في زيارتي قبل أيام لمكتبة المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، لفتني عنوان هذا الكتاب "الفنانة التشكيلية في التصوير العربي المعاصر"، وهو من تأليف أحلام فكري، فبادرت باقتنائه لأن مثل هذه الإصدارات المتصلة بالتأريخ للفنون الجميلة، أو لنقدها يكاد أن يكون نادرًا بين ما يصدر عن هذا المجلس، ومما يؤكد هذا أنني عندما كنت عضو لجنة الكتاب الأول التابعة للمجلس ذاته، كنا نبحث عن مثل هذه الموضوعات المتصلة بالفن التشكيلي أو التطبيقي لنعمل على نشرها.
وهذا الكتاب أكاديمي موثق ومزود بالمراجع ويهتم بإبراز الفن التشكيلي كجزء من النشاط الثقافي والإنساني أيضًا.
والفن التشكيلي عند النساء، ليس في العصر الحديث فحسب، ولكن منذ أقدم العصور.
يتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول. وتتناول المقدمة موقف اليهودية والمسيحية والإسلام من الفن، وهو ما يستمر تناوله في الفصل الأول لتوضيح العلاقة بين الدين والفن، فيما يفرد الفصل الثاني للجسم الإنساني، ويعرض نماذج مختارة من أعمال للفنانين والفنانات الذين اهتموا به في أعمالهم، سواء من الجزيرة العربية أو من شمال إفريقيا. ويشتمل الفصل الثالث على تحليل نماذج من أعمال بعض الفنانات اللائي استخدمن أساليب جديدة في التعبير الفني كالواقعية الجديدة.
ويتتبع الفصل الرابع أثر المدارس الجديدة في الإبداع الفني كالرمزية والسريالية والتجريدية. ويتناول الفصل الأخير التجربة الذاتية لبعض الفنانات التشكيليات من الجيل المعاصر.
والكتاب يتضمن أعمالًا مهمة لفنانات لهن دور كبير في الإنتاج التشكيلي في العالم العربي، ومنهن مثلًا: تحية حليم، إنجي أفلاطون، زينب عبده، جاذبية سري، رجاء الأوشي، هالة الفيصل، ليلى نصير، ثريا البقصمي، صبيحة بشارة، سميرة عبدالوهاب، بتول الفكيكي، زهرة سلام، صفية زوليد، ريم الجندي، نبيلة محمد عبدالله، فاطمة الحاج، شاليمار شربتلي، وفاء خازندار، مرفت شاذلي، هند عدنان، ريم حسن، فيروز سمير عبدالباقي، عواطف عبدالعال، ميريت بكير، أسماء النواوي، صفية بن زقر، غادة آل سعود، وفاء العقيل، فاطمة فخرو، ريم الأسود، ونوال راضي، وعدد هائل غيرهن من الفنانات التشكيليات من مختلف البيئات العربية.
للون دلالات خاصة تعبر عن الحالة النفسية للمرأة أو ما يمكن أن يكون حالة الكبت أو الألم الذي تعانية المرأة نتيجة ظروفها الخاصة في المجتمع الذي يطلقون عليه المجتمع الذكوري.
في مقدمة الكتاب تتحدث المؤلفة عن أثر المجتمعات العربية وتحولاتها التاريخية مع الفن بدءًا من عصر الاستعمار العثماني التركي وتأثيره السلبي على وضعية المرأة التي نفاها في "الحرملك" بعيدًا عن أعين الرجال. بكل ما أدى إليه ذلك من سلبية في نظرة المرأة إلى نفسها، ونظرة الرجل إليها، فيما تلخصه مفردة "الحريم"، ثم تتكلم المؤلفة عن كيفية حدوث التحولات في نظرة المرأة إلى ذاتها، وفي نظرة الرجل والمجتمع إليها كأنثى، ورصد هذه التحولات بدءًا من ثورة 1919 التي أعادت للمرأة وجهها الإنساني، فلم تعد مجرد وجه مقنع بلا إحساس. ومن تلك الفترة بدأت المرأة دورها في التعلم قبل أن تتحول إلى مبدعة في الفن.
في الفصل الأول الذي تتحدث فيه عن "الدين والفن"، وترى أن مواقف الأديان كانت تتباين في نظرتها إلى الفن باعتباره محاكاة، أو باعتباره عبادة.
