في عام 1973، وفي أوجّ المدّ "التقدُّمي" في الجزائر، وبينما كان كثيرون منشغلين بالحرب الباردة والتهديد بحرب نووية عالمية، كان الفتى حميد شريّط (تيزي وزو 1947 - باريس 2020)، الذي سيُعرَف لاحقاً باسم "إيدير"، منشغلاً بحكاية تراثية محلّية يُقلّبها في رأسه. وحين استوت الفكرة، عرضها على الشاعر القبائلي محمد بن حمادوش، المعروف باسم "بن محمد" (1944)، ليُعيد صياغة تلك الحكاية التي ردّدتها أجيالٌ من سكّان بلدته آث ينّي (حيث أبصر إيدير النور قبل ستّة وعشرين عاماً) أمام مواقد النار في ليالي الشتاء الباردة.
كان حينها طالباً جامعياً يدرس الجيولوجيا. ومع أنّه كانَ هاوياً للموسيقى التي تعلّمها في التاسعة من عمره، ويُدندن بقيثارته ويُرافق مغنّين عازفاً عليها، إلّا أنّ إيدير، الذي غادر عالمنا يوم السبت الماضي، لم يكُن يُفكّر في الغناء، فأُسندت الأغنية إلى المطربة الأمازيغية زهيرة حميزي، المعروفة باسم "نوّارة" (1945). غيرَ أنَّ صدفةً ستُغيّر مساره إلى الأبد؛ إذ تغيّبت نوّارة في اليوم الذي كان مُقرّراً تسجيل الأغنية في القناة الإذاعية الثانية الناطقة بالأمازيغية، فسجّلها بصوته.
لعلّ إيدير كان يعتقد - حينها - أنه كان يُؤدّي مجرّدَ أغنيةٍ قد تُبثّ مرّةً أو مرّتَين ثم تُحال على الأرشيف، كما حدث مع كثيرٍ من الأغاني وقتها، وفي أحسن الأحوال قد تنال بعض النجاح ليطويها النسيان بعد ذلك. لكنّ "أفافا ينوفا" A Vava Inouva، وهو عنوان تلك الأغنية التي تُصوّر حواراً بين فتاةٍ تُدعى "غْريبة" ووالدها "ينوفا"، ستُحقّق نجاحاً كبيراً منذ اليوم الأوّل، وسيتضاعف ذلك النجاح حين أعاد تسجيلها مع مغنّيةٍ شابة اسمها نصيرة، وصدرت في ألبومه الأول (باريس، 1976) الذي حمل العنوان نفسه؛ إذ أصبحت تُردَّد على كلّ لسانٍ في زمن كانت فيه الأغنية القبائلية منحصرةً في بعض المناطق بحكم الحاجز اللغوي.
سيستقّر إدير في فرنسا سنة 1979، ليُصدر منذ ذلك التاريخ عشراتٍ من الأغنيات التي حلّقت بالموسيقى الأمازيغية إلى خارج الحدود الجغرافية وجعلته سفيراً لها في العالَم. تغنّى في أغنياته تلك بالوطن والجذور والهوية الأمازيغية التي كان أحد أبرز الفنّانين الملتزمين بها والمدافعين عنها. والتزامُه هذا جعلته يرفض الغناء في الجزائر منذ ذلك التاريخ، احتجاجاً على عدم اعتراف السلطة بالهوية والثقافة الأمازيغيّتَين.
في منشورٍ له على فيسبوك، يذكُر الصحافيُّ الجزائري، رضوان بوجمعة، أنَّ إيدير ردَّ على عرضٍ مِن وزير الثقافة والاتصال السابق، حمراوي حبيب شوقي، للمشاركة في حفلٍ كبير نُظّم سنة 1993 بالقول: "لمن أُغنّي... لجزائريّين يُقتَلون يومياً؟ أو لمن يقبعون في محتشدات الصحراء؟". وكان البلد حينها يعيشُ تردّياً أمنياً وسياسياً وبدايةً لحملةٍ من الاعتقالات والاختطافات وتجاوزات حقوق الإنسان، بُعيد إلغاء أوّل انتخابات تعدُّدية في البلاد. ويضيف بوجمعة بأنَّ السلطة، التي لم يرُقها هذا الردّ، ردّت عليه بحملةٍ من التشويه والكراهية ضدّه.
وفي حوارٍ له مع صحيفة "الخبر" الجزائرية في 2012، تحدّث إيدير عن رفضه المشاركة في أيِّ حفلٍ رسمي؛ لأنّ "الجزائر التي حصلت على استقلالها بفضل تضحيات الشهداء، عرفت انحرافات في عام 1962، عندما جرى الاستيلاء على السلطة بالقوّة والدبابة من أشخاص استغلّوا نضالات الجزائريين". وكشف في الحوار نفسه أنّه رفض، في 2007، دعوةً من وزيرة الثقافة حينها، خليدة تومي، لتقديمٍ حفلٍ ضمن تظاهرة "الجزائر عاصمةً للثقافة العربية"، موضّحاً أنّ مشاركته كانت ستخدشُ صورة الفنّان الملتزم بالهوية الأمازيغية. كما دعا إلى تنظيم تظاهرة باسم "عاصمة الثقافة الأمازيغية".
