«وينك يا لبنان» الصرخة التي أطلقها عامل لبناني، وهو برى الخراب أمامه، هو نفس السؤال الذى انتهت به الرواية: أين أنت أين ياعراق؟ مرثية لأحلام جيل في الثورة ضد أنظمة فاشية، لنضال الحزب الشيوعي العراقي، وإخفاقاته، ممثلا في "سعد" المناضل الذى استولى على زوجته وبناته أحد ضباط أمن نظام البعث.

رواية العدد

وينك يا بلدي؟

سلام إبراهيم

 

انتزعتُ نفسي بعناءٍ من الفراشِ عازماً على زيارتها. فقد مرَّ أسبوعان كنتُ فيها متردداً أَلومُ نفسي تارةً لقبولي بالمهمةِ وأشجعها في أخرى قائلاً في سري:

- لعلَّ زيارتي تبرد قلبها!.

الغرفةُ معتمةٌ. أزحتُ الستارةَ، فتسلل ضوءٌ شاحبٌ معرياً الأريكة، وتحف صينية رخيصة مرتبة على مناضد صغيرة موزعةً بالزوايا. لبثتُ على حافةِ مجرى الضوء مهدوداً أحاولُ التماسكَ كي أقوم بارتداء ملابسي. عاودني اللومُ:

- أي مهمة ثقيلة وافقتَ على أدائها!.

همستُ لنفسي بخفوتٍ متأرجحاً على حافةِ الوهنِ. شددتُ جسدي لثوانٍ لكنهُ انحلّ من جديد. فتهالكتُ على كرسي بمواجهة النافذة، ورحتُ أحملق شارداً ببقايا حديقة أبي وشجرة النارنج الوارفة جوار الجدار الخلفي للدكان الذي بنوه في سنين الحصار، لديّ أكثر من عشر ساعات عن الموعد الذي اتفقنا عليه تلفونياً، كانَ صوتها ناعماً يشف بالشوقِ وهي ترحب بيّ وتقول:

- وأخيرا ستتحقق أمنية عمري!.

وأرتجفَ صوتها مهتزاً بنبرتهِ الخافتةِ وهي تضيف:

- أريد التفاصيل كلها.. كلها!.

واختنقتْ بالكلماتِ. أصابتني عدواها فكدتُ أنهدّ ناحباً. ودعتها بارتباك وأغلقتُ الخط.

أيقظني من صدى صوتها المخنوق صياح ديك الجيران وضجيج المدينة التي بدأت تستيقظ. أنهضتُ جسدي مستنداً بذراعيّ على مسنديّ الكرسي. أخذت دشاً بارداً. كانَ البيتُ ساكناً. أخي الصغير وزوجته وطفليهما يغطون بالنوم فاليوم جمعة. أخرجتُ من حقيبتي الجلدية صورهِ القديمةِ، دسستها في جيبي وتسللتُ بهدوء خارجاً. تلكأت جوارَ باب بيتنا مغموراً بنسيمِ الفجرِ، أشمُ عبقَ طفولتي من الجدرانِ وأبواب البيوتِ والغبارِ وأعمدة الكهرباءِ والإسفلتِ وأنفاس رفقتي الذين تناثروا بعيداً.. بعيداً في الحروبِ والمعتقلاتِ والأحداثِ.

تأملتُ، وجوه المارةِ المتيبسةِ المشققةِ المهمومةِ وهي تنقلُ خطوها بتثاقلٍ. أكوامَ الزبالةِ المنثورةِ على رصيفِ الشارع الوسطي العريض، الجدران القديمة الهرمة، تباشيرَ الشمس الداميةِ في الأفقِ الشرقي البعيدِ، منارةَ جامع حي العصري العالية. عببتُ نفساً عميقاً، ورميتُ خطوي باتجاه السوق ومركز المدينة. قلتُ مع نفسي:

- يجب أن أعد خطة الروي حرفاً.. حرفاً.. وكلمةً.. كلمة.. وجملةً.. جملة وبحسابٍ دقيقٍ، لكن كيف؟!. هنا تكمن المعضلة!.

فالقصةُ طويلةٌ ومبرحةٌ فقد كان وجهاً من وجوهِ عمري ممن فقدتهم في اللّجة، والذين يستيقظون بين الحينِ والحينِ منبثقينَ من ذاكرتي الداميةِ في سنين المنفى الطويلةِ، فأراهم في تأملاتي الشاردةِ رؤيا القلبِ والعينِ وأكادُ ألمسهم في وحدتي إلى أن يرموني إلى حافةِ الكأس فأغيب. لكن منذُ أنّ كلُفوني باللقاء بها عاشرني، فبتُ أراهُ وأسمعهُ وأكلمهُ في شرودي وأحلامي، بوجهه الضاحك البهي، وقامته متوسطة الطول الرشيقة وهو يحدثني عن أحلامهِ الواسعةِ ونحنُ نقفُ في الطابورِ الطويلِ أمامَ مركز التطوع الكائن خلف سينما الثورة في جانبِ الديوانيةِ الصغير، كانَ ذلكَ في خريفِ 1970 والمعارك محتدمةً بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين في عمان والمدن الأخرى. أرى قسماته في هذا الصباحِ الذي بدأ يضّجُ، حيّةُ دانيةً؛ بتقاطيعه الناعمة، عينيه الواسعتين بلونها الأزرق الناصع وكأنهما لؤلؤتان قدّتا من سماءِ يومٍ صافٍ، أنفه الصغير المنحوت بدقة، وجنتيه الناتئتين المائلتين إلى الحمرة، وفمه الصغير بشفتيه المكتنزتين. كانَ ينكتَ طوالَ الوقتِ مشمراً ذراعيهِ النحيفتينِ، وينفجر بالضحكِ الصاخبِ، فيظهر صفّي أسنانه البيض، وبين نكتةٍ وأخرى يترجّاني قائلاً:

- لم تزل صغيراً على القتالِ والحربِ!

فتحتدم حماستي رافضاً نصيحتهُ. كنّا وقتها نعتقدُ بقدرتنا على تحطيمِ العالمِ القائمِ وبناءِ عالمٍ جديدٍ، الكلُ فيه سواسية لا فقير ولا غني!.

- نحتاجكم هنا!.

أصررتُ ولم أغادر الطابور، لكن مركزَ التطوعِ طلبَ ممن لم يتجاوز الثامنة عشرة الانتظار، بينما سافرَ هو بعدَ أيامٍ، وغابَ غيابهُ الأولَ عن المدينةِ، ليحّل في معسكراتِ الفدائيينَ في الأردنِ. لم نلحقْ إذ تمكن جيش الملك "حسين" وقوات القبائل من تصفيةِ الوجود الفلسطيني، فانتقل إلى بيروت مع الفصائل المسلحة التي وجدت ملاذاً هناك. بقيتُ أتتبع أخباره المتباعدة التي تصلني همساً، فأشيعها في المقاهي مضيفاً عليها كما هو شأني، أتخيلُ يومه وأصفه لمن حولي، شكلَ المعسكرِ، والتدريب، والمكان ورفاق الثورة وعلاقاتهم التي تفوق علاقة الأخوة، مستعيناً بمذكراتِ "جيفارا" التي نُشِرَتْ لتوها، فننتشي بخاطرِ الثورةِ المسلحةِ، ذاك الحلم الذي بدا في العراق مستحيلاً بعد فَشل تجربة القيادة المركزية 1967 في أهوار الجنوب.

صرتُ وسطَ المدينةِ. بدأتْ المحلات بفتحِ أبوابها، وتعالى صياح الباعة. دخلتُ سوقَ التجارِ المسقوف شاماً روائح البخور والبهارات والأعشاب البرية من دكاكين باعة الأعشاب الكائنة في مدخله من جهة سوق الخضار.

أصبحتُ وسطَ السوقِ، شاعراً بحضوره قوياً كأنه يخطو جواري، فتعبقني رائحته وأكاد ألمسهُ في غمرة الظلال العميقة كما كنتُ أفعل حينما عادَ من بيروت بعد قيام الجبهة الوطنية بين حزبي البعث والشيوعي عام 1973.

سلكتُ الطريق الذي نسلكه مساء كل يوم إلى المقهى. أكسبتهُ تجربة العيش في معسكراتِ الثوارِ مزيداً من الصلابةِ والتوهجِ وهو يروي قصصاً تذكي أحلامنا الثوريةِ، عن كيفية وصوله ووضعه مع بقية المتطوعين في معسكرٍ خلفي، بينما القتال محتدماً وسط عمان، عن الأسرى الذين يسحبونهم من خطوط القتال ليودعهم غرفة السجن المظلمة:

- تدرون كم كانوا أجلاف مقاتلي القبائل؟!

يصمت قليلاً ثم يعلق بعينين تنظران في البعيد وكأنه يستعيد مشهداً ما:

- بدو في منتهى القسوة!.

نسأله:

- أش لون؟.

فيقص علينا واحدةً أخرى من القصصِ التي عادَ بها من أيلول الأسود في الأردن كما نعتوا تلكَ المعارك الداميةِ لاحقاً في أدبيات الثورة الفلسطينية: في يوم من الأيام أسر الرفاق واحداً منهم مجروحاً، كان ينزف، والمعارك تقترب. كنا نسمع صوت المدافع والرشاشات قويا. كان وجه الأسير صلباً كأنه نُحِتَ من صخرة سمراء صلدة. حاولت جرّهُ إلى الحديث لكنه ظلَّ صامتاً مثل قبر. وكان إلى جواري "رحيم العگيلي" وهو من المدينة أيضاً التحق قبلي بسنتين ويعرف تفاصيل لا أعرفها، تقاسمتُ والأسير رغيفَ خبزٍ والذي هو حصتي كل اليوم. شددتُ ساقه المجروحة بضماداتٍ بعد تعقيمها.

أتعرفون أش گال لي بعد ساعة؟..

سألناها بلهفةٍ:

- أش گال؟!.

فأكمل:

- گال: تدري يا ول لو أنت طحت بيدي أش كان سويت بك؟!. سألته: أش تسوي؟.. گال بصوت غليظ جهير: كانْ طَرَيتَكْ طَرْ!. فسمع "رحيم" اللي كان يعد تنور الخبز، شمر الحطب من يديه وجاء راكضاً، ومثل مجنون سحبه سحباً وأجلسه على علبة مليئة بالمتفجرات وسط الساحة. جمدت مذهولا، لا أفهم ما يجرى، وقبل أن أستفيق حدث الانفجار فرأيتُ جسد البدوي يتناثر شظايا. فرحتْ أصرخ وأصرخ:

- ليش.. ليش.. ليش؟!.

وانفجرت في نوبة بكاء وفقدتْ الوعي. كنتُ أنصت مذهولاً من تلكَ التفاصيل التي تشبه ما أراهُ بالأفلامِ الحربيةِ التي تُعرَض في سينما الجمهورية الصيفي المقابلة للمقهى التي كنا نجلس فيها. أصغي بكل حواسي متخيلاً المشهد بتفاصيله، وجه البدوي، وجه سعد ووجه رحيم، وشكل ساحة المعسكر الواسعة، وتنور الخبز، وذلكَ المساء.

و "سعد" بنبرة صوته القوية المختلفة عن نبرته القديمة قبل السفر يُكمل:

- ما اقتنعتْ بفعل "رحيم" ولا بما ظلوا يرددونه متوهمين أن كلامهم يخفف من جريمة قتل رجل أعزل: رفيق بعدك ما شفت شيء.. هذه هي الحرب!.

كنا، نحيط به في المقهى، نطلبُ المزيدَ. فيصمت قليلاً متفحصاً وجوهنا المذهولةِ بعينيه الذكيتين ويكملْ:

- المقاتلون خليط غير متجانس قادمون من شتى بقاع الوطن العربي فيهم الطالب، والعامل، والموظف، والمثقف، والكاتب، لهجات، وأخلاق، وعادات مختلفة تنصهر في حياة المعسكر الصارمة حيث كل واحد يؤدي واجبه دون تململ حتى في أصعب الظروف.

كنا نلتقي كل يوم عند ناصية مكتبة "الحكيم" الدينية المجاورة لسوقِ الخضار عصراً وندخل سوقَ التجارِ المسقف مبحرين في الظلال والزحمة، نتطلعُ إلى وجوه نساء الديوانية وعيونهنَّ الواسعة ونظراتهنَّ الباسمة. كنتُ أغار منه. كانَ فاتن القسماتِ، نظراته ذكية عميقة تقول لعيونهنَّ ما لا أستطيع. سألني عما وقعَ لنا في غيابهِ فأخبرتهُ عن اعتقالي مع جمع من الرفاق حيث سّفرنا من أمن الديوانيةِ إلى "قصر النهاية" وما رأينا من أهوالٍ وذلٍ هناك، كانت الفلقة من أوهن ما رأيناه إذ جعلوا بعضنا ينبح مثل كلب، والبعض الأخر يسير على أربعٍ مثل حيوانٍ، لم يُطْلَقْ سراحنا إلا حينما أوشكوا على إعلان الجبهة. قلتُ له: نَجُوْتَ يا سعد من ذلٍ حطم شيئاً في نفوسنا. خرجنا مكسورينَ لا نجرؤ على رفعِ رؤوسنا حينما نصادفُ شرطياً في الشارعِ.

أقطعُ الآن مسارنا القديم نفسه، محلات بيع الملابس لاتزال مغلقة في هذا الصباح الباكر، والسوقُ مكتظٌ بالأعلام السود والخضر وصور تحكي مشاهد من واقعة كربلاء، فاليوم السابع من عاشوراء.. سيزف القاسم عصراً مزداناً موكبه بصواني الشمع وطاسات الحناء وعيدان البخور لِيُقَتل بعد ثلاثة أيام في صبيحة العاشر من محرم.

مع توقف الملاحقات في أيام الجبهة الوطنية الأولى توهمنا السلام وقلنا؛ سننعم بالهدوء ونسلك سبيل الحياة مثل باقي البشر وبدأنا بذلك، توظف سعد كبائعٍ في مخازنٍ "الأورزدي باك" وأكملتُ دراستي الجامعية في بغداد، في عطلةِ من عطل نهاية الأسبوع، أخبرني بأنهُ وقعَ في الحبِ، ويكاد يجّن، وراحَ يسرد لي تفاصيل علاقته بفتاةٍ عندما رأيتها وقفتُ مذهولاً لفرط جمالها. كانت ممشوقة القامة طويلة، لها وجه يعمي الشمس وتقاطيع نارية تجعل المارة يتسمرون على الأرصفةِ بعيونٍ سارحةٍ وأنفاسٍ لاهثةٍ، قلتُ له:

- سعد هذي كارثة!،

فبرقتْ عيناه وصفتْ ملامحه وسرحَ بعيداً قبل أن يقول بصوتٍ مرتجفٍ:

- ومقتلي يا صديقي!.

أخذتهُ تماماً، فكفَّ عن علاقاته العابرة بالنساء. ولم يلبث أن تزوجها بعد مشقة. أبوها كان كاتب عرائض، مَحَلَهُ مقابل مركز شرطة المدينة القديم، مات باكراً قبل زواجه منها بعام. أما أمها فكانت قارئة حسينية، ممن يقيمن مآتم ذكر الأئمة للنسوة في غرف أيام الذكر وفي رثاء الموتى، ستساهم هي وثلاثة من أبنائها في انتفاضة آذار 1991 عندما سيطر المنتفضون على المدينة، وسيأخذها الجيش هي وأبناءها ويضيعون إلى الأبد، أما بقية الأبناء فقد تناثروا في بقاعِ الأرضِ أكبرهم "عالمَ ذرة" يقيم في لندن قبل المذابح، وأصغرهم صعلوكاً قتل صبياً في عراكٍ عادي بالأيدي وحكمَ عليه بالسجنِ المؤبدِ، البارحة صادفني في مقهى بشارع السراي، كان قد هرم فتهدمت وتهدلت قسماته بالرغم من أنه يصغرني بأعوامٍ. أطلقَ لحيته البيضاء الطويلة. عرفتُ منه أخبار عائلته وشتاتها، وقال لي بأنهُ يعملَ الآن سادناً في الحضرةِ العباسيةِ يخدم "أبا الفضل العباس". وجاءَ في زيارةٍ قصيرةٍ لمدينة طفولته الديوانية،

تزوجَ "سعد" وغابَ عن المقهى. صارَ قليلَ الحضورِ، فداومتُ بالمرورِ عليه في مقر عمله، نتجاذب أطراف الحديث لدقائق، قلت له مرةً:

- أخَذْتكْ المرة منا!.

فضحك وتلعثم بالكلام، فأضفتُ:

- والله حقك اللي عنده مثل حْبَيْبْتَكْ ينسى العالم والناس.

ضيّقَ علاقته بالمحيط. ولم يستقبل صديقاً قط كضيفٍ في البيتِ.

قلتُ مع نفسي؛ لو كنت محله لفعلتُ مثل ما فَعَلَ!، ولكن لن أفعل مثله رغم أني تزوجتُ امرأة لا تقل جمالاً وناراً عن جحيم "سعد" المضطرب. لم أفعل ولهذا قصة أخرى. كنتُ أعبر الوجوه التي أكتظ فيها السوق دون أن أرى أحداً، وجدتني في فمِ السوقِ المقابل للنهر، وضوء الشمس الساطع أضاء الجدران الرثة وأكوام القمامة والوجوه المتعبة لفلاحين يتزاحمون أمام مصرف الرافدين. عبرتُ نحو مقهى "الراية" وجلستُ على كرسي من البلاستيك في مواجهة مدخل السوق الظليل ورحت أحدق إلى وجوه أبناء جلدتي الذين فارقتهم أكثر من ثلاثين عاماً. وجوه كالحة، رثة، متربة، شاردة. وجوه كنتُ و "سعد" نتأملها في ذلك الزمن البعيد ونعتقد بأننا سنستطيع جعلها تعيش بسعادة في وطنٌ حر. كنا نجلسُ في مقهى "قدوري" المقابل لموضعِ جلستي مشتعلين متوهجين لا نكف عن الحوار ولا يشغل همّنا غير الناس.. والناس لا يأبهون بنا. لكننا لا نهتم، ونردد بكل ثقة:

- سيستيقظون يوماً وينتبهون لمأزقهم!.

وهذا ما لم يحدث قطّ!.

كنتُ أتمنى أن لا يأتي أحدٌ من معارفي يشغلني عن ترتيب الرواية، وفي الوقت نفسه كنتُ مسترخياً أمام نهر الأجساد المتدفق في الجادة العريضة، أستمدُ منه العزم لمواجهة صوتها الخافت المخنوق المرتجف الشبيه بنحيبٍ مكتوم، وهي تترجاني كي أقص عليها التفاصيل كلها:

- أحلم به، وأسمع صوته، وأتعذب. وأنتظرك!.

