تقدم الكلمة هنا قصة مترجمة مباشرة من لغتها الأصلية ومن أدب لا نعرف الكثير عنه، ولكنه يبدو من خلال التجربة التي ترويها هذه القصة قريبا من تجارب حياتنا القاسية. حياة مثقلة بما تخلفه الحروب العبثية من أوجاع من ناحية، وما تفرضه الحياة التي يتفشى فيها الفساد من تخبط من ناحية أخرى.

قصة «الفراشة»

نريمان عبد الرحمنلي

ترجمها عن اللغة الأذربيجانية: أحمد سامي العايدي

 

قيلت هذه العبارة بشكل أثر فيه كثيرًا! أو بمعنى أصح، لم تنته المرأة من قول هذه العبارة المكونة من أربع كلمات، حتى شعر مسبقًا بما وراء هذه العبارة وإن لم يفهم السبب، عجز عن الكلام بسبب غصة في حلقه؛ وما أن أدرك هذه العبارة، حتى تصبب عرقًا من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، وتوقف عن التنفس تمامًا. "مات زوجي في الحرب".

لسبب ما، لم يستطع إدراك هذه العبارة بشكل كامل، ولكن بدأ بداخله الشعور باختناق شديد، كان يرغب في اللحاق بالمرأة التي قالت هذه العبارة وعيناها تذرفان الدموع، وقد جمعت تلابيبها في يدها واتجهت أسفل المدينة، ويرغب أيضًا في الاعتذار لها مرارًا وتكرارًا، وأن يخر تحت قدميها، ولكن كان لا يستطيع أن يتحرك من مكانه لأن قواه قد خارت.

كانت بداية اليوم جيدة، حيث تناول في الصباح فطورا من البيض، ولم يتعرض للزحام في الطريق، وما أن وصل إلى الإدارة، حتى سمع أخبارًا عن الراتب من عاملة النظافة، ويبدو أنه سوف يتقاضى الراتب بعد الظهر؛ حقًا، هذا هو الأسبوع الثالث الذي يسمع فيه هذا الكلام، ولكن كان لديه هذه المرة أمل حقيقي لسبب ما، وسيتحول هذا الأمل إلى حقيقة بعد نصف ساعة بناءً على تأكيدات المدير. قال المدير هذا الكلام بشكل مؤكد، كأن النقود معه، وسوف يخرجها من جيبه ويوزعها. على أية حال، قام المدير بالمنّ بشكل يوازي حجم وظيفته. إضافة إلى أن هذا المنّ – بجوار النقود – لا يمثل شيئًا، ولم يكن يستطيع أن يفسد هذا الجو من الأمل. بقي شيء واحد هو انقضاء الوقت بشكل ما حتى الظهر، وإبعاد الأفكار السيئة المتعلقة بالراتب من الذهن، وقد اعتاد على هذا أيضًا.

بعد ذلك انشغل ببعض الأوراق لمدة ساعة، وعندما أراد أن يخرج إلى الشارع من أجل أن يشرب سيجارة، اصطدم بفتى كان يسير جارًا ساقه، فاستدار من أجل أن يعتذر له، فنظر إليه وحينئذ عرفه من عينيه؛ إنه صديقه في الجيش الذي لم يره منذ بضع سنوات؛ حقًا، لم يتذكر الاسم الحقيقي لهذا الفتى الذي كانوا ينادون عليه في الجيش بـ "رمبو"، ولكن لا علاقة لهذا بالأمر؛ الأمر الأساسي كان هو أن هذا الفتى بعد أن أصيب ونُقل إلى المستشفى، لم يستطع أن يعرف هل ظل على قيد الحياة أم لا؟

