث كمدرسي الكيمياء، فتركته ومعمله ورحت أتفقد معسكرات صهيب التي دب فيها النشاط، سألته عن السلاح وموارده وتأمين وصوله فضحك، ثم شعر أنه أخطأ فراح يبرير ما فعل: كنا نأتي به من أقصى العالم ونحن نجاهد الروس، فماذا بعد أن سقط الروس وصاروا يبيعونه على الأرصفة بقروش. ضحكت فسألني عن مجد الدين، قلت لم أره منذ أيام، قال هل ثمة خلاف بينكما، قلت لا، لكنه منشغل بأمور الدولة التي وقعت على عاتقه، ولا أود أن أبدو شريكاً له في الحكم، قال سمعت أنه يريد أن يهدم التماثيل البوذية، قلت لا تصدق، فلا بد أن الأمر خدعة، لكنني حين عدت إلى البيت وجدت مجداً يطلبني، قال ما رأيك؟ قلت لا تفعل. قال هدمها رسول الله حين فتح مكة. قلت لكن رسول الله لم يكن محاطاً وقتها بأعداء أشداء، وقد قبل صلح الحديبية في وقت وهدم الأصنام في وقت آخر. فوجدته يغير الموضوع: باكستان تضغط علينا لنسلمك إليهم، وأنا أخشى مشرف، فهو تربطه بالأمريكان مصالح كبرى، ولولاهم ما نجح في الانقلاب الذي قام به. سألته وماذا ترى؟ فأجاب: لقد رفضت بالطبع. فهدهدت على كتفه وخرجت أبحث عن الصباح، قلت ما الذي لديك من أخبار، قال عن محاولات تسليمك؟ قلت وهل هناك غيرها، قال مجد، ومأساتنا في السودان لن تتكرر، قلت هل هناك من جديد، قال ضغطوا على زوج والدتك كي تأتي إلى هنا. سألته: من متى؟ قال منذ ثلاثة أيام توجه مبعوث أمريكي مع الأمير نايف إلى مقر المجموعة، وهناك طلبوا منه بشكل واضح أن يضغط عليها لتأتي، وفي ذات اليوم دعيت الوالدة للقاء زوجة ولي العهد، وهو أمر لم يحدث منذ انتهت الوصاية عليك.

تركت الصباح وأنا أشعر أن شيئاً سيحدث، كانت أمي حاضرة في مخيلتي، تمسح على شعري تارة، وعلى رأس زوجها تارة أخرى، لم أتخيل أن يكون لأمي زوج بعد أبي، لكنها فعلت، لم أتخيلها تمسح على رأس رجل غيري، لكنها فعلت، جانب كبير من أزمتي معها أدركته في هذه اللحظة، وانتابني شعور مرير بأنني رجل مغدور، وأن غدره جاء من أقرب الناس إلى نفسه، فتذكرت يوم نزل الأمريكان إلى المملكة، وكانت الشخص الوحيد الذي بحثت عنه لأرتمي على صدره، لكنني لم أجدها، فقد أخذها زوجها ليحتمي في بلاد الإنجليز من شبح الحرب، أخذها ولم تفكر في غيره، لم تسأل إن كانت محنتي أكبر وضعفي أكثر أم لا. شعرت بكم هي بائسة، أرادت أن تخذلني لكن الله خذلها، أرادت أن تقسم ظهري لكن بهاء الدين جبره وأنقذني، فأنى لي الآن بهذا الحكيم القوى لينقذني من ضعفي أمامها؟ كنت أبكي والصور تتوالى في مخيلتي، وراهنت للحظة أنها ستكون كأخيها ولن تتآمر على، لن تسلم أذنيها لزوجها الخانع، ولا بد أن قلبها سيحدثها بالخطر الكامن تحت الكلمات المعسولة، فلن تقطع آلاف الكيلو مترات لتأتي إلى كهف في جوف الأرض كي تسلمني إليهم، لكنها جاءت.

أخبرني الصباح أنها عبرت الحدود الباكستانية في عربة جيب مكيفة، فقلت: لا تسمحوا لها بالمجيء إلا على عربة تخبرها كم صخورنا قاسية، لا تتركوا زوجها يشعر أنه جاء في نزهة خلوية ليصطاد أرنباً برياً كما تعود. فظلت أياماً تعاني من الريح والثلج والتيه في الجبال حتى أتت حافية تتكئ على ذراع زوجها، فتركتهما حبيسين في كهف مظلم وخرجت أتريض على جواد أشهب، ولم أعد إلا بعد أن وضعت الشمس رحلها ومات الغضب بين جوانحي، فعدت لأجدها واقفة كدمية عرجاء في يد كهل أخرق، لم أسلم ولم أرتمي في حضنها كما تمنيت، وأشرت إلى الرجال فأخذوا الكهل وتركونا بمفردنا، كادت تصرخ من أجله، كاد يغمى عليها من قسوة الرجال في جره وهو مرتعد كالذاهب إلى الموت، حين رأيت خوفها عليه ضحكت شامتاً: إلى هذا الحد؟ قالت: زوجي، قلت: نحن لا نقتل النسوة ولا الجبناء، قالت: أريدك أن تعود. قلت: ليذبحوني أم ليدسوا لي السم، قالت: بل لتدير أعمالك، فقد ترك بهاء فراغاً لا حد له، وهذه الصحراء لن تجدي في شيء، كفى عناداً وحرباً، كفي سعياً وراء السراب، فلن يتركوك لتفعل ما تريد، ولن تكون هولاكو لتفتح العالم بالقوة، إنهم أقوياء يا صغيري، ولن توجعهم ضرباتك الهزيلة، فعد معي لنحصل على عفو الأمير، ونعيش كما كنا في بيت واحد، يمكنني أن أطلب من زوجي الطلاق، فقد كبرت، وهدني موت بهاء، وما عدت أحتمل الفراق والعناد، فهل تفهم؟ ما عدت أحتمل.

لا أعرف هل بكيت أم هي التي بكت، لكنني ارتميت على صدرها كجبل من الثلج انصهر أمام الكلمات، فقبلت وجهها ويديها وأستسلمت لمسحة أناملها على شعري الطويل، ثم تذكرت أنني ما عدت ذلك الطفل المدلل، فتمالكت نفسي وانتصبت قائلاً: لعل هذا آخر لقاء بيننا. فانفجرت كبركان من بكاء ظل مكتوماً لأعوام طويلة. قلت ما عاد للطريق من اتجاه آخر، فقد آلمتهم، وأفقدوني أجمل من أحببت، فكيف يأمن أي منا للآخر؟ أعلم أنني لن أنهي عليهم، لكنني سأظل شوكة في ظهرهم، وشرارة تشتعل كلما ظنوا أنهم أطفئوها، إلى أن يستيقظ غيري وغيري، فينهض الإسلام كجبل لا تطاله طائراتهم ولا قنابلهم، فلا تجبري زوجك على شيء، ولتعلم امرأة من العرب أنها حملت بشهاب وضع الغرب والشرق على خط واحد فلا يجب أن تبكي. ثم أبقيتها ثلاثة أيام كسيدة للمكان، وودعتها في حراسة وعربة سوداء كسفيرة فوق العادة للعالم.

(54)
خريف 1998

انفجرت شاحنة ملغومة أمام قصر أمير المؤمنين، هكذا خرجت عناوين جرائد الصباح بعد الحادث بعدة ساعات، كان القصر المكون من طوابق ثلاث تنفذ منه أضواء خافتة في أول الليل حين اهتزت جنباته بانفجار شاحنة، وكان أمير المؤمنين قد اجتمع برجاله ليؤكد عزمه على هدم تماثيل بوذا المنحوتة في بطون الجبال، فقد أثار الخبر ردود أفعال كبرى، وراح السفراء والمبعوثون والمندوبون يقطعون طريق الحرير من قندهار إلى باكستان، من دول المشرق إلى دول المغرب، وأمير المؤمنين تحت عمامته السوداء يرطن بلغته البشتونية تارة والعربية والفارسية تارات أخرى، ولم يكن العالم قد استفاق بعد من مذابح سلوفيدان ميلوفيتش لمسلمي البوسنة والهرسك.

