لا يكتب التاريخ على عواهنه. إذ تُولي النّخب المهيمنة عبر مؤسساتها الأكاديميّة والتعليميّة والثقافيّة جهداً منسقاً وراء الكواليس لضمان استمراريّة الخط العام لسرديتها، وتقمع بلا هوادة أيّ خروج على النّص منعاً ومصادرة وتحديداً للوصول إلى الوثائق، وربّما تضييقاً على الرزق بل حتى بالقتل والإخفاء. هناك قصص كثيرة عن مؤرخين خرجوا عن السيّاق، فدفعوا أثماناً طائلة سواء في غرب الديمقراطيّات المزعومة أو في الشرق. تاريخ العرب ونشوء إسلامهم وعلاقاتهم باليهود وبأديان شعوب المنطقة، واحدة من هذه المساحات التي تتقاطع على حماية الرواية الرسميّة عنها مصالح نخب الغرب والشرق معاً.
ولذلك لا يتجاسر كثيرون على التصدي لمهمة كتابة تاريخ شامل عن العرب، مكتفين بنصوص مستشرقة كلاسيكيّة توافق الهوى الاستعماري ولا تحيد عنه، أشهرها نص فيليب حتّي المنشور عام 1937 (بعد جهد عشر سنوات من البحث بناء على طلب الناشر دانيال ماكميلان شقيق رئيس الوزراء البريطاني هاورد ماكمليان)، ولاحقاً كتاب المؤرخ البريطاني ذي الأصول العربيّة والأستاذ في «جامعة أكسفورد» ألبرت حوراني، الذي كان نشر عام 1991. ذلك بالطبع إضافة إلى ألوف الكتب المتراوحة الأهميّة بأقلام عربيّة وغربيّة، اقتصرت على البحث في مراحل أو جوانب مختلفة من تاريخ تلك الجغرافيا الممتدة في قلب العالم القديم من الخليج الفارسيّ إلى شواطئ الأطلسي، ومن قمم جبال زاغورس إلى نهايات القرن الأفريقي.
تيم ماكنتوش-سميث، المؤرّخ والأديب والرّحالة البريطانيّ المعاصر اختار بعد ثلاثين عاماً من نص حوراني، أن يراوغ الرواية الرسميّة لتاريخ شامل للعرب من دون أن يقطع معها بالكليّة في كتابه الأحدث «العرب: 3000 عام من تاريخ الشعوب والقبائل والإمبراطوريّات» (منشورات «جامعة ييل»). كقراءة نوعيّة ثريّة جديدة، ستغدو بدون شكّ مرجعاً لا بدّ منه ليس للباحثين المتخصصين فحسب، بل أيضاً كقراءة مثيرة ممتعة للقارئ المعاصر المهتم، ودليل سفرٍ للإبحار في ماضي منطقة في اشتباك حضاري دائم مع إمبراطوريّات التاريخ المتعاقبة، وعدّة فكريّة لبناء تصور عام عن جذور مجموعة بشريّة ينوف تعدادها اليوم عن 400 مليون نسمة.
قدرة ماكنتوش-سميث على عبور موضوع شاق كهذا وتقديم نصّ خلاب متماسك متفوّق على كلاسيكيات الاستشراق، ليست متأتيّة من نثره المتمكّن، وصياغته اللغويّة الذكيّة فحسب بل أيضاً من خلال تجنبه الوقوع في صيغة الفصل الدائم بين تاريخ للعرب قبل البعثة النبويّة (بحسب أغلب المصادر، فإن الرّسول محمد بن عبد الله توفي في عام 632 ميلاديّة)، وتاريخ للعرب بعدها. رغم أن البعثة كانت من دون شكّ مفصلاً بين مرحلتين اختلفت فيها الديناميّات الحضاريّة جذريّاً، فإن ذلك كان دائماً يتسبب في تغييب نوع من سرديّة شاملة عريضة تبدأ من أوّل ذكر لقوم من العرب في النصوص الآشوريّة القديمة (عام 853 قبل الميلاد عن أحد الزعماء الذين دعموا ملك دمشق في معركة قرقار اسمه جنديبو يقود ألفاً من الرّجال على ظهور الإبل)، وتنتهي بأيامنا المعاصرة بعدما ضرب الربيع العربيّ المزعوم أطنابه في غير ركن من أركان هذا «العالم» العربيّ فأدماها. ولذا، فإن تاريخ الـ 3000 عام وفق ماكنتوش-سميث يجعل من مرحلة البعثة النبويّة كأنها واسطة عقد يجمع مراحل متفاوتة، لكنها تشترك معاً بخط السّرد ذاته. أما الأمر الآخر، فهو ذلك الشغف الحار الذي يلّف النصّ من أوّله إلى آخره، لمؤلّف معروف بأكاديميته الرّفيعة، لكنّه في الوقت عينه، يكتب من الميدان بين النّاس موضوعه وعلى الأرض مباشرة حيث يقيم (في صنعاء اليمن، مع أسفار كثيرة حول العالم العربيّ من دبيّ وحتى نواكشوط)، لا من مكتبات الجامعات العاجيّة الباردة.