كان عندما يتقابل مع رفاقه الجيش، يتذكرون الأصدقاء الذين قاتلوا معهم، ولم يكن لدى أحد معلومات دقيقة عن "رمبو"، كان بعضهم يقول إنه بسبب فقده دماءً كثيرة مات في الطريق، والبعض الآخر كان يقول إنهم رأوه يعمل بالتجارة في محل صغير، وآخرون يتحدثون بأنه شُفي والتحق بالشرطة، ويعيش حياة رغدة. الآن، ها هو، لقد اصطدم به في منتصف الطريق بعد ما يزيد عن خمس سنوات، وقفا وسط الناس وتجاذبا أطراف الحديث. وبدأ الحديث عن السنوات الماضية. حسنًا إنه انتبه بعض الشيء، وأدرك أن الفتى يعرج وأنه يقف بصعوبة على قدمه المصابة، فصاحبه إلى مقهى قريب، وجلسا وأخذا يتذكران الأيام الماضية حلوها ومرها. وكأن الوجع الموجود في مكان الرصاصة بساقه، والذي كان قد هدأ منذ فترة، بدأ مرة أخرى، أو بمعنى أصح، تحول الوجع الذي كان لا يُعيره اهتمامًا قبل ذلك إلى ألم شديد، بالإضافة إلى شعوره بالاختناق وتغير صوته؛ ولكن دار في عقله أن ما هو فيه بالنسبة لما يعانيه هذا الفتى يعد كالذهاب لحفل زفاف.

فقد مكث الفتى أربعة أشهر في المستشفى، وتسعة أشهر وعشرين يومًا ممدًا في المنزل، وأرادوا أن يبتروا ساقيه من أعلى الركبة، ولكن بلطف من الله، فقد إحداها فقط، واستطاعوا إنقاذ الأخرى، والآن يستطيع أن يُدير حياته بشكل ما وهو يستند على قدم صناعية، ويكفل عائلته المكونة من ثلاثة أفراد من خلال معاش التضامن الاجتماعي الذي يحصل عليه بصعوبة. وعلاوة على ذلك، لم يعتمد على المعاش فحسب، بل يسعى للبحث عن عمل مناسب. سأله الفتى أثناء الحديث هل هو متزوج أم لا؟ فمزح معه وقال: "لا أريد الزواج قبل حل مشكلة الشقة". وسأله عن شيء آخر متعلق بهذا الأمر، ولكن لا يتذكره الآن. ما يتذكره هو أنه كتب عنوانه، وأخذ رقم هاتفه، وأكد عليه مرارًا وتكرارًا أن يتواصل معه، وغمز بطرف عينه لصاحب المقهى الذي يعرفه، ليعلمه أنه من سيدفع ثمن الشاي، وصاحب الفتى حتى المحطة، ثم عاد إلى حجرته.

بعد ذلك قدمت "تاج رأس المدير" أي السكرتيرة، وقالت إن اليوم "عيد ميلاد كوبلاك"، وأنه استعد بشكل جيد، ويدعو الجميع بزوجاتهم الليلة. شعر في التو بما يحويه هذا الخبر من معنى: يجب أن نجمع من الجميع بقدر المستطاع لشراء هدية؛ سوف تأتي (السكرتيرة) مع المدير، ولو لزم الأمر يمكن أن تحضر معها صديقتها.

انظر إلى حظ الناس، يصادف يوم عيد الميلاد اليوم الذي استلموا فيه الراتب، لو أنت رجل حقًّا، امتنع عن دفع ثمن الهدية، سوف توصم بعد ذلك "بالبخيل". على أية حال السكرتيرة تظل مع المدير طوال اليوم، ووجودها مع الموظفين لا يدفع إلى أي شك. صديقته قليلة الحياء. الله أعلم، كم شخصًا تعرفت عليه حتى الآن؛ تريد الآن أن ترتبط بشخص ما، ربما بحثت ولم تجد من يناسبها. هي خريجة جامعة. لديها عمل لا بأس به، إنها ليست جميلة، ولكنها ليست أيضًا بالقبيحة. فقد كانت متوسطة الجمال، وكانت مشكلتها الوحيدة هي أنها ليس لديها منزل، وهذا أمر يمكن التغلب عليه؛ يوجد منزل خالي باسم جدتها منذ فترة طويلة، وهي رهن إشارة واحدة. ولكن هذا الظالم لا يعطي هذه الإشارة اللازمة، أو بمعنى أصح، كان لا يفكر في الزواج في امرأة مثلها.