ليس هناك مبرر لدولة ناشئة أن تقف في مواجهة العالم. هكذا قلت لمجد، فصمت قليلاً ودار في الغرفة دورتين قائلاً: لن أحدثك عن إخواننا في الشيشان أو البوسنة، لكنني سأخبرك بأمر أقسمت بعده لأطبقن قانون الله الأزلي "العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص" إذا نصرني الله، كان ذلك منذ ست سنوات حين تلقيت دعوة لمؤازرة المجاهدين في الهند، كان الخلاف قد تصاعد بين الهندوس والمسلمين في قرية بابري، وكان بها مسجد قديم منذ أيام الفتوحات الأولى، بناه قتيبة بن مسلم قائد جند عبد الملك ابن مروان في خراسان، كان أثرياً محملاً بروائح المجاهدين والمتصوفة الكبار، ففيه جلس فقهاء وأقيمت حلقات علم على مدى عصور طويلة، وكان بالنسبة لأهله كعبة يقصدونها لتذكرهم بأسلافهم المجاهدين، وعلم الهندوس ذلك، فراحوا يعدون الخطة لهدم المسجد ووضع تمثال هندوسي لتحويل المكان إلى معبد، وقتها علمت الصحافة بالخبر وتنادى المسلمون من كل فج لحماية تاريخهم ومسجدهم، كنت واحداً ممن أرسلوا إليه ليأتي ومن يريد من العلماء والشيوخ، فذهبت ونمت بجوار المسجد كغيري من الآلاف، كنا نوجه نداءاتنا إلى العالم كي ينقذ الأثر الإنساني العظيم، مستغيثين فيها بحكومة المؤتمر الهندي أن تتدخل، لكن أحد لم ينصت لنداءاتنا، فنشرنا البروفة التي أعدوها لهدم المسجد، وذكرنا الآلات التي أعدوها لساعة الحسم المزعومة، لكن أحداً لم ينصت، وفي اليوم الأخير وكان يوم ثلاثاء فوجئنا أن كل القيادات قد اتخذت طريقها لخارج الولاية في إجازة مفاجئة، ولم يكن أمامنا غير أن نجعل من أجسادنا حائلاً بين المسجد والجماهير القادمة بالمعاول والجرافات وزجاجات المولوتوف، حين اشتد الحصار وجدتني أتجه إلى صحن المسجد لأصلي وأبتهل لله كي ينقذ بيته، حين غلبني الحزن أسندت رأسي إلى المنبر ورحت أبكي، فأخذتني غفوة رأيت فيها رسول الله ينزل من على ناقته ليمسح على رأسي قائلاً: ذلك تقدير العزيز الحكيم، لكن العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص. فاستيقظت بعدها على صوت رجل يحمل كرة من النار اخترقت النوافذ وجلست تزعرد على سجادة أسفل الثريا، فهرعت أساعده قائلاً: ذلك تقدير العزيز العليم.

كانت الناس قد ألصقت ظهرها بالحائط أمام الجرافات والجماهير الهندوسية، بينما الجنود والحرس يطلقون عليهم الرصاص ويشعلون النار في المسجد، يومها من لم يمت تحت الجرافات مات مختنقاً أو محترقاً أو مجندلاً بالرصاص، ثم استبيحت القرية بمن فيها، والمسجد تعلو أنقاضه شاحنة لتنصب تمثالاً هندوسياً، كان عدد الذين استشهدوا بالآلاف، والذين استبيحت بيوتهم وفروا خوفاً من القتل بلا حصر، والحكومة في إجازة لم تعد منها إلا بعدما انتشر التطهير من بابري إلى بومباي إلى دلهي، هنالك فقط ظهر القادة ونزل الجيش والشرطة ليلقوا بالمسلمين إلى قاع السجن، وفي رحلة عودتي كنت أخوض في دماء القتلى والجرحي وأعجز عن مواساة اليتامى والثكلى، ولا أملك إلا أن أقول لهم "ذلك تقدير العزيز العليم"، وأخفى في نفسي "إنما العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص".

حين انتهى مجد من حديثه وجدته يمد طرفاً خفياً من جلبابه ليمسح دمعة تجمدت في عينيه، فقلت: كأنك لم تدخل الحرب إلا لذلك، فابتسم قائلاً: أصدقت أن الصباح هو الذي أقنعني، أو أن فضل الرحمن هو الذي جعلني أحيل الطالبان إلى جيش من جديد، والله كلا، لكنها كلمات رسول الله، واختياره لي كي أطبق قانون الله على أرض نحكمها ونطهرها من الرجس والأصنام.

لم يكن أمامي إلا أن أوافق الرجل ذي البشارة على ما أراد، فرحنا نعلنها قوية مدوية أمام العالم: سنطهر أرضنا من الشرك والكفر. لكن ذلك لم يعجب الكثيرين، وأكثر ما أدهشنا أن دولاً إسلامية كانت أولى بالوقوف معنا اتخذت من الكفار واليهود أولياء لها، فجاءت وفودها تسعى لتردنا عن أمر اختارنا الله له، وما كان أمامهم إلا الخلاص منا، فتعاونوا بالمال والرجال والأسلحة ليضعوا كل ذلك في شاحنة لو دخلت في جبل لأنهار، لكن الذي أمرنا بالهدم هو الذي مد في آجالنا، كنا نرتب لبدء حملة الخلاص، فقسمنا الأوثان إلى ما هو خشبي يزال بالمعاول، وما هو صخري يزال بالجرافات والمجنزرات، حصرنا أكثر من خمسمائة تمثال وأزلناها، ولم يبق سوى تمثالين كانا محفورين في صدر الجبل بعرض عشرة أمتر وطول ستين متراً، وكانا يحتاجان إلى جهد كبير كي نحتفل بتطهير أنفسنا منهما، فاتفقنا على أن نفجرهما بالديناميت، في ذلك الوقت سمعنا حارساً يصرخ في سائق شحنة أن يتوقف. لكن الأخير لم ينصت لندائه، بل غير مسار شاحنته نحو الحديقة، ولا نعرف كيف انفجرت الشاحة قبل مئة متر من الشرفة، فارتج القصر وطارت النوافذ وارتطمنا بالكراسي وسقطت أجزاء من السقف وملأ الدخان والغبار المكان، مرت دقائق ونحن فاقدي الوعي ثم انتبهنا إلى أمر أمير المؤمنين فقمنا نبحث عنه، وجدناه على كرسيه بعمامته السوداء يردد "وما رميت إذ رميت لكن الله رمى" فحمدنا الله، وهنأناه على السلامة، ثم أرسلنا إلى وكالات الأنباء والصحف بذلك الخبر.

لم ينس الصباح ما حدث في ذلك اليوم، فقد أصر على أن نوجه لهم ضربة مشابهة، وراح يرسل رجاله في كل مكان، ويطلب من صهيب أن يدرب البعض على أشياء لم نفهمها، كان يبني من الأخشاب والأحجار أماكن مطابقة للمواقع التي يريدها، وصهيب يستجيب بعزم لا حدود له، يدرب ويستجلب خبراء التفجير ليعلموا رجاله كل جديد، ثم يرسلهم إلى أماكن بعيدة دون أن يكلفهم بشيء، ويقول هم هم الخلايا النائمة. شعرت أن الصباح استيقظ من قبره، وأنه الآن يخطو بأقدامه نازلاً من تعاليم العقاب إلأى العالم الرحب، حيث الشام وخرسان والهند ونظام الملك، كان الصباح الذي رأيته في ذلك اليوم بوجهين واسمين ورجال بلا حصر وأموال تتدفق عبر عمليات حسابية معقدة في مختلف العالم، كان الصباح الجديد بجسديه الطويل والقصير، ووجهيه الباسم والمنحوت من صخر ينفخ الروح في رجال نائمين ومعتزلين وعاكفين وركع سجود، فيرسم الخرائط ويعطي الأوامر وينتظر الحصاد، ولم تمض شهور حتى بدت الأرض خارطة ترقص بالنار، لم تمض شهور حتى سمع العالم بتفجيرات الأقصر وتنزانيا ونيروبي والخبر وعدن، وما لم يسمع به كان أكثر وأكبر، لكن الحرب لا تعرف منتصراً واحداً، ومن أطل بوجهه في الصراع فليصفع وليحتمل الصفع، هكذا قالها الصباح، حين أغارت طائرات الأمريكان على معسكري بدر لتحيلهما إلى تراب، قاضية على عشرات الأحلام ومئات الرجال، يومها لم يفزع، ولم يتهم رجاله بالتخاذل، لكنه بكى وهو يخبرنا باستشهاد صهيب، يومها قال كلمة غضبه التي أخذتها منه "لن تنعم أمريكا بالسلام في أي مكان" لكنني أضفت إليها حلم أبي سعيد "ما لم ينعم الفلسطينيون بالأمن".

