يقول بطل جبران في «الأجنحة المتكسّرة»: «لماذا نسكن في هذا النفق الضيّق الذي حفره المطران وأعوانه؟ أمامنا الحياة وما في الحياة من الحرية وما في الحرية من الغبطة والسعادة، فلماذا لا نخلع النير الثقيل عن عاتقينا ونكسر القيود الموثقة بأرجلنا ونسير إلى حيث الراحة والطمأنينة...». واجه البطل عالم القهر بعالم الحرية، وجابه الرمز الكنسي بعاشقين يبحثان عن الخلاص. عطف العاشق المتمرّد القهر على الرمز الكنسي ورأى بديله في الحياة الحرة، موحياً بأن الدين الحق هو الحياة، وأن تحقق الحب من جوهر الدين والحياة. والمنتظَر، بداهة، زمن جديد، يوحّد بين الدين والحب والحرية. تشكّل هذه العناصر مدخلاً لفلسفة جبران، التي تبدأ من حكاية دنيوية محدودة، وتنتهي إلى مطلق عصي على التحديد.
في كتابه المتميّز «جبران وإعادة تأسيس الأدب العربي» عالج بطرس حلاق منظور العالم عند جبران تحت عنوان: النبوي. يحيل الوصف على صوت تبشيري مفرد، ابتدأ من موضوع ديني وعالجه بمنظور غير ديني، منتهياً إلى دين إنساني، يصوغه أفراد يعرفون «آلام الجماعة» ويتمردون على معتقدها. تحرّر جبران من الإشكال الديني، حين وحّد بين المؤسسة الكنسية والمؤسسة الإقطاعية، واحتفظ بالديني حين رأى السيد المسيح مثالاً للخير والجمال، تمكن محاكاته من دون إعادة إنتاج حكايته. دعا في موقفه الأول إلى الحداثة الاجتماعية وقال بزمن حديث، وتطلع في موقفه الثاني إلى نبوة تبشّر بزمن جديد. يتراءى إشكال جبران الفكري في العلاقة المتواترة بين الحديث والجديد، أو بين الحداثة والنبوّة، ذلك أن الحديث يحيل على زمن الثورة الفرنسية، بينما يقوم الجديد في زمن لا سبيل إلى تعيينه.
جمع جبران عناصر وعيه الحديث، أو المتمرّد على القديم بشكل أدق، من واقع «شرقي» عاشه، ومن فكر الثورة الفرنسية التي قوّضت الإقطاع والكنيسة، ومن فلسفة جان جاك روسو، الذي دعا إلى مجتمع يتبادل المواطنون فيه حقوقاً وواجبات متساوية. انفتح هذا الوعي على قضايا الواقع، التي قادته إلى قضايا سياسية، تُرجمت بمواقف تنتسب إلى الفكر النهضوي العربي وتنزاح عنه. فعلى خلاف آخرين، فرح أنطون وسلامة موسى وغيرهما، قالوا بالثورة الاجتماعية والتقدم العلمي والمجتمع الصناعي، آثر جبران طريقاً آخر، يعطف السيد المسيح على روسو، ويشتق من الطرفين ذاتاً واسعة ، تؤنسن الإلهي و«تشرقن» الفردية الثورية. فقد ارتبط جبران بالسيد المسيح ولم يكن مسيحياً، فصل «ابن الله» عن المؤسسة المسيحية، وساوى بينه وبين جوهر إنساني كامل، أو ينزع إلى الكمال. واستبقى مسيحاً نقياً، متحرراً من العادات والطقوس واستبداد البداهة. أمّا فرديته ، تلك الشرقية في تمردها، فجاء بها من صدام الفرد، الذي يستضيء بمرجعه الداخلي، مع الجماعة، التي ترى مرجعها في قوى خارجية. صالح جبران بين المسيح، المتحرر من الجماعة المسيحية، وفرديته الخارجية المتمرّدة على مؤسستين جائرتين، وخلق صوته النبوي، الموزّع على «حديث» محدد و«جديد» لا حدود له.
داروين والثورة الفرنسية
تتكشّف حداثة جبران العلمانية في قصتي «يوحنا المجنون» (1906)، و«خليل الكافر» (1908) اللتين أضاءهما أدونيس، منذ زمن، في كتابه: «صدمة الحداثة». تنطوي القصتان على ما ينقد الواقع ويطالب بتبديله، وعلى الفردية المتمردة التي تنقض الجماعة المتجانسة. جاء البعد الأول من فكر الثورة الفرنسية، التي استأصلت المجتمع القديم وبنت مجتمعاً جديداً، وجاء البعد الثاني من تصور «مسيحاني» قرأ فرضية داروين التطورية. والسؤال هو: ما معقولية العلاقة بين دارون والمسيح، وما وجه القرابة بين إيمان مسيحي، يعتقد بأن «الله خلق الإنسان على صورته»، وفرضية علمية تدرس الإنسان في شبكة من المخلوقات، فيها مكان لأكثر المخلوقات ضآلة؟ الجواب قائم في الوعي الجبراني، الذي يعطف فكراً على آخر، ويقول بما يريد.
