طير الليل رواية ثنائية التصنيف الأنواعي: فهي تاريخية بأسلوب بوليسي سيطر على جميع منافذ السرد التاريخي، ورهن أسلوبيته التي استكانت إلى محكيات ضمنية متفرقة لصالح أسلوبية السرد البوليسي التي حازت الإطار المحكي، وامتلكت زمام مفاصله بداية ووسطاً ونهاية وحبكة وعقدة وتشويقاً؛ ولكها زوايا الإطار البوليسي الذي وسم هندسة الرواية شكلاً وبناءً. وترك التاريخ أفكاراً تجوس المضامين والمحكيات الصغرى.
أما من حيث استراتيجية التقديم السردي، فالرواية ذات تأسيس تقابلي البناء؛ أي رواية ذات وجهين. تبادرك في بدايتها بوجوه معينة تتعرف بها على الشخصيات وتصنفها بحسب وظائفها وأفعالها المعلن عنها في التقديم الافتتاحي، لكن كلما تقدم السرد تنسلخ تلك الوظائف والقيم تدريجياً عن الشخصيات، وحين تقترب الرواية من النهاية تبدأ وجوه الشخصيات في السفور عن ملامحها التي كان تخفيها أقنعة وظائفها السردية الأولى، التي كانت مجرد وظائف مؤقتة أطاح بها هذا الانقلاب الوظيفي، ليكتشف القارئ بأن ما كان يحسبها وجوهاً لأدوار ووظائف الشخصيات، في بداية النص، لم تكن سوى أقنعة مصطنعة أسلوبياً من طرف الكاتب، الذي سيسقطها تباعاً مع نهاية المغامرة السردية.
أولاً - الخيارات الأنواعية والأسلوبية (مخطط التسريد)
يُحسب هذا الأسلوب على الألاعيب السردية، المعتمدة على الارتداد، والتحول وثنائية الوجه والقناع. الذي يسبق فيها القناع دوماً ظهور الوجه الحقيقي، يفتتح الأول المغامرة، ليسقط في نهايتها تاركاً للثاني مهمة حسم مصيرها، وهذا ما ألف السرد العالمي في نوع شهير هو الرواية البوليسية والجاسوسية، ورواية الأسرار أو الألغاز. لذلك فإن الانشطار الأنواعي والأسلوبي للرواية كان تقنياً عالي الحبك في اللعب على ثنائيتين: الثنائية الأولى أنواعية: تم نسجها بين عنصر التاريخ الذي يحوي بداخله ثنائية صغرى هي: (المرجع الوقائعي الواقعي، والمبدأ التخييلي)، الذي يسمح بحجب الهويات المرجعية والانتقال المحسوب بين الأزمنة (بإيقاعات متفاوتة، في تسريد اللحظات الماضية، والتوقف عند اللحظة الراهنة للسرد، واللحظتان مسبوقتان دوماً باستباق مثل ذلك الذي بدأت به الرواية التي افتتحت بمشهد دموي لمقتل طير الليل الذي سيكون علة بقية الأحداث والشخصيات تبريره).
أما الثنائية الثانية فهي أسلوبية (وهي قضية هذا المقال)، وتتمثل في استثمار العنصر البوليسي في تعقب مراحل التحقيق والتحقق من أفعال الشخصيات وإدانة الجاني الذي ارتكب الجريمة الغريبة والمجهولة التي افتتحت بها الرواية (مقتل طير الليل وقطع أنفه ووضعه فوق صدره، وقطع الأنف هو قصاص الخيانة الذي يتلقاه العملاء من المجاهدين ليكونوا عبرة. مع أن طير الليل يقدم كشخصية ثورية قيادية في صفوف المجاهدين، وقادة العسكر بعد الاستقلال). وقد منح هذا التقديم البوليسي -في الرصد التاريخي- إحدى أهم التقنيات تشويقاً في ألاعيب السرد المعاصر؛ وهي ثنائية الوجه والقناع، أو ما سماه الفيلسوف الحداثي "جان بودريار" بالمصطنع والاصطناع (le simulacre et la simulation)، في كتابه الذي يحمل هذا العنوان نفسه.