غرقتُ بالضجيج، منبه سيارات، أصوات مسجلات لعلعت بمراثٍ منغمة تندب مقتل الحسين على إيقاع لطم الصدور، لغط الرواد الذين اكتظتْ بهم المقهى. ضجيجٌ يجعل المرءَ يشعر بعنفوانِ الحياة رغم بؤسها ويلقي بيَّ على ساحل "سعد". الزمن بدا لي متوقفاً، فالمكان نفسه، مدخل السوق نفسه. المقاهي نفسها، الرواد فقط من اختلف، الساحة الفاصلة بين بناية دائرة الأمن التي كانت تبث الرعب فينا ومدخل السوق الجانبي من جهة العم "عارف" نفسها، القلعة القديمة بنوافذها وأركانها المدورة، في ركنها الأيمن حللتُ مذلاً مهاناً مكسوراً خمس مرات في عزّ شبابي، لكنها الآن مهجورة ومحاطة بقواطع إسمنتية خوفاً من التفجيرات. دكاكين باعة الأحذية، الساعات، القمصان، والكتب نفسها، لكن الأبناء حلّوا محل الآباء الذين رحلوا. قلت مع نفسي مخاطباً الديوانية:

- إذن.. أنتِ باقية ونحن نتوارى ونغيب!.

أشعر بالغصةِ. فمدينتي الباقية مثل أخواتها محتلةً وطئتها أقدام الغزاة المتوارين في المعسكرات المحيطة.

أشرد حالماً منفصلاً عن خضم اليوم وسط السوق، أشرد والمدينة لا تكاد تشعر بوطأة المحتل، ولا يلاحظهم المرء إلا حينما يسافر بين المدن، فيرى رتل الدبابات المحمولة وهي تصعد نحو بغداد أو تنحدر نحو البصرة. قلتُ مع نفسي:

  • المدن تعيش حياتها غير آبهة بالمحتل الغريب، وبشرها هم.. هم!.

لم يتذكر "سعد" أحدٌ، ولم يرد ذكره في مقاهي ومساجد وأسواق المدينة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من غيابه عنها، فمن يتذكره والكثير ممن يعرفهم من أبناء جيله قتلوا في جبهات القتال مع إيران، وفي السجون، وفي قصف الطائرات والصواريخ الأمريكية في حربي 1991، 2003. ومن تبقى مريضاً يلوذ في المقاهي يجتر أيامه، لم يسألني عنه إلا شخص واحد كان معنا في طابور التطوع ولم يسفّروه لصغر سنه أيضاً. سألني عندما لقيته صدفةً في مأتم:

- أش أخبار سعد؟!.

لم أجبه. كان الوقت ضيقاً ونحن نجلس في باحة الجامع المكتظ بالدخان وضجيج المعزين وصوت عبد الباسط المضخم وهو يرتل ما تيسر من آياتٍ، تواعدنا ولكننا لم نلتقِ ثانية إذ لم أصادفه في المقاهي والأسواق.

شعرتُ بالأسى حينما وثقت أن مدينتنا جاحدة غير مبالية بمصيرينا.. ولا تعرف عن عاشقيها شيئاً.

* * *

قُرِعَتْ الباب في ليلةٍ باردةٍ من شتاءِ 1978. جمدتُ في سريري أنصتُ للصمتِ وأنفاسي وضربات القرعِ الخافتةِ. كنتُ أغط في ظلامِ الغرفةِ وكأنني أحتمي فيه مما يجرى في الشارعِ، فحملة الاعتقالات بدأت في الديوانية قادمة مثل موجةٍ من البصرة، على الرغم من أنني لم أكن أعمل وقتها في تنظيم الحزب الشيوعي، لكن الحملة شملت كل من لم ينتمِ للبعث. لبثتُ أنصت إلى القرعِ المتباعدِ المتخافتِ وكأنَّ القارع يخشى ممن حوله. أزحتُ الغطاءَ بهدوءٍ وتسللتُ من الفراشِ نحو الدرج المفضي إلى سطح الدار. سحبتُ البابَ بتؤدةٍ كي لا تصدر أزيزاً. ومن حافةِ السياجِ لمحتهُ ينزوي بعيداً في ظلالِ مصباح الشارع المتدلي كهالةٍ فاضحةٍ من أعلى العامود الحديدي القائم جوار باب بيتنا. عدتُ إدراجي مسرعاً. نزلتُ درجتين.. درجتين، وقطعت المسافةَ بقفزات دون ضجيجٍ حتى الباب الخارجي. أبرزتُ جسدي فسقطَ عليّ ضوء المصباح القوي. لم يتحركْ من مكانهِ. لبثَ في الظلِ، وطفقَ يؤشر كي أسرع. اقتربتُ منه. رجوته كي يدخل. رفض قائلاً:

- ما عندي وقت!.

أخبرني على عجلٍ بأنه سيختفي عن الأنظار، قلتُ له:

  • أين؟!.

فأجاب:

- ما أدري.

قلت له:

- في بغداد!.

قال:

- ما أدري!.

لم أصدقه طبعاً فمن المؤكد أنه رتبَ الأمر برمتهِ قبل قدومه إليّ ويعرف بالضبط الخطوة التالية، كانَ محقاً في ذلك فبعد هذا اللقاء الخاطف بأسبوع خطفوني من نقطة تفتيش وأنا في طريقي إلى الحلة وأروني الويل مرة أخرى برغم معرفتهم كل شيء عني، إذ كنتُ مراقباً طوالَ السنوات السبع التي أعقبت اعتقالي الأول في 1971.

قلتُ له:

- ببش توصيني؟!.

قال:

- شيء واحد تنتبه لزوجتي وبنتيّ!.

قلت له:

- أش لون؟!.

قال:

- تتبع أخبارهم وراح أَوَدّيْ من يسألك؟!.

قلتُ:

- تدّللْ هذا إذا ما گتلونني!.

قال:

- لا أنت شقي وعمرك بقي!.

وَكَتمَ ضحكةً كادَ يطلقها في عتمةِ ظلال العامود الضيق. بعدها عانقني شاداً جسدي إليه بقوة، لم يكن حزيناً بل أحسستهُ قوياً قادراً. انفصلنا. ظلَّ ممسكاً بيدي وعلى وجهه بسمة خفيفة. عصرتُ أصابعه الناعمة وكأنها أصابع أنثى غضة، طرية، حارة. سحبَ أصابعه من كفي الضخمة. واستدارَ مبتعداً في اتجاه مركز المدينةِ. لبثتُ في وقفتي ساكناً حيث كان يقف في ظل المصباح أتتبع قامته إلى أن تلاشتْ في أفقِ الشارعِ العريضِ.

كانت غيبته الثانية!.

* * *

في الاستراحة خرجت من قاعة العرض خافتة الضوء إلى صالة المدخل المضاءة وتوجهتُ نحو الكافتيريا. طلبتُ فنجان قهوة، فمدتْ نادلة شقراء يدها بالكوب مع ابتسامة تراقصت في قسماتها الناعمة المتناغمة، نقدتها الثمن وأنا مسحور أكادُ أذوب بالوجه وحلاوة نبرة الصوت اللينة، حملته وقصدتُ مقعداً منزوياً. اتكأت على المسند الناعم وسهوت غارقاً في وضعي الملتبس هنا، ففي الأيام الأولى شعرتُ بنشوةٍ فريدةٍ، إذ وجدتني أتخلص من هول الرعب مرةً واحدةً، فلأول مرة في حياتي أجد نفسي في مكانٍ غير مهدد فيه.. إحساس بكر أتذوقه وأتمتع به، فهنا تلاشى خاطر وجوههم المرعبة وهم ينقضّون عليكَ في كلِ مكانٍ، في المقهى، ومكان العمل، في الشارع وغرفة النوم ليأخذوك إلى غرفٍ رطبةٍ لا تراها وأنتَ معصوب العينين مقيد اليدين لتبدأ بعد ذلك رحلة الرعبِ والتعذيبِ والإذلالِ حتى تحس بأنَّ حشرات الزنزانةِ العفنةِ أكثر حريةً منكَ ولديها كرامة. الإحساس الغريب الآخر الذي انتابني حالَ حلولي في "بيروت" هو هشاشة سلطة الدكتاتور فمنذُ الليلة الأولى تحولتْ وكأنها ذكرى جارحة قديمة في طريقها إلى التلاشي والنسيان. وجدتُ بالجموعِ المدنيةِ المسلحةِ التي تجوب الشوارع والتي تصادفها على الأرصفة، ما يدعوني للفخر بهؤلاء الثوار الذين كنتُ مؤمناً بأنهم سيفجّرون ثورة مسلحة في الوطن العربي تكنس الحكومات الفاسدة والقامعة، هذه الفكرة وحدها في بداية السبعينيات كانت تجعلني أحلم حينما كنت في العراق وأتخيل "سعد" الملتحق بالفصائل الفلسطينية، فكيفَ بيّ وأنا أعيش تفاصيل يومي وسطهم؟!. لكن بعد مرور عشرة أيامٍ بدأ المللُ يتسرب إلى نفسي وأنا أتعّرف على الدوامةِ التي يعيش بها الهاربون من أبناء جلدتي، فبدأتُ أفكر بالعودةِ ناسياً الهول الذي عانيته في أقبيتهم مما دفعني إلى السفر مودعاً حبيبتي ناهدة في صبيحةِ يومٍ مشمسٍ. أتتني هاربةً من مدرستها الإعدادية إلى بيت أختي – وداد -المتزوجة والساكنة "حي العروبة" والتي تكبرني، وكانت مدرّستها في مادةِ الكيمياء. وفي غمرة التقبيل واللمس كنا نتواعد بحماس على اللقاء خارج العراق ولكن في داخلنا موقنين باستحالةِ ذلك، كنا نعلّلُ نَفّسينا الحائرتين بين شدّة الحب والرحيل. نسيتُ رعبي، وحننتُ لكل شيء، صبيتي، أمي وأبي، أخوتي، الجيران، بقايا الأصدقاء ممن لم يهرب فانكسر ولازم البيت، الشارع، المقهى، العمل، شمس الديوانية، غبارها، سوقها المسقوف، مسّني الوجدُ وأذهبَ الهول الذي كنت فيه وأنا ألوذ في بيتي أرتجف من خاطرِ خطواتهم من أول المساء حتى وجه الفجر. لذلك قررتُ العودة بعد قضاء مدة إجازتي.

كنت أرتشف قهوتي شارداً عن زحام الصالة. وفجأة سمعتُ صوتاً يصرخ:

- سلومي.. سلومي أنت في بيروت.. حبيبي.. حبيبي!

سقطَ قدح القهوة من يدي، وهببت نحوه فاتحاً ذراعيّ. تعانقنا. ابتعدنا عن بعضنا ثم عاودنا العناق لمراتٍ عدة. كان يتلمسني بأصابعه وأنا كذلك كأننا نريد التيقن من وجودنا الفيزيقي، سألني:

- متى وصلت؟!.

- قبل عشرين يوما

- لم يخبرني أحدٌ!.

وأردف:

- نزلتُ من المعسكر قبل عشرة أيام!.

كان يلهث، يريد إنهاء هذه المقدمة من الحوار.

قال:

- لنترك الفلم.

  • إلى شارع "الحمرا" المكتظ، توجهنا نحو "الروشة". كنت أدرك مدى لهفته عليها. لكني لم أشأ الشروع بالحديث عنها متريثاً لكثرة ما سمعتُ هنا في "بيروت" عن حمى تبديل الزوجات والأزواج بين عائلات السياسيين الهاربين. إذ كان قد مضى على تركه المدينة قرابة عام.. ولا أدري ما تطورات وضعه الخاص. كنتُ قد تسّقطتُ أخبارها بدقة، إذ كانت موظفةً في مصرف "الرافدين". لم يمر على اختفاء "سعد" سوى ثلاثة أيام حتى استدعيتْ إلى دائرة "أمن الديوانية"، فسمعنا قصصاً تشبه الأساطير عن موقفها وما قالته إلى مدير الأمن من كلامٍ واثقٍ يبين شدة تشبثها به، كانت تلك التفاصيل الصغيرة نهمس بها لبعضنا البعض بإعجاب متخيلين المشهد هي بقامتها الفارعةِ وجمالها الوحشي تقف منتصبةً أمامَ قطيع الوحوش الكامنة خلف باب المدير، غير هيابةٍ تجيب على الأسئلةِ بمنطقٍ محرجٍ. كنا نعزو موقفها القوي إلى جرأتها أولا ثم إلى عدمِ تورطها في نشاطٍ سياسي فقد كانت معنيةً بجمالها وأنوثتها، وملبسها، وأناقتها، وعملها فقط. وحينما تسير في الشارعِ لا تتفضّل على عيونِ الرجالِ المستجديةِ بنظرةٍ. تكرر استدعاؤها، وفي كل مرة نسمع تفاصيل جديدة عن صمودها الذي أذهلنا، فكانت الأحاديث حولها تدور بألسنٍ مندهشةٍ وعيونٍ مبحلقةٍ إذ كانت سيرة "سعد" في المدينة تضفي على موقفها بعداً أسطورياً، وكان الملفت أنهم يطلقون سراحها بعد ساعات، لم يتوقف أحدٌ عندَ هذا السر، فالسلطة كانت شديدة الشراسة، فالعديد من النسوة عذبنَ واغتصبنَ.

جلسنا في بارٍ شعبي صغير، مشاد من الخشب، مفتوح على البحر وصخرة "الروشه" مرئية تشهق على يسار جلستنا، بدأنا نحتسي البيرة على مهلٍ، وبعد عدة كؤوس سألني بصوتٍ خافتٍ مرتجفٍ بالغاً اللحظة التي أجّلها طويلاً:

- ما أخبارها؟!.

ولاذ مترسباً في صمتٍ قلقٍ. حكيتُ له ما سمعته عنها في المدينةِ بتفصيلٍ دقيقٍ، فرأيتُ النشوة تنبثق من عمق عينيه كلما تقدمتُ في التفاصيل إلى أن فاضت على قسماتهِ التي راحتْ تلمع وتضيء وما أن ختمت قصتي حتى قفز من كرسييه صارخاًّ:

- سنشرب نخب "نيراني" العظيمة، وعلى الطريقة العراقية!.

هرعَ إلى البارِ بخطواتٍ قافزةٍ. جلبَ لتراً كاملاً من عرق "توما". وضعه في منتصفِ المنضدةِ الرثةِ الصغيرةِ. ورتّبَ لنا كأسين. عببناهما دفعةً واحدةً. أرخى رأسه على مسندِ الكرسي وأبحرتْ عيناه في أفقِ البحر الغائمِ. تركتهُ ينعم بالصمتِ والخيال فمن المؤكد أنه يرسم المشاهد التي رويتها بخياله ويحسها بأصابعهِ وهي تقف بشموخ تحاورهم وترفض التخلي عنه. تشاغلتُ في مراقبةِ ما يفعلهُ رائد البار الوحيد الجالس في الركنِ الآخر المطل على الجادة الجبلية الضيقة. كان رجلاً في منتصف العمر، رث الملبس، ملتحياً، زائغ النظرات، جزع الملامح، شديد النحول، حول شفتيه زبدٌ أبيض وكأنه كان قد تكلم أو صرخ كثيراً. نهض ونضا عنهُ قميصه فظهر جلده الناحل مغطى بأشجار الأرز موشومة بأحجام مختلفة على صدره وظهره وذراعيه ووسط حشد الأشجار جملة بحروف كبيرة "لبنان بلدي". اقترب من النافذة الخشبية العريضة المفتوحة على الرصيف الضيق وأخرج نصفه الأعلى منها وراح يصرخ صراخاً متواصلاً بصوتٍ مذبوحٍ:

- وَيَنِكْ يا بَلَدي.. وينكْ يا لبنان؟!

ثم يستريح دقائق معدودة ويعاود الكرة ونبرة صوته ترق وترق توشك على البكاء.

رجعَ "سعد" إليّ من أفقِ البحرِ وطلبَ إعادة رواية ما رويت. ففعلتُ. ثم راح يحدثني عن حلمهُ بقيامِ الثورة المسلحة بدئاً من الجبال ونزولاً إلى الأهوارِ.

قال:

- المئات من الرفاق يتدفقون إلى معسكرات التدريب في الجنوب قادمين من شتى أنحاء العالم، سنقود الثورة ونطورها ونزحف نحو المدن ونحررها الواحدة تلو الأخرى.. وسندخل المدينة تلو المدينة سندخل الديوانية بسلاحنا ونقيم الوطن الحر والشعب السعيد!.

كان يتكلم بلغة قريبة من الفصحى وبحماس وبصوت قوي يتقاطع مع صراخِ اللبناني النادبَ ضياع وطنهِ، العرق وأخبار زوجته "نيران" جعلا من الأحلام ليست قريبةً فحسب بل بين الأصابعِ.

كانَ في وادٍ وأنا في أخر.

سألني:

- أش وگت تلتحق بالمعسكر؟!.

لزمتُ الصمتَ طويلاً وتشاغلتُ هارباً من نظراته المنتشية، بالتحديق بعيداً في أفق البحر الذي بدأتْ تشحبُ زرقته مع نزولِ قرص الشمس إلى عمق الماء. كان صراخ "وينك يا لبنان.. وينك يا بلدي" يملأ البار والرصيف والغروب وأفق الماء وصمتنا الذي بدأ يضطرب. احتسيتُ جرعةً أخرى من كأسي وهو يردف باللهجة اللبنانية:

- ما تحكي شو في يا زلمه؟!.

قلتُ له جملةً نزلتْ عليه كالصاعقةِ:

- لَمْنْ تخلَصْ إجازْتي رَاجِعْ للعراقْ!.

أنتفض متقدماً بصدره إلى الأمام قليلاً، ثم جمد ورمقني بعينين مستغربتين، فأردفت:

- أسمع "سعد" الوضع هنا ما عجبني، فوضى في كل شيء، مجاميع مسلحة تتقاتل في أي لحظة ولأتفه الأسباب عند الحواجز، كل حزب وحركة يسيطر على حي من أحياء بيروت، جماعتنا يتناقشون ويتعاركون بالأيدي ليلاً في حومة السكر، ويتسللون تحت رصاص القنص إلى خط التماس ليشاهدوا أفلام جنس رخيص. جوع، أمكنة السكن رثة. ألا تسمع هذا اللبناني النادب وطنه.. أسمع.. أسمع!.

وأشرت إلى الرجل الذي وقف في تلك اللحظة مرة أخرى ومّدَ نصفه الأعلى العاري من النافذة الخشبية العريضة المفتوحة، وأخذ يصرخ صراخاً متواصلاً مصحوباً بنشيج مسموع فتتمدد حروف بلدي لبنان على حبال صوته المرتجف الغاضب والمكسور.

- وينك يا بلدي.. ضيعوك يا بلدي.. لبنننننننننننننننننان حبييييييبي!.

