على الرغم من مرور خمسين عاما على رحيله لايزال جمال عبدالناصر يشغل حيزا كبيرا من مشاعر المصريين والعرب، وربما في العديد من بلدان العالم الثالث أيضا. بحيث نلاحظ حضور صورته في الكثير من البيوت والمحافل والثورات والتظاهرات. كما لايزال صوته المعدني يذاع في الحوادث والملمات. ولم تزل شخصيته تطفر فى مخيلة الفقراء والثوار، كلما حلت بهم مظلمة أو طرأ عليهم انكسار. فلم يعد، عند المواطن البسيط، هو الزعيم الذى فقدناه، فقط. بل أصبح نموذجا ومعيارا للزعيم الذى يرجو أن يجود الزمان بمثله يوما.
ولاشك ان تلك المكانة التي وصل اليها عبدالناصر، بحيث تحول الى أسطورة ورمز، لم تتواجد بالمصادفة، بل خلقتها عدة عوامل موضوعية متضافرة، لا يقل أي منها عن الآخر فى الأهمية.
1. الظروف المحلية والدولية:
لقد كان الظرف الاجتماعي - التاريخي الذى ظهر فيه عبدالناصر، يعتبر زمن الانكسارات والهوان على كل المستويات. فقد كانت ومصر ومعظم البلدان العربية تخضع للاستعمار (المباشر أو غير المباشر) وتعيش في كل الأحوال في حالة تبعية كاملة للغرب، مما أدى الى هزيمة جيوش هذه البلدان، مجتمعة، في حرب 1948، وتأسيس دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو من هذا العام، وهذا الحدث، على التحديد، هو الذى عجل بفكرة التغيير الكامل الشامل لهذه الوضعية، بعد أن ضاقت غالبية الشعب المصري من: استغلال اجتماعي على أيدى "الباشوات" من كبار ملاك الأراضي، الذين استأثروا بمعظم الخيرات والخدمات، على حساب غالبية الشعب (فلاحين وعمال) التي عانت من الفقر المدقع (مشروع مكافحة الحفاء عام 1950) خير شاهد، والجهل والمرض. كما عانى الشعب من القمع السياسي واستبداد الملك المدعوم من الاحتلال، مما أجهض كل المكاسب الديمقراطية التي وعد بها دستور 1823، فما ان تتم الانتخابات النيابية وينجح حزب الوفد (كالمعتاد) يقوم الملك بإقالة الوزارة وحل المجلس النيابي وتشكيل حكومة أقلية.
لقد كانت الهزيمة العسكرية وضياع فلسطين، بالإضافة الى واقع الاستغلال والقهر، بمثابة "شهادة نهاية الصلاحية" لهذه النظام الحاكم، ولهذه الوضعية الاجتماعية والسياسية الظالمة برمتها. وهنا كان الشارع المصري جاهزا تماما لإجراء عملية تغيير شاملة لهذا النظام، بكافة تجلياته الاجتماعية والسياسية، وأضحى يعيش في حالة انتظار لبزوغ عهد جديد، مترقبا ظهور "مخلص" من النوع الذى يذخر به التاريخ والمخيلة الراسخة في الثقافة المصرية (والعربية – الاسلامية، على حد سواء). ساعد على ذلك ظهور الاتحاد السوفيتي باعتباره دولة عظمى وقطبا عالميا بعد خروجه مظفرا من الحرب العالمية الثانية، ومعه كتلة كبيرة من دول شرق ووسط أوربا، تعمل على مناهضة الرأسمالية العالمية والاستعمار وتساعد دول العالم الثالث وحركات التحرر البازغة فيها، وتنشر افكار الاشتراكية والعدل الاجتماعي والتحرر السياسى.
2. الانحياز والانجاز:
في هذه الأجواء ظهر تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بثورة الثالث والعشرين من يوليو وعلى رأسه جمال عبدالناصر، فكان هذا الاستقبال الأسطوري والدعم الشعبي الهائل الذى حظيت به هذه الثورة. خاصة، أن أول قراراتها تمثل في قانون الاصلاح الزراعي في التاسع من سبتمبر عام 1952، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على قيام الثورة، وهو ما ضاعف الدعم والتأييد على نحو غير مسبوق في تاريخ الثورات. ثم اتفاقية الجلاء عام 1954، حيث تحقق ذلك الحلم الذى ظل يراود المصريين طيلة سبعين عاما، وتحررت مصر خلال عامين فقط من قيام الثورة؛ في مقابل أكثر من 30 عاما من المفاوضات العبثية، فى العهد السابق. ثم قام عبدالناصر بتأميم قناة السويس في السادس والعشرين من يوليو عام 1956، وصمد الشعب والجيش والقيادة أمام العدوان الثلاثي الذى شنته قوتان عظميان هما انجلترا وفرنسا ومعهما اسرائيل، (باعتبارها وكيلة اعمالهما الاستعمارية في المنطقة)، وباتت مدينة بورسعيد رمزا عالميا للمقاومة والانتصار؛ لا تقل في ذلك عن مدينة ستالينجراد في الاتحاد السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية. وهنا لم يكتسب عبدالناصر وصف "الزعيم" المنتصر في مصر، فقط، بل أضحى زعيما عالميا، بالمعنى الكامل للكلمة. فكان ملهما بإنجازاته لكل حركات التحرر في العالم الثالث، من آسيا الى افريقيا الى أمريكا اللاتينية، من الهند والصين الى الكونغو والجزائر واليمن، الى كوبا وبوليفيا وفنزويلا. وحتى في يوغوسلافيا وباقي شرق ووسط أوربا. وتأكدت هذه الصفة بقوة بعدما خرجت مصر من هذا العدوان باعتبارها مركزا عربيا وعالميا للتحرر ومناهضة الاستعمار في كل مكان. وتقود معسكرا كاملا من غالبية دول العالم الثالث بما فيها الصين والهند ويوغوسلافيا يسمى دول (منظمة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز).