هذا التحسُّس من كلِّ ما هو رسميٌّ يُقابله اقترابٌ من الناس. في 2015، سيحضر إيدير تكريماً شعبياً في قرية آيت لحسن بتيزي وزّو، وسيعد بالغناء في الجزائر مجدّداً، وهو ما تحقّق حين قدّم حفلَين كبيرين في "القاعة البيضوية" بالجزائر العاصمة يومَي الخامس والسادس من كانون الأوّل/ يناير 2018. وكانت السلطة حينها قد اعترفت بالأمازيغية لغةً وطنيةً ورسمية في دستور 2016.
"إدير الأزلي".. سيرة فنان سافر بأغاني أجداده الأمازيغ
كتاب "إدير الأزلي" يتناول سيرة الفنان الذي يعتبر سفير الأغنية الجزائرية باللغة الأمازيغية حيث جالت أغانيه العالم وأعاد غناءها كبار المطربين العرب. وصدر مؤخرا كتاب عن السيرة الذاتية لمطرب الأغنية القبائلية إدير، بعنوان “إدير الأزلي” من تأليف الصحافيين اعمر وعلي وسعيد كاسد، بعد شهرين من رحيل الفنان الذي توفي في مايو الماضي عن عمر ناهز الـ71 سنة.
يتناول المؤلف، الصادر عن منشورات “كوكو” والواقع في 159 صفحة، الحياة والمسار الفني لهذا المطرب الذي يعتبر سفير الأغنية الجزائرية باللغة الأمازيغية، والذي جالت أغانيه العالم وأعاد أداءها كبار المطربين داخل و خارج الوطن.
ويطمح هذا العمل الصحافي إلى الإسهام في التعريف بمسار الفنان استنادا إلى شهادات أقربائه وأصدقائه إلى جانب مقالات صحافية ومقابلات إذاعية وتلفزيونية أجريت مع الفنان. وقد استعاد الكاتب والروائي الجزائري ياسمينة خضرا الذي وقّع على مقدمة الكتاب، لقاءه الأول مع إدير في بداية السبعينات من القرن الماضي بمدرسة أشبال الثورة بالقليعة في إطار أداء الفنان للخدمة الوطنية.
ولا يزال ياسمينة خضرا بعد 50 سنة من الزمن يحتفظ بذكريات مع الفنان من بينها تنظيم المدرسة لمسابقة في الغناء تحت إشراف حميد شريط المشهور فنيا باسم إدير. كما يحتفظ في ذكرياته عن المطرب بصورة فنان متميز ورجل متواضع رغم قامته الفنية، وكذلك صديق كريم.
وفي تقديمه لهذا المؤلف يعتبر عزوز حشلاف المطرب ورفيق درب إدير أن الكتاب يستند إلى وثائق قوية أو متينة تبرز أهم عوامل نجاح الفنان الذي أوصل صوت الأجداد إلى العالم. وحاول مؤلفا هذه السيرة الذاتية التي كتبت بأسلوب صحافي التوقف مليا عند أهم المحطات التي ميزت عمله في طريقه نحو الشهرة والعالمية.
يستعرض الكتاب سيرة الفنان بدءا من طفولته في قرية آيت لحسن بمحافظة تيزي وزو، ليصاحبه في باقي خطواته من مقاعد الدراسة الجامعية بالجزائر العاصمة حيث درس علم الجيولوجيا في 1970، حاملا معه مواهبه الفنية التي أبداها في المرحلة المتوسطة حيث كانت أصابعه تداعب أوتار القيثارة ويعزف على المزمار.
ويواصل الكتاب الغوص في حياة الفنان الذي انتقل للعيش في العاصمة وكان والده يملك محلا لبيع التحف التذكارية. وفي تلك الفترة أبدى إدير اهتمامه بدروس اللغة الأمازيغة التي كان يقدمها الكاتب والجامعي مولود معمري (1917 – 1989). ويتطرق المؤلف أيضا إلى علاقة إدير بمسائل هامة مثل الهجرة وظروف حياة المهاجرين حيث إنه غادر الجزائر في 1975. ويتحدث أيضا عن نضاله من أجل قضايا عادلة وتشجيعه الشباب على الاهتمام بالتراث الموسيقي.
ومن بين المسائل التي ذكرها الكتاب وقوف الفنان إدير الذي وصفه الكتاب بـ”المتواضع” و”الكريم”، إلى جانب المغنين الشباب مثل عبدالقادر مكسة والغازي. وأشار الكتاب أيضا إلى أفكار الفنان بخصوص العديد من المسائل مثل الهوية واللغة الأمازيغية والحياة السياسية وغيرها. كما تقترح هذه السيرة الذاتية على القارئ نصوصا مختارة لصاحب الأغنيتين المشهورتين “ابابا ينوبا” و”اسندو”، والذي وافته المنية في 2 مايو الماضي بباريس.