يؤمن المجتمع بكمية مسلَّمات تجعل السائد هو القانون الأقوى، والسؤال هنا يحمل كفتين مهمتين: المرأة والفكر! المرأة تحتاج كامل الطاقة والدعم لتمارس حقوقها الطبيعية في الحياة، بعيداً عن الكلمات التسويقية الرائجة الآن: القوية/ المستقلة/ الحرة، ولكن بمضمونها الذي يهيئ أن تكون هناك أنثى مفكرة، تتحرك داخلها مجموعة شكوك، وتساؤلات وعمليات ذهنية معمقة، فتحقق نتائج ملموسة تستحق أن تظهر للعلن مقابل المسلَّمات المعتادة. فأين الأنثى من كل هذا؟ إن تحقيق الشرط الأول في الاكتمال يتطلب منها صعود درجات، والقفز بينها أحياناً، لأن المجتمع الذي لم يستطع أن يبرز إمكانياتها سيكون أول من يدعو لقص جناحيها النابتين بجهدها، والشواهد شرقاً وغرباً؛ من سيمون دو بوفوار، وليس انتهاءً بفاطمة المرنيسي.
لا تتحمل المجتمعات العربية وحسب العبء الأكبر في التفريق بين الجنسين لصالح الذكور. فالمجتمعات الشرقية كلها مدينة للمرأة على الخيبات التي تلحق بها جراء هذا التراكم الممتد منذ زمن غير محدد، ربما كان هذا من وقت الوأد! لازالت الجاهلية تمارَس بأشكال أخرى تحجب هذا الحضور أو تحجِّمه، ولازالت المرأة لو خرجت عن النسق المجتمعي، لتلقفتها الأصابع الدالة على أنها متمردة و"خارجة". أقول هذا، برغم كل الزخم الثقافي الذي أعطى للمرأة أولوية وتفوقا بجهدها، الذي يشترط -بالمقابل- ألا يتعدى المسارات المحددة التي رسمها لها مبكراً. سابقاً كان المجال المفضل للمجتمع بالنسبة إلى الأنثى المتعلمة هو التدريس، لانحصار أدواره في توقيت محدد، وفئة معينة. فلما تقدم الزمن، وتطور، وأتيح للإناث الحصول على الشهادات العليا من أرقى الجامعات، تحوّل هذا المجال المفضل إلى التدريس في الجامعة، كمخرج بين مواكبة التطور والتشبه بسلوك الناس المتحضرة، وضمن المعايير المطلوبة، بينما الخروج عن هذه الدائرة يتطلب جهداً مضاعفاً من الأنثى نفسها، وبدفع ذاتي، لأن وجودها المتفرد سيضعها في دائرة الضوء التي تخشاها هي نفسها قبل مجتمعها.
رسم الملامح
كل الإشارات تدل على أن الذكورة مرتبطة بالجوانب العقلية. فالجانب الديني يلمِّح إلى أن الأنثى في توقيت ما تكون "ناقصة عقل ودين"، تؤخذ في المجمل لصالح الذكورة التي ترتبط -حسب هذا الوصف- بالعقل ورسوخه. والجانب المجتمعي يعزز من حضور الذكر منذ الولادة، ويضع قيمة لمجمل أعماله، خاصة المرتبطة بالتميز، بينما تحتاج الأنثى إلى المطالبة بحقها في الاختيار والحياة إن قررت أن تشق طريقاً مغايراً عما جبلت عليه قريناتها في نفس المحيط، والرد على تهمة "الاسترجال" التي ستأتيها تلقائياً إن رغبت في نهل المزيد من العلم! لن نندهش من وجود الذكور الطبيعي، ولن تفوت الإناث الباقيات الدلال والخصوصية التي تتمتع بها في الخيار الأسهل المتاح، والمحصور في رموش طويلة، وأظافر مصقولة، وصورة جميلة.