(55)

ربنا إنا أخطأنا فاغفر لنا وتب علينا وارحمنا، إنك أرحم الرحمين. هكذا توالت تمتمات الشيخ بعدما تملكه شعور بأنه المسئول عما حدث لأصحابه، كانت ذكرى من استشهدوا مؤلمة، لكن صور التعذيب التي وصلته من جوانتنامو والعراق ومصر والسعودية والأردن والمغرب وفرنسا وغيرها من بلدان العالم كانت أكثر إيلاماً، حتى أنه كلما شاهد شرائط تعذيبهم ضرب رأسه في الحائط أسفاً، وراحت نوبات الفزع والصرع الذي أصابه من انفجار آلاف الأطنان على رؤوس الجبال تعاوده من جديد، كان كلما سمع صوت ارتطام ألقى بنفسه إلى الأرض صرخاً "اهبطوا... اهبطوا"، كانت أياماً عصيبة فقد فيها الشعور بالليل والنهار، فالوقت كله كان جحيماً أسود مشوب بلهب أحمر وأصوات تزلزل الجبال، عادة ما كان يرى أجساداً متناثرة، وعادة ما يضع يده على من بجواره فلا يجده، لا يعرف كيف نجى من الموت الذي سعى إليه آلاف المرات، كان يخرج إليه هاتفاً فيه أن يأتي لكنه ما إن ينظر إلى المكان الذي ترك فيه أصحابه حتى يجده صار كتلة من لهب، وحده على الذي لم يتركه، كان خادمه وحارسه وظله الذي لا يفارقه، ينحني بجسده القصير فيحمله ويفر دون أن يدري إلى أين، وحين يفيق من إغمائه أو صرعه يراه جالساً بجانبه، فينتفض من نومه يهرع باحثاً عن الموت، فلا يعترض طريقه إلا على، هذا الذي اعتاد أن يرتمي عليه مع أول صوت، وكلما ساءت حالته كان الصباح يحضر طبيباً فيأمر بوصفات وأدوية لم تعد ميسورة، فالدواء والأطباء صاروا عملة نادرة في وقت ليس متاحاً فيه الصواريخ والقنابل، حين انتهت الحرب وخسر الطالبان ملكهم أخذه الصباح إلى كهف على الحدود في هرات، وأشرف عليه طبيب متجهم، لا يأتي إلا ليصرخ في وجهنا تاركاً عدة عبوات تجلعه ينام في سلام، كانت الأحلام سلواه في هذا الدرب المظلم، وكان صوته وهو يحادث الأشياء على أنها أصدقاؤه تجعل علياً لا أعرف ما الذي يتوجب عليه أن يفعله، فكثيراً ما تحدث بالنيابة عنهم، وكثيراً ما حايله كي يتناول دوائه الذي يسلم إلى نوم طويل ملؤه الفزع، ولا يستيقظ إلا ليهتف به "صلاة الفجر قد ولت، فآتني بالماء يا فتى" لكنه منذ اعتاد المهدئ وهو لا يحسن وضوءاً ولا صلاة، ولا يعرف غير التمتمات التي تأخذه إلى عالم غير الذي فيه، عالم أبطاله شبيب ومعاوية والزبير وعبيد الله المهدي وغيرهم، بينما الرجال منشغلون في فرارهم وكرهم، وكثيراً ما عادوا مصابين بفزع لا يقل عن فزعه، فرغم انتهاء الحرب وسكوت القنابل غير أن أصواتهم كانت تهتز لها الجدران، فينتبه من خيالاته ليصرخ فيهم: "الزموا الأرض.. الزموا الأرض". عامان مرا وعشرات الأطباء تغيروا، وما كان بوسع الصباح غير نقله إلى الهند ليحتجزوه في مصحة لديهم، ليعود بعدها ساكناً منعزلاً، لا يرغب في أن يخرج عن دائرة شخوصه الوهمية، وكأنه يحاكم التاريخ من خلالها، وقليلاً ما كان يفيق من شطحه معهم "أريد الصباح"، فيأتيه الأخير على عجل، لكنه لا يقول شيئاً، فقط يتأكد أن ثمة واحد من رفاقه مازال حياً، فيجلسه الصباح أمامه كطفل ليمشط له شعره، ويبدل له ثيابه، ويدخل المصورين عليه فيأخذوا بعض الصور.

بعدها بشهور بدأت حالته في التحسن، وراح الخوف يفارقه وواعتدل ذهنه من جديد، لكن شريطاً مصوراً جاءه في غياب الصباح، فظن الرجال أنه تسجيل لبعض الساسة أو عمل وثائقي عن الجماعة، فأعطوه له، بدوره وضعه في جهاز العرض، فرأى أصحابه يعذبون، وعيونهم تجحظ من مآقيها على الشاشة، ودماؤهم تسيل من الأفواه، بينما الجنود يصفعون "أين صاحبكم الآن لينقذكم"، حين سمع هذه الجملة جلس الشاشة كمن يصلي لهم، وراحت أعضاؤه ترتجف ككرة حتى سقط مغشياً عليه.

بعد أيام من سهر الطبيب بجانبه استفاق وطلب الصباح، حين جاءه كان يتقافز فرحاً وهو يحكي عن هزيمة الأمريكان في العراق، لكن الشيخ قال "أريد أن أعتزل"، وهم الصباح أن يقول شيئاً، لكن إشارة من اليد الطويلة والعين الغائرة قطعت الطريق: أريد أن أعلن لهم عن مكاني، فمن منكم يسلمني له الجزاء والفضل.

ضحك الصباح كأنه لم يضحك من قبل، قال: أتظن أن ظهورك من عدمه يعني لهم شيئاً، ما نحن إلا تكئة يفعلون من خلالها ما هم ذاهبون إليه، فالزم ما أنت فيه ولا تفجعنا. لكن الشيخ لم يستسلم: سيرفعون على الأقل أيديهم عن إخواننا في السجون، ويوقفون مطاردتم لمشردين بلا ذنب. طأطأ الصباح رأسه: هل تظن أننا سنتركك تفعل ما تقول؟ لعلك لم تعد قادراً الأمر، لكنك ستبقى هنا، فخير لنا أن نحتفظ بك عن أن نفقد كل شيء من يدنا. أراد الشيخ أن يقول أنه الأمير وأنه سيسلم نفسه، لكن الصباح حسمها "إن لم تقلع عن ترهاتك فكل شيء متاح لأناس ليس أمامهم سوى الموت"، ثم استدار خارجاً من الكهف.

اختفى الصباح ولم يعد، وتغيب الرجال وخفت الحراسة، ولم يبق في الكهف المظلم سوى الشيخ وعلي، ولا حيلة لهما سوى أن يستدعي الرجل بتاريخه كي يقصه على رفيقه، ويخلط بين شطحاته وحياته، يخلط بين شخوصه الوهميين والحقيقيين، وعلى يستفسر ويستوضح ويكتب ما يمليه عليه، كانت سلواهما الوحيدة متابعة الأحداث في قنوات الأخبار، فإذا ضجرا من هذا راح يملي على رفيقه ما يعن على ذاكرته، كان يملي وكأنه يعد السلاح الذي سيلزم به الصباح ليعود إلى طاعته من جديد، لكن علياً رأى ذات صباح سيده على إحدى القنوات، رآه بنفس القامة الوصوت والحركات، كان يهدد ويتوعد كما كان يفعل الشيخ من قبل، لكن الأحداث التي يتحدث عنها جديدة، والشيخ لم يفارق كهفه منذ تشاجر مع الصباح، والمصورون ما عادوا يحضرون إليه، فما الذي حدث، كاد علياً أن يذهب ليوقظ شيخه فيسأله: هل لك روحان، هل تحولت إلى شخص أكبر من قدرات البشر، لكنه تدارك أن شيخه لا تسمح له حالته بالحديث كل هذا القدر وعلى هذا النحو المنتظم، فأدرك أن الصباح قدم أول تجاربه، وأن نجاحها يعني أنه سيسعى غداً للخلاص منهما.