يبني ماكنتوش-سميث مقاربته التأريخيّة الطّموحة على نظريّة تعاقب الدول التي صاغها المؤرخ الجليل ابن خلدون منعزلاً عن الناس في ناحية من الريف الجزائري، فيستعير منها ثيمات أساسيّة مثل البداوة والحضر، و«العصبية»، وثقافة «الغزو»، وتعاقب الدّول بالغلبة، لكنّه يُعَصرنها ويمنحها شكلاً مقروءاً في أيامنا من دون أن تفقد جذورها الخلدونيّة القديمة. ويوضح مبكراً في نصّه أن إطلاق كلمة «العرب» على عواهنها ليست إلا كسلاً فكرياً، ويميل إلى أن صفة عرب كانت في نصوص الحضارات القديمة أقرب إلى معنى البدو منها إلى وصف مجموعة عرقيّة محددّة، بينما لم يتبنَّ العرب أنفسهم تلك التسميّة لهم (في نقوش نبطيّة قديمة) قبل مرور ما لا يقلّ عن 1200 عام على النصّ الأشوري الأوّل. ويشير إلى أن اجتماع مهارة الخيل مع توفّر الإبل منح سكان شبه الجزيرة القدماء ميزة قتاليّة استثنائية للقتال عبر جهات طويلة: الخيول للصدام العاصف، والإبل للخدمات اللوجستيّة عبر الفيافي القاحلة، ولذلك نجحوا رغم قلّة عددهم في ترك بصمتهم الخاصة في حروب الإمبراطورات الكبرى المحيطة بهم.
يعطي ماكنتوش-سميث وزناً كبيراً للعرب الأنباط في الجانب الغربي من الهلال الخصيب (جوار البتراء)، ودولتهم الممتدة 300 عام غربي الجزيرة العربيّة نحو «مدائن صالح»، ويعتبر لغتهم أصل اللّغة العربيّة، ونقوشهم أوّل نصوص عربيّة مكتوبة، لكنّه ينأى بنفسه دائماً عن اعتبارات عرقيّة وجغرافيّة وقوميّة أو حتى محددة تجمع قبائل العرب باستثناء لسانهم المبين الذي يصفه بالعبقريّة والشموخ. وهو يسجّل أن المسلمين الأوائل انتشروا عبر «العالم» العربي كما نعرفه اليوم بثلاثيّة الفتوحات والإسلام والعربيّة، وأن الفتوحات سرعان ما انتهت، وتعايش الإسلام مع أتباع الديانات الإبراهيميّة الكبرى، بينما بقيت العربيّة وحدها جامعة للكلمة ونوعاً من هويّة موحدّة وذاكرة مشتركة.
ينبه ماكنتوش-سميث قرّاءه بأن القرآن ـــ مع ملاحظة قيمته كنص مقدّس يتمركز الدين الإسلامي ــــ كان الكتاب المؤسس الأوّل للعربيّة بعدما نضجت، وأنه تحديداً يمنح اللغة العربيّة سرّ ديمومتها بعد كل هذه القرون في الوقت الذي انقرضت لغات أخرى أو كادت، وتموضعت أخرى في أطر جغرافيّة وعرقيّة ضيّقة. ويرى أن اللغة العربيّة الفصيحة كانت – وما زالت – لازمة لا بدّ منها لكل من تصدى لمهمّة القيادة وجمع «الكلمة»، وأنّ حسن الخطابة بها بمثابة مدخل إجباريّ إلى قلوب «العرب». ويضيء على القرار التاريخي للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بتبني العربيّة لغة لدواوين الدولة بوصفه منعطفاً أضاف الدولة إلى الدين في نموذج انتقل مع مراحل انتشار الإسلام وتعولمه فيما بين الهند والأندلس. وهو ينصح قرّاءه الإنكليز بعدم مقارنة موضع الشعر والكلام الفصيح في الثقافة العربيّة بمواضعها الهامشيّة في ثقافات العالم الأخرى، فهؤلاء قوم كان الشعراء سادة فيهم منذ آلاف السنين، ومفتتح كتابهم المقدّس «إقرأ (أي أتلُ) باسم ربّك الذي خلق».