وبصدد السؤال عن أسباب عدم نجاح المرأة العربية في رسم ملامح المساواة في المشهد الفكري، مقابل حضورها المتنامي في المشهد الأدبي، فإننا لو فكرنا في العودة للمربع الأول، سنجد أن قيمة المساواة كانت موجودة في حال الاتفاق على المسؤوليات بالتحديد؛ سيكون الرجل مسؤولاً عن أعباء البيت المادية في خارجه، والمرأة ستقوم بالمهمة بالكامل في داخله، والشراكة ستكون في تحمل الأعباء التالية بالشراكة المتراضية. لما اختلطت هذه الأدوار، حصل الالتباس، وتخبطت المسائل. هذا على المستوى المادي الملحوظ، أما في المشهد الفكري؛ فالمطالبة بالمساواة ليست مستحيلة، لكنها ممكنة، لأنها تتجه لفئة معينة من الناس، التي من الممكن أن تؤمن بك من دون معرفة شخصية، وعبر المنجز المادي فقط. عدا ذلك، لم تنجح المرأة -على أصعد كثيرة- في أن تكون على قدم المساواة مع الرجل في كثير من المجالات، لذلك هي تحتاج أن تثبت نفسها عبر منجزها أولاً، ومن ثم ستكون المساواة التي ستأتي، وتكون خطوة لاحقة وتلقائية.
أي مشروع نقدي هو فتح جبهة مع آخرين؛ طرف معنيّ بالنقد الموجه، وطرف آخر يتابع هذا النقد، ويكون رأياً بناء عليه. وعلى الناقد الوقوف بصلابة لتقييم وحكم نقد أدبي وفني، لأنها عملية كاملة، جمعية، مؤثرة، وموترة، صاحبها وصل إلى مستوى معين من الفكر. من سيود بعد ذلك إثارة الزوابع المقصود منها الإقصاء والتهميش و"الستر" في مفهومه العجائبي الضيق؟ من سترغب من الإناث أن تنشغل عن إنجازاتها بدخول حلقات صراع من أطراف عدة، هي طرفها الأضعف الدائم.
ولكن هل يمكن القول إن ندرة المفكرات العربيات راجع بالأساس إلى الظروف التاريخية والثقافة الاجتماعية والسياسية، أم لعوامل ذاتية خاصة بالمرأة؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي بحوثاً معمقة، على أن كل تلك الظروف أسباب رئيسية في الندرة. لكن قبلها، هل هناك دافع داخلي قوي في الأنثى يدفعها لشقاء سعيد، لا تقدر عليه كثيرات
وبمعزل عن كمّ الكتابات الإبداعية -مجازاً- المصنفة تحت بند الروايات والشعر والأشكال الأدبية الأخرى، والتي تزدان بها المكتبات، تقف كتب النقد الممهورة بتوقيع إناث على زاوية خجولة من مجمل النتاج الفكري، يأتي بعضها كمشاريع للرسائل الأكاديمية التي تتوقف عندها أسماء كثيرة في الظل، تظل حبيسة المكتبات لدواعي التخرج ونيل الدرجات العلمية والترقي المهني. أما على مستوى الواقع، فمن الصعب حساب هؤلاء الأكاديميات مع الباحثات اللاتي يخضن معركة حقيقية مع الحياة. فإن كان الإنتاج الفكري قليلاً بشكل عام، فكم سيكون نصيب الإناث منه؟
النقد الذكوري
يعمل النقد الذكوري على محاولة تفكيك العمل الإبداعي إرجاعاً لجنس كاتبه، وهو عمل لا ضير فيه، بل إنه يشكل إضافة للنقد، في توضيح الأثر، سواء عبر التعبير عن جنس الكاتب/ة أو الجنس الآخر. لكن النقد المبالغ فيه في إظهار أن رواية الأنثى "بؤرة أحاسيس"، بينما يعيد الراوي الذكر "بناء العالم"، كما يذكر الناقد جورج طرابيشي، في إشارة إلى احتكار كل من الجنسين جزءاً محدداً لا يستطيعان المزج بينهما. وبهذه العقلية، تعرَّض لروايتين من أعمال نوال السعداوي، الشخصية الجدلية، والتي خرج فيها بتيقن عن ربط بطلة الرواية بالسعداوي شخصياً، نظراً لما حملته من تمرد جعل هاجسها الكبير التفرد، والذي حوّلها -حسب وجهة نظر طرابيشي- إلى المصابة بـ"العقدة الدونية الأنثوية"، مع الإشارة إلى استخدامه منهج التحليل النفسي لهذه الدراسة. وحتى النقاد الذين تناولوا الأعمال الإبداعية والنقدية للإناث لم يخرجوا عن تصنيفهم الرئيسي المتكئ على الجندر، دون الفصل التام بين المنجز وصاحبه.