(56)

فقدنا في الغارة الأمريكية المكثفة على معسكري بدر عدداً من قادة التنظيم، كان على رأسهم صهيب الذي هاتف أحد رجاله في نيوزيلاندا، فاكتشفنا بعد عدة أيام أن الرجل قبض عليه، وأنهم استطاعوا من خلال القمر الاصطناعي تحديد موقع صهيب ثم القيام بدك المعسكرين، أدركنا كم أن هذه التكنولوجيا الغربية صارت وبالاً، فعن طريقها يمكنهم تتبعنا وتحديد مواقعنا، كان حزني على صهيب وفزعي من أننا صرنا عراة أمام الأمريكان وغيرهم بلا حد، ولم يبق لي من الرجال الكبار غير الصباح، فرحت أصرخ فيه أن يوقف التعامل بالأجهزة الحديثة حتى لو استغرق الأمر منا سنوات بدلاً من لحظات، فلا يمكن أن نرى الطائرات كل لحظة تحيل أصحابنا إلى غبار ولهيب، وافقني مجد على ما قلت، وابتسم الصباح كعادته: لسنا وحدنا الذين نستعملها، ولسنا الأكثر اعتماداً عليها، ومن صفع يصفع، ومن اعتدى فليتحمل. أبدينا دهشتنا من ثقته وبروده، لكه الصباح الذي أراد أن يثبت قدرته على قيادة التنظيم وحده بعد صهيب، قال: العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وأخذ يشرح كيف يمكن تكبيد الأمريكان أكثر مما كبدنا الروس من خسائر، لكن الحرب ليست كلها طائرات وصواريخ، ليست الخسائر دائماً أرواح ومبان ومعدات، يومها تحدث كعالم اقتصاد عن حركة رؤوس الأموال، وعن طرائق الإيداع والسحب والتحويل، وأنهى حديثه: ماذا لو خسر الأمريكان عدة مليارات في وقت واحد، ألن يسبب ذلك لهم أزمة؟ ماذا لو تم تدمير عدداً من حسابات البنوك والبورصات والشركات، ماذا لو سرقت المعلومات التي يتفاخر بها الأمريكان في وكالة ناسا أو البنتاجون أو السي أي آيه، ثم بيعت إلى الروس أو الصينيين المتحفزين أو حتى الكولومبيين أو الكوبيين، العالم كله على استعداد لأن يدفع الكثير في مقابل معلومة تهمه، ونحن يمكننا أن نكون هذا الوسيط، البائع والمشتري، فماذا لو كنا الصانع نفسه؟ كانت أسئلته متلاحقة وذات منطق، وكنا نحن الذين تركنا بيوتنا وحملنا أسلحتنا على ظهورنا كل هذه السنين غير مقتنعين، تجادلنا معه قدر ما وهبنا الله في ذلك اليوم من قدرة حتى قال: أعرف أنكم لا تعرفون غير قوة السلاح، أعرف أنكم تخشون أن تتحولوا من مجاهدين إلى قراصنة، وأنا مثلكم أبحث عن الحلم الذي من أجله تركت بلادي وجئت إلى هذه الصخور، لكن كيف سنقيم دولة إن لم نتحصن بأسلحة العصر، هل ستنفعنا الفضائل أمام عدو لا يؤمن بأية فضيلة، ألم يقل الله "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"؟ ألصق الصباح بمنطقه الجديد ظهرنا إلى الحائط، فسألناه وكيف ذلك، قال الأمر يسير، لدينا رجال في شتى أنحاء العالم، لدينا مؤمنون بفكرتنا من شتى الطبقات والمهن، ولدينا المال والعلاقات، كل ما نريده مجموعة من قراصنة الشبكة الدولية، وهؤلاء لدينا عدد منهم، يمكننا أن نزودهم بآخرين يعلمونهم، ولا مانع في هذه اللعبة من التعامل مع الشيطان نفسه، لأن الشيطان هو الذي جعل العالم يتحول إلى مجموعات من الأرقام.

كان الصباح يسعى لأن يكون روحاً بلا جسد، وكنا واقفين أمامه لا نعرف هل نمنعه أم نطلق له البخور، لكنه على كل انصرف إلى حيث يريد، أعاد ترتيب الرجال والمعسكرات، أعاد ترتيب التنظيم وشرع في جولات مكوكية لا نعرفها، فقط نسمع بأخباره، مرة في الهند وأخرى في الصين وثالثة في استراليا ورابعة في أمريكا أوكندا أو حتى جزر القمر، وكأنه صار قادراً على التواجد في أكثر من مكان، وبأكثر من هيئة وصورة واسم، كنا نسمع عن نجاحاته دون أن نراه، نتعقب أخباره ونكتشف أنها قديمة، الشيء الملموس الذي حصلنا عليه هو الأرقام المتزايدة في البنوك، والحسابات التي تحول إلى سبائك ذهب، والذهب الذي يصبح شركات ومزارع ورجال ومتفجرات، بعد عدة شهور وجدنا الصباح على رأسنا في قصر الملا مجد الدين، كان هندامه أكثر بهاءً، لكن وجهه يعلوه شحوب، بينما عيناه أكثر حدة وقلقاً، ألقى السلام وجلس يقذف بعضاً من حبات من العنب في جوفه، فعل ذلك دون أن يسلم أو يرحب أو يمهد لشيء، حين وجدنا ناظرين في دهشة قال: الروس والصينيون وآخرون يريدون أن يتحركوا ضد الأمريكان، ويريدوننا معهم، فماذا تقولان؟ هكذا أصبح الصباح صاحب المفاجآت، تخطينا المفاجأة وحاولنا أن نكون واقعيين: ومن أين علمت؟ قال بالأمس كنت في ليننجراد، التقيت بالجنرال بوتين المرشح بقوة للرياسة بعد يلتسن، كنت قد بعته معلومات من وكالة ناسا، فباعنا بعضاً من معلومات الكي جي بي، فيها أسماؤنا جميعاً، وفيها خطة تفصيلية كاملة لضربنا، لكن الخطة أجلها كلينتون للرئيس الذي سيحل بدلاً منه في العام القادم، قال أنها عمل رائع لكنه لن يقدم على أمر قد ينهي على مستقبل حزبه في الحكم، أما بوتين فهو يرى أن لا خلاص لبلاده من الفقر والبطالة ومائتي بليون من الديون للغرب إلا بعمل عسكري يعيدها إلى قمة العالم، ويرى أننا لا يجب أن نختلف، فالحكمة تقول أن عدو عدوي صديقي، وقد حان الوقت ليأخذ مسلمو الشيشان حقهم في الاستقلال، وأن تلعب روسيا دوراً حقيقياً لصالح فلسطين، ولا مناص من أن يجتمع المسلمون والصينيون والروس على كلمة ضد الهيمنة الغربية الأمريكية.

كان ما طرحه الصباح مفاجأة بحق، ولم يكن أمامنا سوى الموافقة بعدما تأكدنا أن الأمريكان يعدون للإنهاء علينا، لكن الموقف الصيني شبه غائم، فلا قبول ولا رفض، لاشيء سوى الموافقة الأقرب إلى الحياد، بينما الروس مندفعون في انتخاباتهم، وكان علينا أن نتمهل حتى يحسموا أمرهم، ورغم أنه لم تكن هناك خطة للعمل فقد راح الصباح يجوب الكرة الأرضية ليختار من يمكنه التعامل معهم، كانت فكرته أننا محتاجون لتجنيد أكبر قدر من الأمريكان واليهود، وحين أدهشنا ذكر الفصيل الأخير قال: لأنهم لا وطن لهم ولا دين ولا ولاء، بقدر ما ينمون ككائن طفيلي على جسد أي إمبراطورية تظهر بقدر ما يعملون بها كنقار الخشب، ولا سبيل لنا غير الاستفادة من وضعهم المميز بين النخبة الأمريكية، فهم الذين يمكنهم الوصول إلى أدق التفاصيل وأصغر الجزئيات عن قرب.

