يرى الناقد المصري أن تناول العلاقة أو المفارقة بين الشرق والغرب، قد تبدو عقلانية وتبتعد –نسبيا- عن الإبداع، إلا أن الكاتب استطاع توليد تلك العلاقة الكاشفة من خلال الأحداث والشخصيات، دون أن يشعر القارئ بأن شيئا دخيلا على العمل، بمعني القدرة على تضفير تلك المقارنات في نسيج العمل.

أمير تاج السر.. يحرث «أرض السودان»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

علي عكس تلك الرؤية التي حمّلها "الطيب صالح- أحد علامات الرواية العربية- عامة، والسودانية خاصة، بطل روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلي الشمال" "مصطفي سعيد"- الصادرة في العام 1966- وما حَمَلَه من حقد ورغبة في الانتقام. جاءت رواية "أرض السودان" (الصادرة في العام 2012) ، برؤية مغايرة، إن لم تكن مناقضة، لرؤية الطيب صالح. والتي ربما لعب الزمن، والتاريخ دورا في تشكيل تلك الرؤية، التي، وإن تنصل منها الكاتب في نهاية الرواية، إلا ان ذلك التنصل، لا يغير من الأمر الكثير. حيث ذهب "مصطفي سعيد" إلي أرض الإنجليز المحتلين، لينتقم من نسائها –خاصة- حيث يمثل ركوب الرجل للمرأة علوا، في الثقافة العربية، يأتي الإنجليزي "جلبرت أُسمان" أو "عثمان" فيما تمت تسميته فيما بعد، في، وإلي "أرض السودان"، لا لينتقم، ولكن ليصلح فيها، ويرفع الظلم، ويحرر العبيد. وإن أقر بما يفعله المستعمر في تلك الأراضي ... ولا يرضاه.

وإذا كانت "موسم الهجرة إلي الشمال" تُعد واحدة من تلك الروايات –العديدة- التي تناولت الخلاف، والاختلاف، بين الشرق والغرب، فها هي –أيضا- "أرض السودان"[1] تسوق لنا طرفا من تلك المقابلة، التي تمنح حرية الحركة ل"جلبرت" في جانب الطرد –بلاده- في مقابل جانب الجذب، في الجانب الآخر، علي "أرض السودان"، لا لأن الجانبين علي هذه الصورة المباشرة، والتي يمكن أن تتنافي مع الواقع، إلا أنها تحقق تلك الخاصية الإنسانية التي تميز الإنسان علي الجانبين.

فعندما قرر "جلبرت" الرحيل نحو السودان، كان عليه أن يخبر كل من لديه من بشر في عائلتة، وهما فقط، والده وأخته الوحيدة، فلم يبدو عليهما أي إهتمام أو قلق {كان إحساسي ساعتها بأننا نعيش في مجتمع أناني مغلق برغم ادعائنا غير ذلك. لا احد يهتم بأحد، لا أب يسأل عن إيضاح، ولا أخت تبكي جنونا، وهي تسمع برحلة ربما يضيع فيها أخ وحيد.. كانت الصداقات في رأيي أقوي من القرابة، وما فعله رامي القرص والآخرون، كان أفضل كثيرا من ردود الأفعال داخل البيت}ص27.

بينما كانت الرؤية علي الجانب الآخر، قد بدأت معالمها تلوح علي سفينة الإقلاع نحو الأسكندرية، في رحلة السفر إلي أرض السودان، تطلب ملكة الجمال "سونيا أفرين" في مسابقتها علي السفينة أن يحدثهم عن مغامرته السفر إلي السودان، ولم تكن المغامرة قد تحققت علي أرض الواقع بعد. فحدثهم من خلال أبحاثه في الكتب، والتي منها الحديث عن مس أنطوني { تلك القابلة الإنجليزية التي ذهبت إلي أرض السودان كاملة الأنوثة، وعادت بموروث شبقي غاية في التخلف، والشيخ المنادي، ذلك الولي الصالح في عرف أهل السودان، الذي يخرج من قبره في مواسم الجفاف، ينادي السحاب المسافر، فيتوقف لندائه، ويستحيل مطرا غزيرا، أو حياة السادة الرجال في تلك البلاد، ومتعتهم بامتلاك نساء بلا حصر، يطلق عليهم السراري}ص36.

لذا لم تكن الرحلة، من الناحية النفسية، إلا تنفيس عن إقتلاع شجرة وحيدة في صحراء، وغرس اخري في غابة مشحونة بالغرائب، والمغامرة. وهو ما يتوافق مع ميل الرجل الغربي للاستكشاف والمغامرة والتجريب، مدفوعا بيقين الشك، بينما الرجل الشرقي، والعربي خاصة، يميل إلي يقين اليقين، فيسلم بالقائم، ويرفض التجريب والمغامرة.

