بعد منتصف الليل، استيقظت فجأة. رفعت رأسي قليلا عن المخدة، ونظرتُ إلى الساعة التي تشع لونا أخضر في الظلام، كانت العقارب تشير إلى الرابعة فجرًا، قلت لنفسي ” هانت”، مجرد ساعتين وتتوفى جدتي، ثم تتغير حياتي عقبًا على رأس.
كنت أتلهف إلى لحظة وفاتها، وهي من خلقت هذه اللهفة. أخبرتني في لحظة صفاء منها، ولحظة إحباط ومعاناة شديدة مني، إنها عندما تموت سيصاب جميع أفراد العائلة باللعنة، وحينها أستطيع أن آخذ كل النقود والذهب المرصوص في بيت العائلة وأهرب بعيدًا. ثم أضافت بحب ” تستاهل إنتَ وأمك، تعبتوا كتير”.
كنتُ موقنا أن الصحيان والانتظار سيأكلانني أكلاً. حاولت أن أمد في أحداث الأحلام التي أحلمها، أو أنقلها إلى ذكريات الماضي، لكني فشلت بسبب صوت خبطات أمي علي خشبة سريري، كأنها تستأذن الدخول. أخبرتني في لهفة إنهم أخذوا جدتي إلى المستشفى منذ فترة، ولكن خبر الوفاة لم يأت بعد. عدلت جلستي، وأرحت ظهري على مسند السرير، أشعلت نور الغرفة وتمعنت لوهلة في أمي، فوجدتها قد نزل طولها إلي النصف وأدرك أن جدتي ماتت، وأن أمي لُعنت أيضا.
انتفضت من على السرير، أمسكت أمي من يدها وجررتها خلفي. أدخلتها إلى غرفتها وطلبت منها أن تبقى بالداخل ولا تحاول الهرب حتى لا يكتشف أحد خطتنا ويعتدي عليها. انتظري حتى ندفن جدتي، ونجمع المال ونهرب سويًا، دعت لي بأن يسدد الله خطاي ثم خرجت من الغرفة، وأغلقت الباب بالمفتاح. ذهبت إلى المطبخ، فتحت كل الأدراج حتى وجدت المقص، ثم وضعته في جيبي الخلفي، وقبل أن أخرج وقفت أمام المرآة لأتأكد من أني لم ألعن بعد.
كان الطريق إلى المستشفى مزدحمًا، وكنتُ في قمة غضبي. أحرق السجائر، وتخيلتني أحاور جدتي، أطلب منها أن تصارحني بكل شيء. لماذا لعنت أمي على الرغم من أنها تعرف أني أستطيع فك اللعنة؟ ولمَ تلعن أمي من الأساس، ألم تخدمها بما يكفي؟ ألم تعرف مقدار حبي وتعلقي بأمي. لماذا كذبتِ عليّ، وأنتِ تدعين إنك تحبينني أكثر من كل أفراد العائلة؟ كنت مرعوبًا ومتخوفًا مما هو قادم.
ترجلت من سيارة الأجرة. وقفت أمام البوابة الخلفية. مسحت عرقي بمنديل، ثم عبرت من البوابة المواربة. على الرغم من أن السبب الرئيسي لقدومي إلى المستشفى هو أن آخذ جثة جدتي وأقطع لسانها فتنفك اللعنة، إلا أن فكرة تواجدي بالقرب من المشرحة، تثير فيّ الرعب.
كان الواقفون أمام باب المشرحة قلة قليلة، يحتمون في ظل شجرة، أو ظلال حيوانات ضخمة. كنتُ أعرف أن هذه الظلال هم أفراد عائلتي، وأدركت أن اللعنة اكتملت. عندما رأوني، أقبلوا على بسرعة، كأنهم فراخ وأنا دورق ماء في ليلة عطش شديد. لم يدركوا بعد أنهم تلاشوا تمامًا، وأن تكوينهم الجسدي زال وتحول إلى مجرد ظل يدوس عليه الرائح والغادي. كنت أفكر في أمي وبما تشعر الآن. حتى أقاوم البكاء، عبرت باب المشرحة عازمًا علي قطع لسان جدتي من عرقوبه. كان الموظف المسئول عن الجثث يفرد قدميه على المكتب ويدير رأسه إلى الخلف وبعينيه يحاول أن يقرأ لوحة التقويم المعلقة خلفه على الحائط. وضعت له بطاقتي على المكتب فحاول أن يقرأ بعينه من بعيد، فشل، فقرّب جسده أكثر وقرأ اسمي، بانت عليه علامات الراحة، ابتسم وهو يُنزل قدميه عن المكتب وقال “إنتَ اللي كنت بتكلمني في التليفون تستعجلني؟” فأومأت بالإيجاب، قال” أُمّال تأخرت ليه يا أستاذ؟” لم أرد.
