أنجز الناقد والمترجم المغربي شكير نصرالدين عدة مهام في مجالي الترجمة والنقد الأدبي، أثمرت على مدى ثلاثة عقود العديد من الإصدارات المهمة، التي جعلته يتبوأ مكانة رائدة في النقد الأدبي المغربي، كما أن غرامه بالأدب العالمي خصوصاً الروسي والفرنسي وراء ترجماته لباختين وفرانسوا رابليه وسينويه، ليعد واحداً من المترجمين المغاربة، الذين ساهموا في إثراء المراكز العلمية البحثية. وينطلق شكير من مفهوم أن ترجمة النص ليس نقل لغة فحسب، بل نقل ما تحمله هذه اللغة من مضمرات ثقافية، وتاريخية، ودينية، وعلمية. وفي حواره مع «الجريدة» من القاهرة، يقول: «على المترجم أن يسعى بكل جهد حتى يبدو النص وكأنه غير مترجم»، ويضيف «أقدم الترجمة خدمة للقارئ، الذي أفترض أنه لا يجيد اللغة وفي الوقت نفسه يجيدها كأي خبير لغوي»، وإلى تفاصيل الحوار:
● ما الرؤى النقدية التي خلصت إليها في ثلاثية ترجمتك لميخائيل باختين، «جمالية الإبداع اللفظي»، «أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية...»، «الفرويدية»؟
- كل كتاب من العناوين المذكورة أعلاه لميخائيل باختين مشروع نقدي في حد ذاته، بل قل مشاريع نقدية، لا يمكن اختصارها في جمل معدودة، إذ قدّمتُها للقارئ العربي ليطلع على باختين في النص ولا يكتفي بالملخصات وملخصات الملخصات، وإذا كان من نظر خلصت إليه بعد رحلة طويلة مع هذه المنجز الفكري الرصين، فهو قراءة النصوص في ما يربطها، داخلياً وخارجياً، في الزمن وفي المكان وفي المعنى، واعتبار النص كيفما ما كان حلقة في سلسلة من التبادل اللفظي، محكوم بتعاقب المتكلمين والمتخاطبين، عاجلاً أو آجلاً، وبمقاصد متعددة.
مكون ثقافي
● هل عكس الأدب صورة واضحة لك للمجتمعات الأخرى لاسيما ثقافياً؟
- حينما نقرأ رواية من الروايات على سبيل المثال، فإننا نتصور شخصياتها وأزمنتها وأمكنتها انطلاقاً مما تقدمه لنا، ونكمل تلك الصورة بما نعرفه مسبقاً عن تلك المجتمعات، هذا في حال النصوص ذات المرجعية الواقعية؛ إننا لا ندخل فضاء روائياً بصفتنا قارئاً انطلاقاً من فراغ، بل انطلاقاً من تجربتنا الذاتية، وبيئتنا المجتمعية والثقافية؛ لكن حينما نترجم تلك الرواية فإننا نسعى إلى نقلها كما هي في السياق الذي أنتجها، لكن بلسان مغاير، فالفهم الدقيق للنص بكل تضميناته
ومضمراته هو الكفيل بجعلنا ننقله في صورة تعادله شكلاً ومضموناً، وفي جميع الأحوال، فإن المكون الثقافي في النصوص لا يمكن فصله عن اللغة، كمن يريد فصل ظهر ورقة عن بطنها.
السرد القصصي
● ماذا عن أهم العناصر الذاتية والموضوعية التي دفعت بك إلى الكتابة والبحث؟
- لعل حب قراءة الروايات والقصص في سن مبكرة جداً كان له تأثير في اختيار التوجه الأدبي ضمن المسار الدراسي أول الأمر ثم الأكاديمي بعد ذلك؛ وكما هو معلوم فإن المرء يبتدئ بكتابة خواطر، وقصائد شعر وغيرها، لكن الغالب في كتاباتي المبكرة كان هو السرد القصصي، بالفرنسية، ولأن مجال النشر لم يكن متاحاً بالشكل الذي كنت أرجوه آنذاك، انصرفت إلى الكتابة بالعربية، قصصاً قصيرة ثم مقالات نقدية، وبالتزامن نشرت أولى مقالاتي في الترجمة عبارة عن دراسات تختص بالنقد الأدبي، والنظريات الشعرية، والسيميائيات وغيرها.
غالب ومغلوب
● برأيك لمَ تكثر الترجمات من اللغات الأجنبية إلى العربية بينما يقل الإقبال على ترجمة أدبنا العربي إلى الغرب؟ وهل للسياسة والاستقرار السياسي دور ما؟
- لا أرى أن للسياسة عموماً، والاستقرار السياسي خصوصاً، علاقة بالترجمة، أو على الأقل بصفة مباشرة وفي سياقنا العربي، الترجمة مثلما تمارس هنا وهناك، تدخل ضمن إطار حضاري عام هو العلاقة بين الغالب والمغلوب، المستعمِر السابق والمستعمَر، المستقل سياسياً، لكن الذي يدرك اتساع الهوة الحضارية تقنياً، علمياً، أدبياً، فكرياً، وفي الحال التي تخصنا، أي الترجمة في صنف الأدب والعلوم الإنسانية بصفة عامة، فإن المترجم جزء من حركية إبداعية غايتها تيسير المعارف للطلاب وأهل الاختصاص في فروع معينة يحتاجها الدرس النقدي والفلسفي عربياً؛ هذه الحركية التي شهدها المغرب في ثمانينيات القرن الماضي والتي سعى من خلالها المترجمون فرادى أو ضمن فرق جامعية أو إعلامية صحف ومجلات إلى ضخ دماء جديدة في جسد الدرس النقدي والفلسفي الذي كان يتغذى على نقود ومناهج لم تعد قادرة على منحه القوة اللازمة للعيش والبقاء.