ثم تأتي قصة تلك الفتاة "شرفية" التي ارتسمت في ذهن الجميع بأنها جنية في صورة إنسية، وتعامل معها الجميع من هذا المنطلق، حتي مثلت سطوة الفكرة فيما يمكن تسميته بديكتاتورية الخرافة. حيث يسأل السارد "مستكة" عن لغز "شرفية" ذلك الموضوع الذي يتضح أنه غير قابل للتداول أو المناقشة، وهو ما حوله الإنجليزي إلي لغز مؤرق لابد للبحث له عن تفسير، فلا تجيبه إلا بان يعاملها بأحسن معاملة، وأن يمنحها ظهره إن أرادت لتجلس عليه، فيدور التساؤل بداخله {لقد تعودت باستثناء هفوات نادرة، مثل عشقي للإسبانية "هيلينا سيلفا" وأغنية (أجبن من قطة) التي جرتني إلي هذه البلاد، أن أبدو متزنا إلي أقصي حد، لكن أن أمنحها ظهري لتجلس عليه، هذا ما جعلني أرتعب أكثر، وأبتئس أكثر.. كان طلبا لا يُمنح إلا لديكتاتور}ص111. غير ان روح المغامرة والتحدي، تدفع الإنجليزي إلي البحث وراء هذا اللغز، حتي تتكشف الأسطورة التي يعيشها أهل السودان، بعد مغامرة للإنجليزي تَتبعها فيها ، دون أن تدري- في ظلام ليلة الخميس. ولتتكشف له عن، لا أسطورة هناك في غير عقول الناس ووجدانهم فهي{قصة فتاة لولا إصراري وفضولي الغريب واستعدادي أن أموت في ليلة معتمة بلا ضوء، لظلت هكذا، نفس القصة الروتينية، الحالية المعيشة، والمستقبلية التي ستروي لأجيال عديدة تأتي بعد غروب الحكاية. لا جنية ولا خرافة، ولا أي اعتقاد آخر متأصل في عقول أولئك الذين عرفوا "شرفية" رضيعة ملقاة في الخرائب المرعبة، تحت شجرة ليمون عتيقة، وفتاة عشقت السكني في تلك الخرائب بعد ذلك، وعشقت سيرتها الشخصية المرعبة التي تعلم تماما أنها علي كل لسان، ولم تسع أبدا إلي تغييرها. اعتبرتها أداة تمييز سلس، تتيح لها الحياة كما تريد، وعكاز حماية لها من شرور الدنيا، إلي مالانهاية. مجرد فتاة هائمة مشردة}ص126. فلم تكن "شرفية" سوي تلك الهمجية غريبة السلوك، التي تمص الليمون في عيد الخميس بقلة إكتراث، وشعرها الذي يحاكي شعر الصبيان. وقد ساعدت تلك الصورة، غير المألوفة، لأن تنطبع عنها تلك الصورة التي يترجمها "عبد الرجال"{ إنها ليست بشرا يا عثمان.. هي من الجن الذين يظهرون في هيئة البشر، ويكثرون في هذه البلاد. صدقني .. إنها الحقيقة}ص108. ويُعمل فيها "عثمان" تجاربه التي تحولها من جنية لإنسية، وليسميها بعد ذلك "شريفة عائد"، إشارة إلي عودتها للحياة. فنحن إذا أمام رحلة تنويرية لصورة مختلفة من الإنجليز – المحتلين – تغاير رحلة "مصطفي سعيد – الذي لم ير في الإنجليز، إلا المحتل الغاصب.

مستكة وشرفية
كانت توصية مستر "هارولد سامسون" الذي ذهب إليه "ألبيرت" بحثا عن إضاءة لطريق المغامرة التي انتواها، حيث مكث في الخرطوم عاصمة أرض السودان عشر سنوات، يمارس فيها عمله المتمثل في مقاومة الرق في إفريقيا، علي الرغم مما أشيع حوله بأنه يتاجر في الرق، إلا ان توصيته للسارد بأن يتوجه أولا إلي نُزل "مستكة" في العاصمة الخرطوم، ثم ينطلق بعد ذلك في مغامرته في البلاد، كانت بمثابة الإشارة إلي المركز، الذي يتجمع فيه الكثير من الجنسيات المختلفة، فضلا عن ذلك الحفل الإسبوعي الذي يتم مساء الخميس في النُزل، وكان بمثابة تجمع للعديد من النماذج التي تعرف عليها "ألبرت"، ومن بينها كانت "شرفية" بهيأتها البدائية، قصيرة الشعر وغريبة المنظر والجوهر، وهو ما لفت انتباه "ألبرت" وأثارت في نفسه روح المغامرة، وروح الاستكشاف، فبدأ بالسؤال لكل من يمكن أن يعرف شيئا عن تلك ال"شرفية"، ومنهم بالطبع "مستكة" التي حثته علي ضرورة الاستسلام لها. وكذلك "عبد الرجال" الذي يعمل في النُزل، من سنين طويلة، الذي عرَّفها بأنها {من الجن الذي يظهر في هيئة بشر} حيث اصطحبه إلي حجرته (الزاجل) وتأكد من أن أحدا لا يسمعه {وكدت أضحك، لا أحد بمستوي ثقافتي التي أعتقد جازما بأنها ثقافة مميزة، يمكن أن يصدق مثل تلك الحكاية، التي ربما تُصدقها العجوز سكر، في بلدة مثل وادي حلفا، أو أولئك الذين يثرثرون علي دكان الطين أمام البيوت أو يسيرون في الشوارع بلا أفق، أو يتجمعون في السوق، ويدفعون ملاليمهم القليلة ليستمعوا إلي تخريف المعمر عسكر عن مغامرات لا توجد إلي في خياله العجوز}ص118.

غير أن الإجابات، إن كان ثمة إجابات، لم تمنحه إلا المزيد من الغموض، ورغبة الكشف. فبدأت رحلته حول كشف ذلك الغموض، الذي جعل من "شرفية" جنية في صورة إنسية { أي سر تحمله تلك الفتاة؟ سأكون أتفه مغامر لو لم أكتشفه.. أقسم أن أروض شرفية تلك ، أحولها إلي سيرة عذبة لا تستوجب هذا الرعب كله، ولا تجبر رحالة متمكنا في الأرض مثل وليام بارتليت، أن ينحني أمامها بكل تلك البذاءة، لكن ذلك الزهو مالبثت حدته أن خفت، حين ظهور الفتاة في عيد الخميس التالي، ووجدت نفسي ألهث إلي يدها، وقد لفني الارتباك}ص115.

ويأخذ جلبرت أو "أُسمان" طريقه في محاولات التعرف علي حقيقة "شرفية" ليكتشف أنها إنسية بائسة، بلا مستقبل، فيسعي لتحويلها إلي شخص جديد، ينجح في تغيير، ليس شكلها فقط، وإنما اسمها أيضا، ولتتكشف له حقيقة لم تكن تخطر علي بال أي من سكان النُزل، أو العاصمة، وهو، أن هناك ثمة تشابه بين "شرفية" المُحَولة، و"مستكة" {قلت وأنا أنظر إلي وجهها، أتامل سخط الملامح الجميل. كانت مستكة فذة في رونقها حتي وهي في قمة الهياج، وفي نفس الوقت لم أنس أن استدعاء وجه شرفية كما هي عادتي في الأشهر الأخيرة بعد أن حللت اللغز، أقارنه بوجهها للمرة العشرين، كان الوجهان شبه متطابقين} ص177.

ويصل الكاتب حد الإقرار بالعلاقة بين كل من "شرفية" و"مستكة" حين قرر الزواج من "شرفية" وأوكل أمر تجهيز "شرفية" للعرس {أوكلت الأمر إلي مستكة، واحس بسعادتها أنها تقدم شيئا، وقد عادت أكثر سلاسة من أيام معرفتها الأولي، وكان أن فترت علاقاتي بها في فترة من الفترات، حين واجهتها بحقيقة أنها أم "شرفية"، وما زلت أؤكد حتي الآن، أنها أمها، ولا يمكن أن يتقارب وجهان هكذا في الملامح، بلا صلة رحم، ولا يمكن أن تقوم بكل ما قامت به من أجل الفتاة، حين لم تعد لغزا، ما لم تكن قد عانت في حملها، وولادتها}ص198.