التفتَ نحو ما أشرت ونظرَ إليّ قائلا:

- أش علينا بيه، بلبنان أكو ثورة وهذا مجنون، باچر تسيطر الحركة الوطنية على كل لبنان وتبني سلطتها الثورية!.

صمتَ لهنيهة وأدارَ رأسه نحو البحرِ بينما تعالي صراخ الرجل النادب الذي صار متواصلاً مصحوباً ببكاءٍ ولطمٍ على الرأسِ، رجعَ بعينيه من أفقِ الزرقةِ الكالحةِ وتفحصني على مهلٍ قبلَ أنّ يقولَ:

- بيروت محطة عبور إلى العراق!.

في تلك اللحظة البحرية البعيدة لم أتخيل ولم أظن أنني سأجد بلدي بعد أكثر من ستة وعشرين عاماً في وضعٍ أسوءَ بكثير من وضعِ بيروت تلك الأيام؛ بلدٌ محتل، القتلُ فيه أمسى مثل شرب الماء والنوم والأكل، أصبحت نادرة الأيام التي لا تنفجر فيها سيارة أو عبوة أو انتحاري يفجر نفسه في زحمة سوق، المليشيات الطائفية تخطف، تقتل على الهوية، تفجر محلات بيع الخمور، تغتال من تشاء، تفرض قانونها على المناطق التي تتحكم بها، وقوات الاحتلال لا تأبه بما يجري، المهم أن النفط يجري إلى شركاتها، وليذهب العراقيون إلى الجحيم. قلت مع نفسي:

- أينَ أنتَ يا سعد؟.

- تعال لترى ما صار إليه بلدنا؟!.

- أينك.. أينك؟!.

كدتُ أصرخ وسط المقهى مثل ذلك اللبناني المجنون في بارٍ رثٍ على ساحل المتوسط:

– وَيْنَكْ يا عراق.. وَيْنَكْ يا بلدي؟!.

الشمسُ ارتفعت في السماءِ المغبرةِ، قمتُ من مكاني، حملتُ كرسيي إلى ظلالِ شجرةٍ قريبةٍ من النهرِ، أدرتُ وجهي للضجيجِ ومدخلِ سوق التجار، واجهتُ مجرى الماءِ وبناية البريد متخيلاً اللحظة التي سأقرع فيها الباب مخمناً شكل وجهها اليافع المنتظر بلهفة مقدمي وروايتي.

ترسبنا في الصمت، واللبناني النادب بلده تعب فعاد صوته واهناً يردد جملته وهو جالس على كرسيه بينما "سعد" يحملق في وجهي منتظراً.

قلتُ:

- ما أحتاج هذي التجربة يا "سعد"، ما عندي علاقة تنظيمية بالحزب، إني في إجازة من عملي لمدة شهر، غير مطلوب. وقعّتُ تعهداً بعدم العمل بالسياسة وعندي قصة حب كقصتكَ، باختصار شديد أريد أرجع وأتزوج، وإذا كنتم فعلا راح تبنون قواعد بالشمال، وصار وضعي سيء، يكون أسهل عليّ ألتحق من هناك، بلا مخاطر عبور الحدود السورية التركية العراقية.

أمعن في الصمت والحملقة بالبحر الممتد خلفي، بسقف البار الخشبي الواطئ، بالكأس بين يديه، بوجهي المنتظر ردة فعله، بدا على ملامحه سمات من يفكر ويحلل ويحسب ما يريد قوله، طأطأ رقبته ناظراً إلى أرض البار ثم رفع رأسه وحدّقَ نحوي بعينيه الزرقاوين اللتين أوشكتا على السكب قبل أن يمّد ذراعه الأيمن ويرفع كأسه ويقول:

- لنشرب نخب كل شيء، فوضى بيروت والديوانية والعراق، و "نيراني"، وحبيبتك، والثورة القادمة!.

وضربَ حافة كأسه بكأسي مضيفاً:

  • وإذا بقينا أحياء سنلتقي!.

بعد ذلك الكأس لا أدري في أية مواضيع خضنا إذ لم أعد أتذكر شيئاً سوى نحيب الصعلوك اللبناني الذي أخذ يلطم على رأسه وصدره العاري ويصرخ:

- يا اللبنانيين لبنان ضاعت.. ضاعت.. ضاعت!.

بين ضحكات المارة وتعليقات الرواد الذين اكتظ بهم البار الصغير مع حلول المساء.

استيقظتُ على شخير قوي، ضاج، متنوع النغمات، فوجدتني وسط حشد من الرجال يستلقون غارقين في النوم في غرفةٍ واسعة وإلى جواري يستلقي "سعد" دون حراك غاطاً في غفوةٍ كأنهُ ميت، أخبرني لاحقاً بأن هؤلاء الرفاق سيلتحقون بالثوار عبر حدود سوريا الشمالية الشرقية ليدعموا نواةَ القواعد الأولى. قضينا الأيام العشرة المتبقية متلازمين نزور المخيمات ومقرات المنظمات الفلسطينية ونجلس في مقهى "أم نبيل" المقابل للجامعة العربية في منطقة "الفاكهاني" طوال الصباح، نتصفح الصحف الصادرة ونتحدث عن أحلامنا المختلفة، كان يطلب مني إعادة سرد المرات التي صادفتُ فيها زوجته، مستفسراً عن ألوانِ ثيابها، حذائها، تسريحة شعرها، أشياء صغيرة جداً لا تخطر على البالِ، فكنتُ أتفننَ بوصفها وكأنني أرسم لوحة. وأبالغُ في وصف طفلتيه اللتين لم أصادفها سوى مرة واحدة وسط السوق بصحبة خالهما الذي قتلوه في أحداث 1991. فبادلته الحديث وحملتُ الكبيرة ورحت ألاعبها برميها عالياً في الهواء ولقفها، رميها.. ولقفها ووجهها الجميل يتضرج وهي تكركر كلما هبطتْ لتستقر بين كفيَّ المشرعتين. جعلتُ المرةَ عشراً، وفي أمكنة مختلفة وزعتها على سنةِ غيابهِ. أية سلام وطمأنينة ونشوة أنبعثْ من قسماتهِ الجميلةِ وهو ينصت للتفاصيل المختلقة التي أرويها بحماس وكأنها تحدث ساعة الروي.

كان يقول معقباً على كل مشهد:

- وَدِتّكْ السماءْ رحمةْ بحالي. قبل ما تجي كنتْ ما أنامْ الليلْ وأخفي ذلك عن الرفاقْ، أكثرهمْ تركوا زوجاتْ وأطفالْ. كنتْ أخافْ أثيرْ شجنهم. والشجنْ يا صديقي في وضعنا يحبطْ العزمْ ويورثنا العجزْ!. بينما نحتاجْ إلى كل ما يقوينا حتى نِتحّملْ الصعابْ والفراقْ ونوصلْ لحلمنا.. كفاحْ مسلحْ يا صديقي,,,, وبالعراقْ!..

  • يقول جملته الأخيرة "العراق والكفاح المسلح" وكأنه يردد تعويذة سرية مقدسة تتسامى على وضعه والمحيط بكل ما فيه، وقتها كان حلمي لا يختلف كثيراً عن حلمه، لكني كشأني منذُ تجربة اعتقالي الأولى بقيت على مسافةٍ متوجسةٍ من الإقدام تغذيها ثقافتي الممتدة إلى أبعد من الماركسية.. إلى جذور الوجودية والصوفية ممزوجة بتجربة الجسد وهو ينتهك في زنزانة رطبة عفنة، بينما إيمان "سعد" صافياً بالماركسية - اللينينية فقط التي تُخَطْئ كل ما عداها وصفاء المناضل الذي فَلَتَ طوالَ حياتهِ من تجربةِ الاعتقال.

قضينا الأيام العشرة المتبقية من إجازتي معاً، وفي يوم سفري إلى دمشق في طريق عودتي براً إلى بغداد. فاجأني كعادة الحزبيين الحنبليين بأنه سيسافر معي في طريقه ليتسلل إلى الجبال عِبرَ الحدود، وأضاف مفاجأة أخرى بإعلانه أن "ناصر عواد" وأسمه الحركي بين الأنصار المقاتلين ( أبو سحر ) أسم رومانسي لا يتناسب تماما مع شخصيته الحوشية، وهو من أبناء مدينتنا أيضاً، ومن الشخصيات الشعبية الطريفة التي تحيل كل تفصيل يومي إلى نكتة، كان مثله تماماً في قناعته المطلقة بقدرة حزبه على جلب الجنة من السماء إلى الأرض، لكنه أكثر شهرة ببدائية سلوكه وعفوية تعليقاته، والده كان يملك مقهى تحمل اسمه يلتقي فيها رجال اليسار كل مساء، وكان قد هرب أيضاً إلى ليبيا قبل الحملة وعمل هناك قبل أن يلتحق في معسكرات التدريب في الجنوب اللبناني. عند نقطة "المصنع" الحدودية اعتقلا من قبل شرطة الحدود اللبنانية لاكتشاف جوازاتهم العراقية المزورة بينما أطلق سراحي، فأخذت معي حقائبهم وسلمتها في دمشق إلى مقر "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" التي دربتهم في معسكراتها، لكنني في المساء نفسه وجدتهم في بارٍ بدمشق. ولما أبديت عجبي انخرطا في ضحكة عاصفة وأخبراني بأن الأمر ليس مثل العراق فالشرطي اللبناني أو السوري فاسد يقبل الرشوة وتستطيع فعل كل شيء، وقصا عليّ الطريقة التي رشوا فيها شرطة الحدود فأطلقت سراحهم بعد ساعات، في تلك السهرة همس "سعد" بأذني وكان يجلس على كرسي جواري، بأنه كتب رسالة إلى زوجته وسيكون أسعد إنسان لو أوصلتها، وافقت على الفور فأوضح قائلا:

- تسلمها لأختي موظفة في دائرة البريد.

كنتُ شديد الحذر وأدرك جيداً بأنني سأدخل الجحيم مرة أخرى من بوابته المفتوحة وهذه المرة باختياري. قلتُ له:

- كن حذراً يا "سعد"!.

ملمحاً إلى مضمون رسالته، فطمأنني بأنه لن يكتب أي تفصيل، مجرد تحيات وأشواق حتى دون ذكر اسم، فهم يعرفون خطه. مع ذلك قمت بفتح الرسالة ما أن انطلقت الحافلة من المحطة، وغابت قامتيهما هو و "ناصر عواد" الذي سلمني بدوره معطفاً عسكرياً ثقيلاً هديةً لأهله. كانت رسالة من عشرة أسطر تنضح شوقاً وحباً وأملاً.

أجلس في مقهى "الراية" وقبالتي تماماً عبر النهر الصغير بناية دائرة البريد شبه المهجورة الآن. أنحصرَ الفيء والشمس بلغت منتصف السماء. أصبح الوقت ثقيلاً، ضجيج المدينة احتدم لحظةَ انفجار أذان الظهيرة من مئات مكبرات الصوت في جوامع المدينة التي وجدتها قد تكاثرت بشدة، ها هو الصباح قد مرّ وعافني في باطن الظهيرة ورؤيا "سعد" تعاشر أنفاسي منذ بكرته.

ها أنا أطلُ من جلستي عليّ، فأراني أسير على الرصيف في الجانب الآخر من النهر في صباح خريفي من أصباح 1979. أخطو يافعاً مكتظاً بالأسئلة والحلم ووجلاً في الوقت نفسه، أخطو نحو بوابةِ دائرة البريد، أتلفتُ بين الفينة والأخرى، حذراً من أن أكون مراقباً، أتلمسُ الورقة الصغيرة الراقدة في جيب قميصي.

ها أنا أعبر عتبة البوابة إلى القاعة الواسعة، فيحتويني الظل المنعش. اقتربُ من نافذةِ موظفةٍ منهمكةٍ بتقليبِ أوراقٍ أمامها على المنضدة وأسأل عنها فتشير نحو شباكٍ منزوٍ، خلفه تجلس امرأة ترتدي قميصاً أبيض وشعرها الأسود الناعم يهبط طويلاً يحيط بذراعيها، كانت مشغولة مع مراجع، أترك مسافة أمتار منتظراً، أتفحص ما حولي. أرفع رأسي إلى السقف العالي، كان الوقت مثل هذا الوقت بالضبط؛ منتصف الظهيرة، وبغتة يظهر خلفي شخصٌ يجعلني أرتعش مثل سعفةٍ في مهب ريح، رفيق طفولة نشأنا معاً لكنه بعد الثالث المتوسط تطوع ليصبح شرطي أمن، قام باعتقالي قبل سبع سنوات أي عام 1972 على دراجته الهوائية بينما كنت أذاكر تحت الجسر المعلق استعدادا لامتحان السادس الإعدادي. بادرني:

- ها أش لونك؟

أجبته مرتبكاً:

- أهلا عيني أنت أش لونك؟!.

أفكر بالتراجع، لكنني ألمح المراجع يغادر شباكها، يهم بالكلام، أترخص منه أقطع الأمتار التي تفصلني عن نافذتها متصنعاً التماسك بينما كنتُ أرتجف بكل كياني. أسلّم عليها بصوتٍ خافتٍ. ترمقني بعينيها السوداويين الواسعتين بنظرة ذكية فاحصةٍ، لم تحزر غرض قدومي فحسب بل وكأننا على موعدٍ، أخرج الرسالة من جيبي على مهلٍ مخمناً أنه يراقب كل خطوة من خطواتي. أقول لها بهمس:

- رسالة من "سعد".. هو في بيروت!.

يتهلل وجهها فرحاً، يبرق للحظة، تكتم دفق السعادة تتلفت. تأتلق قسماتها البيض، تغور عيناها الممتنتان في عيني، أحسّها تحاول كبتَ مشاعرها كي لا تطير من كرسيها. تتلمس الظرف الذي رتبته وكأنني أودع رسالة بأصابعها الطويلة الناعمة وتهمس بخفوت:

- ليشْ ما جِبته وياكْ؟!.

أبتسم لها وأسلم مودعاً.

لم أرها منذ ذلك اليوم.

لا تدري يا "سعد" كم تحبك أختك.. لا تدري كنتَ سادراً في حلمكَ لا تأبه بالمحبين المحيطين بك والذين يفتقدونك وهم يتلمسون ورقةً مرّتْ أصابعك على سطحها بقدسيةٍ وخشوعٍ، وأن كنتَ تدري فأنك لم تهتم. كنت طائراً في حلمكَ وأنا كذلكَ.. لكن قُدِرَ لي البقاء حتى زمن الكهولة لأكتشف أية قسوةٍ عاملنا بها محبينا. غادرتُ البريدَ وأنا أتخيل وقعَ الرسالةِ على نيرانك لحظةَ استلامها. رأيتها بخيالي تطير فرحاً. تعيد قراءتها آلاف المرات وهي المشحونة بعطر جسدكَ اللصيق بها في ليلِ الفراشِ. تخليتُ وأنا أعبر جسر الديوانية القديم، المتعةَ الخالصةَ التي تمكّنتُ بفعلِ الصدفة توفيرها لنيرانك وطفلتيك وعائلتك، وأنت خير من يعرف شطح خيالي الذي أورثني لحظات سعادةٍ خفيةٍ لا تحصى.

- "سعد" يا "سعد" أين أنت الآن؟

- "سعد".. يا "سعد" أورَثتَني حزنَ قصتكَ وأنا أكاد أدلف عتبة الستين!.

- سعد.. ما أمرّ اليوم.. ما أمرّ الظهيرة، ما أمرّ امتحان عسير ينتظرني كي أغلف صفحة كتابك الأخير بعد ساعات!.

* * *

في يوم من أيام شباط 1985. عدتُ متعباً. قبلتها بشغفٍ. نزعتُ حذائي العسكري الثقيل، وقطعتُ المسافة نحو سريرنا العريض واستلقيتُ منهكاً، إذ لم أنَم طوالَ الليلِ في القطارِ الصاعد من البصرةِ، ولم أزل محشوداً بضجيجِ القصف المدفعي المتبادل طوال اليوم على جبهة الحرب مع إيران، كنتُ مهدودَ القوى، ليس جسديا فحسب بل نفسياً فقد كنتُ أعاني في الشهر الأخير معاناةً مركبةً، متوتراً طوالَ الوقتِ غير آبهٍ بما يحيط بيّ برغم القصف الكثيف، لا يمر أسبوع دونَ أنّ يسقط عدد من جنود وحدتي قتلى أو جرحى. كنتُ أرى الموت بقذيفةٍ موتاً أسهلَ من موتٍ في أقبيتهم لذا كنتُ ألقّم بندقيتي الشخصية طلقةً وأترك صمامَ الأمانِ مفتوحاً وأضعها تحت وسادتي مستعداً لمواجهتهم هاجساً بقدومِ تلكَ اللحظة لا محال، فقد أعتقلَ قبل شهرٍ صديقي معلم الابتدائي "جميل مگط" الذي له صله حزبية بزوجتي، (سيعدم وتسلم جثته في العام نفسه) يضاف إلى ما أسر به في أخر إجازة صديقي الشاعر "علي الشباني" عن كتابٍ معممٍ على كل وحدات الجيشِ العراقي من مديرية الاستخبارات العامة قرأهُ صديقنا "ناظم كتان" وكان جندياً احتياطاً في قلمِ "مركز تدريب الحلة"(سيقتل ناظم في جبهاتِ الحرب العراقية الإيرانية لاحقاً)، الكتاب يذكر اسمي كاملاً، ويطلب من الوحدة التي أتواجد فيها الرد بكتابٍ سري وفوري، وكان الصديق نفسه قد أخبرني قبل عامٍ أن الأمن يدقق في موضوع يخص أخ لي أسمه "علي" هاربْ خارجَ العراق. والخبر عرفه صديقي الشاعر عن طريقِ "فرهود" مختار محلتنا المقترن بأخته مما جعلَ المختار يضحك مشيراً إلى طفلٍ صغيرٍ يلعب في الشارع ويقول لهم:

- ذاك "علي" يلعب بالشارع يا خارج!.

لكن رجال الأمن أصّروا على وجود أخ يكبرني هارب خارج العراق حسب المختار.