كعادتنا في الشهور الأخيرة لم نملك أمام منطقه سوى الموافقة. هذا المجنون الذي وفر المزيد من الأموال والسلاح والرجال لا بأس به، حتى أن مجد الدين أعلن أمام الجميع أننا لم نعد بحاجة إلى زراعة الخشخاش، فقد انتفت الضرورة الداعية إليه، ويبدو أن الصباح لم يعد منشغلاً بالواقع الأفغاني، بل لم يعد يلبي طموحه وهوسه إلا امتلاك العالم، فوافق وكأن الأمر لا يعنيه، أو أنه لم يكن صاحب الفكرة من الأصل، بل عرض إمكانية وقف طريق التجارة المسمى بطريق الحرير، لكن ارتباطات مجد جعلته يرفض، كان تعليله يومها أنه لا يمكن الوثوق الكامل بروسيا، وكان تعليل الصباح أنه لا يحب رجال الجيش الباكستاني وعلى رأسهم مشرف، بل لا يثق في الباكستانيين جميعاً، يومها انتهى النقاش إلى تأجيل تلك الخطوة حتى تتضح النوايا، فأرجأنا الأمر وخففنا من ضرباتنا الموجعة للأمريكان، بل أوقف الصباح أي نشاط عسكري داخل أمريكا نفسها، هذه الخطوة التي دافع عن وجهة نظره فيها بأن الأمر تغير عما قبل، فلا يمكن أن ننبه الأمريكان إلى وجودنا على أرضهم، ومن الأفضل أن نضحي بعدد من الرجال لصالح الشرطة الفيدرالية والمخابرات المركزية التي استطاع تجنيد عدد من رجالها، ويمكن تصعيدهم بما يمدهم من معلومات عن رجال لا يثق في ولائهم. شعرت أن الصباح تغير عما كنت أعرف، وأنه أصبح الصباح بالفعل، لكن الصباح لم يخن دعوته، ولم ينس يوماً أنه داعية نزار بن المستنصر، فهل سيظل صاحبنا على العهد أيضاً؟

جعلتني المفاجأة غير قادر على حسم أمري، فتارة أشعر بالفرح لقرب هزيمة الأمريكان وخروجهم من بلادنا، وتارة أرتعد من انهيار الحلم وهجومهم علينا بكل ترسانتهم الحربية، وكان الخوف من الفشل أكثر ما يؤرقني، فلا يمكن للأمريكان أن يضربوا روسيا ولديها كل هذه الترسانة الحربية، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك مع القارة الصينية أيضاً، فمن المرشح للانتقام سوانا، ولا أظن أحداً مهما قطع عهود واتفاقيات أن يقف في وجه الأسد الهائج لأجل قلة مثلنا. تأملت الوضع العالمي وحكام العرب فاستأت لضعفهم، ولم يفارقني عبد الله بن الزبير في صحوي ومنامي، فرحت أبكي لشدته وما فعله في نفسه بشربه دم الحجامة، لكن الصباح أتاني قائلاً: لقد دمر الأمريكان والبريطانيون للروس أكبر غواصة نووية في العالم، وقد أرجأ بوتين أمر الحرب.

كنا قد علمنا بالخبر من وكالات الأنباء والقنوات الإخبارية، وتابعنا رفض الروس أي مساعدة لإنقاذ أكثر من مئة وعشرين قتيلاً على ظهر غواصتهم، لكن أحداً لم يذكر الجهة التي وراء الحادث، وحده الصباح هو الذي قال أن الأمريكيين استخدموا غواصة بريطانية محملة بصواريخ معدة لاختراق الدروع والصخور، وأن هذه الغواصة التي توجه صواريخها عن بعد كمنت لنظيرتها الروسية على مبعدة في أعماق المحيط، ثم انطلقت نحوها بسرعة البرق في الوقت الذي عُطلت فيه أجهزة الإنزار والماسح الذري في العملاق الروسي. كان الصباح يدور أمامنا كدوري استيقظ للتو شارحاً كيف اصطدمت الفأرة الصغيرة يصواريخ كالإبر الصينية في أحشاء العملاق الروسي، فنسفت منه البطن وفصلت المقدمة عن الرأس، فسقط ككائن وديع في أحراش أرخبيل يحتاج مئات الأجهزة العملاقة كي تفتته وتلتقط ما وقع بين أضراسه المتشعبة، رفض الروس المصابون بالذهول أن يساعدهم أحد كي لا يكتشف المخطط المسجل على العقل المركزي للغواصة، هذا المخطط جزء من العملية التي كان من المفترض أن تقوم به في الخليج الفارسي. يومها اكتشفت في قرارة نفسي أنني كنت أرغب في الحرب، وأن خوفي الأكبر لم يكن إلا من عدم حدوثها، فشعرت أكثر بالخوف ورحت أصرخ في الصباح: لم أوقفوا الحرب؟ قال أن الروس أختلطت لديهم الأوراق، وأن بوتين يسعى إلى معرفة عدوه من صديقه، وأنه يريد أعادة حسابات جبهته كي لا يضطر إلى خوض الحرب وحده لو اكتشف الأمر أو فشل المخطط، لم يزد كلامه قلبي إلا فزعاً، ورحت أسأل، وماذا لو اكتشف أمرنا نحن؟ فهل يمكن أن يتدخلوا من أجلنا أم سيختبئون خلف ترساناتهم العملاقة ليتابعوا مباراة بين فأر ورخ؟ كان فزعي على مجد ودولته الناشئة أكبر من أن تخففه تعليلات الصباح التي لا تنتهي، فأمرت بالانسحاب من الأمر ككل، وعزل الصباح عن منصبه، وقطع علاقاتنا بالروس، وفتح قناة تؤمن موقفنا مع الغرب، وإن كانت إسرائيل وليس باكستان، ورحت أمزق أي ورق وأحطم أي حاسوب له علاقة بتلك العملية، وظللت فزعاً أرتجف في جلدي حتى رأيت أمي واقفة في غرفتي، كانت أشبه بأسماء ذات النطاقين، ربتت على صدري قائلة: ما هذا لباس ما يريد ما نريده من الشهادة. قلت مثلما قال الزبير: والله ما لبسته إلا لأطيب خاطرك وأسكن نفسك، فمسحت بيدها على شعري: انزعه يا أسد الله، فما كان لك أن تتسربل سروالاً غير الذي ألبسكه الله. فرأيتني أقر عيناً، ورأيت الخوف يتمزق مني كما تتمزق الملابس عن رجل تضخم فجأة، فناديت حارسي: إليَّ بالصباح... فوالله لا أمنع أمراً قدره العزيز العليم.

لم تمر دقائق حتى رأيت الرجال يدفعونه أمامهم بثياب نومه، وهو يتعثر فينكفئ فيقوم فيتعثر فينكفئ حتى ارتمى على قدمي، تذكرت ما قاله الرجال لعبد الله الشيعي "إن الذي أمرته علينا هو الذي أمرنا بقتلك" فقلت ويح الملك، وانحنيت أنهضه وأمسح عنه التراب كما مسحه النبي عن علي، كان الفزع في عينه جاثماً وكأن أمر حياته قد حسم، قلت لا تثريب عليك اليوم، قم فانهض، وابعث برجال ترجف بهم الأرض، فيأتون بسافلها على عاليها.