غير أن "عثمان الإنجليزي" لم يكن قد تفرغ فقط لتحويل "شرفية" من صورتها القديمة، إلي الصورة الجديدة، لكن هناك مجموعة من التغيرات التي أحدثها في تلك البيئة، مثل "عبد الرجال" العبد المملوكي، الذي يعمل في نُزل "مستكة"، يكشف الخياط الألماني "فاير هاينريش"، الذي خبر الحياة في أرض السودان قبل ان يطأها الإنجليزي، يكشف جانبا من صعوبة تحويله في هذه البلاد من عبد إلي حر، كاشفا عن الكثير من رؤية هذه البلاد وطبائعها، وأن هذا ليس بالأمر السهل، حيث {ستُسأل عن نسبه، والمماليك بلا نسب معروف، ويمكن أن يكونوا ثمار علاقات سرية جرت بين أمهاتهم وأسيادهن، أو بين أمهاتهم ورقيق آخرين، وفي الغالب أو هذا هو الشئ المعروف، إن الأسياد لا يعترفون بنسبهم، ستُسأل أيضا عن الأسباب التي تدعوك لتحريره، وتقول إنها إنسانية بحتة، لاتوجد مثل هذه الفقرة في عرف البلاد أيها الشاب.. أكبر إنسانية تمنح لمملوك، هي أن يواري الثري حين يموت، ويكون محظوظا جدا لو عثر علي امرأة تنوح علي فقده. ستُسأل عن صنعته حين يتحرر، وتقول سيخدم في بيت أو سوق أو نُزل، وسيقولون مادام خادما فليظل خادما إلي الأبد}ص186. هو أيضا أحد من أخرجهم من حياتهم، التي يُطعمون فيها، ويُسقون، وهو غاية المراد، إلي الحياة الحقيقية. فقد سعي لدي "مستكة" صاحبة النُزل، لشرائه منها، بعد أن تعرف علي الكثير من معاناته، إلي أن وافقت، كاشفا عن تلك المآساة التي يعيشها فيما أوضحته "مستكة" حين راح يحدثها عن عملية الشراء {لم أفكر في مسألة الحرية تلك يا عثمان، ولم يخبرني أي مملوك أشتريه من قبل، أو أبيعه، أو استبدله بنعجة، أنني قاسية وأستعبده.. هذا ما أفهمه عن الخدم.. تناديهم فيأتون سريعا، تأمرهم أن يحملوا الجبال علي ظهورهم، فيحملوها، تجلدهم بالسياط، فينحنون أكثر. وما علينا إلا إطعامهم وكسوتهم، وتدبير فراش يبيتون عليه، هل كنتُ مخطئة؟}ص179. فلم يكن أمام تلك الموانع، إلا ان يكتفي "أُثمان" بعتق "عبد الرجال" أمام شهود، دون أن يوثق تلك العملية، بعد أن غير اسمه أيضا، من "عبد الرجال زافو" إلي "عبد الواحد"، بعد أن اقنعه بأن الإنسان ليس عبد إلا لله الواحد فقط، ولا يجب أن يكون عبدا لغيره.

ويواصل "عثمان الإنجليزي" ثوراته التحريرية، بوقوفه إلي جانب "فردوسة" الصعيدية المصرية، زوجة الجلف "جبريل الرحال"، والذي لم تشهد معه معاملة أفضل من معاملة العبيد، بل الدواب، إلي أن انتهزت الفرصة، وألقت به في البئر، وإعترفت أمام "عثمان، و"مستكة" بفعلتها، وأنها تريد العودة إلي أهلها، فوقفا إلي جانبها وساعدها في الخروج، والعودة، ليري هو نفسه بعدها أنه {بعد تحررها العظيم، الذي هو أشبه بتحرر "شرفية"، وعبد الرجال ورقيون}ص195. حيث كان قد حرر العبدة "رقيون" التي تعمل في منزله، بعد أن لم يكن أمامه وسيلة لتأجير من تعمل ، إلا بالشراء. إلي جانب تجميعه للشباب، وتعليمهم لعبة كرة القدم، التي لم يكونوا يعرفونها، وكذلك استحداث عمل الزينة ل(جمل) العروس في الزفاف، وكانه مبعوث التنوير إلي أرض السودان.

ويواصل الرجل مجهوداته في التحرير، فيرفض حتي ذلك الرمز المتمثل في ذلك الطقس الذي درج أهل البلاد علي اتباعه، حتي صديقه "سيف القبيلة" ذلك الرجل الذي يتمتع بالهيبة، خضع له عن حب وقناعة، حفل زواج حضره. فحين زواج "عثمان" من "شرفية" كان عليه أن يتبع ذلك التقليد المتبع في الأفراح، أن يعري بعض الرجال ظهورهم، ويسيطهم العريس بسوطه، إلا أنه لم يفعل {فوجئت، عَري رجلان لا أعرفهما، ظهريهما ودخلا ساحة الرقص، إنحنيا أمامي. كان بيدي سوط جلد الثور المكمل لأناقة العرس.. ولم أكن أنوي استخدامه في جلد أحد، لم أكن مهما فعلت وعشت واحتككت وأسلمت وتغيرت حياتي، أملك صلاحية استخدام ذلك الطقس، حتي لو كان ذلك في عرسي. هنا مئة علامة استفهام كبيرة ستقف ربما في أذهان كثيرين لم يتذوقوني بعد، أو لايريدون تذوقي أبدا، وهو أمر وارد. أن يعتبر جلدي لعراة الظهور، تصرفا استعماريا لا أريده ولم أرده في يوم من الأيام}ص203.

وكإحساس إنساني بحت، يدافع عن تجربته التي أراد لها النجاح، بالطبع. فقد كان الخياط "فاير هاينريش" أحد حضور حفل الخميس الإسبوعي الذي تقيمه "مستكة في النزل، وتعجب الإنجليزي من تقدمه نحو "شرفية" التي كانت بصورتها القديمة حاضرة بكل (الهالة) حولها، وقَبْلَ يدها. فذهب إليه بعد الحفل يسأله عن "شرفية" لعله يصل لحقيقتها، في مسار البحث عن لغزها، وكان الإنجليزي قد فعل نفس الفعلة، الأمر الذي جعل الألماني يسأله عن سبب ذلك، فيجيبه الإنجليزي: وانت .. ألا تتودد لها؟ وليثور غضب الألماني { اسمع.. أنا صاحب صنعة، ولا اتودد إلا لهذه الماكينة.. وصانعها العظيم "اسحق سنجر" .. شرفية وغيرها من الذين لا يحلمون بأن يرتدوا ما أصنعه، لا أحفل بهم .. في الواقع أزدريهم}ص114. ولتكشف الواقعة عن فروق الرؤية بين رؤية التقديس للخرافة في البلاد المحلية، ورؤيتها ، الازدرائية" من قبل بلاد النور، كألمانيا. ولتكشف أيضا، كيف استسلم "عثمان" لمحاولة مسايرة الحياة في السودان.

