يكشف لنا الكاتب هنا عن المسيرة الطويلة، والمتجذرة في النفس وإيقاع الحياة والذاكرة، للكتابة الإبداعية الخلاقة التي تسعى لتقطير الحياة في عرامتها وتدفقها وتنوع دلالاتها، والتي تتطلب قدرا كبيرا من التفاني واليقظة، ويضع في مواجهتها الكتابة الجاهزة الأنيقة الخالية من الروح والساعية للاتجار بالكلمة والشهرة.

الكراسات

بول ماجرز

ترجمة: أحمد زغلول الشيطي

 

أكتب في نفس نوع دفاتر التدريبات المدرسية التي سبق أن استخدمتها وأنا صغير، في أي لحظة يكون معي دفتر على الطريق، أحمل دائمًا واحدًا معي، بقية الدفاتر سرعان ما تكون قد امتلأت بما أفكر فيه، أو بما أصفه من مناظر كنت شاهدًا عليها، أو بما يتكون من شذرات محاورات لا تقاوم، من محطة أتوبيس لأخرى، الدفاتر أيضًا هي مكاني لأتخلص من أشياء ما بعيدًا.

أذكر أقدم الكراسات، كنت أحصل عليها وأستعملها على هذا النحو، منذ أن كنت في حوالي الرابعة. أذكر «القرطاسية» ذات الطراز القديم جنوب «شيلدز» والتي تنبعث منها رائحة الطباشير الملون، ومنصة البيع الزجاجية التي طالتها الخدوش. كنت أُصر على أخذي إلى هناك، لأنفق كل مصروفي على كراسات الرسم.

أظن، لا زال يمكنك الحصول على دفاتر «سلفيان»، دائمًا كنت أسعى للحصول على دفاتر ذات صفحات فارغة، لا زلت لا أحب الكتابة على السطور، ذلك يشبه الحراثة لا الكتابة، ثم أين أرسم مع كل هذه السطور. ربما كنت عنيدًا من هذا القبيل في سن الرابعة. كان يمكنني رؤية الغضب المتصاعد لوالدي في المحل وأنا أفحص معروضاته.

هناك، كان الدفتر الأضخم، بغلاف بلون الموز المهروس، وصفحات كبيرة بلون كريمي، كان يوجد عدد محدود من هذا النوع. بعد القليل من الرسومات الكبيرة ومن الكتابة، كانت كل الأدوات قد استخدمت بالفعل. هذا جزءٌ من الإثارة، أن تستعمل ما يتاح من دفاتر وتصل إلى الصفحة الأخيرة. تنظر، ترى الجمال كله فيما فعلت «هل كنت في الرابعة؟ أحاول التذكر، والنظر خلال ذلك، أصبح راضيًا» احتفظت بكل هذه الكراسات المنتهية في حزمة واحدة، أتجول خلالها الآن، لتذكير نفسي أين كنت، وما الذي لا زلت أتطلع إليه، وأي تأثير حدث؟

الدفاتر المماثلة، كانت في الحجم العادي لكراسات التدريبات المدرسية، هذه الدفاتر كانت شبيهة بصناديق البريد الحمراء، حصلت على الكثير منها. لقد انطلقت في كل كتاباتي ورسوماتي بمعرفة مدرسة الحضانة مس «بين»، كانت ممتلئة وعاطفية، بشعر فضي صادم، وحاجبين أسودين كثيفين. لقد جعلتني أفكر أنها أكثر شهرة من مستوى شهرة «نانا» الكبيرة، «هل كل الصغار يعتقدون أن مدرسيهم أشخاصٌ مشهورون؟»، كلما رأيت مدرستي في منطقة ما بالبلدة أشعر برهبة واثارة، اعتقدت حينها أنها شهيرة كما لم يفعل أحد.