أخرسني الرعب.. فقصة "علي" المطلوب كتمتها كتماً شديداً، فالسبب أعرفه وحدي ورفاق كانوا مختفين قبض عليهم وأعدموا قبل سنتين، الحكاية تعود إلى صيف 1979 وتتعلق بشخص أسمه "علي" أيضاً بعثوه من بغداد كي أخفيه لفترة حتى يرتبوا أمر سفره سراً خارج العراق إذ كان معتقلاً وأفرج عنه قبل أيام فأخفيته مدة شهرين، وعرفت منه أنه كان طالباً في الجامعة التكنولوجية, صمد, فأطلق سراحه من مديرية الأمن العامة ومعرض للاعتقال ثانية، وكانت تلك خطة الأمن في ذلك الوقت يجعلون المعتقل يرى الجحيم لشهر أو أكثر أو أقل فإذا صَمدَ يطلق سراحه، يتنفس الهواء ومباهج اليوم والحياة والدفء ليعاودوا اعتقاله فينهار. أسكنتهُ في بيتٍ مستأجرٍ لمعلمين يساريين من مدن أخرى عن طريق صديق شاعر أيضا ومعلم من الحلة "رعد كريم عزيز" وجدته عند عودتي للعراق يعمل بقناة الحرة الفضائية، لكن ذلك الـ "علي" الذي يبحث عنه الأمن خدعني حينما أخبرني بأن الجماعة يقصد التنظيم الشيوعي يستطيعون ترتيب أمر خروجي من العراق، كان ذلك قبل سفري إلى بيروت وعودتي، فسلمتهُ وثائقي كلها بسذاجة الثقة بالآخرين والاعتقاد بالمناضل، دفتر الخدمة العسكرية، دفتر النفوس القديم قبل أن يتحول إلى بطاقة. شهادة الجنسية العراقية، أخذها واختفى تماماً. بعد مرور شهرٍ قلقتُ. راجعتُ دائرة نفوس الديوانية، وكان من حسن حظي أن الموظف الذي كان شرطي أمن منسب للعملِ في دائرةِ النفوس مقترناً بابنة خالة لي وكنت قد التقيتُ به مرةً في عيدٍ من الأعيادِ في جلسةٍ عائليةٍ، فلم يدقق في الملف، بل قالَ لي:

- قبلْ شهر طَلَعِتْ بطاقة أحوال شخصية!.

- ضاعتْ!

أجبتُ على الفور مخمناً أن في الأمرِ ما يريب.

- جيب طابع أبو دينار!.

أسرعتُ بالخروج واثقاً، بأنه وليس غيره، حصل على هوية أصلية تحمل اسمي وصورته. تسلمتُ الهويةَ البديلةَ، اتصلتُ بمن بعثه وكان مختفياً وقتها في بغداد فاعتذر وأعاد لي بعض من وثائقي. ظننتُ أن الأمر مرَّ بسلامٍ، إذ مرتْ قرابةَ خمس سنوات على تلكَ الحكايةِ. لكنها أثيرتْ عقبَ التبليغ عن إعدامِ "كفاح" أخي بسنة ونيف. من المؤكد أنهم اكتشفوا الأمر حينما سقّطوا أخي من سجل النفوس باعتباره ميتاً، فلاحظَ الموظف وجود طلبين للحصول على بطاقة الأحوال الشخصية واحد باسمي وصورتي والآخر باسمي وصورة "علي" الذي أخبروني لاحقاً بأنه تمكّنَ من السفرِ خارجَ العراقِ.

- أي رعبٍ كان يهزني كل ثانية في ليل ونهار الجبهة خلال الشهر الأخير؟!.

  • زوجتي تدور حولَ السريرِ تتحدث بشيءٍ ما بينما كنتُ أتأرجح على حافةِ الغفوةِ شاعراً بأنني ألجُ رحم أمي، آخر ما أتذكره، جسدها يتوسد الفراش قربَ قدميَّ وأصابعها الناعمة تتغلغل بين ساقي والجوارب العسكري. بعدها سقطتُ بالنوم كالميت.

باعدتُ أجفاني طالعاً من موات الغفوةِ وكأنني ألج العالمَ من جديد، حسدتُ الميتَ من كل قلبي، لكن أين هو الموت الذي يدور حولي بالثواني دون أن يحضنني، ويخلصني من عذابٍ تضمرهُ لي أقبية سأرى فيها جهنمَ وهذهِ المرة سأضبط ملتبساً ليس كالمراتِ السابقة حينما كنت مشتبهاً به.

كانت الشقة ساكنة، دورتُ عيني بأرجاء الغرفة. قبالتي مرآة الزينة وطبلتها الناصية حيث تجلس في أيام زواجنا الأولي كي ترتب ماكياجها قبل عبور عتبة السرير، صور تجمعنا، حمضتها وكبرتها بمشغلي بعد عودتي من بيروت، منتشرة على مناضد السرير ومنصة الشباك الواسع، حدقت بنعاس إلى السماء الناصعة الزرقة التي تبدو بوضوح عبر الزجاج، وحلمت بالطيران، أحملها وأطير بها إلى الجبل حيث الثوار، حلمٌ كان هو منفذي الوحيد من ميتةٍ بشعةٍ دانيةٍ أتوقعها في كلِ لحظةٍ. ومن الباب ظهرتْ بقامتها الهيفاء المشدودة شداً. اقتربتْ وانحنتْ عليّ فغمرتني رائحتها البريةِ المسكرةِ، رائحة جلدها المخدرة التي جعلتني أرفض بشكلٍ قاطعٍ وضعها لأي عطرٍ. همست:

  • نَوَمِتْ كفاح.. وحضرتْ كل شي!.

كان عمر ابننا آنذاك يقترب من عامه الثالث. نهضتُ بعناءٍ.

قالت:

  • أش بيك حبيبي ما صدگتْ ترجعْ بإجازة أني في حلم!.

سحبتني من ذراعي الأيمن بنعومةٍ. كانت في قسماتها بهجةٌ لم أفهم من أين أتتها وسكنتها وسط كل ذلك التوتر والموت والقلق في تلك الأيام التي كنا نعتقد بأنها أمرَّ ما مرَّ بالعراق، ولم نتخّيل بأن القادم سيكون أعظم، والأمرَّ سيأتي في السنين القادمة، احتلال أجنبي، مليشيات طائفية تقتل على الهوية، كذب، دجل، سرقة، حيث لا معنى لمفردة العراق الحر السعيد الذي حلمنا بها.

مازلت جالساً قبالة البريد وخاطر "سعد" وأخته والرواية التي يترتب علي روايتها بعد ساعات أخذني إلى تفاصيل حميمة صغيرة منسية فهاأنذا أرى نفسي مستسلماً لأصابعها التي التفت حول ذراعي مخدراً بعطر جلدها المدوخ. أخذتني إلى الصالةِ فوجدتها مشتعلة بالشموع والمنضدة مليئة بصحون المقبلات، سَلَطة، لبلبي، باقلاء مسلوقة، زيتون، حمص بطحينة، ليمون مقطع، شرائح لحم متبل ومقلي، لبنٌ رائب، طرشي، وقنينة العرق التي أعشقها وتكرهها تشمخُ واقفة مثل قديس وسط المائدة. المثير للاستغراب ذهاب قلقها الذي كان يسم قسماتها وعينيها وحركاتها فيجعل اضطرابها يتسق مع اضطرابي في أجازاني السابقة. بدأت أخمن مقترباً من السر، فقد يكون لديها خبرٌ فيه الفرج من وضعنا المكبوس، فهي الأخرى مراقبة رقابةً تكاد تكون شبه سجينة. فمنذُ خروجها من بيت أهلها المقابل لإعدادية الديوانية للبنات في طريقها إلى دائرتها، مديرية العقاري الديوانية التي كانت وقتها في الطابق الثاني المجاور لمحكمة الديوانية الحالية تجدْ مفوض أمنٍ يدعى "منذر شيخ جاسم" ( سيعتقله المنتفضون في آذار 1991 ويحاكمونه ويعدمونه قبل هروبهم إلى السعودية عبر صحراء السماوة) ينتظرها أمام الباب على الرصيف المقابل ويتعقبها حتى دخولها الدائرة ويجلس في الممر قبالة غرفتها حتى نهاية الدوام ليسير خلفها حتى البيت. وعندما اشتكت إلى مديرها أخبرها بأن القضية أمنية تفوق طاقته. سقتني كأساً وقالت:

- يوم الخميس.. نلتحق؟!.

- شنو؟!

قلتها، وجمدتُ غير مصدقٍ.

- يعني بعد يومين!.

استوعبت الكلمات فلم أتمالك نفسي. هببتُ من الأريكة قافزاً متسائلاً:

- أش لون؟!.

- رتبتُ الأمرَ!.

- الخميس نسافر إلى بغداد وهنالك نلتقي برفيق يوصّلنه للجبل.

- عن أي طريق!.

قالت

- ما أعرف.. المهم لا تقلق راح نكون بأمان بعد يومين!.

كانتْ تتحدث بلهجةٍ واثقةٍ وكأنها إله. وكنتُ بطبيعتي أشك في كل ما يحيط بيّ من أخبار، فالعديد من أصدقائي ضيعتهم مثل هذه الأماني والثقة المفرطة مثل التي أسمعها من قرينة روحي.

استفهمتُ بخفوت حالماً:

- يعني بعد ما أشوف الجبهة!.

  • لا.. أطمئن الجمعة أحنه بالجبل!.

أغمضتُ عينيّ واضعاً رأسي على مسند الكرسي الوثير راغباً في النومِ مرةً أخرى، لكنها جهَرَتْ بخبر جعلني أنتفض من جلستي وأستقيم بنصفي الأعلى متوتراً ما أن أنهتْ جملتها الأخيرة:

  • تعرفْ؟.. "نيران" طلّقتْ سعد ومتزوجة من ضابط كبير بالأمن!.

- معقول!.

أذهبَ الخبر بكلِ تعبي.

قلت:

- أش لون عرفتِ؟!.

- الجماعة كلفوني بمعرفة أخبارها فذهبت بنفسي قبل يومين إلى مصرف الرافدين. رحت لشباكها. تعرف هي كانت طالبة معي بالابتدائية والمتوسطة، لمن رفعتْ رأسها من الأوراق بهرني جمالها وملبسها وطريقتها في الحركة. قلت لها مباشرة: أنتِ زوجة "سعد" فردت بهدوء:

- كنتْ!.. بس هسه متزوجة من رجل آخر!.

صببت كأساً وجرعتهُ دفعةً واحدةً متخيلاً وقع الخبر عليكَ، رأيتُ المشهدَ ورسمتك حياً معنا تلك اللحظة تسمع ما سمعتهُ فماتت قواي، أغمضت عينيَّ منهوباً، ناسياً ما يحيط بيّ من أهوال قبل أن أنتفض مردداً:

- قُتِلْتَ يا سعد!.

قلتها فصيحةً. وصببتُ كأساً آخر متجاهلاً دهشتها من ردّة فعليّ العنيفة. كانتْ تقول:

- حقيرة.. مو وفية!.

- ...!.

كنتُ في وادٍ وهي في وادٍ. لا تدرك مدى تعلقك ولهفتك عليها التي رأيتها بجسدك وعينيك وكيانك وأنت تسلمني وريقتك الصغيرة المكثفة في بيروت قبل خمس سنوات. ولا تدرك مدى مخيلة وأحلام الثوري التي يشكل عالمه الداخلي سر أسرارِ تماسكه، وبينما كنت أخوض في وضعك وأعبّ الكؤوس كأساً بعد كأسٍ صامتاً متجهماً أتأرجح على حافة البكاء كانت زوجتي التي تشبهك في الإيمان تقول:

- هو أشرف منها.. وراح يلگي اللي تفهمه وتحبه!.

لم تكن لدي في تلك الجلسة رغبةٌ في الحوارِ وأنا مطحونٌ بخبرِ خفوت نيرانكَ، كنتُ راغباً في التلاشي والغياب متخيلاً وضعك وضعي فماذا سأفعل لو فقدت زوجتي بهذه الطريقة؟ وضعتُ نفسي بمكانك وغصتُ في خسارتك حتى القاع. ليلتها خرّبَ خبرك أشواقي لزوجتي، وجعلني أجود بنفسي مثل مذبوحٍ، أعبُ وأعبُ من العرق العراقي.. حتى الرقص قلت لها:

- داخل حسن.. داخل حسن -!.

وجعلتُ أنشجَ مثل أمٍ فقدتْ وحيدها وهو يُنَغِمْ أسُمكَ:

(بوْيه سعد يا بوْية

الوَنه طالتْ يا سَعَدْ يابوْيه)

لأسقط في نومٍ عميقٍ، عميق وكأنني لم أكن.

* * *

انحدرنا من قمة جبلٍ في طريقنا إلى القاعدة التي كنت متواجداً فيها وكأن القدر قد رتبَّ لقاءنا. لا أدري هل وصلك خبر التحاقنا وأنت في قاعدةٍ بعيدة إذ وجدتك تنتظرنا على ضفة "الزاب الأعلى" ملوحاً بيديك، لم أعرفك للوهلة الأولى بملابس الفلاحين الأكراد وأنت تقفز وتلوح وتصرخ، أبديت استغرابي من هذا الرفيق المجنون المضطرب ونحن ننحدر على طوافة عائمة من الخشب، ولم أتبين ملامحك إلا حينما نزلنا فأقبلتَ مبتهجاً بعينيك الزرقاوين وقامتك الممشوقة متوسطة الطول. كنا متعبين جداً بعد عناءِ ومشقةِ النفاذ من مدننا النازفة والجارحة. تعانقنا بشغفٍ وكان في عينيك سؤال هو ذلك السؤال في لقاء بيروتَ، بينما كنتُ مرتبكاً، ضاجاً بتفاصيل الحوار. فما أن تمكّنا من بلوغِ مناطقِ الثوار حتى دخلتُ في نقاشٍ عويصٍ معها حول الطريقة التي نخبرك فيها. وكنا على خلافٍ تامٍ، فشلتُ في إقناعها بترتيب قصة تشي بشيء ما دون خبر قاطعٍ، كانت تبغي أخباركَ الحقيقة كما هي كاملةً، مبررةً ذلك بكونكَ ستشفى من أملها وتبدأ بحياةٍ جديدةٍ دونها، لم تفهم ما ذهبتُ إليهِ ظانةً أنني أبالغ في وصف مشاعرك إذ أنني أضخم الأشياء دائماً وأعطيها أكبر من حجمها الحقيقي. كان لديها منطقٌ مختلفٌ قاطعٌ متأتٍ من قناعةٍ أيدلوجيةٍ غير قابلة للنقاش. كانت تردني قائلة:

- هي التي اختارت طريقها بالحياة.. وبدّلتْ وضعها.

وهذا صحيح جداً ومنطقي، لكن كنتُ أحدس وقعَ الخبر عليك، ولست بقادرٍ على أداءِ مهمةٍ كهذه.

قلتُ لها ونحن ننام في مغارةٍ في جبلِ القوش أولَ يومِ وصولنا:

  • طيب تجاهلي الأمر وكأنكِ لم تعرفي!.

أجابت بكل عنفوان:

- يعني أَكذب!.

قلت:

- راح تقتليه!.

- من يقول؟!.. يجوز العكس، يرتاح من القلق وينساها، هُوَ مناضلْ أشرفْ منها.. وهي ما تستأهله!.

عندها قدرتُ أنها عازمة على تنفيذ المهمة الموكلة إليها بأمانة. فخلدتُ إلى الصمتِ، ولم أفتح الموضوع مرة أخرى. خفت الصراخ والترحيب فطلبتَ أن ننفرد قليلاً أنا وأنت وهي. انحدرنا في عمق الوادي حتى ضفة النهر الصاخب. كنتُ مرتبكاً من وجهك المزدحم بالأسئلةِ. أصغي إلى موج الماء يهدر مرتطماً بالصخور، إلى غناء طائر في الغابة المجاورة، إلى وقع أقدامنا على الصخور متشاغلاً لا أعرف كيف أتخلص من لحظة المكاشفة، وحينما سألت عن الكيفية التي تمكنا فيها من الوصول إلى مناطق الثوار وجدتها فرصةً لتأجيل الكلام، فأسهبتُ في ذكر تفاصيل مفزعة كادتْ تؤدي بنا، فالرفيق المكلف بإيصالنا تصرف بسذاجة كادت توقعنا بأيدهم، وأبديت عجبي من إفلاته من الاعتقال وهو يتنقل في بغداد متخفياً إذ لم أصادف في التجربة ثورياُ ساذجاً مثله. بدأت أقص عليك الحكاية وكنت تنصت بكلِ حواسكَ بعينين مندهشتين:

- تصور يا "سعد" بتنا ليلتنا الأخيرة في بغداد في البيت الذي كنت مختفياً فيه وقتها لم أذكر لك من يكون لكن الآن وأنا أعيش مع خيال لحظتك جالساً في ظل شجرة بمقهى "الراية" وسط الديوانية أقول لطيفك: كان ذلك الصديق "عبد الحسين داخل" حكايته سأختم بها هذا الكتاب. تصور لم يستطلع الطريق، تركته و "بهار" وهو أسم زوجتي "ناهده" الحركي في بيت الصديق الكائن في حي "الصحة" بطرف مدينة الحرية حينما عرفت أن وجهتنا الموصل قائلا:

- تبقون هنا راح أستأجر سيارة، تحسبون عشرين دقيقة وتطلعون على الشارع العام.

خرجت مع آذان الفجر قاصداً كراج العلاوي الموحد، حجزتُ المقاعدَ الخلفية الثلاثة في سيارة خاصة تعود إلى عسكري مجاز كان يقف قريبا من سيارات الموصل مقدراً سهولة مرورها من نقاط التفتيش. وكما توقعت لم توقفنا نقطة تفتيش واحدة. في السيارة دس براحة يدي ورقةً شفافةً مطوية أخرجها من تجويف كبسولة دواء فارغة. نشرتها بأصابع مرتجفة خلف مقعدي السائق والراكب في المقعد الأمامي، فوجدتُ خريطة غامضة فيها نقاط وأسماء أمكنة ومفارق مرسومة بخطٍ ناعمٍ جداً تؤشر بدائرة سوداء كبيرة على ثلاث نقاط في سفح جبل يبعد مسافة عن شارعٍ مبلطٍ يربط الطريق الذاهب إلى دهوك ومدينة "القوش". أدركتُ على الفور أن صاحبنا لم يرَ المكان المقصود أيضاً، مثله مثلنا. لم يكن أمامي سوى المغامرة وكأني جندي بجيش "طارق بن زياد" وهو يعبر المضيق الذي حمل اسمه ويحرق السفن كي يجعل جنده تقاتل قتال حياةٍ أو موت، كذلك أمرنا فإما أن نصل وإما نحلّ في جحيمهم وبعدها سيقلوننا قتلا شنيعاً، فمن المستحيل التفكير بالعودة بعد أن تفادينا فك السلطة الموشك على الأطباق علينا، فلتنا في آخر لحظة وفي الوقت المناسب بالضبط. سوف تتجنن السلطة ولا تترك قريباً من أقربائنا دون استدعاء واعتقال وتحقيق حتى أبعد الناس علمت ذلك لاحقا عند عودتي، فصيدهم الثمين الداني راوغ الصنّارة وضاع في البحر، كنتُ أروي لكَ صخبَ القصة والنهرُ يصخب جوارنا يصاحبه من الضفة الأخرى صمت الجبل الذي يبدو كجدارٍ مستقيمٍ يعانق غيوم ذلك الصباح الشتوي البارد، واصلت الروي؛ لم يستطلع الطريق فحسب بل لم يزُر الموصل أبداً. فحينما نزلنا في الگراج العام، سألته :

- ما الخطوة التالية؟

قال:

- نبحث عن سيارات الشيخان!.