غير أن السارد الإنجليزي، الذي وطد نفسه أن يتعايش مع الطبيعة التي جاء يبحث فيها عن المغامرة والاستكشاف، يبرر ثورة الألماني ب { لم أجد أي مبرر لكل ذلك الانفعال. وذلك الازدراء الذي اطلقه تجاه مواطنين، غزا بلادهم ويعيش فيها ناعما وثريا، لم يعجبني مطلقا، أحسست أن ""فاير هاينريش" مرتعب هو الآخر، ويحاول أن يغطي الرعب بتلك الثورة غير المبررة}ص114. إذن فقد عاش "ألبرت" أو "عثمان" تجربة يخشي ضياعها أو التقليل منها.

غير ان النهاية تأتي بالكثير من الغموض، والكثير من فرص التأويل، علي رأسها، هل كان ما يعيشه "جلبرت" حلما، أم أن الواقع هو الحلم، يستحيل معه التغيير، ويظل كل تلك أماني عاشها (الإنجليزي)، لأرض ليست أرضه، وبلاد ليست بلاده؟،

فبعد أن تم الفرح، وتم زفاف العروس إلي عريسها، وناما في بيته الذي استأجره، ليستيقظ عند الساعة الواحدة، نصف يقظة، نصف نوم {لا أدري كم دقيقة أو ساعة نمت بعد تلك السهرة الذهبية، التي امتدت حتي الواحدة بعد منتصف الليل. كانت في أنفي رائحة غريبة، رائحة عطن، رائحة أوساخ، رائحة جرذ ميت، مختلطة برائحة ليمون حامض، فتحت عيني في بطء وتوقفت في المسافة بين أن أفتحهما حتي النهاية، أو أُغلقهما إلي الأبد. كنت أرقد عاريا في أرض قذرة، داخل عشة من الصفيح، ثمة جرذان ميتة، وطيور سوداء محطمة الأعناق .... }ص205، وهي الصورة التي كانت تعيشها "شرفية" قبل أن يحدث التغيير وتصبح "شريفة عائد".

ليتوارد علي الفور فكرة أسطورة "بجماليون" التي صورها الشاعر الروماني "أوفيد" والتي صور فيها النحات بجماليون، ذلك الذي كان يكره النساء، إلا أنه صنع تمثالا من العاج لامرأة جميلة "جلاتيا"، لا يلبث أن يقع في غرامها، ثم دعا الإلهة فينوس أن تحياها، فاستجابت لدعوته، وليتزوجها، بل ولينجب منها ابنتهما "بافوس". فهل لم تكن "شرفية" إلا ذلك العاج الذي تحول بفعله إلي "شريفة عائد" التي وقع "جلبيرت" في غرامها، ولم تكن القصة كلها إلا وحي خيال شاعر، حتي لو لم يكن شاعرا؟. إلي جانب ذلك التشابه الكبير- والذي بالتأكيد لم يسقه الكاتب عفوا- بين كل من "مستكة" و ""شريفة عائد" والذي لم تتضح معالمه إلا بعد التغيير الذي أحدثه "عثمان"، الأمر الذي يقودنا للنظر إلي أنهما ليسا إلا شخصا واحدا، في مرحلتين من زمن أرض السودان. خاصة إذا ما تأملنا ذلك الحرث الذي حرثه - الكاتب – لتلك الأرض مبينا ما كانت عليه السودان من جهل وتخلف.فإلي جانب رحلة الجِمال الشاقة التي قطعها السارد في القافلة التي كان واحدا منها، من حلفا إلي الخرطوم، وتلك الأهوال التي تكتنف تلك الرحلة {كنت في بلدة جرداء بكل ما تعني تلك الكلمة من شلل وإرهاق، وتلف وبوار، تعانق النيل وتبدو في هيئة واحدة من أعرق الصحاري عطشا، كانت البيوت متداخلة بلا تناسق، بيوت من الطين والروث، والخشب الذي شققه الجفاف المسيطر}ص47. إلي جانب سيطرة الخرافة التي عشنا تفاصيلها مع "شرفية"، وقبل بدء رحلة القافلة إلي الخرطوم تأتي امرأة في نحو الثمانين من عمرها { إنها (السُرة عجب) التي تقرأ حظ القوافل منذ خمسين عاما، ولا تتحرك قافلة من هنا، حتي تقول : أبشروا، ويعني هذا ، أن السفر آمن..}ص56. فضلا عن تلك الإشارة السابق التويه عنها، من أستاذه بأن يقصد نُزل "مستكة" في البداية، كمرمز ومركز، مثلما كانت منطقة وسط القاهرة أرض الأحداث في الكثير من الروايات المصرية قبيل الخامس والعشرين من يناير 2011، كمركز ورمز، يشير إلي السلطة العليا التي تتمحور في تلك المنطقة.

نجد –كذلك- العبودية والرق الذي كان "سامسون" أحد قوافلها التي تحاربه في إفريقيا، وعشناه بالدرجة الأولي مع "عبد الرجال" الذي يحمل الإسم نفسه، مدي العبودية، للحد الذي معه يقول السارد، الآتي من الدولة المستعمِرة {بالنسبة لي لم أكن أجد فرقا في مسألة الاستعباد تلك، بين مملوك وحر من أهل البلاد، كانوا جميعا تحت نفس النظرة المستعلية التي يرمقهم بها المستعمرون}ص112.

{وشاهدت مزيدا من الفقراء يُجلدون بسياط إنجليزية قاسية في وسط السوق، بسبب سرقات الفقر التي لا تتعدي حبة طماطم، أو قطعة صغيرة من قصب السكر}ص112.