(57)

يومها عاد فاغتسل وتطيب وأرتدى أفضل ما عنده، ثم أمر بجمع مجلس الحرب، وكنت أنا ومجد على رأس الطاولة، وضع خريطة كبرى للدنيا، وأحضر شاشة بيضاء فنشرها على الحائط، ثم أتي بحاسوبه ودس به قرصاً مدمجاً، رأينا أمريكا من الداخل شوارع وأناس وعربات، وكانت المشاهد تتحرك أمامنا من الكونجرس إلى البيت الأبيض إلى بنسلفانيا، لكنها توقفت كثيراً أمام مبنى مكون من خمسة أجنحة، لا يزيد عن أربعة طوابق، قال أنها المخ الذي يسيطر على أطراف الإخطبوط الأمريكي، ولو أصيب أن هذا المخ بالشلل ولو ليوم واحد لانهارت الإمبراطورية العظيمة، كانت الكاميرا تدور على خارطة الأرض لتظهر أساطيل وقواعد وغواصات وبوارج ومنشئات في كل مكان، وكانت الإضاءة خافتة ولا تنبعث إلا من تلك الشاشة البيضاء العامرة بأرقام وإحصائيات أخذ في شرحها جنرالات الروس ورجال مخابرات فرنسية وألمانية، بعدها ظهر بوتين وهو يصافح الصباح، ثم أظلمت الشاشة وجاءت الإضاءة الطبيعية، قال أن هذا ما نسعى إليه، قال مجد لا أفهم شيئاً، وقلت دعك من الروس وأمانيهم وأشرح بلغة القرآن ما أعددتم، وضع قرصاً آخر في جهازه فظهر سرب حمام يتهادى في سحب بيضاء، ثم ما لبث أن أصبح طائرات عملاقة في وداعة الحمام لا شراسة النسور، كانت تحلق على شوارع ومدن وبشر دون أن تثير خوف أحد ولا تلفت انتباهه، فجأة أصيبت الحمائم بالجنون وراحت تنقض على المباني فتحيلها كتلاً من لهيب ورماد، فأوقف الصباح حاسوبه على هذا المشهد قائلاً: هذا ليس فيلماً من إنتاج هوليود لكنه الوثيقة الأولى التي أنتجتها مخيلة جنرالات الحرب في روسيا، فتخيلوا معي لو أن هذه الطائرات بدلاً من أن تدخل في المباني بشكل عشوائي دخلت في البنتاجون والبيت الأبيض، تصوروا لو أن أمريكا فقدت في لحظة رئيسها ومسئول أمنها القومي ووزير دفاعها وجملة من الجنرالات العتاة، فقدت شفرات السيطرة على أسلحتها وقواعدها وصواريخها وجنودها، فقدت ملفاتها عن العالم وقدرتها على استيعاب ما يحدث، تصوروا لو أن هجوماً مفاجأ في ذلك الوقت قامت بها ثلاثة جيوش كبرى على أساطيلها في المحيطات والبحار، وأن مخزونها من النفط اشتعلت فيه النيران، والمحطات العملاقة لتوليد الطاقة توقفت، فما الذي سيحدث إذاً؟

كان الصباح يتحرك ويشير بعصاه كجنرال كبير، بينما الشاشة تغير من مشاهدها وتنثر لهباً أسوداً فوق الأرض وتحت الأرض، فوق الماء وتحت الماء، وكأننا نشاهد فيلماً متخيلاً عن حرب كونية شنتها كائنات فضائية على كوكب الأرض، حين أظلمت الشاشة وأضيء المكان كانت وجوه الحاضرين منومة وكأنها ما زالت تعيش في أحدث الفيلم، لكن الصباح فاجأنا بسؤاله "ما رأيكم"، قلت في أي شيء، قال: في نهاية أمريكا؟ قال مجد: تلك أمانيهم، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه. قال أبو قتيبة: كيف يتم ذلك؟ وكان الصباح حاضراً برده: منذ عامين ونحن والروس نعمل على اختراق أجهزة الأمريكان عبر عملائنا والشبكية الدولية، واستطعنا الحصول على بعض ما لديهم من معلومات وشفرات، ويمكننا إبطال عدد كبير منها، ولدينا الآن شبكة لا حصر لها من المناهضين للكونفدرالية الأمريكية، وجميعهم يحلمون بتحلل تلك الهيمنة ليصبحوا دولاً مستقلة، وأكثرهم من ولايات الجنوب والغرب، ومن لم يجد معه المال أجدت معه التهديدات بالفضيحة أو القتل، كان آخرهم بيل كلينتون الذي كاد أن يذهب ضحية عاهرة زجها عليه اليهود، لا لشيء إلا لأنه أرجأ قرار حربه لمن يأتي من بعده، ولا أظن اليهود أقل كراهية لأمريكا منا، وليس رهانهم على بوش إلا لأنه الأحمق الذي سينفذ نبوءة أشعيا حسبما يقول الحاخامات، وهم يدفعون بنا وبهم في وقت واحد كي نصطدم، لذا فلن نطلعهم على خططنا إلا بقدر ما نحتاج منهم.

شعرت في ذلك اليوم أن الخاتمة التي تمنيتها كثيرا قد اقتربت، وأن علي أن أضغط بأي شكل كي يستمر قطار الشرق في طريقه نحو الغرب، لكن الصباح بدا مرتبكاً حين بدأنا نناقش التفاصيل، قال أننا يجب أن ننتبه إلى أن الأمر به مغامرة، فالعملية مشروطة بنجاح الخطوة الأولى، وهي الجزء الذي ما يقع على عاتقنا، حيث الطائرات التي ستفقد الأمريكان صوابهم وتشل حركتهم، ولو حدث خطأ في هذا الجزء سيفسد المخطط ككل، وربما تنشب حرباً نووية لا نعرف مداها. فأضاف مجد: وربما يتخلى الجميع عنا لينفرد الأمريكان بنا وبغيرنا من المسلمين، فلا يمكن أن يدمر العالم نفسه من أجلنا. كان تخوف مجد حقيقة لا مراء فيها، فتلعثم الصباح مجففاً ماعلا وجهه من عرق: لا أعتقد أن الروس والألمان والفرنسيون سيتركوننا، ولو دخلت الصين في هذا التحالف غير المعلن سيكون دم الأمريكان قد توزع بين الجميع، ويمكننا لو تخاذلوا أو تباطئوا في الوقوف بجانبنا أن نعرض ما لدينا من وثائق على العالم، فنحن لم نكن غير أداة في يد من هم أكبر منا. شعرت أن كلمات الصباح لم تجفف بئر القلق، وأنني لا بد أن أشمر عن ساعدي وأنزح ما بقي فيها: لا مناص لنا أن نورط كل هذه القوى لتضرب بعضها البعض، وإلا فغداً أو بعد غد سنصبح الفأر الذي يطارده الأمريكان في الجبال، ولو صدق ما قاله الصباح عن خطة أمريكية لمعاقبة الدول الخارجة على سياستها فلا بد أننا أول هؤلاء، وحين ينتهون منا سينقضون على من هم أقوى، كبستاني يشذب أشجار حديقته، ولا أظن أن تقاعسنا سينجينا من المصير الذي تنتظره هذه البلدان، فلم لا نورط الجميع لنؤخر تقليم الحديقة أو نعجل بموت البستاني، وإذا حدث ما نخشاه فهذا تقدير العزيز العليم، ولن نهرب من قدر الله إلا إلى قدر الله. وجدت أن الكلمات أخذت بلب البعض، وهونت من الأمر لدى البعض، فأضفت كي أطرق الحديد وهو ساخن "ويمكننا أن نصوت على الأمر"، ثم رفعت يدي فرفع الصباح يده ورفع قتيبة وأبو الفضل وأبو الحسن التونسي، بينما رفض مجد وأبو العباس وأبو القاسم الليبي، وامتنع أبو مصعب و فهد الله عن التصويت قائلين هذه فتنة علمها عند الله، فرجحت كفة الحرب وعاد الجميع إلى بيوتهم منتظرين أمراً قدره الله على بلادهم.

(58)