سألته:

- من أين نركب؟!.

أجاب:

- ما أعرف!.

فجمد الدم في عروقي، سألت عن كراج الشيخان فأخبرني بائع شاي سفري أنه يقع في شمال المدينة ونحتاج استئجار سيارة حتى نصله. نظرتُ إليه بغضبٍ فوجدتُ وجهه بليداً لا يدرك هول تلك اللحظات، ليس هو فقط بل حتى هي، كانا لا يتخيلان هول فشلنا في الوصول في ظرف ساعات فالطريق إلى تلك المناطق تقطع في الرابعة عصراً. وهما لم يذيقا مرارة الاعتقال وذله! استأجرنا سيارة إلى گراج "الشيخان" قلت لهما قبل أن نصعد؛ بلا أدنى كلمة، فالسواق وكلاء أمن بالإجبار فكيف بالموصل مدينة القوميين العرب التاريخية، فصاحبك ثرثار على طريقة محرضي الشوارع أيام الثورة الروسية، إذ يتعّمد فتح مواضيع مع بسطاء الناس تمس معيشتهم، طريقة لقنها له حزبه وقت الجبهة الوطنية. لكن ذلك "الأبله" لا يفرق بين زمن الجبهة المنقرض وزمن سلطة قامت بحرب على جارتها بعزم الدكتاتور الأوحد. أضفتُ بحزم؛ بلا أدنى كلمة زين!، هازاً سبابتي الرامحة بوجهيهما وفي ملامحي تهديد ووعيد. لم تفهم زوجتي سر غضبي فرمقتني باستغراب، كنتُ متوتراً متجهماً مستفزاً من وجه رفيقها الأسمر بقسماته الناعمة الذي أراه بمرآة السيارة مبتسماً يشغل المقعد الأمامي المجاور للسائق، همَّ بفتح موضوع، قرصته في جنبه بعنف، فصمت حابساً صرخة ألم، لاحظتْ ما جرى فأدركتْ مقدار غضبي، تسللتْ كفها الناعمة لتربتْ على أصابعي.

رويت لك بإسهاب بينما قسماتك تشرد مترسبةً بما لا أدري، سأعرف لاحقاً أنهم أبلغوك أن أخبارها معنا، كنت تشرد وتركز.. تركز وتشرد إلى أن ذهب الاضطراب من ملامحك وجعلت تنظر نحوي وبعينيك دهشة حينما وصلت إلى ذروة متوترة في القصة، كنا نجلس على صخراتٍ ثلاث مثل كراسٍ جوار شجرة سماق، تنصت غير مصدقٍ ما أروي من التفاصيل قاطعتني قائلاً:

  • غير معقول، كمّل.. كمّل..

هتفت مع نفسي:

- ليتها تترك فكرة مصارحتك.

وخاطبتك:

- كان من الممكن أنّ لا ترانا إلى الأبد!.

قاطعتني زوجتي مكملةً السرد:

- تصرفت بهدوء وسرعة. كلمت أقرب سائق وطلبت منه أن يوصلنا لمجمع "باعذرة" وادعيت أني معلمة تعينتُ هناك وأخوي وأبن عمي يوصلانني ويطمئنان عليّ ويرجعان واتفقت على الأجرة!.

فعلاً.. كنا مرتبكين وحلّت لنا بدقائق معضلة واسطة النقل، لم تفتشنا نقاط السيطرة العسكرية، لسببين الأول هو العفو المعلن عمن يسلم من متمردي الجبل والثاني معرفة السائق بالعسكريين في نقاط التفتيش، لم أترك له فرصة فتح موضوع يتعلق بنا، أشغلته بالأسئلة المتوالية عن أسماء القرى والقصبات التي نمرُّ بها. كان يسمي الأمكنة ومن يسكنها؛. يزيديون، كلدانيون. آشوريون، شبك، أكراد، عرب. كنت أطابق جغرافية الطريق مع الخارطة المرسومة بخطٍ دقيق التي دسّها بين أصابعي في السيارة قبيل وصولنا الموصل. كان من المفترض أن ينتظرنا رفيق في كراج "الشيخان" مكلف بإيصالنا إلى مناطق الثوار.

لا وقت للاسترخاء، فإما يقبضُ علينا وإما نصل. ليس ثمة حلّ وسط، والتراجع معناه وقوعنا بأيديهم، طابقتُ بين الخريطة وتضاريس المكان ونحن نقترب من مفرق يتفرع منه شارع مبلط يساراً، أخبرني السائق بأنه يؤدي إلى "القوش"، إذن يجب أن نرجع من الشيخان إلى هذا المفرق. فالقرى المرسومة في الوريقة الشفافة الصغيرة تقع على سفح السلسلة الجبلية التي أراها يمين الطريق الفرعي، كنتُ في سباقٍ مع الثواني يا "سعد" فقد دخلنا دربَ الصَدْ ما رَدْ وعدت غير واثقٍ بصاحبكَ عدا أننا لو نستمر إلى الشيخان سنمر بنقاط تفتيش إضافية. باغّتُ السائق قائلاً:

- أدخل على اليسار وسأضاعف أجرتك!.

استدار على الفور. لكنه بعد مسافة قصيرة سأل مرتاباً:

- قولوا الحقيقة إلى أين تريدون؟!

فقال رفيقك:

- تريد الصحيح؟!.

نظرَ إليه السائق جانباً منتظراً فأكمل:

- نريد نوصل لخورزة وكرسافه!.

خفف السائق من السرعة قائلاً:

- هذه قرى خطرة يسيطر عليها العصاة!.

وأشار إلى نقطتين في سفح سلسلة جبلية تركض خلف حقول خضراء تمتد من جانب الطريق حتى حافتها. كنت احتدم غيظاً على المقعد الخلفي بينما أكمل السائق محذراً:

- يسّلبوكم، خاف عنوان المدرسة غلط.. ما كو مدرسة هناك!.

تدري ماذا قال رفيقك الكريم؟!.

سألتني متوتراً وكأنك معنا:

- ماذا؟!

-أعترف، أعترف كاشفاً غرضنا فجعل دمي يجمد في عروقي، ليس مجازاً يا "سعد" بل أخذتني الرعشة مثل محموم.

كررتَ لاهثاً؛

- ماذا قال.. ماذا؟!.

- قال له؛ تريد الصراحة يا أخي؛ نريدك توصلنا للقريتينْ. رد السائق بخوف؛ مستحيل ما أنزل، يَسلبوني سيارتي ويقتلوني العصاة، كثير من سواق الموصل ضاعوا. فرد رفيقك كي يطمئن السائق( قائلا: لا تخاف.. أحنا نعرفهم، وأشار نحو "بهار" ملتفتاً إلى حيث تجلس جواري خلف السائق تماماً: سمعنا أن زوجها اللي هارب خارج العراق ملتحق بالمتمردين، فجبناها حتى تقنعه يسّلم لأن مثل ما تعرف أكو عفو .. لا تخاف أخونا لا تخاف!.

أزداد السائق ريبةً. شحبَ لونه وبدأت كفاه الممسكتين بالمقود ترتجفان، فالقصة كلها غير معقولة بالنسبة له، أظن أنه أعتقد بأننا ننوي خطفه وقد نكون مسلحين فمن المؤكد أنه فكر ولاحظ عدم تفتيشنا في النقاط كلها، إذ قال بصوت جزع؛ لو تعطوني مليون دينار ما أنزل عن الشارع!. ظل رفيقك يلح، والسائق يرفض ويحتد قليلا، قليلاً. كنتُ ألزم الصمت متوترا أشّدَ التوتر. الوقت يجري سريعاً. مجرد دقائق تفصلنا فإما الخلاص وإما غرف العذاب. من الجهة المقابلة ظهرت ثلاث سيارات نقل عسكرية مليئة عربتها بالجنود المسلحين. تمالك السائق جأشه وأقترح:

- عيوني عندي حل بلا مخاطرة!.

لم ينتظر سؤالنا بل أردف على عجل:

- ابن أختي مدير أمن "القوش" أوصلكم وهو راح يساعدكم بطريقه أمينة!.

انفجرتَ يا سعد بضحكةٍ صاخبةٍ طالباً مني إعادة ما أقترحهُ سائق السيارة، فأعدت ما قاله وأنت تردد منخرطاً بضحكةٍ جعلتكَ تترنح لتتوسد رمل الضفة الهش:

- غير معقول، غير معقول!.

تمالكتَ نفسك وعدت إلى مكانك وسألتني بلهفة كي أكمل فأردفتُ:

- أتدري يا "سعد" لم تبدر من رفيقكَ كلمةً واحدةً، لا أدري هل أصابه الثول أم أخرسه الرعب، حتى ظن السائق بأننا وافقنا فضاعف السرعة. وهنا صرخت بصوتي الجهير:

- قف.. قفْ!.

لمحته، يتفحصني بالمرآة المعلقة بواجهة السيارة من الداخل، وأنا أتحسس بكفي تحت إبطي مستعداً للانقضاض عليه. فخفف السرعة، عبرتنا العربات العسكرية الثلاث، كنت أصرخ متساوقا مع دوري في القصة التي وضعنا فيه:

- نريد نرجع بواحد نروح ثلاثة!.

قلت جملتي على عجل وصرخت فيه صرخة مرعدةً:

- قلت لك، قف.. قف!.

وتأهبتُ مقترباً منهُ. فوقف إلى جانب الطريق جوار أخر بيت من قريةٍ سأعرف أسمها لاحقاً تدعى "بيبان" ومنها بخطٍ مستقيم تقع القريتان مقصدنا اللتان تبديان نقطتين معتمتين في ذهب تلك الظهيرة اللاهثة، النقطتان أملنا الوحيد بالنجاة. ترجّلتُ بعنف صارخاً:

- نزلوا

شبكتُ أصابعها بأصابعي وسحبتها من جوف السيارة وقلت:

- اركضي.. اركضي!.

ومددت ذراعي مشيراً نحو القريتين اللتين بدتا كضربتي فرشاة بالأسود في بهاء الحقول الخضراء ولون السلسلة المتموج بين لون القهوة وبياض الحليب تحت شمس منتصف الظهيرة. خطت بتردد وهي تتلفت، قلت بصوت حازم:

- أسرعي!.

وبينما كنت أناول السائق أجرته، نزل صاحبك وبدلا من الركض نحو الجبل البعيد توجه نحو جرار زراعي صعد لتوه من طريق ترابي بين الحقول وراح يفاوض سائقه كي يوصلنا إلى القرية. لحقت بها. خضنا في حقولٍ رطبةٍ لم يمر على سقيها الكثير، قلت لها:

- انزعي حذاءك.

ففعلت لاهثةً مرتبكةً. حثثتها صارخاً:

- اركضي.. اركضي!.

امتقع وجهها وتعالى لهاثها. التفتُ إلى السيارةِ التي أقلتنا، فوجدتها تنهب بسرعةٍ جنونيةٍ الطريق باتجاه "القوش" قلت:

- سيبلغ السلطات!.

قالت من بين أنفاسها المتقطعة:

- ومؤيد؟!.

وهذا أسم الرفيق الحقيقي قلت لها:

- اتركيه!

حملتُ عنها الحذاء، وهببنا نركض ناهبين الطين نهباً. فما كان منه إلا اللحاق بنا. كنتُ أجري خلفهم أشدُ من عزمهم بإرعابهم صارخاً مثل مجنون:

- بلا توقف، بلا توقف وإلا سنكون الليلة في الزنزانة وسترون جهنم!.

- بلا توقف!.

- السائق وصل القوش الآن!.

قطعنا المسافة بوقت قياسي، عند أول بيت في القرية الأقرب إلى خط ركضنا. لمحنا امرأة تخْبز، سألنا عن الرفيق "عيدو" ( سيقتل بعد العام ذاك في معركة مع رجال الاستخبارات العراقية قرب القرية نفسها ). أشارت إلى القرية المجاورة. أطمئن قلبي قليلاً.. وهدأ حينما ظهر من خلف الباب الخشبي العتيق بوجهٍ باسمٍ قائلاً:

- أهلا بالرفاق!

وهكذا نجونا بأعجوبة!.

قفزت من صخرتك وأخذتني إلى صدرك قائلاً بصوت مرح:

- قلت لك ألف مرة.. عمر الشقي بقي!.

مزاحك القديم المرح نفسه، تحيل أي حدث خطير إلى فكاهة فتضفي على جوٍ متوترٍ فلسفة اللحظة وكأنك تقول؛ مرَّ الأمر بسلام فلم التفكير به إذن؟!.

أردفت:

  • لا تتعجب أنت شقي وبقي فعلا والأمثال تضرب ولا تقاس لكن هذا المثل يضرب ويقاس عليك!.

قلتها وهدرت بضحكتك القديمة ورجعت إلى الخلف ثلاث خطوات وجلست على صخرتك قبالتي. لم أحزر لحظتها أنك كنت تمّهد بمثل الشقاء والبقاء إلى قصة تتعلق بنجاتي من تجربة تعرفها وحدك.

قلتَ بسخريةٍ ضاحكاً:

- لا تظلم مؤيد، كان راح معكم!. لكن أش لون اللي وداك للموت وأنت ما تدري!

- ...

لزمتُ الصمت منتظراً. خمنتُ أن ما تريد البوح به أكثر خطورة من قصة وصلونا، لكن بطريقتك المرحة الساخرة، وليس بطريقتي الجدية في وصف مخاطر اللحظة.

قلت بمرح كأن الدنيا كلها ورد:

- أنت شقي وبقي!.

- ...!.

تعلقتُ بشفتيكَ. تخافتت ضحكتك قليلا.. قليلا وأنت تتفرس في وجهي الجاد المنتظر، ثم قلت كلاماً يرنُّ في نفسي حتى هذه اللحظة وأنا أجلس بصحبة طيفك على ضفة نهر "الديوانية" الصغير، كلاماً تنبأ بمصيري:

- وأكيد، راح تبقى بعدنا يا شقي!.

صحت نبوءتك، وبقيتُ يا سعد حياً لكن شقياً في قَلْبٍ بسيط للمعادلة. أدور في مدينتنا المخربة، بشرها هُمْ هُمْ.. إذ وجدت الأبناء حلّوا محل الآباء، في محلات الأحذية والمكتبات وبائعي العصير واللبن، ومصلحي الساعات.. زرتهم واحدا واحداً، ورثوا طبيعة آبائهم في التعامل، نفس الطيبة، والترحاب بالمشتري، لكنهم متعبون أضنتهم الدنيا والحروب والحكومات والاحتلال، حتى أنهم يكادون يفقدون ذاكرتهم، ليتني مِتُ معكَ في المخاض كي لا أرى ما صارت إليه الأحوال. لا أحد يتذكرنا، وإنْ ذكرتهم في طرف حديث أرى عيونهم تشف وكأننا أطياف ليس لها علاقة بالواقع وبما يجري ونحن كذلك.

يعني شقي وبقي وطيف ميت يا سعد..

تنبأت بمصيري. وكأنك تراني منذ تلك اللحظة وتعرف أنني سأنوءُ بعد أكثر من ستة وعشرين عاماً بكتابك الثقيل وأنا مكلف برسم خاتمته الصعبة هذا المساء.

بقيت حياً يا "سعد"، أجلس في مقهى "الراية" على كرسي يطل على النهر في ظهيرة مغبرة. أستعيد مشهد جلستنا في عمق الوادي على ضفة نهر "الزاب" الهادر، أرى كيف أربكك صمتي، وأنا أنتظر قصة من بعث بيَّ إلى الموت وأنا لا أدري، بدت لي الحكاية أكثر خطورةً أحسستُ ذلك من طبيعة الانفعال في قسماتك رغم محاولتك تغطية ذلك بالفكاهة والتعليق الخفيف.

قلتَ ضاحكاً وبلا مبالاة:

- تعرف أش لون توترت لمن تحركت الحافلة اللي ركبتها من دمشق قبل ست سنوات!.

لم أجمع شيء. صرت أبله حقاً!.

فأردفتَ مبتهجاً:

- تعرف يا رفيق كان لك شرف إدخال أول عدد من جريدة "طريق الشعب" صدر بالخارج بعد انفراط الجبهة الوطنية إلى داخل العراق!. بمانشيته اللي يقول – من أجل أنهاء السلطة الدكتاتورية في العراق - هههههه

جَمَدَ الدمُ في عروقي من هول الكلام، فأنا لم أكن مستعداً لمثل هذه المهام الجسيمة التي تتطلب قناعة خارقة مثل قناعة شهيد. قناعة لم أمتلكها يوماً. وأنت تعرف يا "سعد" كم دققتُ بمضمون رسالتك إلى "نيرانك" ولا تدري أنني فتحتها حال تحرك الحافلة.

- ...!.

ضجيج النهر، وحفيف الشجر، وشمس الظهيرة فوقنا معلقة لا تدفئ شيئاً، حملقت بالماء الهائج، بوجه زوجتي، بشهقة الجبل، بالسماء وغيومها البيض المتفرقة، بوجهك المتضرج والمنتشي والذي لا زلت استغرب نشوته وأنت تكشف لي سراً، جعلني أضع مسافة مع كل من يحتك بيّ مسقطاً فكرة شرف المناضل.

- ...!.

ارتبكتَ من بلاهة نظراتي وسكوني. كانَتْ "ناهده" تترقبُ بحياد فالموضوع مبهم بالنسبة لها إذ لم أخُض معها في التفاصيل الصغيرة المتعلقة بأسرار تلك الأيام العصيبة.

- ...!.

  • ناصر عواد "أبو سحر" أخفى الجريدة في بطانة المعطف العسكري!.

- ...!.

انحدرتُ إلى تلك اللحظة فطفقتُ أرتعد لهولها رغم مرور أكثر من ست سنوات على وقوعها.

- يا إلهي.. يا إلهي!..

رددتُ بصمتٍ رائياً لحظة دخولي نقطة "الرطبة" الحدودية في الشهر العاشر من عام 1979. في تلك الفترة سُمح للعراقيين بدخول سوريا بالبطاقة الشخصية، كانت الجموع محتشدة، نساء وأطفال وعجائز ورجال من شتى الأعمار ممن كانوا يحلمون بزيارة مرقد السيدة "زينب" في دمشق، وممن كان يحلم بزيارة الشام ورؤية أقارب له ممن فرَّ خوفاً من الضياع في أقبية المعتقلات والسجون.. وكان الزحام ذاك من حسن حظي. اقتربت من طاولة التفتيش حاملا المعطف العسكري الثقيل الذي بعثه "ناصر" معي وحقيبة ملابس وحقيبة أصغر أخفيت فيها جهاز طبع فوتوغرافي اشتريته من بيروت إذ كنتُ مدلهاً بالتصوير وكانت السلطات وقتها تمنع دخول الأجهزة الكهربائية. كان رجال التفتيش متعبين. وضعت حقيبة الجهاز تحت منضدة التفتيش. ونشرت المعطف فتلمّسهُ رجل الأمن على عجل وفسح لي مجالا للدخول.