كل مظاهر التخلف تلك، وغيرها كثير، هو ما يجعل الكاتب، كأحد مثقفي تلك البلاد، ومن يعيشون الواقع، فضلا عن أنها وظيفة المبدع قبل أي شئ، هو من يحلم بتغيير ذلك الواقع، والبحث عن "المدينة الفاضلة"، لا أن يأتي الحلم علي أنه لذلك الإنجليزي المستعمِر، حتي لو كان علي خلاف مع ما يفعله المستعمر من عبودية وظلم، ونهب للبلاد. خاصة وأننا راينا الكاتب يظهر- وإن كان بلسان الإنجليزي أيضا- بعد أن اكتشف حقيقة وتاريخ "شرفية خشيَّ ألا تصل رسالته، قادته إلي توضيح مالا يحتاج لتوضيح، فيستمر، فيما يشبه التقرير، فيُنطق السارد بما كان إخفاؤه أفضل، وان يترك ذلك للقارئ، حيث يُمنطق الأشياء {الاستنتاج المنطقي هنا، هو ترديد الخرافة حتي تصبح حقيقة لاتحمل الشك. مادام الكل اتفقوا علي فتاة وجُدت في الخرائب وعاشت فيها حتي نضجت، فهي من الجن، ومادامت الفتاة نفسها واعية، ولم تسع لتثبت أهليتها كإنس، فهي جن. كنت متأكدا أن آلاف الحكايات صيغت عنها في همس، وتستعد تلك الحكايات لتدخل الموروث الشعبي، وتروي لأجيال قادمة، لكني لن أترك ذلك يحدث}ص131. إلي جانب أن الكاتب تدخل بنفسه، دون أن يكون ذلك تقريريا، في روايته المسماة "366"[2] حين حديث السارد – والذي استعار لنفسه اسم "المرحوم". مُقرا بأنه ليس اسمه الفعلي- وبما يعنيه من تحويل صورة الحروف من التعريف إلي الوصف- فيكتب لها كعاشق" لمعشوقته "أسماء"، الساكنة حي "البستان" بما يحمله اسم الحي أيضا من رمزية، وتلك الإشارة بين حيه الذي يسكنه "حي المساكن"، أو الحي الشعبي، وما يعيش فيه (كَميتٍ) ، فراح يناجيها، بما يكشف عن تلك الرؤية الحالمة {ومنذ أن انتبهت فجأة ذات يوم إلي أن المدينة قد شاخت، وذبلت، وانكسر قوامها، وأنا رمزيا علي الورق، انتقم لها من حي تكدس وسطها، ورهله، ,أزيله، من حي نما في ابطها، وحين أعرج علي حي الصهاريج، حيث الخمارات، وبنات الهوي التعسات، وتجارة البانجو والحشيش المخدر، أضغط علي ممحاتي بشدة، وأعيد رسم بيوت فاضلة، ولأن حي المساكن، لم يكن سوي درن آخر من تلك الأدران الكثيرة، فقد أزلته عشرات المرات، وأنْبَتُ مكانه حديقة، اضفت إليها كثيرا من الطيور والأزهار، وأنّات العشاق}ص29. فالحالم هنا بالتغيي، ابن البلد الذي يعيش المعاناة، لا الأجنبي الذي من المفترض أنه يمثل الدولة المستعمِرة.

ويكرر في موضع آخر، بعد ذكر المزيد من المعاناة، التي يحلم بتغييرها في الأحياء التي تمثل البلاد {تذكرتها ليس بثيابها القديمة، ولكن بثياب جديدة، عذبني يقين غريب أنني أستطيع أن ألبسها لها}ص37.

كما أننا سنجد حرث الأرض، وكشف ما تحت السطح من عطن في، "366" أيضا، حين يذكر للحبيبة المجهولة، وكانه يخاطب الصورة النموذجية الرابضة في الأعماق، والتي يريد تغيير الصورة إليها {سنوات طويلة مرت علي إنشاء حي المساكن ، وتوريثه للأجيال اللاحقة، والذي كانت تعج شوارعه بالظلام، لغياب الكهرباء، أو المنقطعة باستمرار، ولا تعود إلا لماما، الموجودة في الأحياء البعيدة ، لم يخرج من أي زقاق أو فتحة من فتحاته الضيقة، مواطن يمكن تصنيفه لامعا، باستثناء بائعة الهوي "نجمية" ، ولاعب الكرة "درشة" الذي اختطفته الأضواء العاصمية {و"طلحة رضوان" الذي تعلق بتجارة العملة، وعُين فيما بعد وزيرا للتخطيط في حكومة شكلها أحد تجار العملة العاصميين الكبار، وضمت وزراء معطمهم ناشطين في ذلك المجال. و"زهور الإثيوبية" التي كانت تلقب بملكة جمال الليل في محيط مرتادي حي الصهاريج.و "محبوبة" التي كانت تفاخر بأنها أدت فريضة الحج، عدة مرات}ص22.

كما سنجد أيضا، أفعال المخابرات- التي تعود بنا إلي رواية الكاتب "صائد اليرقات"- حين كان أخوه "بخاري" ناشطا في حزب البعث الاشتراكي، واختفي بعد حملة أمنية لمطاردة الناشطين اليساريين. ولم يتم العثور عليه ، حيا أو ميتا. وهو ما يعكس رؤية الكاتب ومنهجه في محاولة حرث أرض السودان، والإلحاح عليها في أكثر من عمل.

التقنية الروائية
كما برع الكاتب في استخدام لغة التشويق، المحملة علي لغة راقية وموحية. كذلك نجح في خلق شخصية المغامر الإنجليزي "عثمان الإنجليزي" شخصية حية، حين فجر داخلها البشري، وليخرجها بعيدا عن النموذج الرمزي، حيث وصف ذلك الرعب الذي لازمه في أكبر مغامرة واجهها، لا في السودان فقط، وإنما في حياتها كلها، بينما راح في الظلام يتابع أثر "شرفية" ورغم إحتمال صدق المقولات حولها بأنها جنية في صورة إنسية. وكذلك مواجهة المطبات والبرك في الطريق إلي الخرابة التي تسكنها "شرفية" {وأضحك من نفسي، كيف تناسيت ثقافتي وتحضري وفلسفتي في الحياة، وارتعبت بهذه الدرجة} لينفجر عمق التجربة الإنسانية، وتناقضات الإنسان، مهما بلغ تحضره، وثقافته. وليستمر الكشف عن تيه ما يعيشه الشرقي من تزييف {وتجتاحني فجأة لحظة عطف غريبة وكبيرة تجاه تلك الفتاة التي عاشت حتي بلغت العشرين ولم يسأل أحد نفسه أبدا، كيف عاشت؟ حتي القساوسة المبشرين، ورجال الدين المسلمين، والمتصوفة الذين يملأون البلاد ضجيجا، ويُحْيون الليالي الذاكرة، لم يسألوا أنفسهم. مستكة الأسطورة، لم تسأل برغم سعة أفقها. وأولئك الذين كتبوا علي الحوائط تلك العبارات المريعة عن سقوط الملكة وخيانة المصريين، كيف يحلمون بطرد سيطرة استعمارية بهذه الخطورة، ولا يفكرون في معرفة ظروف فتاة بلا مستقبل}ص131. وكأني بالكاتب يقول (كيف يفكرون في طرد مستعمر خارجي، ولا يفكرون في طرد مستعمر داخلي) يتمثل في الخرافة، والاستسلام للسائد مهما كان غباؤه وسذاجته وسطحيته؟.

