رغم مرور 12 عاماً على وفاة ألكسندر سولجنتسين في 3 آب (أغسطس) من سنة 2008، فإن الآراء لا تزال تختلف داخل روسيا وخارجها إزاء هذا الأديب الروسي المثير للجدل. آنذاك، في حقبة الحرب الباردة، كان الغرب يبحث عن أديب سوفياتي معارض لاستخدامه في محاربة الفكر السوفياتي، ولا سيما أن الصخب الإعلامي قد هدأ بعد انقضاء أمد مديد على نشر رواية «دكتور جيفاغو» (وليس زيفاغو) في الغرب في سنة 1957، وبعد أن نال عنها مؤلفها الأديب السوفياتي بوريس باسترناك جائزة نوبل في سنة 1958. وخاصة أن «سي. آي. إيه» والاستخبارات البريطانية «إم آي-6» كانتا وراء نشرها وتصوير الفيلم الهوليودي الشهير المأخوذ عنها، وقد ثبت ذلك بعد تفكك الإمبراطورية الحمراء والإفراج عن بعض الوثائق الغربية «السرية للغاية».
بيد أن الغرب لم يكن بحاجة إلى بحث مضنٍ، ووجد ضالته في سولجنتسين، الذي حاز جائزة نوبل للآداب في عام 1970، ولما يكن قد كتب سوى روايتين وبعض القصص القصيرة. وكان مهماً أن إحدى روايتيه «يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش«، تحدثت عن أهوال معسكرات الاعتقال السوفياتية خلال الحرب العالمية الثانية، في ظل نظام الزعيم السوفياتي يوسف (وليس جوزيف) ستالين والتي نشرت في الاتحاد السوفياتي أول مرة سنة 1962، بدعم من الزعيم السوفياتي الجديد نيكيتا خروشّوف (وليس خروتشوف)، الذي كان يسعى بذلك لمقارعة «الحرس القديم».
أما سولجنتسين، فكان مولعاً بتوجيه سهام نقده الحادة إلى السلطة القائمة، حتى تكاد تظن أنه سياسي هاوٍ للأدب. وقد أودى به رفضه «للعيش من دون دجل» في عهد ستالين إلى معسكر الاعتقال، الذي لم يخرج منه إلا بعد وفاة «ذي الشاربين» في سنة 1953. غير أن صدور نتاج الأديب الضخم «أرخبيل الغولاغ» سراً في فرنسا، قد حرمه في عهد بريجنيف وطنه وجنسيته سنة 1974، ليجد ملاذاً له في ولاية فيرمونت الأميركية، حيث كان ولاة الأمور على الضفة الأخرى من الأطلسي يأملون في استخدامه معولاً أدبياً لتخريب الفكر الماركسي.
لكن الأديب «الذي لا يعجبه العجب» لم يدع مناسبة تمر هناك من دون التهجم على نمط الحياة الغربية. وفي كلمة شهيرة ألقاها عام 1978 في «جامعة هارفارد«، سخر من فكرة فرض نموذج «الديمقراطية التعددية الغربية» في روسيا، وسأل: «هل يراد منا إحلال جورج بوش محل كارل ماركس؟!» وكان يؤكد أنه سيعود إلى وطنه ذات يوم. وقد عاد في سنة 1994 إلى «روسيا الجديدة»، حيث «استقبله الناس كنبيّ». وشبهت وسائل الإعلام عودته بعودة الإمام الخميني إلى إيران عام 1979.
جاب سولجنتسين روسيا خلال نحو شهرين، وكم كانت خيبته كبيرة حين اكتشف أن وطنه لم يعد بحاجة إلى الأنبياء، فانسحب من الحياة الاجتماعية وعاش مع عائلته في منزل ريفي أقطعه إياه قيصر روسيا «الديمقراطي» بوريس يلتسين، الذي أراد منحه وسام الدولة الرفيع (أندراوس المدعو أولاً)، فرفض قبوله، وقال عنه وعن أول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، إنهما: «فاقما الضرر، الذي ألحقته السلطة الشيوعية بالدولة الروسية على مدى 70 عاماً«. لكنه قبل جائزة الدولة التقديرية، من يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي «أيقظ الدب الروسي من سباته ليزرع الرعب في قلب أميركا»، بحسب سولجنتسين.
وواصل عزلته منسياً في صومعته في إحدى ضواحي موسكو، مكرساً نفسه للكتابة. ولكن، وما إن صدر، في عام 2001، كتابه «مئتا عام معاً» الذي تناول فيه العلاقة المعقدة بين الروس واليهود في المرحلة بين 1795 و1995، حتى تذكَّره اليهود الروس و«الليبراليون» وغربيو الهوى في روسيا، وانهالوا على الشيخ الثمانيني بالنقد اللاذع، وشنوا عليه حملة مسعورة. آنذاك فقط، لاحظ كثيرون منهم »نقصاً شاب أعماله». وكتب عنه الأديب اليهودي الراحل فلاديمير فوينوفيتش، في كتابه «بورتريه على خلفية أسطورة» (2002)، أنه كان معادياً للسامية، وقومياً عنصرياً، وكارهاً للغير. غير أن فوينوفيتش لم يأت بجديد، فسولجنتسين كان دائماً قومياً سلافياً متشدداً ومسيحياً أرثوذكسياً متعصباً، ولم يزعج ذلك الإنتلجنسيا اليهودية العالمية عندما كان يكيل الاتهامات للاتحاد السوفياتي. وهو لم يكن «معادياً للسامية» قط، على الأقل لأن زوجته ناتاليا يهودية، ولأنه لم ينتقد قيام إسرائيل مرة واحدة، لكنه في أثناء كتابته أبحاثه المطولة عن تاريخ روسيا الشيوعي تراكمت لديه مواد كثيرة عن اليهود، ودورهم الخطير في تقرير مصاير (بالياء) الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي.