اقترب جبران من دارون مدفوعاً بأسباب ثلاثة: قال دارون بزمن تطوري مفتوح، لا ينصاع إلى التعاليم الدينية، ينفتح على مستقبل متدفق أعطاه جبران صفة «الصعود» والنزوع إلى الأعلى. وقال العالم الإنكليزي بـ«الاصطفاء الطبيعي» الذي يسوّغ، جبرانياً، فكرة «الإنسان الأعلى» (السوبرمان) التي نسبت إلى الفيلسوف الألماني نيتشه، وقرأها جبران في مسار المسيح. يظهر السبب الثالث في تطور لا مراتب فيه، يتفق مع دعوى جبران بوحدة الأديان، التي قال بها الشاعر الإنكليزي الرومانسي وليم بليك. ومع أن الإشارة إلى روسو ودارون ووليم بليك، كما غيره من الرومانسي، توحي بفردية حديثة، تفسّرها الفلسفة السياسية والفلسفة الحقوقية، فقد آثر جبران، جوهرياً، فردية شرقية متمردة، تلتبس بالنبوّة، وتضع الفرد المنشق في مواجهة الجماعة.
توسّل جبران، وهو يصرّح بفردية مغايرة، صفتين، لهما مدلولان محددان في الميراث الشعري هما: الكفر والجنون، اللذان يستحقان النبذ والعقاب. عطف الصفتين على مجتمع زائف القيم، مبرهناً أن ما ينقض الزائف لا زيف فيه، وأن الكفر والجنون، في مجتمع مقلوب، صورتان صادقتان عن العقل والإيمان. فالجنون هو الرد العقلاني المطابق على مجتمع يفعل غير ما يقول ويقول بما يأخذ بنقيضه، مثلما أن الكفر في مجتمع يعبث بالمؤمنين إيمان صادق لا شوائب فيه. والواضح، في الحالين، فرد خرج على الجماعة، يدعوه المؤمنون التقليديون بـ«المخذول»، يتطلع إلى تأسيس عقل ودين جديدين ويسبغ على ذاته، بصوت واضح أو مضمر، صفة: النبوة. والعقل، في التصور النبوي الجديد، مزيج من العقل والعلم والقلب والحدس والرؤيا، يندفع بتعدديته من المعلوم إلى المجهول، ويتكئ على التجربة و«عين القلب» في آن. مثلما أن الدين على صورة عقله التعددي، يركن إلى سيرة السيد المسيح والفلسفة والشعر والتأمل، يأتي من جوهر الإنسان ويعود إليه، ويكون تعبيراً عن الحياة المتعددة في وجوهها. لا مكان في دين متعدد العناصر لغير الإنسان، لأن التعدّد هو اللايقين، الذي لا تقبل به الأديان التقليدية.
طرح جبران سؤالاً فلسفياً وعثر على جوابه في فضاء الشعر. فلا مكان لدين يعترف بالحقيقة في مجتمع تمزقه الفروق الطبقية، يفرض فيه قويّه دينه على ضعفائه، ولا إمكانية لدين يساوي بين الناس إلا في مجتمع قائم على المساواة. عهد جبران إلى ذاته بتوليد دين جديد، يساوي بين الناس، مستلهماً الإنسان المتمرّد الذي مثّله المسيح، والتصور الرومانسي الذي قال به الشعراء الألمان، الذي يقول بفرد لا يساوي غيره، وبشاعر ـ نبي يرى ما يريد ويحقق المستقبل رؤاه، ففي الرؤيا طاقة تهزم العادات. يولد الإنسان، في التصور الرومانسي، بطلا، يصبو إلى العرش بحكم طبيعته، ويدخل إلى أشد الدروب غموضاً ويخرج ظافراً.