يسرد الكتاب مراحل تاريخ الشعوب والقبائل التي حملت صفة الـ «عرب» هذه بتوازن مقبول بين ما قبل الإسلام وما بعده، وهو لا يقصر عن مدّ الحكاية لطرح تجاربهم المعاصرة منذ انتهاء عهد الاستعمار الكلاسيكيّ في بلادهم استقلالاً، ودولاً قطريّة ووحدة فاشلة، وحروباً وانقلاباً وصراعات، عاقداً المقارنات، ورابطاً الماضي بالحاضر بأدواته المستعارة من ابن خلدون ومضيفاً من التفاصيل والملاحظات الذكيّة ما ينعش العقل. لكن أيّام العرب الذهبيّة تبقى عنده في بغداد الدّولة العباسيّة عندما كانت عاصمة للحضارة العالميّة، ودينارها عملة التّجارة الأولى عبر القارات، كما الدولار الأميركي اليوم. مدّ الحكاية هذا كان تحديداً جريمة ماكنتوش-سميث التي جعلت كتابه غير مرغوب به في دوائر آل سعود بعدما وصف المرحلة الناصريّة بأنها كانت ـــ رغم تغييبها المبكر ــــ «عصراً للأمل»، وأن الزعيم جمال عبد الناصر كان رمزاً يجسّد تطلعات غالب سكان المنطقة، فيما كانت أم كلثوم صوتهم وثقافتهم وأنغامهم معاً، وإذاعة «صوت العرب» إعلامهم ومجلسهم، إضافة إلى منح النص الحضارات اليمنيّة القديمة مكانة تستحقها، واعتباره أن الهجرات القديمة لم تكن من اليمن إلى الجزيرة فالشام، بل من الجزيرة نحو المراكز الحضاريّة جنوباً على نسق هجرة فقراء الأرياف نحو العواصم.
وكما كلّ محاولة شموليّة الطابع لتسجيل التاريخ، فإن بعض المعالم والمراجع المهمّة سقطت من السرديّة أو لم تعطها ما تستحقه، وربما كان أفضل بالطبع لمصداقيّة الكتاب ككل لو أنها ذكرت، ومنها مثلاً إغفال نجيب محفوظ كأديب عربي كبير في القرن العشرين حصل على «نوبل» للأدب – بينما ذُكر طه حسين مثلاً -، لكنها جميعاً بدون شكّ لا تعيب العمل بمجمله على الإطلاق، ولا تعيق صوغ استنتاجات عامّة. كما أنّ القارئ العربيّ الثقافة لا ينبغي أن ينسى أن ماكنتوش-سميث مهما أمتع وأبدع، فإنّه بحكم الواقع الموضوعيّ يصوّر النظرة التي ترانا بها عيون أجنبيّة في قلب هذا العالم الكبير، وليس بالضرورة صورة مطابقة للواقع كما يمكن أن نراها من غرف بيتنا العربي الكثيرة. ومع ذلك، فإن «العرب: 3000 عام من تاريخ الشعوب والقبائل والإمبراطوريّات» ـــ رغم احتفاظه بخط الرّجعة مع الرواية الرسميّة ــــ كتاب مشغول بمحبّة واقتراب. ولذا فهو ينقل إلى قارئه نوعاً من حزن شفيف من القلب على المصائر التي انتهت إليها أحوال هذه الشعوب والقبائل بعد تاريخ مديد، «فكأنّك – يكتب ماكنتوش-سميث – ترى صديقاً قديماً وعزيزاً يفقد عقله رويداً رويداً، ويغرق في موت بطيء».
الأخبار اللبنانية