لقد تحقق نجاح اليوم بالفعل بسبب الحصول على الراتب، الذين ذهبوا بحثًا عن الراتب اتصلوا من البنك بعد الظهر وبشروا الجميع بوصول الراتب، وبعد ذلك عادوا إلى العمل مرة أخرى. حقًا، حتى الساعة الثانية لم تفتح نافذة الصرّاف، كان المدير والمحاسب والصرّاف يعدون النقود، وقسموا النقود وخرجوا، وبعد أن استراحوا قرروا توزيع ما تبقى على العاملين. بالرغم من أنه كان الشخصية الثانية في الإدارة، فإنه في المسائل المتعلقة بالنقود يصبح في المرتبة الرابعة، أي أنهم كانوا يعطونه قبل باقي الموظفين راتبه أولاً (أي بعد أخذ ما يكفيهم) مما تبقى كنوع من الاحترام. عندما لف ثلاث رُزم من النقود بكيس بلاستيكي، وضعها في درج المكتب ثم استشاط غضبًا: أراد فجأةً أن يفرش النقود على الأرض؛ من حجرته حتى حجرة المدير، ثم يمسك به من رقبته السميكة، ويجعله يجمع النقود المفروشة على الأرض أمام أعين الجميع. عندما جاءت "تاج رأس المدير" من أجل نقود الهدية، غير خطته، فكر في أن يعلن أن النقود التي أعطاها لشراء هدية بمناسبة عيد ميلاد "كوبلاك" خاصة بالإدارة؛ ولكنه-رغم عنه-اقتطع جزءًا من النقود، فأخذت السكرتيرة نصيبها وقالت: سوف آتي إلى عيد الميلاد وحدي، مع السلامة. وانصرفت في هدوء. ولكن كان يبدو من حالها أنها متضايقة.

في البداية لم يكن لديه رغبة في الذهاب إلى عيد الميلاد، لقد دفع نصيبه في النهاية، ويرغب في أن يبحث عن عذر، ويختفي. لأنه غير معجب بـ "كوبلاك". فهو شخصية مكروهة، مستغلة، ولا يأتي من ورائه خير أبدًا، يوجد بينه وبين المدير تعاون مشترك يخفياه عن الجميع، دائمًا يخرج من عند المدير غاضبًا.

غير "رأيه" قليلاً في نهاية اليوم؛ فهو لن يذهب مجانًا، لقد دفع ثمن الهدية، ولا بأس من تغريم "كوبلاك"، والضحك عليه حتى ولو قليلاً، فمتى ستتاح له فرصة كهذه. وكذلك في مثل هذا اليوم الموفق يجب أن يختمه في مكان ما، إما أن يذهب إلى عيد الميلاد، وإما أن يجد أحد أصدقائه ويذهب معه إلى حفلة ما.

دون أن يفكر كثيرًا، اختار الخيار الأول؛ لكي لا يكون بعيدًا عن زملائه في العمل، وكذلك ليستفيد بأي شيء من النقود التي دفعها للهدية. وعلاوة على ذلك كان متأثرًا جدًّا من "تاج رأس المدير". قضى بقية وقته بشكل ما، وكان لا يزال مترددًا حتى ذهب إلى منزل "كوبلاك". ولكن بعد ذلك رأى أنه كان على صواب، كان "كوبلاك" وزوجته يتلألآن في ملابسهما مثل إعلانات الليل، وكادا يجلسانه على رأسهما. كان الحاضرون واحد وعشرين شخصًا. لقد دعا "كوبلاك" إلى هذا الحفل المحترم من رآه مناسبًا وليس الجميع. وأكثرهم حضر بصحبة زوجته، جلس المدير و"تاج رأسه" في مكان مناسب، وجلست النساء وكأنهن كن ينتظرن عيد ميلاد "كوبلاك"، لقد تزيّن بقدر استطاعتهن، وجلسن بجوار أزواجهن. كان المدير "ورئيسته" يتهامسان ويضحكان ضحكات خفيفة، كان "كوبلاك" يشعر بفرحة عارمة بسبب تهيئة سبب الراحة لمديره.