وتتحدث المؤلفة أحلام فكري عن معنى كلمة "الدين" وتقسم الدين إلى محاور، فتقول إن هناك دين الطبيعة، ودين الفن، والدين المتجليّ أو دين الوحي، وهذه ثلاثة أنواع من الأديان ينظر إليها. وترى أن الفن هو المرحلة الوسطى. وتصل إلى محاولات استخدام الفن في التعبير عن الخيال الإنساني في الدراما أو الأسطورة القديمة التي كان الإنسان يحاول أن يجد فيها إجابة عن تساؤلاته حول الكون وخلقه.
وبعد الحديث عن نظرة الأديان إلى الفن نتنتقل المؤلفة إلى ما يعنينا في هذا الكتاب وهو اشتغال المرأة بالفن في العصر الإسلامي.
وتحاول المؤلفة أن تضع النقط فوق الحروف في مسألة استخدام الرسم بالحرف العربي، وتقول: "في البداية كان اشتغال النساء بفنون الخط مكروهًا بسبب موقف ذكوري سائد معادي للنساء، ومع ذلك لم تعدم المصادر التاريخية -منذ وقت مبكر- من وجود نساء مثل الشيخة الكاتبة زينب الملقبة بـ"شاهدة ابنة البُري" المتوفاة سنة 574ه، وعن هذه السيدة أخد أمين الدين ياقوت، ومنهن كذلك السيدة التي يؤرخ لها ياقوت الحموي في معجمه فاضلة بنت الحسن بن علي العطار أم الفضل المعروفة بابنة الأقرع الكاتبة صاحبة الخط المليح المعروف وهي متوفاة سنة 408ه، وهي التي أُهِلَت لكتابة كتاب "الصدفة إلى ملك الروم". وكما أن هناك كثيرا من السيدات الخطاطات الجليلات اللواتي كن من المزوقات البارعات المتأخرات، مثل: سارة الحلبية ورقية التركية ومريم بنت مصطفى التي تحتفظ لها المكتبة الوطنية في بغداد بالمخطوطة رقم 1074 على خطها لتكشف عن قدرتها كمزخرفة بارعة.
وهناك كثير من النساء اللائي استطعن أن يتجاوزن القيود الاجتماعية المفروضة على النساء وإبعادهن عن المجتمع العام، وأن يكن كاتبات ومزوقات بمعنى مزخرفات للكلمات، وكاتبات لهذا الفن الجميل.
وتنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى التعريف التشريحي للجسم الإنساني وهو الأداة التي يستخدمها الفنان التشكيلي للرسم، وتستغل معرفة ليوناردو دافنشي بهذا الموضوع وتقدم لنا بعض المعلومات الخاصة بأن الرسم يعتمد في الأساس على عملية تشريح الجسم الإنساني لمعرفة أدوات الحركة والخطوط والتركيبات إلى آخره. ولكن الذي يعنينا هو أنها تتكلم عن عدد من النساء اللائي اشتغلن بالفن. فتتكلم عن زينب عبده المولودة عام 1903 التي توفيت عام 1993، فهي من الرائدات في هذا الفن الجديد، أو من رائدات التعليم بشكل عام سواء أكان التعليم العادي أو تعليم الفن. فتقول المؤلفة إنها اشتغلت بتدريس مادة الرسم بالمدرسة السنية بعد عودتها من انجلترا في بعثة كعادة المجتمع المصري في القرن الماضي والذي قبله، عندما كان يوفد الطلاب في بعثات إلى فرنسا وانجلترا قبل أن يعهد إليهم بالعمل العام في المعاهد أو المدارس.
وبعد أن عادت من انجلترا عملت مدرسة للتربية الفنية في المعهد العالي لمعلمات الفنون ببولاق. ثم أصبحت زينب عبده رئيسة لقسم التربية الفنية فيه. وكانت متفردة في جيلها بعد تجربتها في الألوان المائية تجربة متكاملة، وعنها قال الفنان أحمد فؤاد سليم: "هي تعرف كيف تجعل اللون المائي يبوح بصنفه، ويعلن شفافيته، وهي تستقطب اللون وتراوغه حتى يخرج ماؤه ويتخفّف من حنايات المرأة العارية، إنما تحوله إلى حالة هي بين التطهر والجسدانية، بل إن العري هنا عند زينب عبده هو تمثيل للتبرئة من الآثام، وهو تطهير من مهالك الحالة الأرضية، فإن نساءها العاريات لسن فقط جميلات، وإنما هن فواحات بالخلاص. وفي لوحاتها يسمو البدن باعتباره حقل العقل.