تجديد نقدي
● ما المعايير المطلوبة لاختيار عمل قصد ترجمته؟
- لا أدري إن كانت هناك معايير محددة لاختيار هذا العمل أو ذاك؛ شخصياً أختار النصوص النقدية، إذ كما أقول، الترجمة عندي سعي لتجديد الدرس النقدي بالمغرب، وبالتالي عربياً؛ اخترت باختين لإيماني العميق بثراء فكره وحاجة الدرس النقدي إليه؛ أما النصوص التخييلية التي قمت بترجمتها فكانت من اقتراح الناشرين؛ إذ في معظم الأحيان كانت الروايات المقترحة تصادف استحساني لها بصفتي قارئاً.
تقنية معرفية
● إلى أي حد يمكن أن تساهم الترجمة في التلاقح الثقافي بين الشعوب؟
- منذ أن كانت الترجمة وهي تسعى إلى تحقيق هذه الغاية، هناك حاجة إلى ما ينجزه الآخر، كما أن الآخر في حاجة إلى معرفة ما ننجزه، ما نفكر فيه وبه وإن الآثار الإيجابية لا ترى في العاجل، بل إنها حركية تعطي ثمارها في الآجل، سواء بالنسبة للأفراد أو للمؤسسات. كما أن الترجمة بالمطلق ليست واحدة، هناك ترجمة العلوم والتقنيات التي يجب التصدي لها أكثر، أما باقي فروع المعرفية، فهي على قلتها تساهم، من قريب أو من بعيد في معرفة الآخر، لكن المؤسف أن الغالب هو الاتجاه الوحيد، إذ نترجم من لغات الآخر أكثر مما يترجم الآخر من لغتنا.
ثلاثة عقود من الدراسات النقدية
يعد شكير نصرالدين واحداً من أبرز النقاد والمترجمين بالمغرب، ينشر دراساته النقدية في صحف ومجلات مغربية وعربية ودولية منذ ثلاثة عقود، ومن إصداراته الترجمية الصادرة حديثاً: جمالية الإبداع اللفظي ميخائيل باختين... أليس في بلاد العجائب، لويس كارول، فتاة من ورق، غيوم ميسو، القراءة، فانسون جوف، ترجمة مشتركة مع الدكتور محمد أيت لعميم، النقد الأدبي جيروم روجي، أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة. ميخائيل باختين. صمت الآلهة، جلبيرت سينويه. الفرويدية، ميخائيل باختين.
* * * *
جمالية الإبداع اللفظي
ترجم شكير نصرالدين كتاب ميخائيل باختين «جمالية الإبداع اللفظي»، ويقول عنه إنه بمنزلة عدة كتب في كتاب واحد، وهذا الكتاب هو مصنف تم جمعه ونشره عام 1984 بعد وفاة صاحبه، ويضم في حقيقة الأمر أكثر من كتاب، بالنظر إلى حجم الدراسات التي شملها، وامتد إنتاجها لأكثر من نصف قرن من الإبداع (1920-1974) حيث يمكن اعتبار كل من المؤلف والبطل ورواية التعلم في تاريخ الواقعية وأجناس الخطاب بمثابة كتب داخل كتاب واحد.
فالدراسة الأولى «المؤلف والبطل» هي بحث ظاهراتي حول علاقة المؤلف بالبطل فيه يقترح ميخائيل باختين وضع نمذجةٍ للخطابات، حيث يرى أن الحدث الجمالي يقوم في الآن نفسه الذي ينشب فيه الصراع بين وعي المؤلف ووعي البطل، وهذا الصراع الذي يتجلى جزئياً في التفاعل اللفظي والحوار المنقول هو أصل الحوارية.
أما الدراسة الثانية «رواية التعلم في تاريخ الواقعية» فهي تمثل نمذجة تاريخية للرواية (رواية السفر، رواية الاختبارات، الزمن، تمثيل العالم، الرواية السيرية، رواية التعلم). ويتناول باختين في الدراسة الثالثة «أجناس الخطاب»، وحسب باختين فإن الموقف الفلسفي يتجلى في رفض الانغلاق داخل مجال بحثي واحد. هذا فضلاً عن دراسات أخرى، تعد بمنزلة خزان من الأفكار والتأملات هي أقرب إلى مشاريع وخريطة طريق ينبغي أن يسير على هديها النقاد. وقد ذيل المترجم شكير نصرالدين الكتاب بمعجم للألفاظ وفهرس الأعلام والمؤلفات والشخصيات.