الحقيقة والشعر
اشتق جبران فرديته من شرقيّته، ومن فلسفة رومانسية تضع الإنسان في مركز العالم، وتوكل إليه إعادة بنائه. وبما أنّ الإنسان مركز العالم ومركز ذاته فهو قادر، مستقبلياً، على توليد الدين الذي يريد، وتوليد المجتمع الذي ينعم بدين لا مراتب فيه. ومع أن الهدف ـ الرؤيا يحيل، في وجه منه، على مجتمع شرقي يجب هدمه، فهو يستدعي، في وجه آخر، معنى العمل الفني في التصور الرومانسي. يقول شلنغ: «ادعو بالعمل الفني كل شيء موجود بذاته يتموضع فيه بشكل حقيقي (اي باستقلال عن الإنسان) المعنى الأبدي للإنسانية..». ما هو المعنى الأبدي الذي يصدر عن كل شيء يتحقق فيه معنى العمل الفني؟ وما معنى الأشياء إن اغتربت عن العمل الفني وافتقدت إلى دلالته؟ يقول جبران في «الأجنحة المتكسّرة»: «كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع التي تُحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر..». وسواء آمن جبران، كثيراً أو قليلاً، بالشيء «الموجود في ذاته» فهو يعيد، على طريقته، ما قال به شلنغ، موحداً بين الخالد والجمال، معتبراً الجمال تعبيراً عن الفن والحقيقة. وهذا الخالد، الذي هو عمل فني خالص، له زمن لا يلمحه إلا الإنسان ـ النبي ، وله مكان يقترحه «التطور» ويجيء به. تأتي دلالة الأشياء من زمنين، أحدهما زائف موجود والآخر حقيقي «يأتي»، ومن مكانين، أحدهما معيش عارض وثانيهما «يأتي».
يقول جبران في روايته: «للشبيبة أجنحة ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم.. لكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة، وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغّرة مشوّهة.». يعارض جبران، مقترباً من التصور الأفلاطوني، عالم «الحقيقة» بعالم الأجنحة الشعرية، قائلاً بصعود وهبوط، موحياً بصعود يتلوه صعود. ولعل الفرق بين الشاعر، أو الإنسان-النبي، الذي يحتشد بطاقة تصاعدية، وغيره من البشر الذين في عالم مشوّه، هو الذي يأمره بالدعوة إلى دين يجمع البشر حول القيم الإنسانية الخالدة. ليس الشاعر النبي إلا صورة عن عمل فني، يحلم بمجتمع مستقبلي، هو وجه آخر للعمل الفني ومعناه الأبدي.
قال جبران بجملة من الثنائيات المتناقضة: الهبوط والصعود أجنحة الريش والأجنحة الشعرية، الحقيقة المشوّهة والحقيقة ـ المثال، ... وقال بالشاعر النبي، الذي ينقض أعداء المساواة ودعاة الكراهية... يضع المستقبل المفتوح في الثنائيات المتناقضة دينامية خاصة، تهمّش السلبي وتنصر الإيجابي. وعن هذا المستقبل يصدر معنى النبي، الذي يعيش المستقبل قبل أن يصل إليه، ويبشر بدين يعطي البشر أجنحة حقيقية. يقول الألماني فريدريك شليغل عن الدين الجديد، الذي هجس به جبران في «الأجنحة»: إننا نبصر إلهاً محباً يحتضن بحنان كنيسة فتية مباغتة، ومسيحاً يحتضنه ألف من أعضاء هذه الكنيسة. هذا المولود الجديد هو صورة عن أبيه، إنه زمن جديد وذهبي..., عصر نبوي خارق، إنه عصر مصالحة عظيم، مخلِّص لا يدرك إلا بفعل إيمان، مثل عبقرية حميمية إنسانية، لا تتكئ على الحواس. ويتراءى رغم ذلك للمؤمنين من خلا عدد لا يحصى من الأشكال المنظورة، يجري استنشاقه كالهواء وسماعه كالكلام والفناء مثل بهجة سماوية...».
صاغ جبران ، على طريقته، ما قال به الرومانسي الألماني وغيره من الرومانسيين الألمان، قائلاً بدين يمحو المسافة بين الإنساني والإلهي، ويعي الوجود بفعل إيماني يتجاوز الحواس، ويرى الحقائق الخالدة في كون يلتبس بالعمل الفني، وينتقل صعداً من أرض النقص إلى سماء الكمال. حمل هذا المنظور جبران على تأسيس دينه، ووضع له كتاباً عنوانه «النبي» يعلّم «بني الأرض» القيم الخالدة، ويرى فيهم أعمالاً فنية قادمة. يقوم «الدين الفني» على أنسنة الإلهي وتأليه الإنساني، وعلى التوجه إلى مسيح جديد، بصيغة الجمع، ماثلٌ في ألف عضو من «أعضاء الكنيسة الجديدة».