وهكذا، تُعَدُّ «سنة 1772 تاريخ أول تقاطع تاريخي مهم بين المصيرين اليهودي والروسي»، حين جرى أول تقسيم لبولندا، وعادت بيلاروس ومعها 100 ألف يهودي من مواطنيها إلى روسيا. وحين جرى تقسيم بولندا الثاني والثالث في سنتي 1793 و1795، دخل مليون يهودي من لاتفيا في عداد الإمبراطورية الروسية. أما في عام 1880، فكان عدد اليهود في الإمبراطورية الروسية، بما في ذلك المقاطعات البولندية، قد وصل إلى 4،5 ملايين نسمة، أي زهاء 3% من سكان الإمبراطورية البالغ عددهم 180 مليون نسمة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من مرسوم الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية في عام 1791، الذي خفف القيود على إقامة اليهود وبخاصة في بيلاروس وأوكرانيا، ورغم شغلهم مواقع قيادية في جوانب الحياة الأخرى، فلم يسمح لهم بالمشاركة السياسية في حياة المجتمع إلا بقدر محدود، ولم يمارسوا إلا العلوم والفنون الجميلة والأدب والصحافة والمهن الحرة مثل المحاماة والحرف والتجارة الصغيرة والصرافة حتى اندلاع الثورة البلشفية في عام 1917.
وقد أثبت سولجنتسين بواسطة المصادر التاريخية اليهودية نفسها، وبصورة لا تدع مجالاً للشك، أن اليهود برعوا بشكل خاص بصنع الفودكا وبيعها في الحانات، التي كانت غالبيتها تعود إليهم، وكانوا يقومون بإقراض الروس أموالاً بنسبة ربوية كانت تبلغ أحياناً 50% في السنة، وتسمح باسترقاقهم عند التخلف عن سداد الديون. ويؤكد المؤرخ أن البوغرومات (كلمة جاءت من الروسية وتعني اعتداء الروس الجماعي على حياة وممتلكات اليهود)، التي كانت تنشب من حين إلى آخر في روسيا، إنما كان سببها الفودكا التي كان اليهود يشترون الحبوب لصنعها من الفلاحين الروس بأبخس الأثمان، وكذلك الربا الفاحش، الذي كان اليهود يستوفونه منهم.
ثم يشير سولجنتسين إلى أن ملكية غالبية المصارف والصحف انتقلت إلى ذوي أسماء العائلات الأجنبية اليهودية على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي هذا الوقت بالذات، برزت الفكرة الصهيونية، التي غذاها اليهود الروس بالذات، واحتدم العداء بينهم وبين روسيا الأرثوذكسية. إذ إن الأفكار الاشتراكية واليسارية انتشرت في أوساط الروس بواسطة اليهود الذين شنوا حرباً إرهابية شعواء على القيصرية الروسية ورموزها؛ كان أبرزها اغتيال يهودي من «الأحرار الشعبيين» القيصر المصلح ألكسندر الثاني (1818 – 1881)، الذي حرر الفلاحين من نظام القنانة.
وقد حثت الصحافة الروسية القيصر على دخول الحرب العالمية الأولى في عام 1914، من دون أن تكون روسيا مستعدة لها، تحت شعار »الدفاع عن الأخوة الأرثوذكسيين في صربيا»، والتي كانت بداية نهاية حكم آل رومانوف. ما فتح الطريق لعودة زعيم الثورة الاشتراكية فلاديمير لينين وأتباعه، وجلهم من اليهود، عبر ألمانيا، وتسلمهم في ما بعد الحكم في روسيا. غير أن صعود نجم ستالين، بعد إطلاق النار على لينين وتدهور صحته، قد خلط الأوراق كلها، إذ إن القوقازي الماكر أزاح منافسيه اليهود واحداً تلو الآخر.
ولما توفي ستالين، استغل اليهود الديمقراطية المحدودة، التي أعلنها خروشّوف في بداية حكمه. ومنذ ذلك الحين، بدأت سيطرتهم التامة على المسرح والشعر والرواية والموسيقى والفنون والجامعات، واستمرت في عهد ركود بريجنيف، الذي شهد أيضاً بدء صعود نجم اليهودي سفير الاتحاد السوفياتي في كندا ألكسندر ياكوفليف، الذي أصبح مهندس «البيريسترويكا» بعد مجيء غورباتشوف إلى السلطة في سنة 1985. وليس مصادفة أن يكون أول عمل أقدم عليه غورباتشوف هو السماح غير المشروط بهجرة اليهود السوفييت والذي سمح بوصول أكثر من مليون يهودي إلى فلسطين، وبتحسين حالة «إسرائيل» الديموغرافية المتأزمة.
وبعد استقالة غورباتشوف وتفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991، بدأ عصر يلتسين الذي شكل على الفور حكومة شباب جلها من اليهود الروس. في ذلك الحين، أخذت تتشكل طبقة «الأوليغارشيين»، وغالبيتهم من اليهود، الذين استولوا على ثروات روسيا الطبيعية، واشتروا الممتلكات العامة «بثمن التراب«.
وإلى هنا ينتهي سرد سولجنتسين الذي لم يتناول اعتلاء بوتين سدة السلطة سنة 2000، وبدءه معركته، التي لا تنتهي مع اللوبي اليهودي الجبار والتي تتكلل بالنصر أحياناً وتُمنى بالفشل أحياناً أخرى.