- يا إلهي.. يا إلهي.. ماذا لو شك بالوريقة المخفية في البطانة؟..

تخيلتهم يلقون القبض عليّ متلبساً وكأنه يحدث في تلك اللحظة التي أجلس فيه على الصخرة مغموراً بضجيج الماء لا قبل ستة أعوام فطنَّ رأسي بدوي جهنم، رعبها لفَّ كياني كله وأنا أراهم يكبلونني في القاعة أمام أنظار المسافرين بينما أحملق بالمسافرين بعينين مسكينتين وكأنني أودع البشر إلى الأبد، فمن يصدق بأنني لا أعرف بوجود جريدة "طريق الشعب" الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي المطارد وقتها، من يصدق وأنا القادم من بيروت مرتع المعارضين العراقيين الهاربين.

- يا إلهي يا إلهي!.

كانوا نزعوا جلدي مرات قبل الإجهاز عليّ. جعلتُ أرتجف وتصطك أسناني وكأنني في صالة النقطة الحدودية الواسعة. ساد صمتٌ جارف قطعته يا "سعد" قائلا:

- بقينا نترقب بقلق ولمن سمعنا أن الجريدة وزعت عرفنا بنجاتك!.

وهدرتَ بضحكتك غير منتبهٍ إلى رعبي المستيقظ من خيال المشهد وأكملت:

- عمرك يا شقي بقي!.

سألتك عن "ناصر عواد" فقلتَ:

- أستشهد في "بشتاشان". قبل سنتين!.

لم يخف غضبي ويتلاشى.

منذُ تلك التجربة آمنتُ تماماً بأن الكائن الأيدلوجي بلا ضمير وأناني ولا يهمه مصير الفرد، تنطبق عليه مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" التي لا تجرد الإنسان من إنسانيته فحسب بل تبيح له قتل الآخر. صدرت جملة من أعماقي بصوت خافت وكأنني أحدث نفسي:

- چا گتلني يا سعد!.

سمعتها، فانخرطت بضحكة أخرى مرحة، هي آخر ضحكة أراها تنّبع من قلبك، بعدها صار ضحكك مخلوطاً بحزنٍ دفينٍ وانكسارٍ لا يخفي عليّ. لم تزل مرحاً. وزوجتي تنصت طوال الوقت. قلت لتخفف عنيّ:

- مرَّ الأمر بسلام و "ناصر" كان ما يقصد، تعرف؟!. هو نذر حياته للحزب وضحى بِها!.

رددتُ فوراً:

- لكن ما لازم يضحي بالآخرين رغماً عنهم خصوصاً بعد ما عرف أني راجع!.

وأشرت نحو زوجتي الجالسة مظاهرةً مجرى النهر الصاخب:

- ولدي بنت تحبني وأريد الزواج وكان معي لما اشتريت من بيروت ثوبين سهرة واحد لأمي وواحد لها.

قمتَ وعانقتني مرة أخرى قائلاً:

- لا تحّمل الموضوع أكثر من طاقته، قبل ست سنوات. وناصر استشهد. وأنت حي تزوجت. والتقينا!. يا شقي يا بقي!.

ورجعت إلى الخلفِ ثلاث خطوات وهبطتَ على صخرتك.

سقط علينا صمتٌ، كنتُ أخشاه. وما رويّ لتفاصيل مغامرة التحاقنا إلا محاولةً لتفادي تلك اللحظة. كنت أمني نفسي قائلاً:

- لعلّها تقتنع وتحجم عن إخبارك وهي ترى البعد العميق لعلاقتي بكَ.. صمتٌ ألهبَّ الماء فسمعته صراخاً. لم ترفع ناظريك عن عينيّ في ثقل الصمت ذاك، لازلتُ أحرزَ حتى هذا اليوم، وأنا أتوجه بعد ساعات لإسدال خاتمة كتابك يا "سعد".. أحرز حال عينيك اللتين تعّكرت زرقتهما بالنضح حالما هربتُ بعينيَّ إلى سفح الجبل وصفحة السماء الضيقة.

يبدو أن لعبة الصمت والتأخير راقت لك!. كنت تتوجس من الآتي، وكلاميّ أنفضَّ ولابد أن يستدير نحوك!.

كان صوتك مخضلاً، والحروف ترتجف وأنت تقول:

- ما أخبار زوجتي وبنتيَّ؟!.

تبادلتُ النظر معها فرأيتها تتهيأ للقول. أدركت ذلك من قسماتها الجدية المتساوقة مع جسامة الفعل المقدمة عليه، قلت مع نفسي:

- خلص يا "سعد" أستعد أتتك الطعنة!.

قالت:

- هم بخير.. فلا تخف!.

لا تدري كم لعبت هذه الجملة في مشاعرنا، فأنا اعتقدتُ أنها عدلت عن أخبارك بحقيقة الأمر، وأنت تصورت أن كل شيء على ما يرام، فأشرقت قسمات وجهينا للحظة، لكنها أردفتْ بكلماتٍ بطيئةٍ.. لفظتها بعناءٍ رغمَ مظهرها القوي الواثق:

- لكنها تَزَوَجَتْ!.

- ...!.

وكأن نصل الخنجر الهابط غار في لحمي أيضاً.

جمدتَ ملتحماً بالصخرة الصلدة، حملقتُ بك متحفزاً دون أن تبدر مني حركة مخافة أن تنفرط، راحت تنقل نظراتها بيننا ونحن نحملق بعيون بعضٍ، أنتَ تستنجد بيّ، وأنا لا حول لي ولا قوة منتظراً اللحظة التالية، مشهد يتجسدُ الآن وكأنه يحدث هذي اللحظة وأنا أتنقل خلف ظل شجرة في مقهى "الراية" على حافة نهر طفولتنا. هببت من طعنتك متسائلاً:

- من اللي أتزوجتْ؟!.

قلتها بصوتٍ باهتٍ كمن هُدّت قواه تماماً.

- زوجتك!.

قالتها بوضوحٍ حاسمةً كل شيء، فرأيتُ وجهك يشحب ولون الجوري يختفي من وجنتيك. كففتَ عن التحديق بوجهي. رفعتَ عينيك نحو السماء وشمسها الشاحبة. وتهدلت بندقيتك ساقطةً من كتفكَ. لم تحاول مسكها، فعانقتْ رمل الشاطئ بصمتٍ. بادَلَتني النظرات متوجسةً. لم تكن جوارنا. كنتَ في مكانٍ آخر أعرفه وخبرته، في رحم بيت الزوجية. مع هبوط حزام البندقية منزلقاً من كتفك الأيمن بدأ لونك يزرق مطعوناً وكأن أنفاسكَ ستنقطعُ. بينما صغرتْ عيناك وتغضّنت قسماتكَ. هَرِمت للحظةٍ، لكن الأمر لم يدُم غير ثوانٍ معدودة. تماسكتَ وأول ما فعلته حملتَ بندقيتك وقلت لها بعينين لم تستطيعا كبتْ الصبيب:

- لدي حراسة نكملُ الحديث بالليل!

ومشينا نحو القاعدة القريبة صاعدين من حافة النهر نحو القاعات والغرف المنتشرة في فسحة الوادي المنفتح كصحنٍ عريض. لم نتبادل كلمة واحدة. كنت تسرع بخطاكَ.. تريد الهرب.

توقفت عند منعطف جوار مجرى ماء النبع، قلتَ بصوتٍ يتصنعُ القوة:ahmedp20@gmail.com

- مع السلامة!.

وغبتَ بين شجيرات الدرب الصاعد نحو فصيل "الإسناد" الذي كنت مسؤوله العسكري.

* * *

أجلسُ في مواجهة دائرة بريد الديوانية بيننا النهر الذي ضاق مجراه، وامتلأ بالنفايات. أجلس مغموراً بك، وفي الغمر تتراءى بقامتك الرشيقة ووجهك الذي شحبَ وخطاكَ المتثاقلة وأنت تستدير عكس مجرى الساقية الصغيرة، تنوء بجسدك وأنت تصعد الدرب المشجر الملتوي. كنت قد هَرِمْت،

خف الهجير، فاصطخبت المدينة. وبدأ الرواد بالتوافد على المقهى. ظهر صديقي الشاعر "علي الشباني" بقامته المتداعية، وخطاه الواهنة. يحملق بشرود في البشر والشارع والمكان من خلف نظارته الطبية العريضة العتيقة التي تزيد من بؤس هيئته الرثة. لم يرني على الرغم من أن نظراته مرتْ عليّ. لا تدري ماذا فعلت به الدنيا؟!، سأروي قصته يوماً وستسمع بها لو كنت حياً، تدفق البقية، وجوه جديدة لا تعرفها، وجوه تحلم حلمنا القديم وفي وضعٍ لا يختلف عناؤه عن زمننا بل وأقسى، فالعراقي أزداد جهلاً وذهبت فترة الحصار بكبريائه، هل تتخيل أن الرشوة صارت شيئاً مشاعاً لا يخجل العراقي منه. هل تتخيل؟.

أقبل نحوي، "علاء جواد كاظم" أستاذ مساعد في كلية الآداب بالديوانية، ناقد شاب به مَسُ من الجنون، بصحبة "خالد إيما" فنان مسرحي ويكتب متابعات نقدية وينظم ندوات ويحلم، و "ثامر حاج أمين" زميل دراستي منذ المتوسطة وحتى الجامعية يكتب متابعات نقدية تعرفهُ أكيد يا "سعد" بقي حياً وفي المدينة بموازنة عجيبة. لم يبق أمامي سوى مغادرة المقهى للخلوة بكَ لترتيب روايتك حتى صفحتها الأخيرة والتي أناطوا بيّ مهمة طيّها

- هل تعتقد أن شيئاً من أمكنة قلب المدينة تغّير؟!..

لا.. لا، المكان نفسه، وأنفاسك اللاهثة، وكأنك تجري في سباق مئة متر، تجري واثقا من أنك ستلّوي العالم بين يديك وترتبه من جديد أوائل سبعينات القرن الماضي، أنفاسك أحس بحرارتها في وجهي الآن وأنت تحدثني في طريقنا إلى المقهى بعد عودتك من بيروت، أسمعها تضرب سمعي بقوة وأنا أعتذر من الصحبة للخروج من المقهى. أخذني الرصيف المكتظ إلى الجسر الحديدي، قطعتُ شارع سينما الثورة حتى گراج بغداد القديم.. واستدرت يساراً باتجاه مدخل الفرقة الأولى حيث كان يقف الجندي المجهول شاهراً بندقيته مضاءً بمصابيح نارية مخفية في فسحة الحديقة الصغيرة الممتدة أمام النصب. أصف لك أثر المكان الذي تآلفنا معه منذ الطفولة. الآن لا جندي مجهول ولا بطيخ ولا مقر الفرقة الأولى تلك الحديقة الغناء الواسعة، كنتُ أحلم حينما كنتُ جندياً أخدم في كتيبة مدفعية مقرها خلف المستشفى العسكري عام 1980 أحلم بزوال العسكر من قلب الديوانية وتحول المعسكر إلى منتزه سيكون غناءً فهو مزدحم بأشجار السِدر والبرتقال واليوكالبتوس، ومستطيلات العشب الأخضر محاطة بشتلات الورد تفصل بين قاعات منام الجنود، كان ذلك بعد اللقاء بك في "بيروت" بثلاثة أشهر فقد دعوني لخدمة الاحتياط. تلك الحدائق الغناء تحولت إلى بيوت عشوائية رثة. هجم أغراب فقراء هدموا وخربوا الحدائق وبنوا بيوتاً ملطخة أبوابها بالحناء وترفرف الأعلام السود والخضر فوق أسطحها الناصية، وعلى الجدران علقت صور لمعممين خرجوا من ظلمة التاريخ ليزيدوا المشهد القاتم قتامةً. وجوه بيض تنظر بثقة من تحت العمامة ولا أدري من أين تأتيها هذه الثقة في عراقٍ وجدته محتلاً. حيث لا شرف لكل القوى السياسية العاملة فيه، فجميعها استظلت ورسخت بفضل المحتل شاءت أم أبت!.

- آخ يا "سعد" لو كنتَ حياَ وترى ما رأيت.. آخ!.

هتفتُ بصوتٍ مسموع جعل المارة على الرصيف المقابل ينتبهون. خَلْفتُ شارع الصيدليات إلى يساري وتوغلت وسط البيوت العشوائية على رصيف الشارع العريض المسفلت المؤدي إلى جسر الفرقة القديم الذي رُبِطَ بشارع مستشفى الجمهوري القديم، لم أواصل دخلت فرعاً إلى يميني يؤدي إلى حقول حنطة وشعير تمتد حتى البساتين البعيدة والجادة الذاهبة جنوبا حتى البصرة. كانت شمس العصر متوهجة تضفي على الحقول والبيوت البائسة بهجةٌ أحس بها وحدي.. ها هم الفقراء لأول مرة بتاريخ العراق يتمكنون من فرض مكان العيش كما فعلوا في احتلال موقع الفرقة الأولى، تحول مكان يعد فيه الجندي للحرب إلى مكان عيش محشود بالأطفال ويعبق برائحة خبز التنور لكن بالمقابل صار الموت مشاعاً بالشارعِ ولا تدري متى يأخذك بغتةً بانفجار لا يدعك تتأمل لحظاتك الأخيرة.

خرج الموت من تمرينات الجنود في المعسكرات وعاد من جبهات الحرب ليسكن البيوت والمقاهي والأسواق والشوارع وفي أرجاء مدن وطننا التعيس يا "سعد"، تعيس حقا وأنا أهنئك لأنك لم ترَ بؤس هذه الأيام.. أو قد تكون حياً، وإذا كنت كذلك فمن المؤكد أنك الآن مجنون تهيم في الشوارع والبساتين والمدن وهذا التفسير الوحيد لعدم ظهورك بعد الاحتلال.

تنبأت ببؤسي يا "سعد" وأنا أنجو من المخاطر لأبقى معذباً بكم وبالخراب.

  • المدينة صغرت بنايتها والبساتين عاد نخيلها واضحا بجذوعه الفارعة. وحدي تحت ذهب العصرية، وحدي مع كتابك الثقيل، وحدي لا أحد. وبغتةً وجدتني، أركض مثل مجنون وسط سنابل القمح. ركضت.. ركضت.. حتى سقطت وسطها لاهثاً مغموراً بسيقانِ السنابل والصمتِ وصدى ضجيج الديوانية البعيد. حملقتُ في زرقة السماء المتوهجة بشمسها التي انحدرت على مجرى الغروب.

السماء نفسها يا سعد!.

تركناها قهراً وتغربنا.

تهنا تحت سماوات أخرى.

- أين أنت الآن؟!.

أرقدُ وسطَ حقل حنطة سامعاً حفيف أعواد السنابل قريباً حميماً، أحدق إلى السماء، في ما آل أليه حالنا، وأفكر في مهمتك الثقيلة التي يتوجب عليّ إنجازها بعد ساعات!.

انشغلتُ عنك قليلاً، كنا في فصيل المكتب السياسي المنزوي في عمق الوادي والمعزول عن موقع القاطع. كنا نحدث قادتك عما آلت إليه أوضاع العراقي المكبوس بالحربِ والقمعِ، وما يجري في جبهات الحرب مع إيران. في مساء اليوم الثالث فرغتُ من تدوين مشاهداتي. وتوجهت نحو موقعك. لم تكن هناك. أخبروني أنك ترقد في غرفة الطبابة منذ ثلاثة أيام.. أي منذ جلستنا على ضفة النهر سألت:

- ماذا جرى؟!.

- يتقيأ ولا تقبل معدته الطعام.

قلتُ مع نفسي:

- كما توقعت!

ووضعت نفسي محلّك، حبيبة عمري تتركني إلى سرير رجلٍ أخر، مجرد التفكير بالخاطر جعلني أرتعدُ فكيف بك؟!.

(بوية سعد يا بوية

الوَنهْ طَالَتْ يا سَعَدْ يا بوية!.)

لك وحدك ناح بها المغني، فأنينك سيطول وأنت الثوري العاجز تماما، لا سلطة لديك، ضائعٌ بين القمم والأودية والجبال والقمل والجوع ومقاومة الموت الحائم حولك في كل لحظة قادماً من قصفٍ مدفعي، طائرات تغير بانتظام على موقعنا، كمينٌ عند عبورك شارع مبلط يربط بين القصبات والمدن المحيطة. أنت في خضمٍ مختلفٍ.. كنتَ تستمد عزمك من وجود أسرتك التي تحلم بالعودة إليها.. وها أنت تكتشف أنها ذهبت إلى الأبد و "نيرانك" في حضن رجل آخر، الله يساعدك، أكتب لك الآن، قد تقرأ قصتك وتتذكر وتعود إلى رحمك، لا أدري هكذا أتخيلك حياً تعيش في بقعة مجهولة على الأرض وترقب ما يجري ساخراً.. هل تكون كذلك؟!. أو أنها مخيلتي الذاهبة نحو حدود الخرافة.. لا أدري.. هرعتُ إليها حال سماعي خبر انهيارك وقلت بجملٍ حادة ولهجة لوم ممزوجة بغضب:

- "سعد" ينام في غرفة الطبابة من ثلاثة أيام!.

- ليش!.

- ظل يتقيأ من يوم أخبرتِه!.

- هو المناضل الصلب!.

-...!.

أدركتْ أنها السبب.

- لِمَ تسكتْ؟!.

كأنها نسيتْ المرات التي توسلتُ بها!..

- ...!.

تفاديت الدخول معها في حوار سيكون عقيماً، إذ خبرتُ عنادها في اللجة، وبيئة الثوار من أقسى الأمكنة التي عشتُ فيها؛ كل شيء فيها محسوب ولا مجال للخطأ! كنت أخشى فقدانها فهي قاربي لو سقطتُ منه في اليّمِ لضعتُ.

- هيا بنا!.

قلتها بودٍ كي أخفف من وقعِ لهجتي اللائمة. أسرعتْ بملء صحن لبن نخثره بأنفسنا من الحليب المجفف، مرددة وكأنها تحدث نفسها:

- هذا يساعده!.

