باتّساع الميدان يصوّب طلعت حرب عينيه
على "الكوبلز" المتناثرين
كأنهم أزهار البوانسيانا أوّل الربيع
أو رائحة الغضب المتروك زمناً في التفاصيل
في نقطةٍ بين ذراعه ومسقط نظره
مروراً بمداخل صبري أبو علم و قصر النيل
سقط ملائكةٌ كثيرون دفعة واحدة
كأنهم حفنةٌ من فَراشٍ أو تعب
يرفًّون بما أوتوا من بياض وعشب
أغمض جفنيه وأدار كتفه ومشى ليمسك بالحلم.
على طاولةٍ في "إكسلسيور" رفرف بجناحين كبيرين جداً
لا هو بالثقيل فيستقرّ عليها
ولا هو بالخفيف فيرتفع بعيداً لأعلى
لكنه أخفّ من أن يثبت على الطاولة
فظلّ يسبح بخفةٍ فوقها وعلى مقربةٍ من سطحها
فارداً جناحيه عليّ بحنان
لم أملك إلا أن أحني رقبتي ورأسي
بهيئة ذبول وردة، وأسلّم كلّي له
ها ...هل هدأ روعك؟
أنا أعرفك من سنين بعيدة
أسري فيك
ألازمك
أصحو وأغفو معك
أسير معك
أكتب الشعر معك
أغضب من الدنيا معك
وأفرح معك
وأحبُّ معك
التفّ الجناحان الأبيضان حولي برقّةٍ
خرجت من صدري وذراعيّ
أجزاءٌ وحشٍ كبير
والتصقتُ بأجزائي كمنبوذٍ أو طريد
تلك الطمأنينة التي انتظرتها بعطش
بحثت عنها منذ زمن
ولمّا تعبت
كنت دائماً أتلفّت ورائي
ثم أمضي دونما أقلام أو طريق.
هواءٌ مرتجفٌ لا تخونني رائحته العتيقة
يأتيني من كل الاتجاهات
وربما، ولأنّني مكانيةٌ عادةً
ولا زمانيّة قطعاً
أقول ربما، استوطنتُ هنا أياماً غابرةً
حتّى صرتُ آوي دونما تعداد
مثلاً في الثالث من يونيو الماضي
وفي العاشر من أغسطس سابق
وفي الحادي والعشرين من ديسمبر منذ عامين،
في عزّ طوبة وأمشير وسبت وثلاثاء
و و و و
فيها كلها شيّدتُ بيوتاً صغيرةً لي
لكنّني كنت أردمها قبل أن أغادرها
لئلا ينظر طلعت حرب لسواي
ولأنشغل بالبناء حين آتي فيطول مكوثي
ولو أني عدتُ جنيناً، لو
لاستقرّت بي سكناي بين ذراعيه
وحينها سأتكفّل أنا برفعهما ليلفّاني بأريحيّةٍ ودفء
سأتكلّم في المهد وسيصدّقني الجميع
ليس لأن أحداً منهم يعرفني
لكن لأنّ لوني مثل لونه
وبي رائحته
وأرعى المارة مثله بالمحبة
ولأني قلبُه الذي في كفّه
أبارك العابرين من هنا
منذ بدايات الزغب وحتى عباب الطوفان
هنا سأكون بيتاً للأسماك والحنطة والعصافير
وسأكون قبراً وأموء .