ومن ثم، تواصلت انجازات عبد الناصر الكبرى من مجانية شاملة وكاملة للتعليم، الى نشر لشبكة الرعاية الصحية في كل ربوع مصر، الى بناء للسد العالي في أسوان (والذى يبرهن على عظمة الانجاز وتاريخيته كل عام مع مجيء الفيضان). الى ثورة كبرى في مجال التصنيع، وعلى جميع المستويات: من صناعة ثقيلة، الى متوسطة، الى خفيفة .. من الحديد والصلب والسيارات والتراكتورات والسلاح والطائرات، الى الورق والأدوات الكتابية. فلم تعد مصر عملاقا سياسيا فقط بل باتت عملاقا صناعيا واقتصاديا وعسكريا مرهوب الجانب.
بسبب كل ذلك ظهر عبدالناصر باعتباره قائدا وطنيا رفع رأس أمته وشعبه، وبخاصة من أبناء الفلاحين والعمال وفقراء المدن والطبقة الوسطى، فترجم شعار "ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد" الى واقع فعلى على الأرض. فلم تقتصر زعامة عبدالناصر على المستوى الوطني، بل أصبح "زعيم الفقراء" من كل فئات الشعب من الشغيلة والكادحين والمهنيين.
3. الكاريزما والسمات الشخصية:
بالإضافة الى كل هذه الانجازات التي وصلت الى حد "المعجزة" في المخيلة الشعبية، تميز عبد الناصر بسمات شخصية أهلته لتبوء موقع الزعامة بامتياز نادر، فلقد تميز بنوع من الكاريزما والحضور الشخصي الطاغي (وصفه البعض بالحضور الساحر)، بعينين مصريتين سوداوين ثاقبتين، وملاحة وجه نيلية آسرة، مع طول فارع وبنيان جسدي هائل جعله يصل، في الوعى الجمعي الشعبي، الى مرتبة أبطال الأساطير. الى جانب كونه خطيبا مفوها، يمتلك ثقافة سياسية وتاريخية كبيرة، ومنطقا محكما وبلاغة مقنعة ومؤثرة على نحو ندر نظيره بين الحكام المصريين، مع صوت رجولي معدني بالغ الأثر.
بالإضافة الى تمتعه بحس سياسي واجتماعي بالغ الرهافة، فتمكن من خلق قناة تواصل بينه شخصيا، من ناحية، وجموع الشعب، من ناحية ثانية. بحيث بدا الأمر وكأن خطابه مضبوط على "موجة" بث شعبية، لا تخطئ وجهتها نحو مشاعر وعقول الجماهير.
4. طبيعة الوعي الثقافي لدى الجماهير :
من هنا بدا عبدالناصر، في الوعى المصري والعربي، كما لو كان "المخلص" الذى أرسله "القدر" ليملأ الأرض عدلا وتقدما ورخاء واستقلالا وكرامة، بعد أن ملئت ظلما وتخلفا وفقرا وارتهانا لإرادة الاستعمار .ولاشك أن الفارق الكبير بين ما حققه عبدالناصر من انجازات وانحيازات الى جانب ما تمتع به من ملامح وسمات، من ناحية، ونهج من جاءوا بعده، من ناحية أخرى. فقد أكد فكرة القيمة الاستثنائية لعبدالناصر. فلم يتمكن أحد ممن حكموا مصر بعد وفاته أن يملأ الفراغ الكبير الذى تركه.
5. التقييم والمآلات:
وبالطبع شاب تجربة عبدالناصر الكثير من الاخفاقات والأخطاء، وكان هو أول المعترفين بها. وعلى رأسها ملف الحريات وهزيمة السابع والستين، ولكن انجازاته ومواقفه، على المستوى الواقعي، وقيمته ودلالته، على المستوى الرمزي، كانا أكبر بكثير من كل أخطائه. بل أكاد اقول أن هزيمة السابع والستين، وهى أقسى اخفاقاته بلا شك، قد عززت من تعاطف الناس معه وتعلق قلوبهم به، لأنه بدا كما لو كان "بطلا تراجيديا" نبيلا يريد الخير والتقدم لبلاده ولقضية العرب ولقضية الحرية على صعيد العالم، يسقط في حومة الصراع مع الأعداء والمتربصين الذين يحيكون له المكائد لإسقاطه وتدمير جهوده. كما كان لرحيله الفاجع أثناء محاولته لإيقاف نزيف الدم الناتج عن الاقتتال الدامي بين القوات الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، في مؤتمر القمة الذى عقد بالقاهرة في السادس والسابع والعشرين من سبتمبر 1970، دور في تعزيز صورته، باعتباره الفارس النبيل الذى يستشهد في ميدان القتال.
ولعل من أبلغ ما قيل في هذا المعنى ما قاله الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم :
"عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت".
عن (الحوار المتمدن)