لم يكن الحفل سيئًا، ومنذ بداية الحفل عزف المدير عن إدارته، هكذا كانت رغبته، أكد بشكل حاسم "أنه يريد أن يتحرر من قيد القيادة". وفي هذه الحالة شعر بقيد في عنقه جراء اضطراره لإدارة الحفل، ورأى استحالة التخلص من هذا الأمر، فوافق على مضض. ونزولاً على رغبة المشاركين في العمل، انتقل بجوار "كوبلاك".

وبسبب أنه كان معتادًا على مثل هذا الأمر، استطاع أن يُدير الحفل ببعض عبارات المجاملة العامة، وبالاستشهاد ببعض عبارات الفلاسفة التي نذكرها، وبإلقاء مقطوعات شعرية من حين لآخر، وإعطاء الكلمة للجميع فردًا فردًا ليقول بعض كلمات المجاملة. وقال الجميع كل ما يرغبون في قوله، أي أنهم أخفوا ما لا يرغبون فيه بكلمات معسولة وابتسامات كاذبة، وأسعدوا قلب "كوبلاك"؛ كان يجب عليه أن يتحمل كل هذا، كان من حين لآخر يرغب في ضرب قبضة يده في المنضدة، ولكن بدلاً من ذلك كان يجعل "كوبلاك" يحكي بعض النكات، حتى يُهدئ من الغليان الذي بداخله:

"ما حكاية ذلك المدير الذي يبحث عن سكرتيرة بمواصفات خاصة" عندما قال هذا كان يرمق المدير و"تاج رأسه"، ويتفقد التفاتتها وضحكاتها خلسة، وسلط "كوبلاك" نظره نحو المدير منزعجًا وهو يقول: "لا، سوف أحكي نكتة غيرها" كان هناك شخص أُعجب بامرأة." كانت زوجة "كوبلاك" التي تجلس بجانبه تنهض من حين لآخر وتذهب إلى المطبخ، وعندما تعود وتجلس، كان طرف فستانها شبه العاري يظهر ركبتيها ناصعتي البياض. كان زوجها مشغولاً بالضيوف، ولم يكن في حالة تسمح له بأن يهتم بمثل هذا الأمر، لفتت المرأة انتباهه مرة أو اثنين، ولكنها لم تحرك ساكنًا؛ كأنها ابتسمت بخجل وضمت ركبتيها، ثم بدأت تتحرك رويدًا رويدًا وكأن شيئًا لم يكن، وعندما شك بذلك قرر أنه من الأفضل ألا ينظر إلى هذه الناحية.

انتهت الحفلة بسلام. وبالنسبة للجميع، فإن أكثر شيء ظل في الذاكرة هو تبول ابن "كوبلاك" البالغ من العمر ثلاث سنوات فجأة بعد أن استيقظ من نومه وهو جالس في حضن أبيه. وعندما عرف الضيوف بالخبر أغشي عليهم من كثرة الضحك، كما انضمت إليهم زوجة "كوبلاك" وأخذوا جميعًا في الضحك، وآنذاك رفعت كأسها وقالت مازحة: "لقد أهداك ابنك اليوم أغلى هدية بمناسبة عيد ميلادك". ضحك الجميع على هذا الكلام وصفقوا. وشعر الجميع بضرورة الانصراف وقرروا ذلك أثناء ذهاب "كوبلاك" وزوجته لتنظيف هذه "الهدية". حقًّا، لا يذكر من صاحبَ من أثناء الذهاب، الشيء الوحيد الذي يتذكره هو أن "كوبلاك" وهو يودعه، تحدث معه حديثًا طويلاً في شيء ما، وزوجته أيضًا ظلت يدها في يده أثناء مصافحته تقول له بعض الكلمات المعسولة.