ويكشف الكاتب مكر بعض المستعمرين للتقرب إلي أصحاب الأرض، وكأني به يستحضر تجربة القائد الفرنسي "جاك فرنسوا مينو" او عبد الله جاك مينو- كما سمي نفسه فيما بعد - ليتزوج من المسلمة "زبيدة"، و الذي تولي قيادة الحملة الفرنسية علي مصر (1798- 1801) بعد مقتل "كليبر" علي يد سليمان الحلبي، واعلن إسلامة في العام 1801. فها هو عثمان الإنجليزي يقول: { اسمي الآن عثمان زمزمي. الإسم الأول هو المرادف العربي لإسم عائلتي.. أوسمان، والثاني علي اسم ذلك البئر الحجازي المبارك الذي شرب منه الأنبياء والرسل، وغسلت به الأدران، وتغسل إلي يومنا هذا، اخترته بعناية من بين عدة أسماء أخري موحية، عرضت عليَّ، من بينها أسماء أنبياء، ومتصوفة وتجار معروفين}ص183.

كما يمكن قراءة تلك النهاية، الغير متوقعة، علي أنها إشارة إلي استمرار الوضع علي ما هو عليه من التخلف، والأوضاع غير السوية. رغم أن هناك بعض المقاومة، وإن كانت علي استحياء، لمحاولة الخروج من تلك الحالة، مُتَمثلة في تلك اللافتات، الاحتجاجية، والداعية للثورة، مثل {تسقط فيكتوريا الملكة..... لا للسوط والقبعة....... المصريون خونة ........ نحن سادة بلادنا}ص110. ويستطرد السارد "عثمان الإنجليزي: { واستنتجت أنها مقاومة مسكينة ربما يقودها بعض المحليين المتعلمين، ويطمحون أن تصبح نواة لثورة ضد الحكم الإنجليزي المصري، لكنها لن تتعدي في رأيي، تلك الحيطان المتآكلة، ولا يملك الشعب أي خيار سوي البقاء مستعمرا}ص110.

وإذا ما أردنا أن نمد حبل التأويل علي امتداده، فسوف ننطلق من تلك العبارة التي تذكرها "عثمان" في ليل العرس، وبعد ان انفض الجميع إلا من العريس وعروسه، حيث تذكر السارد المثل الشعبي السوداني القائل (الموت في وسط الجماعة عرس)ص201. لنرجع بها إلي البداية، حيث شعر السارد بفتور، او لا مبالاة كل من والده وأخته الوحيدة، بعد غياب الأم، وما يعني شعور السارد بغياب الألفة، او الإحساس بالأسرة، الذي ترسخ في أعماقه، فراح يبحث عنها ويتخيلها، في تلك البلاد، التي تحتفي بالأسرة، فضلا عن تحقيقه للتحدي الذي دخله، أيضا – في البداية، مع صديقه الحميم "بيتر مادوك" الشهير برامي القرص، الذي ثار عليه في ليلة إجتمعوا فيها إحتفالا بخروجه – رامي القرص - من السجن. دار النقاش بينهما، حتي نطق "جلبرت" منفعلا في وجه صديقه {انت جبان يا رامي القرص. اجبن من قطة. لو كنت رجلا لذهبت وعشت المغامرة حتي النهاية}، خاصة وأنه أشار في موضع آخر إلي أن تلك الحادثة هي ما كانت السبب في القيام بتلك المغامرة. ليرد عليه رامي القرص {إذهب أنت .. إذهب أيها البطل.. أيها القائد .. أيها المخنث}ص11. وليستثير ذلك التحدي في ظل رؤيته {لقد راقتني البلاد رغم بدائيتها، واكتشفت أن صناعة الشخصية تكمن في الوعورة، لا في رغد العيش}ص117. ولنكتشف قدرة الكاتب علي الربط بين الأعماق الداخلية وما ترسب فيها، وبين الواقع، وإصراره علي صناعة الواقع، مثلما حاول الرجل صناعة حياته داخل تلك الوعورة، وذلك التخلف، متغلبا عليها، بإشهار إسلامه، ومشاركة "سيف القبيلة" – صديقة الذي تعرف عليه في رحلة القافلة من وادي حلفا إلي الخرطوم - في بعض أنواع التجارة (الجمال والخراف). {لقد علمني سيف القبيلة، من أين تؤكل الكتف في سوق الشمس، وأزعم أنني أجدت أكلها، لم أعد منغرسا في سوق الدواب والأغنام فقط، ولكن امتد نشاطي إلي سلع تجارية أخري، مثل وسائد القطن، والحراير المستوردة التي أشتريها من تجار القوافل مباشرة، وأبيعها بعد ذلك بسعر أغلي وأوشكت أن أصبح مثل "فضلي الدباغ"، فقط لم يكن لي علم بالتطبيب، وتوليد النساء}ص180. الأمر الذي معه يمكن القول بأن امير تاج السر، قد وفق كثيرا في صناعة تلك الشخصية الحية، النابضة، المزروعة في أرض غير الأرض، إلا انها قد أثمرت، بحسن الوعي والفهم الصحيح، وكيفية التعامل مع البيئة المحيطة.

الشرق والغرب

علي الرغم من أن تناول العلاقة، أو المفارقة بين الشرق والغرب، قد تبدو عقلانية وتبتعد –نسبيا- عن الإبداع، إلا أن الكاتب استطاع توليد تلك العلاقة الكاشفة، من خلال الأحداث والشخصيات، دون أن يشعر القارئ بأن شيئا دخيلا علي العمل، بمعني القدرة علي تضفير تلك المقارنات في نسيج العمل.