شاء الله لي ولغيري أن أرى الحرب، لم تكن ككل الحروب التي توقعناها، لم تكن كأي من السيناريوهات التي وردت على ذهن بشر، فهي الجحيم لا غير، تخلى الجميع عنا ماعدا مجد، هذا الذي رفض إخراجنا من بلاده أو تسليمنا إليهم، وإن أردنا الحقيقة فقد تخلى الأمريكان عن إعلان الحرب على أي منهم، رغم أن الصباح أرسل لهم بما لديه من وثائق وأشرطة، ورغم علمهم اليقين بأننا لسنا سوى أداة للخطوة الأولى، لكنهم كانوا يدركون أن دماءهم توزعت بين قوى أكبر من أن تصارع في وقت واحد، فبعدما تأكد حكماء الصين أن الأمريكان يتجسسون عليهم، ويعدون العدة لملاقاتهم، تخلوا عن حذرهم ووافقوا على تدريب الرجال على أرضهم، كانت هذه واحدة من مغامرات الصباح التي اختفى من أجلها عدة أسابيع، لا أعرف تفاصيل ما جرى فيها لكنه كان وراء إفشاء سر طائرة التجسس الأحدث في العالم، هذه التي راحت تحلق على أجواء قريبة من شواطئ الصين كي تصور وترصد وترسل مباشرة إلى البنتاجون ووكالة المخابرات، كان الصباح قد اشترى هذا الكنز من عملائه اليهود، وكانت الطائرة قد قامت بثلاث طلعات من قبل نحو شواطئ القارة الصينية، فما كان منه إلا أن ذهب لملاقاة قائد الكي جي بي المسئول عن شئون الشرق الأدنى الجنرال فلاديمير بوستاشيكوف، وترك لديه مظروفاً مغلقاً به عدة أوراق وقرصاً مدمجاً، كتب عليه سري للغاية، سيادة الرئيس فلاديمير بوتين، حين فتحه الرئيس حسبما ذكر الصباح اطلع على معلومات صينية كانت قد أرسلتها الطائرة للوكالة، بالإضافة إلى صورة للطائرة ومعلومات عنها، يومها أغلق بوتين الظرف وكلف بوستاشيكوف برحلة عاجلة لملاقاة الرئيس الصيني، لم تمض ثلاثة أيام حتى أسقط الصينيون الطائرة ونشبت أزمة كادت أن تعجل بقيام الحرب لولا الحكمة التي تحلى بها الأمريكان، فقد فكك الصينيون الطائرة وصوروا كل جزء فيه، ورداً لجميل بوتين أرسلوا الطائرة مفككة إلى موسكو كي يصورها الروس ويسلمونها للجانب الأمريكي، كان مع الطائرة طاقم من العلماء والمختصين الذين استجوبتهم كلتا البلدين حسبما يجب، ولم يمض شهر وعدة أيام حتى وقع الروس والصينيون والإيرانيون ـ الذين عبرت عن طريقهم أيضاً الطائرة ـ اتفاقية دفاع مشترك، يومها جاء الصباح مهللاً كأنه صنع أكبر إنجاز يمكن لآدمي أن يصنعه، قال أن الصينيين وافقوا على الحرب، وأن الرجال سيتدربون على أرضهم، حيث تلك الطائرات العملاقة من الآيرباص والكونكورد، وحين سألناه عن السبب في استخدام هذه الطائرات قال لآن مخزن وقودها يحمل عدة أطنان من الجازولين، وأنها باصطدامها في مباني كهذا تكون بمثابة قنبلة بي إم فور، لم نستوعب ما يحكي عنه لكننا راجعنا معه أسماء الرجال الذين اختارهم للمهمة، قال أنه سيستدعي خمسة وعشرين شاباً ممن تعلموا في معاهد الطيران المدني في الولايات المتحدة، وأن الجنسية لا تعني له شيئاً، فليس من شروط الإمامة أن يكون صاحبها قرشياً، فربما عبد أسود أشعث لو أقسم على الله لأبره، وأنا أريد هذا الذي يقسم على الله في هذا اليوم فلا يكون إلا ما يريده. فندت عن ثغري ابتسامة لمحها فقال: أرى أبا عبد الرحمن غير مقتنع، قلت لا، ولكني تذكرت أمر الخوارج، ولولا أنهم أصروا على تكفير عثمان وعلى لكانوا أفضل الخلق عند الله، فطأطأ رأسه قائلاً هذا شأن التاريخ وليس شأني. شعرت أن جملته تحمل إهانة واستصغار لأحاديثي مع مجد وعلى عن التاريخ وجماعات المسلمين وحروبهم، فقلت: لكنه شأننا، وما خرجنا إلا لنعيد للتاريخ إسلامه. ويبدو أنني قلت جملتي بشكل غاضب تماماً، فراح يعتذر عن خطئه حتى هون مجد الأمر على كلينا، وعاد من جديد إلى شرحه عن طريقة خروجهم من أمريكا وعودتهم إليها دون أن يدرج غيابهم في ورق رسمي، وعن التأكد قبل كل شيء من رغبتهم في الشهادة وإقبالهم عليها، شعرت في هذه اللحظة أنه هو الذي سيقنعهم بنفسه، يكفي أن يستدرجهم إلى ألموت، فيدخلوا الجنة في المساء ويخرجوا منها في الصباح، وإذا أرادوا العودة لها فطريقها معروف، نفضت رأسي من خيالاتي وانتبهت لسؤاله عن رأي، فاعتذرت عن شرودي وسألته عن خروجهم من أمريكا وعودتهم إليها، قال أنهم سيخرجون بهويات غير هوياتهم، ثم يتجهون من فورهم إلى شنغهاي، حيث يجدون من يصطحبهم إلى مكان أعد بالأشعة ليكون على هيئة الأهداف التي سيفجرونها، وحين يكتمل تدريبهم سنعيدهم إلى حياتهم العادية لانتظار إشارة البدء، لاحت في ذهني نيويورك وبرجي التجارة الذين حاولنا تفجيرهما من سبع سنوات، فقلت ولم لا نضرب برجي التجارة، قال أنها ليست في الخطة، وبدا أنه منشغل بإبلاغنا بما اتفق عليه قادة موسكو وبكين، قلت لكن لو حدث انهيار البرجين فالصفعة أشد، وسوف ينشغل العالم بانهيارهما عن البنتاجون والبيت الأبيض، قال أن هذا ما اتفقوا عليه، قلت لكننا لم نتفق بعد، ولا بد أن يتعاملوا معنا كشركاء وليس تابعين، تعلل بأن البرجين قد ينبها الأمريكان إلى ما نريد، قلت لا يهمني إلا أن نكون أنداداً، قال أستشيرهم، فرددت بحزم، ونحن الذين سنحدد ميعاد الهجوم، رأيت الشرر يتطاير من عينيه، ورأيت مجداً يستنكر تشددي، فنظرت قائلاً: يا أمير المؤمنين، لا نريد أن نكون ألعوبة في يد غيرنا، فنحن الذين سنتحمل المغامرة كلها لو حدث ما لا نرجوه، ولا بد أن تكون أطراف اللعبة في أيدينا، ولا يجب أن نضحي برجالنا من أجل رغبة الروس في الرد على الأمريكان، فإذا كان هذا قدرنا فلا بد أن نحدد توقيته وطريقة صنعه. يومها قال: ماذا لو انسحبنا من الأمر برمته، فهذه الحرب أكبر منا، ولا أظن الفرعون سيسقط بهذه السهولة. فأجبته هامساً: لا أظن الروس والصينيين سيتركوننا إذا انسحبنا، وسيكون علينا أن نواجه القوى العظمى كاملة بلا حائط نختفي خلفه، لكنهم لو رفضوا ما نطلبه الآن فهناك ما يعطل الأمر ويبرر الانسحاب. فدعا الله بالأ يستجيبوا، لكن الصباح كان قادراً على إقناعهم بما ليس في رغبتنا، فجاء بعد جولة لا نعرف أين قضاها ليفاخرنا بانتصار جديد، قال أن الصينيين هم الذين ضغطوا على بوتين كي يوافق، وأنهم رحبوا بضرب برجي التجارة، بل وضعوا خطة محكمة لنسفهم من على وجه الأرض، وذلك بوضع قدر كبير من المتفجرات أسفل كل مبنى، بحيث ينفجر التفجير الأرضي مع دخول الطائرة، سيكون مشهدهما هكذا. ثم فتح حاسوبه فرأينا طائرتين عملاقتين تدخلان فيهما في وقت واحد، قال في ذلك الوقت ومع تلك الهزة العظيمة التي ستحدثها الطائرتان ستنفجر الألغام الأرضية، فلا يكون أمام التوأمين سوى أن يخرا خاشعين هكذا، فرأينا صورة الطوابق وقد انشقت الأرض لابتلاعها، ورأينا صوراً للرجال وهم يتدربون على هياكل من أشعة في صحراء الصين، كانت أعدادهم أكثر مما أخبرنا الصباح، قال أنه وجد الكثيرين لديهم الرغبة في الشهادة، ووجد من الضرورة تدريب أكبر قدر على الهدف الواحد، لكن المشكلة ليست في ذلك، لكنها في أن هذا النوع من الطائرات يحتاج من يوجه قائده عبر برج المراقبة، ومن ثم فلابد من تعطيل الاتصال بين الطائرة والدفاع المدني وبرج الإقلاع، وأوضح أن الروس تغلبوا على هذا عبر حاسب دقيق سيأخذه قائد الطائرة معه، فمن خلاله يمكنه بث صورة ذات إحداثيات مخالفة لما يجري في الواقع لقواعد الدفاع وبرج المراقبة، بينما سيقومون هم عبر الأقمار الصناعية وبشفرة خاصة بتوجيه قائد الطائرة، قال أيضاً أن المشكلة الأكبر في الوكالة والبنتاجون والبيت الأبيض، لأنها مبان محاطة بشبكة من الصواريخ ذات الإطلاق الآلي، وهذه لا بد من تعطيلها يدوياً، وقد توصل الإيرانيون إلى من يمكنه عمل ذلك.