وجدناك ترقد على فراشٍ مبسوط لصق الجدار المغلف بنايلون مطبع بوردٍ أحمرَ بدا قانياً على ضوء الفانوس الخافت المعلق على رفٍ خشبي دق في الحائط بمستوى القامة. بشرتك المشربة بحمرة البرتقال صارت صفراء كقشرة الليمون. غارت وجنتاك. صغرت عيناك. صرت نحيفاً بطيء الحركة كمصابٍ بالسلِ. لم تنطق بشيء وبسمة شاحبة رسمت وجهك المخذول. حاولتَ النهوض فسقطتَ مرتين لاهثاً. أنهضتكَ وأخذتكَ إلى صدري كنتَ تلهث وكأنكَ جريتَ مسافةً طويلةً. همستُ بأذنك:

- كنْ قوياً!.

شاداً من عزمك. وضعتْ الصحن أمامكَ ودعتكَ كي تأكل وتقوي قلبك. جلستُ في ظلِ الفانوس ملتصقاً بالجدارِ البارد.. أتأملُ وجهك المكسور بنظراته المتوسلة علّنا نكذب الخبر.. علّنا لكن هيهات.

كنت لا أعرف كيف أواسيك، فلزمتُ الصمت بينما راحت تحدثك عن صلابة المناضل وتفاصيل صغيرة عن طفولة زوجتكَ حيث كانتا معاً في المدرسة الابتدائية، ثم المتوسطة، عن شيطنتها مع المعلمات في الصفِ.. عنفها.. عرامتها وأشياء من هذا القبيل.. بَرّزتْ الجانب القبيح من شخصيتها ظانةً أنها تساعدكَ على نسيانها وتجاوز المحنة. لتختم حكايتها بنصيحة المناضلة المتحمسة:

- ما أدري أنت أش لون أتزوجتها.. مالها علاقة بالحزبْ ولا بالفكرْ.. زينْ رفيق خلصتْ منها!.

  • ذلك في سعيها لمساعدتكَ على مواجهة المحنة منطلقةً من بنية فكرية ثورية لها قوة الدين، لم أغادر صمتي كنت أتكسر مع تكسر قسماتك المنصتة إلى حديثها وأكاد أنفجر بالنحيب الذي أراه وأسمعه في وجهك والذي تخفيه ببسمة فاترة وهزة رأسٍ وانية تحاول فيها أن تبدو متماسكاً، لكن عينيك الذاويتين لم تكونا في الغرفة شاحبة الضوء. كنتَ هناك في رحمك.. بيتك في الديوانية.. بيتك الذي هُدَّ. لولا وجودها معنا لجلستُ قبالتكَ وانتحبتُ معكَ ولطمنا!. ذلك وحده كان سيخفف ولو قليلا عن ثقل تلك اللحظات.

رقدتَ شهرين كاملين في غرفة الطبابة الكئيبة. كنا نزورك يومياً، وقليلاً قليلا نهضت من صدمتك راجعاً إلى حياة الثوار التي لا تعرف الهدوء والتراخي. فالمقاتل مشغول على مدار الساعة في تفاصيل اليوم. وكونك مسؤولاً عسكرياً لفصيل مقاومة الطائرات ولديكم مهمة الإشراف على السجن لم يكن لديك الوقت في التفكير بحياة خاصة عُرِفَتْ نتائجها؛ زوجةٌ عافتكَ وشقت طريقاً آخر بعيداً عن حياتكَ.

لم ندرك يا "سعد" أن الحياة ومجراها الطبيعي هي غير الحياة التي كنا نتخيلها ونحلم بها لفقراء شعبنا!. ومنطق الحياة تحكمه ثوابت مختلفة عن منطق الفكر، تحكمه الغريزة وأرث العادات والتقاليد والطبيعة لا الأفكار. تعافيتَ لكن مشيتك أختلفَ إيقاعها فصارت كمشية من يحمل في خصره خنجراً مغروساً. وبرغم خفة حركتك كنت تنوء بثقلٍ خفي أحسه وحدي دون الآخرين. كنت ترقص بجنون في مناسبات الثوار.. ومرةً انفردت وسط حلقة الرقص لتقدم لوحة فريدة بألمها؛ رقصة ديك مذبوح، تكسرت في البدء ثم انتصبت بقامتك رمحاً يشرع بالانطلاق نحو السماء، جمدت متوتراً في الهواء لثوانٍ، تمايلت كحائط منخور في عاصف الريح، ترنحت كسكران، ثم هويت مثل طير ضربته رصاصة عمياء، قبل أن تشدَّ جسدك وتراً، وتستقيم مستديراً حول محورك مثل مغزل. كررت الحركات حتى بدأت تنضح وتلهث وقسماتك تنبض ألماً ومرارة. قَدَمتَ عذابك صافياً. حياً في الرقصة، فجعلتَ حشد المقاتلين المحيطين بك يصفقون بحماس وأنت تدلف من الدائرة إلى العتمة خلف صف أشجار الجوز المحيطة بالمكان لتنتحب. ركضت إليك وحضنتك واضعاً رأسك تحت إبطي ورابتاً على ظهرك المهتز مع إيقاع النشيج، وهمست بكلمات لا تداوي جرحاً بل بدت سخيفة باهتة لا معنى لها لكن لابد منها بينما أنوح في أعماقي بأغنيتك

"بوية سعد يابوية..

الونة طالت.. يا سعد يابوية"

لم تفتح موضوع زوجتك إلا بعد مرور عام، حينما أخذتني جانبا عن الرفاق وهمست مبتسماً:

- دبرنه بُطلْ عرق!. لمن إتْظلْمْ أصعد ننتظرك!

كان شرب الخمور ممنوعاً. وكنا ممتعضين من ذلك القرار لكنهم كانوا محقين، فالجميع محاصر مكبوت اجتماعياً وجنسياً، والشرب يثير الأشجان والغريزة ويسقط حاجز الخجل، يضاف إلى الوضع العسكري الذي يتطلب أن يكون الجميع مهيئين في أية لحظة للقتال.

تسللتُ مع الظلام. سلكت الدرب الجبلي الضيق الصاعد نحو هضبة موقعكم، برزت من عتمة الساحة المجاورة لغرفة السجن وسحبتني من يدي وانحدرت بيّ إلى فسحة بستان الرمان المطلة على مجرى النهر الهادر في سكون الليل. السماءُ بلا قمر. النجوم باهتة بعيدة. الحلكة شديدة. لا أدري كيف كنت تعد الكأس فتصب العرق وتخلطه بالماء، كان الكأس المترع يلامس أصابعي طالعاً من عمق الظلام. بعد الثالث سرى الخدر وبدأت الأجنحة تنبت وبعد الخامس رفرفت فشرعنا بالطيران. قرأت لك شعراً من أشعار علي الشباني:

(إمش گوّه

غريج ويمشي حد الموت.. والخوة

بعد مامش ولك خوّه

بعد ما يسهر لحزنك صديقك باب

وأنت كتاب

وأوراقك حرز وتراب

ظّل ميّت.. ولك دنياك عميه وما يفيد كتاب)

شدّتك القصيدة فصرخت بحماس:

- ماشينْ للموت گوة.. گوه فعلاً!.والوادم بحر... شيوصل الغرﮔان
والدنيا سفينة خوف... مفتاح وخذه السفان
روحك يا سفينة خوف... والشاطي خذه السفان
يا درب الخناجر يمشي وأهس بيك...
وين تموت بالدم عار
ودنياك أبحرت بالنار
وإنتَ تصيح
دربك ريح
ﮔوم... وطيح
وإعبر.. كل جسر محروﮒ وتلوّه
إمش للموت... إمش ﮔوه
.........
-2-
إخذ روحك... تصل للموت
إخذ روحك، تجي بدمك شمس تركض...
يطﮓ بعضامك الليهوب
والدنيا ذنب يكبر...
ولك تزغر بيوم اتوب
بعضامـﮓ يجي الليهوب
وسافه اتوب
يلسرّك يغرﮒ الحوت
يلروحك بعيد تموت
يلممشاك كل خطوه مسارات...
وصبر ليل انترس بيبان
وإنتَ ولا تخضّر فوﮒ عتبة باب!
وإنتَ ولا تطيح ويه المطر... سالوفه ترس الدم
ولك ما ورّد بروحك نده الحالوب
وسافه اتوب
لو دمك يتيه بعاليات الصوت...
لو يصفن
إخذ روحك شمس تفتر...
تصل للموت
وتظل صـ.. و... ت

كنا نلمح وجوه بعضٍ كلما أشعلنا سيجارة.

وبغتةً سألتني:

- منو اللي أزوجها ؟!.

- ...!.

سقطتُ في الصمتِ، فشبَّ ضجيج النهر وجعل قلبي يركض مجنون الدقات فصرتُ أسمعها برغم دوي الماء.

سنة كاملة.. سنة يا "سعد" حتى تجرأتَ وسألت عمّن أخذَ رحمك وسكنه.. كنت أجاهد لبلوغ سطح الكلام وأنا أدرك تلك اللحظة أن جرحك لا براء منه.

- ما سمعتني.. گلت من زوجها؟!.

كان صوتك خافتاً وكأنه أنبّحَ بغتةً. حاولتُ أن أدير الموضوع صوبَ ضفة أخرى تنسيك الأمر فقلت:

- يعني أش يفرقْ إذا عرفتْ؟!.

- ...!.

لم تجِب، فضجَّ قلبي والنهر من جديد. كنت أرى وجهك بقلبي مطعوناً بالألم والغضب.

أضفتُ:

- سعد بلا هذا الموضوع.. خلينا ننساه!

- بس أريد أعرف الرجل اللي حل محليّ!.

وضعتُ نفسي مكانك فوجدتك محقاً، لكنني خشيتُ عليكَ، فحاولت تخفيفَ وقع الأمر قليلاً:

- ما أعرف بالضبط.. يقال إنه ضابط كبير في الجيش العراقي!.

أخفيتُ عنك أنه ضابط كبير في جهاز الأمن!. وحينما سمعت الخبر قدرت وقتها سيناريو العلاقة، فمن المحتمل أنها نشأت من خلال استدعائها إلى دائرة الأمن للسؤال عنك وبشكلٍ دوري كما هو شائع زمن الدكتاتور. أشعلتَ عود ثقاب وورثت سيجارتين، فبرق وجهكَ متقداً يبث ناراً حتى أنك حينما أطفأت العود بقيتُ قسماتك مرئية تبرق وتصطخب باللهب الذي أضاء وغطى على صخب النهر الجاري تحتنا في الظلام،

  • حرمونا من العائلة والبيت والشارع والمدينة، رجعوا ناكوا زوجاتنا!.

- ...!.

كنتُ أسمع طقطقة احتراقكَ كحطبٍ في مدفأة. أشعلتَ سيجارة وجرعتَ كأسك دفعةً واحدةً. وأضفتَ بصوتٍ مشروخٍ:

- أخ لو أنزل وأشوف بناتي وأشوف ابن الكلب هذا اللي ينام بفراشي!.

وسمعتكَ تفرك بشعرك فركاً قبل أن تجر مفردات جملتك جراً:

- أأأأأأأأأأأأخخخخخ راح أنفجر!.

كان صراخك مكتوماً.

انتظرتُ حتى تخافت متلاشياً في الليلِ وهدير الماء، فقلت لك:

- سعد ليش ما جبتها هنا!.

- تحچي صدگ؟!.

_ ...

لم أعلق فأردفت معيداً أسمها مرتين:

- نيران.. نيران أجيبها هنا.. هنا أبين الرفاق!.

انزعجتُ من جملتك الساخرة. قلتُ لكَ:

- وليش لا.. أني مو جبت زوجتي؟!.

- أنت مجنون راح تشوف النتيجة!.

كنتُ أدرك صعوبة الأمر لكن لم يكن لدي خيار آخر، إضافةً إلى أنها كانت فاعلة بالعمل السري وكدنا نعتقل.

صدقتَ يا "سعد" سوف أنشوي بنار دائمة بقية عمري بسببها.

استدركتَ قائلا:

- زوجتك رفيقة ونيران ليس لها علاقة بالسياسة!.

أتينا على القنينة، فأخرجتَ من حقيبة ظهركَ قنينةً أخرى. بعد عدة كؤوس أخرى تشجعتُ فأفصحتُ عن وجهة نظري:

- تگول ما لها علاقة بالسياسة، بس تركتها أكثر من أربع سنوات. وهي جميلة ومرغوبة.. قاومت.. وقاومت لكن تعبت.. إلى متى تبقى وحيدة مع طفلتين تنتظر رجل غاب لأسباب ما تفهمها.. تعبت، فتزوجت رجل أخر!.

- ...!.

شجعني صمتكَ والظلام وصخب النهر والعرق على القول:

- وصَدَگتْ أحنه راح نِدْخِلْ المُدِنْ منتَصرين!.

كنت أسخر من حلمك وحلم المقاتلين الذي كانوا يجهرون به لكن بمرور الأيام يتبين لهم أنها مجرد أضغاث أحلام. أمعنتُ في الكشف ساعدتني العتمة والعرق فقلت كلاماً لم أزل نادماً عليه حتى هذه اللحظة وأنا أحملق في سماء الديوانية عصراً مستلقياً على ظهري في حقل حنطة. قلت لك:

- لازمْ تحترمْ موقفها، بدلْ ما تسْقطْ بالرذيلةْ لگت حلّ معقولْ إلها ولبناتكْ!.

- ...!.

لم أسمع حشرجتك. كنت تجود بنفسك كمذبوح. فتشجعتُ مضيفاً:

- على الأقل ضمنتْ حياة كريمة لبنتيك!.

صَمَتَ طويلاً. فتعالى لهاثك، بدأتَ تنهج، وتتلعثم محاولاً قول شيء ما دون جدوى وبدلا من الكلام صرختَ صراخاً مكتوماً، مصحوباً بفحيحٍ وكأنكَ تحدث نفسك:

- لا.. لا.. لا.. لا.. لا...لالالالالالالالالالالالالا!.

وأشعلتَ سيجارةً، فرأيتُ وجهكَ مشوهاً، عاجزاً حاقداً، حقد مُقعَد مركب كمعتقلٍ مكبلٍ يرى زوجته تغتصب أمامه لكنها تستمتع بالمُغتصب. عالجتَ لتقول:

- لو بقه يوم بعمري لازم أشوف بناتي وأشوف الرجل اللي أحتل مكاني بالفراش!.

- هذا جنون!.

صرختَ بصوتٍ مخنوق:

- أني مجنون.. ما تعرفني زين.. مجنووووووووووووون!.

ثم انفجرت في نوبة بكاءٍ يذبح القلب تردد اسم بنتيك اللتين تحتفظ بصورتيهما في محفظتك الشخصية منذ هروبكَ.. ليلتها أتينا على القنينة الثانية ونمنا تحتَ شجرة الرمان نوماً عميقاً غير شاعرين بشيء..

* * *

لم أتخيل أبدا أنه سيفعلها!.

ليلتها تصورت أن قوله مجرد ردة فعلٍ.

نهضتُ من بين سيقان الحنطة. نفضت ملابسي. الغروب جعل السماء كالحة، خطوتُ نحو المدينة التي أعتم أفقها فبانت كضربة فرشاة باهتة السواد في محيط لوحة رمادية قاتمة.

في هذهِ البقعةِ الباهتةِ تبددتْ أعمارنا، وبعيداً عنها غاب "سعد" وحشد الأحبة الحالمين بجعلها جنة. وبقيتُ وحدي أتتبع ظلالهم وأنفاسهم وامتدادهم في البقعة التي عادت هذه الأيام دامسة لا ذرة ضوء تنفذ من خلالها. كنتُ أفكر بذلك بينما أنصت إلى حفيف السنابل الخفيف، ضجة عصافير على شجرة سِدر، عواء كلاب أمام بيوت من طين لاحت قريبة. هاأنذا أعود إلى رحمي مع شحوب الضوء عليَّ أستطيع اكمال كتاب سعد المضني. لم يبق لي سوى ساعة واحدة، وبقي المشهد الأخير يتوجب عليّ ترتيبه ليكون ككتابٍ مفتوحٍ عندما ألتقي بها وجهاً لوجه.

أقبلَ هابطاً على منحدر الدرب الجبلي الضيق، بينما كنتُ أهم بالصعود، ومن بعيد نادني ضاحكاً:

- نازّل لكْ!.

كان قد مرّ أكثر من ثلاث سنين على وجودنا بالقاعدة، عانقني بمرح، كان يرتدي كامل عدته العسكرية، بندقيته نصف أخمص، مخازن الرصاص تلتف حول خصره الناحل، حذاء جبلي تركي جديد، قلت له:

- على خير ! طالع بمهمة؟.

هزّ رأسه موافقاً:

- لهذا السبب گلتْ لَكْ البارحة لازم أشوفك!.

دس يده اليمنى في حقيبته القماش، أخرج دفتراً صغيراً وظرفاً، ومحفظة جلدية قديمة وضعها براحة كفي ونظر نحوي قائلا:

- تحتفظ بها. الوضع مضطرب. نازلين بالعمق إلى منطقة خطرة، تبقى عندك لمن أرجع!.

كان ذلك في نهاية صيف 1988 قبل أكثر من عشرين عاماً. شدّني إلى صدرهِ مودعاً وهو يضحك وعاد إدراجه صاعداً على الدرب الضيق المظلل بصفي أشجار البلوط، ظللتُ واقفاً أتتبع خطاه حتى غاب في العطفة لحظتها لم أتخيل أبداً أنها ستكون آخر مرة أراه فيها، فبعد شهرين زحف الجيش العائد لتوه من الجبهة مع إيران حال توقف الحرب في 8-8-1988، بشكلٍ مباغت مسيطراً على السلاسل الجبلية قاطعاً الطرق. كان "سعد" مع المجاميع التي حوصرت في العمق قريباً من أرياف الموصل بينما كنا جوار الحدود التركية فاقتحمناها مع جموع الأكراد لنعيش رحلة جحيمية أخرى إلى أن أستقر بنا المقام بعد أكثر من نصف عام في معسكر "خوي زرعان" للاجئين في أقصى الشمال الإيراني. في ذلك المكان الموحش البارد المحاط بالأسلاك الشائكة وأبراج الحرس الثوري الإيراني وسط سهل محاط بسلاسل جبلية كنا نتتبع أخبار من حُصِروا ونهرع كلما وصل ناجٍ لنسأل عن البقية، إلى أن حلّ في المعسكر "أبو حازم" الذي كان مع مجموعة سعد، كنت أنتظر دوري لتسلم الخبز حينما سمعت خبر وصوله فانسحبت من وسط كتلة اللاجئين المزدحمين أمام شباك الفرن، وهرعتُ نحو قاعة الرفاق إذ كنا نسكن أنا وزوجتي في غرفة مستقلة، لم أجده فخرجتُ إلى الساحة الواسعة الممتدة من البنايات وحتى السياج وأبراج المراقبة، فوجدته يجلس وسط الرفاق متوسدين التراب. سلمتُ وسألته على الفور:

- وين "سعد"؟!.