فإذا ما تأملنا طبيعة شخصية "جلبرت" ومحاولته، أو سعيه للتعايش مع البيئة، مستغلا طبيعتها وظروفها- وهو النهج الاستعماري، مثلما أوضحنا سابقا- فوجد خاصية إمتهان الشخص لأكثر من مهنة، حتي لو لم يكن مؤهلا لها، وهو ما يكشف عمق تجربة الحياة في كل من الشرق، المعتمد علي (الفهلوة) ، والغرب القائم علي العلم التخصص. فحين قرر "جلبرت" عدم الاستسلام، أو التسليم، والاستمرار في التجربة حتي النهاية، رغم قرب نفاد أمواله، يحدث نفسه {سأعثر علي صنعة تلائم خبراتي أو لا تلائمها، هذا غير مهم. مادام النجار الأيرلندي، قد اصبح مسؤولا كبيرا في مشروع خط السكة الحديد. والحداد الألماني يُعَيِن شاغلي الإدارة الأهلية. وتاجر الأقمشة الذي يساوم المشترين في السوق، طبيبا يثق في طبه الناس. قطعا سيصبح محصل الضرائب ذا وظيفة مرموقة في هذه البلاد، وقد تلاعبت في ذهني عدة مهن في تلك اللحظة، منها مهنة والدي العتيقة، ان اتاجر في الورد وأشجار الزينة، وكان تفكيرا فجا، لأن تجارة كهذه لا يمكن أن تورق في بلاد مثل أرض السودان}ص117.

ونعلم كيف يستعد الغربي لرحلة إستكشافية، أو مغامرة في بلاد لا يعرفها، يسعي للمكتبة بحثا عن المعلومة، والمعرفة، التي يتسلح بها في رحلته. فنراه وقد زار المكتبة، لأكثر من مرة، وقرأ أكثر من كتاب، حول السودان، وتتلمذ علي يد "مستر سامسون" الذي خبر الحياة الإفريقية عامة، والسودانية خاصة، ليتسلح بها في خوض تجربته، والإصرار علي نجاحها، كاشفا في ذات الآن، تلك الفروق الجوهرية في التعامل مع الحياة، فيتحدث عن الكتب التي قرأها، تمهيدا للرحلة:

{ وثالث عنصري بلا جدال، يحكي عن نظم الإدارة في إفريقيا، وكيف أن بستانيا بلا مخ في واحدة من حدائق لندن المهملة، يمكنه أن يدير شؤون الزراعة وري المحاصيل، في بلد شاسع من تلك البلاد الغبية} ص16.

وهو كذلك يُعلن إسلامه، ويتقرب من الصوفيين، رغم اختلافه مع الكثير من عاداتهم، أو تصرفاتهم، فيستسلم لشروطهم، وتقاليدهم في الزواج، ويتولون هم عملية إسلامه، وإتمام زواجه، كاشفا عن سطوتهم – المحدودة، والمقيدة من قبل الحكام الأجانب، وكاشفا عن تعاملات الدول الإسلامية عامة مع تلك الرؤية التي تتضمن الاحتواء للمصلحة {كان مشايخ الطرق الصوفية في تلك الأيام ذوي سطوة غير اعتيادية، ولهم نفس سطوة اساقفة الكنيسة في بلادنا، صحيح أنهم محكومين كباقي الشعب، مستَعَمرين كباقي الشعب، لكنهم حكومة ظل جبارة، توجه العقول كيف تشاء، بخلاف رجال الدين التقليديين الذين تعلموا في الأزهر، في مصر، وعادوا بأفكار صلدة وفتاوي معقدة، أبعدت عنهم الناس، وحولتهم أنفسهم إلي أهداف تطاردها الحكومة المستعمرة} ص155، 156.

الصوفيون {يحظون بمعاملة خاصة من الحكام الأجانب، بوصفهم يملكون وصفات التهدئة المطلوبة، حين يغضب الشعب}ص157.

تلك كانت رؤية السودان في نهايات القرن التاسع عشر، والتي يمكن للبعض أن يُرجعها لوجود المحتل، الخارجي، الإنجليزي المصري، حيث تشاركا في الحكم، وأن هذا الاستعمار هو ما ساعد علي وجود تلك الصورة البائسة. إلا اننا لو تابعنا رؤية أرض السودان، من خلال أعمال أمير تاج السر، فَعُدنا إلي روايته "صائد اليرقات"[3] السابقة في النشر (2010) واللاحقة في زمن الأحداث، علي الرغم من أن الكاتب لم يُشر في أي من روايتيه (صائد اليرقات و366) لزمن محدد، وربما جاء ذلك خوفا من تخصيص الزمن الذي يمكن أن يجر عليه الكثير من المشاكل، أو الإشارة إلي الاستمرارية الزمنية التي لا تستثني فترة من تلك المظاهر.علي عكس ما تمت الإشارة إليه، في أكثر من موضع من "أرض السودان" للتاريخ الذي يرجع لفترة المماليك والاستعمار الإنجليزي المشترك في الحكم مع مصر التي دفعها إليه الحكم العثماني (1885)، أي قبل 1 يناير 1956 – تاريخ إعلان الاستقلال السوداني ورفع علمه علي البلاد-.

حيث تتناول الشأن السوداني بعد ذلك بعديد السنوات، فسنجد أنه وإن كانت أرض السودان قد تحررت من الإستعمار الخارجي (الإنجليزي والمصري – وفق رؤية الكاتب)، إلا أنه لازال يعاني الاستعمار، الداخلي، المتمثل في سيطرة دولة المخابرات، وعُلّو صوتها وسطوتها علي صوت العقل والحرية، الذي يمثله طبقة المثقفين عامة، والمبدعين، خاصة.

فنعايش رجل المخابرات "عبد الله فرفار" أو "عبد الله حرفش" والذي كان في بداية حياته {المهنية، شابا وخشنا ومدربا علي استخراج خامات التآمر حتي من نسمات الهواء وأجنحة الذباب وابتسامات الشفاه حين تبتسم} ص14. الذي بُترت ساقه في إحدي المطاردات المخابراتية، فجاءته فكرة أن يكتب رواية. فكان عليه أن يذهب إلي مكتبة (أعلاف)، لصاحبها المسيحي (ر. م) {وكان صديقا بحكم مراقبتي الطويلة له مرة كتابا عن السحر} ص10.