وهناك الفنانة تحية حليم، وهي من مواليد سنة 1919 وتوفيت سنة 2003، هي من مواليد السودان، حينما كانت السودان جزءًا من المملكة المصرية، وتخرجت في أكاديمية جوليان في باريس عام 1951، وانتدبت للتدريس بالكلية الفنية للبنات بالزمالك عام 1959، ثم حصلت على منحة تفرغ من الدولة من عام 1960 حتى عام 1988 واشتهرت باسم "عاشقة النوبة"، وتتميز بأنها تحاكي المجتمع المصري الصعيدي سواء في النوبة أو أسوان، ويهمها رسم الوجه الصعيدي وأيضًا رسم البيئة النوبية.
ومن رائدات الفن التي أشارت إليهن الكاتبة، نجد الفنانة إنجي أفلاطون، وهي من مواليد عام 1924، وتوفيت في 1989.
وإنجي أفلاطون ابنة الارستقراطية المصرية ولدت في قصر صعيدي، وتلقت تعليمها في مدرسة "القلب المقدس" الفرنسية الداخلية، وقد بدأت طريق الإبداع تلقائيًا قبل أن تدرس فن الرسم أكاديميًا، وبعد فترة التقت بأحد الفنانين الذين أثروا في الحركة الفنية، آنذاك، وهو كامل التلمساني فأخذ يوجهها نحو تاريخ الفنون وفلسفة الجمال وعرَّفها بكنوز التراث وباتجاهات الفن الحديث، فانفتح أمامها أفق أطلت منه على عالم الفنون الحافل بالجمال. وتبينت قدراتها منذ عام 1942، واستطاعت أن تعيبر عن عمق التجربة الذاتية من خلال تجربتها في المعتقل، والغريب في الأمر أن ابنة الارستقراطية المصرية كانت منتمية إلى أحد الأحزاب اليسارية كعادة الأرستقراطيين في ذلك الوقت ممن يتمردون على جذورهم كنوع من أنواع الاندماج في المواطنة المصرية.
وتشير الكاتبة أيضًا إلى عدد كبير من الفنانات التشكيليات الكاتبات ومنهن: هالة الفيصل، وهي فنانة تشكيلة سورية، وأيضًا الكاتبة رجاء الأوشي وهي من مواليد السودان وعاشت فترة طويلة في جنوب إفريقيا، وحصلت على بكالوريوس الفنون الجميلة في الخرطوم، وهي تهتم بالمجتمع السوداني، وهو من وجهة نظرها مجتمع أبوي لا يتيح كثيرًا فرصة الاهتمام بالنساء، ولذلك فهي تعتبر دخول المرأة إلى هذا النوع من العمل الفني هو نوع من أنواع المواجهة للتقاليد أو التحدي لهذه التقاليد. وهي على كل حال لا تهتم بالرقابة، سواء أكانت رقابة حكومية رسمية أو رقابة شعبية فهي ترى أن الفنان يجب أن يكون حرًا.
ومن الفنانات اللاتي أشارت إليهن الكاتبة في كتابها أيضًا: الفنانة الكويتية ثريا البقصمي، وهي مواليد 1952، ودرست في الاتحاد السوفيتي في أكاديمية سيركوف للفنون، وحصلت على الماجستير سنة 1981، وهي مهتمة بالفن التجريدي الحديث، ويلاحظ أنها تعبر عن المرأة المقيدة التي تحاول أن تتحرر من قيودها.
ومن الفنانت الجزائريات أشارت المؤلفة إلى زهرة سلال، وهي من ماليد 1946، وتخرجت في المدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر، وتتلمذت على يد عدد من الفنانين الجزائريين، ثم تخرجت من فرنسا سنة 1968 في المدررسة العليا لفن في جرونوبل. وهي تهتم بذات المرأة بشكل خاص،على اعتبار أن العمل الفني يحمل بصمة صاحبه، ويعتبر الجسم الإنساني نواة العمل الإبداعي الذي يعكس رؤية أكثر عمقًا في علاقة الذات بالعالم المحيط، أي أنها تحاول أن توجد نوعًا من الحوار الجدلي بين رسم المرأة، وواقعها في مواجهتها الصدامية مع العالم الذكوري.
ومن عُمان هناك الفنانة رابحة بنت محمود، وهي من مواليد 1949، في مراحلها الأولى غلب عليها التجريد، ولكنها تحولت إلى الشكل الإنساني بمفهومه التعبيري الذي وجدت أنه سيطلق العنان لمشاعرها في مساحات واسعة. وللون عندها دلالات خاصة تعبر عن الحالة النفسية للمرأة أو ما يمكن أن يكون حالة الكبت أو الألم الذي تعانية المرأة نتيجة ظروفها الخاصة في المجتمع الذي يطلقون عليه المجتمع الذكوري في ذلك الوقت.