مس «بين» بادرت بقاعدة جديدة في فصل الحضانة، لو أننا كنا مؤدبين ومجتهدين، فإنها سوف توزع علينا دفاتر جديدة، وشرحت ماذا تعني، نزعت الورق البني عن طرود الدفاتر بجذبه إلى أسفل، واحدة، واحدة، على منضدة الدرس، كان هناك الغلاف الأزرق لكراسات «سلفيان» من الحجم المتوسط. قالت لنا إن هذه الكراسات من أجل أي وقت فراغ قد نصادفه، لقد حصلنا على تفويضٍ مطلق، كنا في احتياج لأن نُري أي واحد ماذا فعلنا في هذه الصفحات، وإذا كنا لم نعمل شيئًا وددنا أن نفعل.

كانت الصفحات واسعة، النصف مسطر والنصف الآخر خالٍ، رائع، ما الذي لم نفعله، قالت لنا: لإضاعة الوقت املأ أي وقت فراغ «بدفاتر الأشغال» بعد ذلك، بالتأكيد تعلمت كل شيء بسرعة، الأرقام، التهجئة، أسماء الأشجار فقط، لا من أجل فرصة للحصول على كراسات الأشغال. كل شيء ذهب داخل هذه الدفاتر، لقد كونت مجموعة كبيرة تمامًا، بعد ذلك أصبح يمكنني أخذ جميع الكراسات إلى البيت. أدركت كذلك أن الدفتر الذي استطعت أن تضع أي شيء داخله هو الدفتر الذي لن تستطيع أبدًا أن تريه لأحد.

مس «بين» اقتحم منزلها لصٌ، والدي كان شرطيًّا أُرسِل ليأخذ إفادتها. عندما رجع إلى المنزل، قال إنه فوجئ أن منزلها لم يكن أنيقًا، وأنهم يضعون الستائر المعدنية حتى في غرفة المعيشة، وأنه لم يسبق له أن فكر أنها كانت لطيفة جدًّا. كنت مشغولًا بكتابة كل هذا في كراستي، وبعد أن انتهيت، أدركتُ لأول مرة أن بعض الأشياء لن تكون مس «بين» سعيدة إذا ما قرأتها، هي بالتأكيد لن تود أن تعرف ماذا قال أبي عن كونها سمينة بعض الشيء، فضلًا عن الستائر المعدنية.

أهم وقت على الإطلاق للكتابة في هذه الدفاتر، كان بالطبع في العطلات الأسبوعية، خاصة في نهاية السبعينيات عندما انفصل أبي ليعيش في «درهام» بشقة لها رائحة الموكيت. لقد أقمنا معه في كل العطل الأسبوعية، وكنا شغوفين بالذهاب لمشاهدة أفلام الحفلات النهارية مثل «حرب جالكتا» و«الأسرة البرية»، قبل العودة إلى جنوب «شيلدز» لأقيم مع صغيرتي «نانا». كذلك الذهاب إلى قاعة الآيس كريم، والجلوس لتناول «شوكولاتة اللبن»، تمنيت أن أبدأ الكتابة بسرعة محافظًا على فورة تدفقات فراولة اللبن بالشوكولاتة حتى بعد ذلك.

أخي أراد أن يحصل على دفتره الخاص، لكنه كان في الثالثة أو أكبر قليلًا، كان يملأ بحيوية الصفحات بدوامات مجنونة من الألوان.

ليس لديَّ أي من هذه الكراسات الآن، مع كل التنقلات المتعاقبة من بيت لآخر، كل شيء يذهب. أقدم كتابة أحتفظ بها الآن، هي عندما كنت في سن العشرين. أول روايتين خبأتهما، وحفنة من القصص القصيرة. قريبًا اكتشفت أن صديقتي احتفظت بدفاتر الأشغال خاصتها، قرأت روايتها عندما كنت في السادسة عشرة، لقد جعلتني أفكر أن لي كل الحق لأكتب عن الناس والأشياء التي عرفت. لقد أقمت معها في لندن وتكلمنا حول دفاتر الأشغال، وتطرق الكلام حول أنها احتفظت بدفاترها باستمرار منذ العام 1959، القليل من الرسومات، القليل من الكتابات، كل ذلك في أمان الآن. فكرت حول كم من مئات الآلاف من الأميال من أسطر الحبر كان ينبغي أن تكتب، وكم يبدو أنها كانت منعشة. اكتشفت فجأة بوضوح أن هذا هو العمل الحقيقي للكاتب: الحرارة الصادقة في الأسلوب الحقيقي.