عندما رأى أن الجميع انصرفوا وتفرقوا، وبعد أن وصل إلى محطة الحافلات، أدرك أن الظلام لم يحل بعد، أي أن الحفل استمر قرابة ثلاث ساعات. بالرغم من أنه شرب كثيرًا من الخمر، فإنه لا يزال يستطيع السير بشكل طبيعي مع هذا القدر من الخمر، شعر في عقله بما يشبه الضباب الخفيف، وعندما رأى أستاذه بين المنتظرين في المحطة وهو في هذه الحالة، اضطرب كثيرًا. لقد أصبح البروفيسور الذي كان طالبًا عنده قبل خمسة أو ستة عشرة عامًا طاعنًا في السن، ولم يبق شيء من علامات الهيبة والقوة التي كان يتمتع بها آنذاك، كان يرتدي بنطالاً وسترة شبه حريرية، وعلى رأسه قبعة من نفس القماش. كان يضع يده في خصره، وكان يتجول في المحطة من هذه الناحية إلى تلك، كما كان يفعل في قاعة المحاضرات. حاول أن يُجبر نفسه على الاقتراب منه، ولكنه لم يستطع، كأن هذا الرجل هو سبب جميع الإخفاقات التي تعرض لها طيلة السنوات الماضية، لو كان سلم عليه، لربما كان على الأقل سوف يكذب عليه؛ "حالي جيد، وعملي ممتاز، وعائلتي على ما يرام، أنا تحت أمر حضرتك في أي شيء." جيد حافلة الأستاذ وصلت، وأنهت هذا القلق الذي يشعر به.

في تلك اللحظة رأى المرأة: وقفت بجوار بائع السمك الذي جلس واضعًا سلته بجوار المحطة، وكانت تقلب سمكة حفش تزن اثنين كيلو جرامًا على جانبيها، وتفتح خياشيمها وتنظر إليها وتشمها، وكانت تجادل مع بائع السمك حول السعر. أثناء ذلك ألقى بائع السمك بعض الكلمات الغامضة وهو يبتسم، فلم ترد عليه المرأة، ولكن لم تشتر السمكة أيضًا، وابتعدت عنه ووقفت في المحطة تنتظر الحافلة. عند النظر إليها، كانت تبدو جميلة من مظهرها؛ فلم تتزين ولم ترتد لباسًا كاشفًا أو فاضحًا، وكانت تبدو عليها علامات الخجل. ولكن كانت تبدو أنها تعيش في حالة من اليأس، على أية حال، عندما رأى أن المرأة يبدو عليها أنها لا تنوي ركوب أية حافلة، خطرت بباله هذه الأفكار: "فرضًا، أنني غير مستعجل للذهاب إلى أي مكان، ولا أريد الذهاب والبقاء بين أربع جدران في المنزل، ولو قابلت أحد أصدقائي سوف أجلس معه ساعة أو اثنتين على المقهى وأُضيع وقتي، فماذا بكِ أنت؟". بعد قليل بدأ شاب صغير السن باثر الوجه يحوم حول المرأة، وما أن سنحت له الفرصة، قال شيئًا ما، وعندما غيرت المرأة مكانها كنوع من الاعتراض، دار الفتى مرة أخرى حولها ثم انصرف.

تلاقت نظراتهما مرة أو اثنتين، وعندما التفتت المرأة للمرة الثالثة ونظرت إلى عينيه، فهم بعضهما البعض من دون أي كلام. حقًّا، في البداية لم يكن في ذهنه شيء آخر، ولكن بعد ذلك فكر في أنه لا بأس أن يختم هذا اليوم الموفق بالتعرف على امرأة. لا يتذكر جيدًا فيما تحدثا، عندما جلس في الحافلة بجوارها، بدأ يعود لوعيه بعض الشيء. كانت المرأة تتحدث عن بعض الأشياء الحميمية من أجل أن تكتم اضطرابها وقلقها، وكانت تجتهد في أن تُبعد شكوك الناظرين لهما من الركاب، فكانت تقول إنها خرجتْ للبحث عن عمل، علاوة على أن طفلها مريض، ويريد السمك، كان يجب أن تشتري له سمكًا، كما قالت أيضًا إنها بصفة عامة لا تحب الخروج إلى المدينة، وتحب الجلوس في المنزل، ولكن لو كانت قد وجدت عملاً براتب مناسب، كانت ستعمل فيها.