يومها طلبت منه أن أرى الرجال وأشد من أزرهم، فقال هل تريدهم هنا أم الذهاب إليهم، قلت رجال كهؤلاء ليس للمرء إلا أن يذهب فيمسح بالعطر على أقدامهم، قال لا يجدر بك أن تفعل، لأنهم يرونك المهدي الذي جاء ليخلص الإسلام مما حاق به من هوان، فتعجبت من حيل قصير القامة، وأدركت كم أصبحت ألعوبة في يديه، فاخترقنا الجبال والحدود إلى إيران، واتخذنا طائرة إلى شنغهاي، ومنها إلى حيث الصحراء التي يعسكر فيها أكثر من ثلاثمائة رجل، ليس بينهم سوى خمسين شاباً عربياً، سلمت عليهم جميعاً وقبلت رؤوسهم، وأعطيت كلاً منهم مصحفاً، ثم صليت بهم رعكتي شكر لله، كبرت في بدء كل منهما عشر مرات، ثم خطبت فيهم عن ضرورة الجهاد، وفرحة الله بعبده التائب، ومقام الشهداء في أهل الجنة، ثم قلت اعلموا أن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفر الله لكم، وها هي بدركم الثانية، وها هو الله يطلع عليكم، فاعملوا ما شئتم فقد غفر الله لكم ما تقدم وما تأخر. فهللوا وكبروا فرحاً، فاحتضنتهم جميعاً ودعوت لهم بالنصر متخذا طريقي إلى قندهار.

(59)

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، الحمد لله وحسبنا الله ونعم الوكيل، كان الحزن واليأس يضغطان على صدر الشيخ وهو يجمع أشياءه من الكهف، فقد أوضح له عليّ ما قام به الصباح من استنساخ لرجل يشبهه في كل شيء، ولا بد أنه الآن يساوم جهة ما لتسليمه إليها، ولم تفارقه صورة صدام حسين والأمريكان يفحصونه كبهيمة مصابة بأمراض خبيثة، فالطريق طويل ولا آمان فيه لأحد على شاب في مقتبل عمره وعجوز مازال الأغلى ثمناً في المطلوب القبض عليهم، ورغم أن محبيه أكثر من كارهيه غير أن قلوب القوم معه وسيوفهم عليه، تذكر حين طلب صدام أن يطلقوا عليه الرصاص كمحارب في الميدان لكنهم أصروا على أن يعدموه شنقاً صباح عيد الأضحى. كان قد اتهمه بالجنون يوم أن دخل الكويت غصباً، وخرج في شوارع المملكة يحذر الناس من خطره، لكنه ارتعد أكثر من نزول الأمريكان إلى الأرض التي حرمها الله عليهم، تذكر رسالته الطويلة لولي العهد، وكم أبدى أنه برجاله قادرون على الدفاع عن المملكة وإخراجه من الكويت، لكنهم أبوا إلا أن يلوثوا حرم الله وبيته، تذكر كم كان حانقاً عليه وعليهم، لكنه ما كان ليعامله على هذا النحو، فما أن رآه يتأرجح على مشنقته حتى انتفض مردداً: فلا نامت أعين الجبناء، فلا نامت أعين الجبناء. ولم يوقف انتفاضة جسده غير المهدئ الذي أدخله في هلاوس وهذيان لعدة أيام، حين هدأت حالته وعاد إلى رشده سأله على عن بكائه طاغية كهذا، فطأطأ رأسه ومسح عبرة من عينه: ما كان يجب لخصم وقف أمام العالم وانهزم هزيمة الأبطال دون تخاذل أو تراجع أو خوف أن يموت هكذا كالبعير، فليس للأبطال أن يموتوا ميتة اللصوص، نعم أخطأ، لكن كم حمل التاريخ لنا من خطاءين، وكم منهم كان شجاعاً لنسلبه حق الإيمان بخطئه. ثم انفرط في بكائه قائلاً: إننا الآن نمشي إلى هذا المصير، نذهب مرغمين إلى عدو وألف ابتسامة تخفي خلفها فوهة بندقية، فهل سيحتذون رأسينا كالزبير، أم سيغرقنا أصحابنا كشبيب، أم أننا حين نخرج من باب الكهف سنجدنا محاطين كالمختار ابن أبي عبيد الله بعشرة آلاف فارس، فهل نحارب حتى الموت كما مات، أم نسلم أنفسنا كما سلم سبعون ألف من رجاله أنفسهم لمصعب، فقتلهم كما لو أنه يقتل شياه أبيه، أم سنصرخ كعنبسة في جند لا وجود لها. أم نموت غريبين كأبي ذر، شريدين كزين العابدين، جائعين كإبراهيم الإمام، معلقين على رؤوس الحراب كزيد بن على. فما الذي فعلت كي أجلب لصبي مثلك كل هذا العذاب.

كانت أسئلة الشيخ تتوالى كالرصاص على أذني الفتى، ومع كل سؤال كان يرى مشهد الموت بطريقة مختلفة، فظل جاثماً في زاوية الكهف حتى رأى الشيخ يترنح باكياً، فانتفض كالسهم ليمسكه قبل أن يقع: هل عاودك التاريخ يا سيدي من جديد؟ سأله بفزع الخائف من المجهول، لكن الشيخ مسح دموعه قائلاً: كلا يا علي، لكنه الحزن، فلم يعد لي من الرجال سواك، كلهم كما ترى اختفوا منذ أيام، وأصحابي الأشداء الذين وثقت بهم استشهدوا، وأنا صرت عجوزاً هرماً لا يقدر حتى على إنقاذ نفسه من الحزن عليهم، كثيرون هم يا بني، أكثر مما يحتمل قلبي، كم كنت أحلم بتكريمهم، أو على الأقل دفنهم كما يجب لأبطال مجاهدين، لكنها الحرب خلفها العار الطويل والحزن، وهذه لم تكن حرباً، كانت الجحيم، وكأن طائراتهم العملاقة لم تر سوانا في الوجود، فلا مخابئ تفلح معها، ولا كهوف ولا جبال، كأن قيامتنا وحدنا قامت، فهل خدعنا يا صاحبي، واكتفى الحقراء بمشهد لا يفرح إلا صبي، برجان كبيران يسقطان ولا شيء أكثر، فما الذي جعل طائرة البنتاجون تنزل كحمامة أتت لتستريح على مدرجاته، وأين ذهبت طائرة بنسلفانيا، أين اختفت خمسون طائرة.. أصيبت بالجنون فجأة وقررت أن تسقط أمريكا على من فيها، وأين حلفاؤنا، ولما أدانونا قبل غيرهم، ولم لم يثأر الرخ الأمريكي إلا منا، رأسي ستنفجر يا علي، وتبريرات الصباح بخيانة اليهود لا تجدي، فهل مات البنشيري في أعلى النيل خطأ، ومات صهيب جراء هاتفة الخلوي، وكيف اختفى العباس ومجد، ولم تركنا الرجال في هذا الكهف المظلم دون طعام أو حراسة، هل نحن مازلنا أحياء، أم أنني أهذي في يوم الحساب.

لم يكن أمام عليّ سوى الصراخ ولطم خديه كي يوقف الشيخ عن إطلاق الرصاص على نفسه، حينها انتبه الرجل إلى ما هو مقدم عليه، فألقى السلاح من يده وراح يبكي، وفي الجفون المخضبة بالدمع لاح وجه أبي سعيد مشرقاً "افطر معنا غداً يا عثمان"، فتهلل وجهه بالفرح، واستدار يبحث عن عليّ فرآه يبكي في زاوية الكهف، فانحنى عليه مهدهداً مبتسماً: هل يبكي جواز المرور إلى الجنة، قم يا أبا تراب، فما أنت إلا شيخي وأنا مريدك، فإلى أين الرحيل؟

كاتب وشاعر من مصر