الأشياء التي ينشرها الكاتب ليست إلا بطاقات بريدية، دائمًا ما يعاد إرسالها إلى المسافة التي انطلقت منها، إلى كل الأسطر التي كتبت في كراسة الأشغال عبر السنين.

صديقتي سبق أن سافرت مسافات هائلة قبل أن أعرف أنها تعيش على الأرجح جنوب لندن. ماذا أيضًا وددت أن أعرف عما رأت؟ وهل استخدمت كراساتها ومذكراتها كنوع من مرساة؟ هي تعرف أن الدفاتر كانت دائمًا هناك، عندما نظرت إلى الخلف خلال المجلدات المختلفة عن السنوات 1962، 1976، 1987 رأت أنها استطاعت أن تضع نفسها هناك، بالعودة إلى الخلف، إلى اللحظة، إلى الشخص الذي كانت فقط حينها. لقد استطاعت العودة إلى نفسها خلال الأحداث والتفاصيل التي كانت، مثل شخص قد نسي، لكنه يود البقاء هناك، داخل الكراسات. بعض من هذه اللحظات، صنعت مثل هذه الحميمية داخل ما نشر لها من روايات. كانت هذه لحظات نجت، وقُطِرَت.

الكراسات كانت أبدًا سياجًا محكمًا، حيث التداخل الساحر بين الحياة والعمل، إذا هي أرادت أن تجدهما معًا. لكن إلى هنا يبدو العمل على دفاترها الخاصة أكثر رسوخًا ودوامًا من الكتابات التي نشرت بالفعل.

فكر في كراساتك كطريق للقبض على الأشياء التي هربت خلال رأسك، اعتقد في كراساتك كما لو كانت نفسك، ذاكرتك، وكل شيء كنت شاهدًا عليه. كل هذه المقطرات، في الكراسات والمذكرات تجعلنا نرى كاتبًا في منتصف الرحلة.

في منزل صديقتي مطبخٌ مشمسٌ، لقد شرحت لي أنها احتاجت الكراسات لتذكيرها بأصغر التفاصيل، وأكثرها تعبيرًا، الأشياء التي رأتها وتركت أثرًا، هذه التفاصيل التي كانت مثل اللكزات الصغيرة، قالت: أنت أيضًا تريد هذه الكراسات لتعطيك شعورًا بالثقة والشجاعة في كتاباتك، عليك أن تكون مستعدًّا لتراهم، عليك أن تكون جاهزًا للمشاهدة والاستماع طوال الوقت.

قالت: أشعر أني مثل كائن في بِركَتِه.

هي قالت: اهتم بالنباتات وانشغل بها، شاهد ما الذي يحدث تحت الماء، الأوقات الصعبة، إنها ممتعة، ممتعة للغاية. أحتاج أن أعيش في بعض الأماكن، تلك التي تكون خامًا. وفي الأشياء الكثيفة، لكن متى أستطيع أن أزعم أن هذه هي حياة القرية؟ أيضًا، أحب أن أخرج في الصباح وأشاهد الحيوانات البرية، كل هذه الأشياء مهمة بالنسبة لي. فكرت: أنك ينبغي أن تبقى منفتحًا على كل شيءٍ، وأن تلاحظ كل شيءٍ، الأرجواني في «الكورنفلورز» الذي اشتريناه من محطة «الأندرجراوند». أكياس الشاي الغريب المتروك بالخلف على طاولة الحانة، والذي حُصد داخل منفضة السجائر ثم أُلقي مع الأعقاب. يجب أن تكون يقظًا للتحولات والظلال في قصصٍ حولك لا تُعد ولا تحصى، حتى عندما لا تربطها أي صلة مباشرة بالمؤامرة التي تحياها.