يعود من جديد سؤال الفردية، الذي يذيب الحديث في الجديد. فإذا كان السيد المسيح تجسيداً لارتقاء قيمي وجمالي ومعنوي، فإن كل إنسان ينزع إلى ما جسّده المسيح هو مشروع لمسيح جديد. يدور الموضوع، في توسطاته المختلفة، بين الفن والدين والجوهر الإنساني، إذ العنصر الأول تمثيل للعنصر الثالث، كما يقول شلنغ، وإذ الثاني تمثيل للثالث والأول، كما يقول شليغل، وإذ الدين الجديد تحقيق للعناصر الثلاثة معاً. تفضي النتيجة ، في تصور جبران، إلى أمرين: تمدّه بتأويل خاص به «ابن الله»، وتسمح له أن يتماهى به وأن يكون ابناً إلهياً جديداً. وصل جبران, وهو يوحّد بين التأويل والتماهي والتبشير، إلى الزمن «الذهبي الجديد» أو «العصر النبوي الخارق»، اللذين قال بهما الرومانسيون، والمؤسسين على إنسان ـ نبي، يعرف المسيح ولا يحتاج إليه، لأن في كل شاعر مسيحاً من نوع جديد. يقول مانفريد فرانك في كتابه الشهير: «الإله القادم»: «ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الفرق الواضح الموجود بين مسيح هولدرن ومسيح نوفاليس. فبالنسبة للأول فالمسيح قد مات ولن يوجد، إلى أن تحين عودته، إلا في الخبز والخمر، هبتي الارض اللتين تجعلان الابتعاد عن الآلهة شـقاء يحتمل، بينما رأى الثاني أن الموت نفسه هو الذي مات مع «مجيء» المسيح، وأن الخبز والخمر يحتفلان بانتصاره على الظلام والموت...». يتعيّن المسيح بتأويل المؤمنين به، ويتعدّد بتعدّد التأويـل الرومانسي، حيث المسيح هو ما رآه الــشاعر، وحيث الشاعر نبي جديد، يستأنف الانتـصار على الظلام والموت.
يعيش الشاعر المستقبل المنير، قبل مجيئه، سابقاً مجتمعاً يصل إلى ما وصل إليه بعد زمن. يمحو الشاعر الرومانسي الفرق بين القائم والآتي، منتهياً إلى: الحاضر المطلق، الذي يلازم الشعراء ـ الأنبياء، ومفصحاً عن تفاؤل لا تحتفظ فيه. حمل جبران تفاؤله وطرح، في «الأجنحة»، سؤالين: كيف تمكن قيادة مجتمع معطوب إلى مملكة النور؟ وكيف تمكن الإجابة عن أسئلة زمن لم يأتِ؟ رأى، رغم عدم تجانس السؤالين، إلى ما يريد ملتمساً جوابه من اتجاهات متعددة: اطمأن إلى «الإنسان الأعلى»، المنبثق صعوداً، مؤمناً بسيرة المسيح ومستأنساً بأفكار نيتشه، واعتنق غائية الوجود، الذي تهزم الحياة فيه الموت، وأخذ بالتصور الدارويني للعالم، الذي قرّر أن «البقاء للأفضل»، وآمن بقوة الكلمة الخالقة، فما تقول به الكلمة يستضيفه العالم... رأت هذه العناصر في الوجود روحاً متصاعدة حرّرته من سديم أولي وتدفعه، صعداً، إلى كمال أعلى. وسواء تمثّل جبران المراجع المتعددة المنظورة للوجود، أو تركها متراصفة محدودة الكثافة، فما قال به، في «الأجنحة». وغيرها، يدور حول جمالية القيم، الموزعة على الجمال والخير والتوازن والتناغم. ولعل أولوية القيم الخالدة على الحاجات، كما أولوية جوهر الإنسان على الإنسان المشخص، هو ما جعله يهمّش الحديث بالجديد والتاريخ والزمن، وجعله يقرأ أسئلة الوجود المختلفة بـ «عين الشعر»، الذي يستوعب ما عداه ويفيض عنه.
وراء كل ما كتب تقف أطياف «الفرد العظيم»، الذي يمهّد حقول المجتمع والوجود للذين يأتون بعده، ووراء «فــرده العظيم» تقــف أطياف السيد المسيح، الذي يستضيف في قاعته المنيرة روسو وهولدرن ونيتــشه ودارون.... ويرى فيهم تلاميذ نجباء، يوسّــعون دلالة العدل حين يعيشون في هــذه الأرض وبعد أن يرحلوا عنها، لأن الإنسان الحقيقي، في التصور الجبران، لا يموت..
الإنسان العادل البصير نبي، يعرف الأرض وشرورها، ويصلحها بمنظور شعري، يتسع للأرض والسماء.