تجربة المرنيسي
لا يمكن لأنثى تغرد خارج السرب أن تنجو بنفسها في عالم لا ينتظر منها إلا القبول و”الستر”. القويات هن القادرات فقط على التعبير عن آرائهن المختلفة التي قد يهاجَمن عليها. ومع العلم المسبق بردة الفعل هذه، إلا أنه يأتي وقت لا بد من الظهور بما يعتمل في النفس، وتكون الآراء نابعة من عمل بحثي ودراسة، وليس من منطلق شخصي وهوائي، وهو ما فعلته نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي في دراساتهما وأعمالهما الإبداعية، فهوجمتا من قبل أقرب الناس لهما، قبل المجتمع الذي يمثل النقاد جزءاً منه، غالباً بالهاجس، ودائماً بالرفض. فالمسألة متعلقة بالصحوة والوعي في تقبل رأي مغاير عن السائد. لذلك أرى أن التسويق للرأي، دون شعارات مستفزة للإناث قبل الذكور في المجتمع، مهمة جداً، ورئيسية لطرح أيّ فكر، وقراءة المجتمع بشكل صحيح، حتى لا يصبح هذا الفكر محل نقاش عقيم يوأد قبل أن يخلق، وهذا ما مارسته المرنيسي بذكاء وتأنٍّ، رافضة الاشتغال تحت تصنيفات نسوية أو غيرها، بينما كان كل ما تنجزه لصالح بنات جنسها. وعلى الرغم من الآراء المهمة والجدلية التي تثيرها السعداوي عبر تخصصها، أو منجزها الإبداعي، لا تبدو على نفس مستوى القبول نقدياً أو شعبياً، وهو التحذير الخفي لكل من تفكر التقدم في دائرة الضوء، لتذكِّر نفسها بالعراقيل التي ستكبر مع بروز اسمها ولمعانه.
أما بصدد ما هو تقييم حجم مساهمة المرأة في الجهد الثقافي النقدي اليوم، والسؤال يشمل حضورها في الثقافة العربية بصورة عامة، فمن الواجب الالتفات أولاً إلى ضرورة عدم التمييز جندريا في التعامل مع المنجز الإبداعي، حتى لا تقوى فكرة العقلية التقليدية المنحازة للذكور، والاحتكام يكون لمعايير الجودة والقوة والرصانة والإبداع. ويمكن أن يكون حجم المساهمة المادية من الإناث قليلاً وخجولاً على مستوى النشر والطباعة والظهور الإعلامي، وربما كان ذلك على المستوى الإبداعي أيضاً. فليس كل منتج أنثوي هو منتج بديع بالضرورة، لكنه ليس كذلك إن كان على مستوى الدراسات العليا التي ترفد مكتبات الجامعة بعدد غير قليل من "الجهد الثقافي النقدي" إن جاز لنا التعبير. لذلك فإن الظهور في العلن له متطلباته التي لا ترغب أو لا تستطيع الإناث إليها سبيلاً.
وفي نظري أخيراً، أن النظر في مدى أهمية المُنجز النقدي والفكري النسائي في العشرية الأخيرة على نحو خاص يحتاج إلى دراسات ونوعا من التقصّي. ولكن في نظري إنّ كل منجز نقدي وفكري هو ذو قيمة، ومقدر، لكن المنجز المميز المقرون بالأنثى له تقدير وقيمة أعلى. فإن سعى المجتمع إلى تهميش الأنثى بداوعي الدين والعرف والعار والعيب، واستلَّت هي لنفسها مكانة مميزة ومفيدة تقف عليها، فهذا أمر يدعو للفخر، في القدرة على العطاء والاستمرار. لم يعد يوجد -اليوم- في المجتمعات العربية مجال ثقافي يخلو من وجود الأنثى التي تضيف إليه قيمة مضاعفة، عبر الاحتفاظ بالأدوار التقليدية، والنهوض في أدوار أخرى جديدة تليق بها.
(المصدر الجديد)