طلب مني استكمال الأوراق المطلوبة حتى يفرج عن الجثة، وقبل أن أخرج من الباب، علق على صدري يافطة صغيرة كتب عليها “أنا حزين، لدي حالة وفاة”. قال بحزم إنها ستساعدني في تسهيل الإجراءات. خرجتُ من مكتبه، فتهافتت عليّ الظلال. كانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر تجاههم بمشاعر عطف، ولا أدري لماذا كل ما أريده هو أن أخلصهم فورا.
خرجت من البوابة وهم يتبعونني، وبدأت نظرات العابرين تلتقطني، أو بالأحرى تلتقط الورقة الملصوقة على صدري. لمحها شاب في منتصف العشرينات فجاء وحضنني. ابتسمت له، وعندما أدار وجهه نزعت اليافطة من على صدري، ورميتها على الأرض.
ذهبتُ إلى المقهى المقابل لبوابة المشرحة لأستخرج الأوراق من هناك، وقد كان مشهورًا بذلك. ابتدأ كمقهى عادى يجلس عليه رواد طبيعيون إلا أن النهنهات، والدموع نفضت من عليه كل الزبائن، أجَّر صاحب المقهى موظفًا حكوميًا ودفع له راتباً كبيراً كي يأتي إلى المقهى لينهي إجراءات المتوفين. أقسم راوي الحكاية إنهم في فترة سابقة فتحوا مشرحة خصوصي بالداخل، وكانت أغلب الجثث تتحول إلى المقهى بدلا من المشرحة الرئيسية. لكن المشهد العام في الشارع كان فظًا، فتراجعوا عن الفكرة وحافظ كل منهما على تخصصه.
وضعت الأوراق على مكتب، لا أرى من يجلس خلفه من ثقل دخان شيشته، خرجت يد من وسط الدخان قلبت الأوراق، ثم سمعت صوته الجهوري يسألني أين اليافطة؟ أخبرته إني مزقتها. صرخ فيّ بصوت عالٍ، ولقنني درسًا في كيف أنني إنسان جاحد لا أتقبل ولا أريد الدعم والإخاء. أخبرني إنه لن ينهي أوراقي، إلا عندما أضع يافطة أخري.
عدتُ إلى المستشفى، دفعت جزاءً واشتريت يافطة جديدة علقتها على صدري. بعدما عبرت بوابة المستشفى، وجدتُ رجلا بدينا يقف في طريقي، وبينما أحاول تجاوزه، حضنني بقوة. دفعته ثم نظرت إلى ملابسي. كانت مبتلة من أثر الحضن. نظرت له بقرف من تحت إلى فوق، ثم عدت إلى المقهى. جلست حتى انتهت كافة الإجراءات ثم أعطاني رقمًا أستلم من خلاله الجثة. خرجت من المقهى، ووجدتُ الرجل البدين يقف أمام باب المستشفى. عندما أصبحت بالداخل واتجهتُ إلى الباب، وجدته ورائي. دخلت إلى الموظف، فتح لي باباً خلفه، وأصحبت أقف في طابور قصير نسبيًا.
كنتُ أفكر بالشكل التالي: أن آخذ الجثة في تاكسي إلى البيت، أقطع لسانها فتنفك اللعنة، وألقي بها في مقلب زبالة. لا أريد أن يكون لها شاهد قبر أو خلافه.