كانت تعمل حتى نهاية الأسبوع الماضي، ولكن تم غلق الإدارة التي كانت تعمل بها، فأصبحت في الهواء الطلق دون عمل، ثم تحدثت عن صعوبة العيش وحيدة، وذكرت أنها ليس لديها أي مساعدة من أي مكان. فكر، وهو يصغي إلى كل هذا، في أن يتجرأ ويدعو المرأة لتناول القهوة في المنزل، ويتحين الفرصة بأي حُجة، ويضع في حقيبتها النقود التي بقيت بعد هدية "كوبلاك"، ثم يتركها تنصرف. كان يشعر أن المرأة تتحدث بصدق، ولا تقول كذبًا حتى تبرر لنفسها شيئًا.

عندما استدارت الحافلة من أحد الشوارع قال: "لقد وصلنا". دفع ثمن التذكرة ونزلا. وبالرغم من أنه شعر بأن حال المرأة التي كانت تتكلم بحميمية طيلة الطريق تغير تمامًا عندما نزلت، اعتقد أن سبب هذا هو تردد المرأة، فقال: "هذا هو المنزل، أعيش في الطابق الأول فيه، الباب الأيسر". خطت المرأة خمس أو عشر خطوات كالمريض، وبعد ذلك توقفت، ووضعت يدها على جبينها: "لا، لا، لا أستطيع الذهاب". وكان في صوتها أنين وحزن. عندما سمع هذا تعجب وأصابته دهشة، أراد أن يوضح لها أمرًا ما، ولكنه شعر في داخله بشيء غريب: "لماذا، ماذا حدث لكِ فجأة؟" كانت المرأة ترتعد آنذاك، وقالت بصوت باكٍ وهي ترتعد: "مات زوجي في الحرب"، وعادت نحو المحطة وقدماها تتخبطان.

تجمد الدم في عروقه وغرق في عرقه. كان الطريق البالغ حوالي خمسين أو ستين خطوة نحو منزله عذابًا ومشقة وكأنه طريق إلى جهنم. كان بداخله ما يشبه الفراغ أو الثقل، كان يريد أن يقضي عليه. كان لا يتخيل أن أحد أيام حياته السعيدة إلى حد ما تنهي فجأة بهذا الشكل من العذاب غير المتوقع. كان عليه أن يتعذب على الأقل لمدة أسبوع أو عشرة أيام حتى يتخلص من الإحساس بالخجل، ويقهر نفسه حتى يُنسيه الزمان ما حدث.

وقف فترة طويلة أمام الباب وفي يده المفتاح. كان لا يستطيع أن يدرك ماذا يجب عليه أن يفعل، ثم رأى فراشة حطت على ركن أعلى الباب، كانت الفراشة كبيرة، وسوداء، فوق أجنحتها نقط ملونة، وكان غبار اللقاح الذي يعلوها يلمع تحت الضوء. أراد أن يمد يده بهدوء ويُمسك بالفراشة، ولكنه تأخر، طارت الفراشة فجأة، واختفت وسط الظلام. عندما فتح الباب، كان لا يزال يفكر في الفراشة. لقد سمع في مكان ما أن من يمس الفراش الأسود بيده لن يعيش طويلاً.

 

الكاتب نريمان عبد الرحمنلي هو أحد كبار الكتاب الأذربيجانيين، ولد في الثالث من يوليو عام 1958م، وتخرج في جامعة باكو الحكومية عام 1980م. وهو أيضا صحفي، ومترجم، وسيناريست. له عشرات الكتب المنشورة والروايات والقصص القصيرة مثل "كتاب المستقبل"، و"الإنسان الذي يعيش في الذكريات"، و"العاصف"، وسفير القلوب"، و"المسافر"، و"الفاسد"، و"الضحية". كما قام بتأليف أكثر من خمسين سيناريو لأفلام وثائقية وإبداعية. فائز بجائزة "الفن الدولي" عام (2006م)، وجائزة "الكلمة الذهبية" عام (2011م) من وزارة الثقافة والسياحة الأذربيجانية.