ولنلحظ هنا اسم المكتبة، وما يعكسه من رؤية لعالم الكتب، حيث العلف هو غذاء المواشي. ويذهب إلي مقهي (قصر الجميز) التي تحظي بالوجوه { المشبوهة في نظرنا، ونظر تقاريرنا اليومية التي كنا نكتبها بمتعة غريبة. كانت في الواقع وجوها لكتاب يحتلون مواقع لامعة في الكتابة.} ص12. فيتتلمذ علي الكاتب المشهور (أ. ت). الذي راح يُنقح له روايته المزعومة، فيري أنها تقرير إخباري وليست رواية. غير أن ذلك الكاتب المشهور يختفي فجأة، يكون حينها قد تم استدعاء "فرفر، للعودة من جديد إلي الخدمة في المخابرات. فيسارع في إخفاء تلك الكتب التي كان قد اقتناها، ليصبح واحدا من مبدعي الروايات. وفي تلك الأثناء يأتيه هاتف باستدعائه (المخبر فرفر) أو مشروع الكاتب للعمل من جديد، متخصصا في مراقبة المبدعين .. وليأتيه الصوت عبر الجهاز ، ليرد عليه { تمام سيدي .. أنا في المستنقع .. أتخلص من البيض الفاسد.

رد الصوت : علم .. شكرا.

  • هو بيتي للأسف، وبدا لي في تلك اللحظة مستنقعا بالفعل، وكانت الكتب هي البيض الفاسد الذي أزيله وأكاد أبكي} ص141. وعند لقائه من جديد، بعد عودة (أ. ت) يخبره الأخير، بانه كان يكتب رواية جديدة، بطلها هو المخبر ذاته، غير أنه يعتذر بأنه قد أدخل فيها بعض الخيال، بأن جعل بطلها يعود للخدمة المخابراتية من جديد. لندخل أيضا في أكثر من تأويل لتلك النهاية، ولتصبح النهايات عند أمير تاج السر، نهايات تنفتح علي العديد من التأويلات. فهنا أيضا يختلط الواقع بالخيال، وليس لدينا اليقين، بايهما أسبق من الآخر؟ فهل كانت عودة "فرفر" للخدمة من جديد أسبق من رؤية الكاتب (الضمني) الاستشرافية، أم أنها قدرة الإبداع علي قراءة الواقع؟. أم أن بالواقع ما هو أكثر من الخيال؟. أم أن هناك فرق شاسع بين كتابة الإبداع، وكتابة التقارير؟.

كما يصور الكاتب تلك السطوة الممنوحة لرجل المخابرات، يتسيد بها علي كل باقي أفراد المجتمع، بإخراج باطن "فرفر" في إحدي المواقف التي تصور أنه لازال بالخدمة، بينما كان خارجها، مبرزا تعليمات الأمن التي تُلقن لرجل المخابرات {لا تشكر أحدا.. دعه يؤدي لك خدمة ويشكرك .. كنت أسمع الموظف يصيح من خلفي .. شكرا جنابك .. شكرا جزيلا علي التشريف. وللحظة أحسست بالغبن أنني خارج الخدمة المميزة، وأركض خلف الروائيين ومتعاطي الثقافة الذين كانوا حتي عهد قريب مجرد ملفات ركيكة تعج بها إدارتنا، وضيوفا غير كرام يبركون علي أيديهم وأرجلهم استجداء حين يؤخذون إلي دهاليزنا المظلمة} ص99. وهو ما يتطابق مع رؤية "أرض السودان"، وتحديدا علي لسان "جلبرت" الرحال {بالنسبة لي لم أكن أجد فرقا في مسألة الاستعباد تلك، بين مملوك وحر من أهل البلاد، كانوا جميعا تحت نفس النظرة المستعلية التي يرمقهم بها المستعمرون} ص112. وليحتل رجل المخابرات في "صائد اليرقات" محل المستعمر للبلاد في "أرض السودان".

ولم تكن تلك النهايات، هي ما يميز الكاتب في أعماله المختلفة، وإنما – أيضا- القدرة علي التعبير بالصيغ والتعبيرات التي تميز الأشخاص، والأحداث، فنستطيع أن نلمح الفارق بين "جلبرت" و " أُسمان الإنجليزي" أو بمعني آخر، التعبيرات والألفاظ عند الإنجليزي قبل أن يخوض التجربة، وبعدها، عندما أراد التقرب من السودانيين، ومحاولة التقرب من لغتهم، مثلما أوصاه أستاذه. وكذلك في تعاملاته مع الأجانب، عنها مع السوداني.

وفي "صائد اليرقات" حيث رأينا أن رواية داخل الرواية، أو رواية خارجية، يكتبها المخبر، وأخري يكتبها أستاذه اللامع المعروف، المخضرم، وقد استطاع الكاتب أن يفصل بين اللغة واستعمالاتها البدائية، والركيكة، ومباشرتها، في رواية المخبر، وتلك في الرواية (الداخلية) التي يكتبها المخضرم، برصانتها، وتعبيراتها الإيحائية.

بينما نجد اللغة تسامت كثيرا، وحفلت بالعديد من الصور، والأبعاد، في لغة العشق التي إنبنت عليها رواية "366".

فضلا عن أستخدام الرموز بديلا عن الأسماء الفعلية في "366" حيث تتحول الأماء، أو بمعني أدق، الأشخاص، لدي المخابرات، إلي مجرد رموز، أو أرقام، تُغيب هويتها، وإنسانيتها، في الوقت الذي أستخدم الإسم في التعبير عن الهوية، في "أرض السودان" وتبدله للتعبير عن التغيير في تلك الهوية (جلبرت- عثمان، وشرفية – شريفة، و عبد الرجال- عبد الواحد}.

وليؤكد أمير تاج السر، مواصلته في حرث أرض السودان وتقليبها، مستخدما اللغة المناسبة، التي تبدو للقارئ كما لو أنه يشاهد علي المسرح، ما تترجمه الكلمات، وكي، لا فقط تتعرض تلك الأرض للشمس والهواء، فربما أزال عطنها المخبوء تحت السطح، ولكنه أيضا يحرث الإنسان السوداني العربي الإفريقي المغبون، ربما أضاء أمامه الطريق، ويؤجج في نفسه الحمية التي يعلن بها غضبه وثورته علي القائم المرفوض.

 

Shyehia48@gmail.com

 

 

[1] - أمير تاج السر – أرض السودان الحلو والمر – الدار العربية للعلوم، ناشرون – ط1 2012.

[2] - أمير تاج السر- 366 – الدار العربية للعلوم ناشرون – ط1 2012.

[3] - أمير تاج السر – صائد اليرقات – ثقافة للنشر والتوزيع. أبو ظبي – ط 1 2010.