استلمت الجثة على نقالة، خرجت من البوابة الأمامية فوجدت البدين والظلال في انتظاري وحولهما مجموعة من الناس لا أعرفهم، يقفون طابورًا ليحضنوني واحدًا واحدًا. ساعدني البدين في رفع الجثة إلى داخل سيارة الإسعاف. تحركت السيارة، وتساءلت هل الظلال المجتمعون أمامي يتذكرون؟ إذا أخرجت المقص الآن من جيبي وقطعت لسانها وأنهيت اللعنة، هل سيتحولون في الحال إلى بشر فيحاسبونني؟ هل يتفهمون أنهم كانوا ملعونين؟ هل يعترفون ويقدرون أنني من فككت تلك اللعنة؟ لكنها والدتهم، لا أعتقد أنهم سيتهاونون في شيء كذلك. كنتُ غاضبًا ومتوترا للغاية فقلت للسائق أن يقف على جانب الطريق، وصرخت في البدين أن ينزل من السيارة فأجهش بالبكاء، بكاء كثيفاً، أخرج رائحة نفاذة، قال البدين إنني أحتاجه، فأنا وحيد ومن سوف يساعدني في حمل الجثة، لكني أصررت فتدخل السائق وقال “اتركه يا فندم”. فلم أستجب. قال السائق إذا لم تدعه فأنا لن أساعدك في حمل الجثة. قلت له هذا هو المطلوب، فمد السائق يده في الخلف، وأخرج صاعقاً كهربائياً وصعقني بقوة.
أفقت وأنا في صحن الجامع ورأسي علي فخذ البدين والظلال من حولي، وكانت الجثة بعيدة تنتظر الصلاة عليها. شعرت بالورطة وأن اللعنة أبدية، وأني سأفقد أمي إلى الأبد. وبدأ عقلي يفكر في طريقة أخري، أن أتفق مع الحانوتي، بعد دفنها أن نخرجها ونقطع اللسان. وإذا أراد الحانوتي أن يأخذ الجثة ويبيعها فليفعل. لدقائق شعرت بالطمأنينة لهذا المخطط على الرغم من أنه يبدو مخططًا خياليًا.
خرجنا من الجامع وأنا أشعر بالإنهاك من أثر الصعقة التي ما زالت مستمرة معي حتى الآن. كنتُ أمشي خلف سيارة الإسعاف، حتى وصلنا إلى مدخل شارع الحاج فرج.
” ممنوع”. قالها الحاج فرج بصوته الجهوري، وهو يظهر كجبل من الدخان، حاملاً نبوتًا ضخمًا.
كان الحاج فرج فتوة ورجلا مهيبا وعندما توفي سمي الشارع الذي دفن فيه باسمه. ومنذ ذلك الحين أصبح مسئول الجثث التي تدخل وتخرج من شارعه. لما سأله الحانوتي عن السبب، قال الحاج فرج “مش كاملة” وأنا لا أسمح بدفن جثث ناقصة.
وقفت بجانب الحانوتي وهو يفتح الكفن، أتطلع من بين أصابعي التي تغطي وجهي. فتح فمها. لم يكن اللسان موجودا. بشكل تلقائي نظرت إلى الظلال، فكانت كما هيّ تقف في صمت مهيب. لقد خدعت مرة أخرى. استسمح الحانوتي الحاج فرج في دفن الجثة، لكنه أصر على الرفض.
“والحل؟ ” قلت للحانوتي فاقترح أن ندفنها في أي مقابر صدقة. ذهبنا إلى شارع الحاج رفعت، ولكنه رفض. لففنا على كل شوارع وحواري المقابر، ولم يوافق أحد على دفنها. عرضت علي الحانوتي أن يشتري الجثة، فتطلع إليّ باستغراب وطلب من الله أن يهديني.
عدت بسيارة الإسعاف إلى البيت. صعد معي البدين، والظلال. أعدنا جثة جدتي إلى غرفتها، ثم توزعت الظلال كل إلى بيته. دخلت إلى الغرفة التي بها أمي، فوجدتها ظلا صغيرًا يجلس على السرير يرتدي النظارة ويقرأ في المصحف. دمعت وودت لو أحضنها. تمدّدت بجانبها، أغلقت عيني وهبط عليّ النوم ببطء، تقلبت كثيرًا حتى استقررت نائمًا على ظهري. كنت أري غيمة أمامي أو غشاوة، ولا أدري إذا كان حلمًا أم لا. تراءى لي أني أريح ظهري على مسند السرير، وأن ثديي يكبران بشدة. تضع أمي النظارة إلى جانبها، تخلع ملابسي. يُفتح الباب، ويدخل البدين وخلفه الجثة وتركض الظلال. تمص أمي من ثديي الأيسر، يأتي الجميع من ناحية اليمين، وينهالون على ثديي الآخر، يمصون ببطء، ببطء شديد حتى تصفيت بالكامل وأصبحت هيكلاً عظمياً، كأنني بقرة متحللة.