صديقتي كانت على حق، اغمر نفسك في الظلال واروِ بالتفصيل، عملٌ شاقٌ حقيقة، مثل أن تكون تحت الماء، وتشتغل على ملاحظات بينما أنت هناك. لكن إن كنت فوق السطح المكشوط، إذا كنت لم تترك نفسك للحيرة والاستغراق العشوائي والمراقبة، فالذي ستكتبه سيكون هادئًا وتأليفيًّا جدًّا وزائفًا. ينبغي أن تبقى منفتحًا على توقع مفاجأة من كل الأشياء.

نهاية: قابلت أناسًا كثيرين يريدون الاشتغال بهذا العمل، أرجح أنهم يعنون داخل المجال العام، داخل الشهرة، وبالطبع هم يريدون قارئًا مخصوصًا ليحصلوا على إجابة حول ما الذي سوف يقولونه، يريدون عمل علاقةٍ مع الغرباء، ويريدون ترك رقم قياسي في سجلهم الخاص. كثيرٌ من الكُتَّاب الذين قابلت هذه الأيام يريدون عمل علاقة مع ملايين الغرباء، يريدون أن يصبحوا نجومًا.

لتفعل هذا، أتخيل، يتحتم عليهم أن يفقدوا شيئًا من خصوصية الكتابة، أتوقع أنهم يحتاجون إلى ميكروفون أكثر من احتياجهم «للكراسة». الكاتب الذي يصبح نجمًا أعتقد أنه يفقد قليلًا أو كثيرًا من توازن ورسوخ كتاباته مرة واحدة. أيضًا هؤلاء الكتاب القلقون بالتكهن حول ماذا يريد الجمهور الهائل منهم، يصبحون مثل جني المصباح، كيف يمكنهم أن يحبوا ما يفعلونه إذا كانوا لم يعودوا يكتبون لأنفسهم؟ كل شيء يصبح خطًّا للنهاية، ويتحول إلى: كيف يلمِّع كل واحد مصباحه. ينبغي عليهم أن يكتبوا كتبًا تناسب العقد والجاكت الذي يجري تفصيله، حتى قبل البدء بكتابة سطرٍ واحدٍ.

لا يوجد المزيد من كراسات «الأشغال». الوقت لم يعد يسمح، ولكن هذا ما يريده بعض الناس. هذه محاولة لأقول لهم لماذا نكتب؟

اذهب وكن نجمًا، اذهب وكن «شيرلي باسي»، كم من الوقت قضت «شيرلي باسي» لتجرب وتنتج العمل الذي كانت - حقيقة - تريد أن تعمله؟

عندما كنت أقيم في لندن، أعطتني صديقتي عنوان قرطاسية من النوع القديم، في شارع «كنج» مقابل السينما، اشتريت دفترًا جديدًا من هناك، ومشيت في المدينة أبحث عن مقهى، ربما في «سوهو» لأجلس به.

 

هوامش

* أعطى «بول ماجرز» لشهادته عنوان «الكراسات» Notebooksإلا أنه عمد إلى استخدام كلمة «Book» بمعنى الكراسة أو الدفتر طوال النص تقريبًا، ولم يستخدم كلمة Book بمعنى الكتاب المنشور أو القابل للنشر إلا عند حديثه عن الكُتَّاب النجوم أو الساعين لأن يكونوا كذلك قرب نهاية النص.

* بول ماجرز: كاتب إنجليزي، ومحاضر يكتب الرواية والقصة القصيرة ولد سنة 1969 لأب يعمل ضابط شرطة.

- نشرت هذه الشهادة لأول مرة سنة 2001 كفصل ضمن كتاب:

The Creative Writing Course Book

Edited By Julia Bell

Published By Macmillan 2001

London