تفرسَّ في وجهي طويلاً فهو يعرف مدى علاقتي به. نزع نظارته السميكة الزجاج وراح يمسحها بورق سجائر لف، بينما لاذَ الجميع بالصمت منتظرين، نضحت جبهته فمسحها بكم قميصه، وثبت النظارة على أرنبة أنفه، ثم أطلق حسرة مسموعة قائلا:

- سؤالك نفسه حَيّرْ المجموعة كلها!.

- ...!.

لم ينطق أحدٌ بكلمةٍ. سمعتُ الأنفاس تتسارع ودقات قلبي ضجّتْ كضربِ طبلٍ سريع حينما شرع في القص:

  • توزعنا مجموعات صغيرة؛ ستة، ستة وانتشرنا محاولين الوصول إلى قرى سهل الموصل على أمل أن يرتب لنا تنظيم الداخل الوصول إلى الحدود وعبور دجلة إلى سوريا. كان "سعد" معنا ومن أدلاء المجموعة ويعرف الطرق والوديان وزوايا المكان جيداً، الجيش انتشر يمشط الطرق والسفوح والقمم شبراً... شبراً والجنود يتقدمون على شكل موجات الواحدة تتبع الأخرى، كنا نختفي في كهوف وزوايا عاصية وفجر أحد الأيام وجدنا أنفسنا مطوقين في وادٍ ضيق وموجه الجنود اللي يفصل الواحد عن الآخر عشرة أمتار تقترب من مكاننا. تسلقنا السفح بسرعة. صرنا على هضبة صغيرة مشجرة اختفى بعضنا خلف الشجيرات والصخور، لكن رفيقنا "أبو أيار" ما قدر يصعد بسرعة لأنه كان مصاب بقدمه، صرنا نشرف على الوادي من علو عشرين متراً، فشفنا رفيقنا متكور على نفسه وراء صخرة أقترب منها جندي حتى صار على بعد خمسة أمتار منه، فسحب "أبو أيار" أقسام البندقية ووضعها بحلقه وأطلق. فسقط وتدحرج إلى فسحة صغيرة وهمد، صاح الضابط بالجندي ليش گتلته ولك ليش؟ فجاوبه الجندي؛ سيدي هو ضرب نفسه!. أمره الضابط بالصعود إلى الهضبة. قلنا انتهى أمرنا وصوت خطوات الجندي نسمعها تقترب من موضعنا. صار بنصنا بالضبط على بعد ثلاثة أمتار فقط. ودون اتفاق سحبنا أقسام بنادقنا ووجهناها عليه. جَمَدَ مثل صخرة يبحلق بينا بجنون، مرت ثوانٍ وبلا ما يلتفت صاح: ما كو أحد سيدي!، واستدار بهدوء كأن على رأسه طيراً، وانحدر ملتحقاً بفصيله المنسحب إلى عمق الوادي، ركضنا نازلين نبكي ودورنا حفرة قريبة وضعنا فيها جثة "أبو أيار" وغطيناه بالصخور مستعجلين. ورجعنا عكس اتجاه فصيل الجنود اختفينا في كهف ضيق الفتحة دخلناه زحف منتظرين هبوط الظلام. لمن نزلت الشمس انتقلنا إلى مكان آخر أكثر أمان ورتبنا حراسات، فكان وقت حراستي بعد "سعد". طلعت من الكهف. وسرت للمكان المتفقين عليه لكنني لم أجده كان اختفى، درت حول النقطة من كل الجهات ما شفت شي رجعت مرتبك للصخرة اللي كان الحرس يجلس عليه فشفت عليها بندقيته وحقيبته بها أكثر من ثلاثين ألف دولار من مالية الحزب كُلِفَ بحملها، تلفتت سكون وظلام وليلة بلا قمر اختفى بها "سعد" وما بقى كل أثر.

قلتُ مع نفسي:

- فعلها المجنوووووووووووووووون!.. فعلها!.

غادرت الحلقة، وهمتُ على وجهي، قطعتُ الساحة حتى صدني سور الأسلاك الشائكة وبرج المراقبة هاذياً متسائلاً عن معنى اختفائه معيداً رسم المشهد، فرأيته في عمق الظلام وقبيل انتهاء نوبته بدقائق ينزع بندقيته ويضع حقيبته على الصخرة ويتسلل على المسالك التي خبرها جيداً في السنوات المنصرمة. وبقي السؤال الذي حيّر ولا زال يحير الجميع:

- لماذا فعل ذلك وهو الصبور والمقاتل الخبير الذي له تجربة طويلة؟!.

لا أحد أقترب من روحه مثلما اقتربت، وليس لدي تفسير غير الآتي:

عندما رأى الموت دانياً والرفيق يطلق على نفسه في قعر الوادي، أصابه الوهن فقرر التسلل في المسالك التي يعرفها ليدخل "الموصل" ومن هناك إلى بغداد ليبحث عنهم منفذاً وعيده الذي أفضي به لي في ليل بستان الرمان في القاعدة:

- لو بقي يوم بعمري، لازم أشوف بناتي وأشوف الرجل اللي أحتل مكاني بالفراش!.

ورد فعله عندما نعته بالجنون، حشرجةً وصراخاً أسمعه الآن رغم ستار السنين:

- هو أني مجنوووووووووووووووووووون!.

هل تمكن من النفاذ إلى المدن والوصول أو أن الجيش ألقى القبض عليه وأعدمه ميدانياً كما فعل مع العديد من المقاتلين الذين أصابهم الوهن فتوهموا الخلاص بالاستسلام؟!.

بقي هذا السؤال يشغلني حتى هذه اللحظة وأنا أقلّب صفحات كتاب "سعد" الأخيرة، ما عمق حيرتي وجعلني أسرح في مخيلتي بعيداً هو ما أخبرني به صديق ورفيق مشترك نسميه في الجبل "حيدر حنفي" لشدة سمرته وشبهه بالمصريين عن مصير "سعد" صاحبه وصديقه الحميم منذ أيام بيروت وحيدر صار قريبا مني في علاقة فيها أسرار. الحكاية التي رواها لي في مقهى "الهافانا" في دمشق عام 1997 عندما سألته عرضاً عن مصير "سعد" بينما كان يحدثني منفعلاً عما لاقاه في "بغداد" مع اللجنة المركزية التي أنتخب عضوا فيها، حيث وفرَّ لهم شخصاً قيادياً يدعى "أبو طالب" تبين لاحقاً أنه عميل سري قديم بيتاً مراقباً من قبل المخابرات وبكاميرات منصوبة في أماكن خفية. كنت أستمتعُ بسماع رواية تلك التفاصيل الجديرة بفلم سياسي بوليسي من نمط أفلام سبعينيات القرن الماضي، وعندما شارف على ختام قصته المخيفة سألته منتهزاً فرصة ما لديه من معلومات وهو في رأس الهرم:

- حيدر.. ما مصير "سعد"؟!.

- تقصد "أبو لينا"؟!.

- أي!.

نزع نظارته سميكة الزجاج وأقترب بوجهه مني عبر المنضدة الصغيرة الفاصلة بيننا. حدق بعيني وهو يمرّر منديله ماسحاً جبهته من العرق. أعاد النظارة وقال بصوت مختلف عن حماسته وهو يروي أحداث كاد يضيع هو وقيادة الحزب الشيوعي العراقي فيها، صوت تشوبه حيرة كحيرتي هذي اللحظة وأنا أتوجه نحو باب صفحته الأخيرة:

- صادفني في سوق مكتظ في بغداد الجديدة!.

- تحكي جد يا حيدر!.

- وداعتك!.

- لا تحلف مو نظارتك چعب أگلاص!.

- مثل ما أشوفك شفته!.

- ...!.

حملقت به بدهشة غير مصدقٍ:

- تشك بمعرفتي بسعد!؟!.

- لا.. ما أشك!. بس حاچيته؟!

- لا..

- ليش؟!

- كنت خايف وهو خايف!.

صمت لحظة وضربَ كفاً بكف مضيف:

  • شگد متندم ليش ما حاجيته!.

من يومها بقيت أضرب أخماساً بأسداسٍ. رتبت قصصاً مختلفةً، تخيلته نجح بالتسلل من بين الجنود المنتشرين وبلغ أطراف الموصل، فرأيته يلوذ بمقعدٍ في عربة القطار النازل إلى بغداد، يتأمل الركاب والأضواء البعيدة التي تلوح من زجاج النافذة حالما بالعثور على عائلته، رأيته يترجل فجراً على سلالم العربة الحديدية في المحطة العالمية القريبة من المتحف العراقي ويقف حائراً إلى أين يذهب، ثم يجوب الأزقة بحثاً عن معارف. تخيلته وفقاً لرواية "حيدر" ينجح بترتيب مأوى وإيجاد عمل إذ كان صحيح الجسد نشطاً قادراً على أداء أصعب الأعمال، قصةٌ كنت أرتبها كل مرة بطريقة وأمكنة مختلفة كلما عنَّ على بالي، أمهد كثيراً قبل أن أرسم مشهد عثوره على بيت زوجته التي انتقلت إلى بغداد الشاسعة بملوناتها السبع. أؤثث تفاصيل ذلك اليوم من لحظة خروجه من عملٍ في ورشة تصليح سيارات بالشيخ عمر إلى تسلله في المساء إلى بيته المسروق ليطل من شباكه متلصصاً، تخيلتُ تفاصيل لحظته؛ شكل وجهه، تعبير عينيه، جنونها، ارتجاف جسده الناحل، فيض ألمه المكتوم، غضبه وحقده الأخرس، لكنني لم أستطع أبدا تخيل رد فعله لحظة ظهور نيرانه وزوجها وطفلتيه خلف زجاج النافذة.. لم أستطع. أكرر تأثيث المشهد بأشكالٍ وأوقات وأزقة ونوافذ مختلفة في أحلام يقظتي الشاردة التي أسرح فيها كلما عنَّ على ذاكرتي:

- اللعنة يا "حيدر" أي مخيلة أشعلتها بخبرك؟!.

لكن قصص مصيره الغامض تعددت واختلفت حسب تضارب الأخبار والرواة تحول "سعد" إلى مروية اختلف رواتها مع تقادم الأيام وإبحارها في غور السنين فصارت روايته من أساطير الذين ضاعوا في الحرب.

قبل أعوام ثلاثة أي في عام 2007 سمعت رواية أشد وقعاً وعنفاً. فقد اتصل بيّ تلفونيا من السويد "نجاح هلال" وهو رفيق من مدينتنا وتربطه علاقة قوية مع المفقود وسعى لمعرفة مصيره في سفراته الكثيرة إلى العراق وذهابه إلى المنطقة التي ضاع أثره فيها في أرياف الموصل قرب "الشيخان". فروى مشهد مقتله التراجيدي المطابق لمقتل الحسين في العاشر من عاشوراء في ساحة بكربلاء. كان يروي اللوحة الدامية عبر التلفون:

- يقال نزلوه من سيارة عسكرية عارياً وربطوه إلى عربة زراعية بحبلْ غليظ طويل في ساحة داخل مجمع "باعذره". ومشت العربة تسحل جسمه وتدور في شوارع المجمع وترجع للساحة حتى تقشر جلدة وأنسلخ على الإسفلت وسط حشود الناس وبكاء النسوان وصراخ الأطفال وصمت الرجال إلى أن فاضت روحه فحملوه بنفس السيارة العسكرية اللي جابته!.

تزعجني دوما طريقة الروي الحيادية، التي تضمر نبرة بهجةٍ خفية أثناء رواية تراجيديا المصائر، بهجة ممزوجة بلذة غير مفهومه. أطبقت الهاتف وقلت لزوجتي:

- ما أقبح الإنسان!.

- ليش أش سمعت؟!

- ما كو شي!.

* * *

بقيتُ بين حياتك وغموضها وموتك والسؤال:

- لِمَ تركت سلاحك والنقود وحلم الثورة وغبت في الظلام؟!.

أعيد ذلك السؤال كلما هزأت من تفسيري حول اختفائك.

الظلام الذي ابتلعك تلك الليلة، أحالك حلماً وأسطورة تروى بطرقٍ مختلفة، لكن الخلاصة أنك غبت إلى الأبد في بحر الظلام والحكاية، فبقت لوعة صغيرة لا تبرح روحي التي دبغتها التجارب والمخاطر، لوعة صغيرة جداً هي اللوعة نفسها التي شغلت صفحةً من لحظات شرودي وسهوي في منفاي والمطلوب مني تبريد نارها في اللحظات القادمة وأنا مقبل نحو صفحة كتابك الأخيرة الذي كنت أظن أنني صرت نائياً عنه لكن قبل أسبوع جعلوه حياً بجملةٍ سأحكي لك كيف؟!.؛

مررتُ بمقر اللجنة المركزية لحزبك الشيوعي العراقي في ساحة الأندلس وسط بغداد. وصعدت إلى غرفة صغيرة في الطابق الثالث خُصصت كمكتب للأنصار، وجدتُ العديد من المحاربين القدماء قد شاخوا أتعبتهم الأيام يتكلمون بوهنٍ وكأنهم قادمون من ماضٍ بعيد مجترين ذكرياتهم أيام الكفاح. تعانقنا بشجن، كنا بقايا من زمنٍ ثوري فات، أرجحتنا التجربة على حافة الكهولة، والموت واقفُ على الباب ينتظر، إذ لم يبق لنا سوى سنين معدودة. سألني رفيق قصير القامة ذو وجه مغضن مفلطح القسمات، بأنفٍ مفروش، وعينين ضيقتين:

- أنت من الديوانية؟!.

- نعم!.

- تگدر تمر على بيت "لينا" بنت رفيقنا "سعد"؟!. زارتنا قبل سنة هي وزوجها. تريد تسمع عنه كل شيء، تگول فارگنه وعمري ثمن سنين، لكن صدفة ما كان أحد من الأنصار الموجودين يعرف عنه شي!.

وأعطاني العنوان!.

ترّجلتُ، من سيارة الأجرة ودخلت زقاقاً عريضاً، كان المساء قد هبط، وأمام ثاني باب حديدي إلى اليمين وقفتُ متردداً وسط ضجيج المولدات التي تزود المناطق بالكهرباء حينما ينقطع التيار العام، ضغطت زر الجرس، ورجعت خمس خطوات مبتعدا، فتح رجل أشيب الشعر الباب ورحب بيّ، عرّفني بنفسه كان أخوك الذي يصغرك بأعوام. دعاني إلى الدخول، وقال أن زوج بنتك قتله الأمريكان قبل ستة أشهر على الطريق السريع حينما اقترب بسيارته من رتلهم دون قصدٍ وكان في طريقة إلى الديوانية من بغداد حيث كان يعمل أستاذا محاضراً في كلية الهندسة. عبرنا ممر الحديقة المسفلت. ومن الباب الداخلي ظهرت شابة ترتدي حجاباً أسودَ، عرفتها من أول نظره، لها قوام زوجتك وضخامتها، وملامحها القوية وسطوة نظراتها، لكن ثمة حزناً قاتماً يجعل من حركاتها ثقيلة وصوتها خافتاً كأنه يصدر من تحت طبقاتٍ من الرماد:

- أهلا عمي.. أهلاً!.

وإلى جوارها يقف ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة. بنت وولدان. أخبرتني على الفور أنهم أحفادك. وجوه غضة نظره. فيها الكثير من ملامحك، والبنت ذات الضفائر لها زرقة عينيك، وشقرة شعرك. عانقتهم واحدا.. واحداً. وحملت الصغيرة وأنا أعبر عتبة غرفة الضيوف الواسعة. كنتُ أسمع لغط نسوة يأتي من عمق الدار، وكأن هنالك حشداً منهن يملئ الغرف منتظراً. أخبرني أخوك أن جميع أخواتك حضرن مع بناتهن وأبنائهن، وهو يفضل تسجيل ما سوف أرويه ليسمعوه لاحقاً، قال ذلك وأضاف؛ حتى نسيطر على الوضع، يقصد العواطف. استحسنت الفكرة، وعلى المنضدة، أمام الأريكة الوثيرة التي جلست عليها وضع مسجلاً كبيراً مهيئاً بينما تشجّرَ حولي أخوك وابنتك وأحفادك الثلاثة ساحبين كراسيَ متحركة، منتظرين روايتي. أعدت سرد كتابك تاركاً كل المواقف الحزينة والمؤلمة من ستينات القرن العشرين وحتى السنة التاسعة من القرن الواحد والعشرين. نثرت روحك وحكايتك في بيت أحفادك، في عيني ابنتك المضرجتين بالدموع وملامحها المستكينة وهي تنصت بصمتٍ. خلقتك بالقص حتى انتشرت رائحتك في البيت فشممتها ورأيتك بوجوه أحفادك. لم أترك ثغرة في القصة، جاءت سلسة منسابة حارة خارجة من تنور اليوم المحتدم بك من بكرة الصباح حتى لحظة عبوري عتبة البيت. وأثناء القص أخرجت الصور التي أودعتني إياها في اللقاء الأخير وأنت تنزل لغيابك، صورك وأنت ترقص "الهيوة" وسط حلبة المقاتلين في المناسبات، وأنت تضحك مصطفاً جوار رفاقك، على ضفاف الأنهار وفي عمق الأودية وعلى السفوح وفي القمم والغابات، وأنت تسبح في أحواض الينابيع والأنهار الصغيرة، وصورتك مع ابنتيك، سألتُ عن الأخرى، فأخبروني بأنها تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى السويد. ولم أخبرهم بأنني مزقتُ يومياتك قبيل اقتحامنا الحدود التركية لوضوحها وكثرة الأسماء والتفاصيل التي تشي بنا كمقاتلين، ختمت القصة بغيابك الغامض، وعدم التأكد من مقتلك برغم بحثي طوال تلك السنوات، بل وسعت موضوع رؤيتك في سوق من أسواق "بغداد الجديدة" ونهضتُ، فنهضوا جميعاً. وقرب الباب استوقفتني ابنتك وسألتني:

- عمي.. ليش ترك المجموعة، وين چان يريد؟!.

- ها.. ها...!.

تلعثمت فبدوت وكأنني لم أفهم ما تقصد، فأعادتْ السؤال بدقةٍ طالبة مني قول ما أعتقده. ترددت في القول حائرا معقود اللسان.

- ...

فحثتني بتوسل:

- الله يخليك عمو گول شي!.

غرزت عيني بقوة في قسماتها الجميلة وقلت:

- يمكن حتى يشوفكم!.

شهقت ثم رددت بصوت خافت:

- يا بويه.. يا بويه!.

وأوشكت بالتداعي جوار الباب فأحاطها أخوك بذراعيه.

ابتعدت في الظلام.

كان طيفك يطوف حولي وكنا نسمع معاً بوضوح نائحاً ينوح بصوت مذبوح:

- وينك يا عراق.. وينك يا وطني!

* * *