مما جعلنا أمام رواية انشطارية بالمفهوم النووي، انشطارات متعددة، تبدأ بتقسيمين رئيسيين ظاهرين على مستوى النوع: [تاريخي/ بوليسي]، وعلى مستوى الأسلوب [الوجه والقناع]، لتأخذ كل ثنائية في انشطارات ثنائية ضمنية، فينشطر التاريخي إلى [واقع مرجعي/ تخييل سردي]، والبوليسي إلى [الغموض في الجريمة والكشف عن ملابساتها]، وعلى مستوى الثنائية الأسلوبية ينشطر الوجه إلى [وفاء شهيد/ جزاء الخائن]، والقناع إلى [أقنعة دائمة (يرفض الكاتب إسقاطها حتى بعد نهاية الرواية) وأقنعة مؤقتة يسقطها الكاتب أمام القارئ قبل النهاية]. وهذا ما أعتبره المخطط المبدئي الذي تأسس عليه النص في التأليف وتسريد المضامين المتنوعة المادة والمراجع والتوثيقات.
ثانياً- الشخصيات وبطولة المشاهد.
1 - النمو بالتعري
تبدأ الرواية بتقديم شخصياتها، في مظاهرها الأولية مكسوة بصفات أولية سيكتشف القارئ تدريجياً بأنها مجرد كسوة من أوراق توت كثيفة، والملفت في هذا التقديم، أن كل شخصية تؤطر مشهدها العائم عبر فصول الرواية، عن طريق لعبة الاحتجاب والظهور العشوائيين، لكن هناك شخصية سيطرت على جميع المشاهد سواء بكونها ذات متكلمة، أو موضوعاً لكلام غيرها، وهي شخصية ميلود صبري المدعو (طير الليل)، التي كانت بطلة عنوان الرواية ومضمونها. دون منازع.
إذا كانت كل الشخصيات تبدأ مكسوة ثم تخضع في تطورها الشامل إلى تعرية تدريجية بواسطة رياح الأحداث المتقلبة التي تسقط من فصل إلى آخر أوراق ستراتها التوتية، فإن بطل الرواية في كثافة الخطاب هو بطلها أيضاً في التعري، وهو من أكثر الشخصيات نمواً وتطوراً متسارعاً، وكان تطوره هذا بالتعري الفظيع الذي يفضح من فصل لآخر وجهاً من وجوهه الخفية والإجرامية. التي كانت تقف وراء كل مآسي الشخصيات والأحداث التي عانها الجميع بما فيهم القارئ.
2- الانقلاب
مع أن البطل المزدوج الوجه طير الليل (ميلود صبري) هو أول الضحايا الذي استبقت الرواية أحداثها بعملية مقتله الغامض، لكنها لا تتطور نحو تعرية المجرم كما يفعل السرد البوليسي، وإنما تتطور لتفضح الضحية، وتعري صورتها المعكوسة، كجلاد انتقم منه التاريخ، وحين يكشف الروائي عن حقيقة مقتله والأطراف التي قامت بذلك، ينقلب القاتل إلى ملاك، مبارك، أرسله الله للخلاص من شيطان منكر، وهكذا يتحول القتيل إلى جلاد، قبضت عليه عدالة التاريخ. ليفضحه موته القصاصي. ويبتلعه مصير الخونة والسفاحين.
هكذا تطوى صفحة هذه الجريمة/ المباركة التي انجرت عنها جملة من الثنائيات المتضادة التي حولت الضحية إلى جلاد، المجرم إلى محسن، والمجاهد الوفي إلى خائن قذر، والتاريخ النضالي إلى تاريخ دسائس وخيانات دنيئة. ونخب الحكم إلى عصابات إجرامية منظمة. وحامل الحقيقة إلى حامل لعنة، والوفي للأمانة، إلى مشروع ضحية، والمكلف بمهمة إلى كاميكاز، ووقود لانتصارات مؤجلة، ومكاسب الثورة في جيوب أعدائها .. إلى غيرها من الثنائيات التراجيدية والمفارقات السردية التي زرعها الكاتب في ثنايات النص وتعاريج أحداثه، فمنها ما انفجر في الواقع، ومنها ما انفجر في التخييل السردي لهذا النص، ومنها ما ينتظر الانفجار.. في زمن ما بعد هذه الرواية المفتوحة التي تنتظر الاكتمال .. وقد انفجر بعضه فعلاً في الأيام الماضية قبيل سنة 2020 وبعيدها.
ثالثاً- هندسة الفصول واستراتيجية التناوب:
علينا أن نشير أولاً إلى هندسة تقسيم الرواية التي تتكون من فصول تشتغل بالتناوب بين لحظتين زمنيتين، أو بالأحرى بين إيقاعين زمنيين، أحدهما ماضٍ يرجع إلى زمن الثورة التحريرية، وهو زمن شباب شخصيات الرواية وكهولتها (طير الليل ورفقاء الكفاح)، والزمن الثاني لفصول تتحدث عن راهن اللحظة السردية المتزامنة مع التحقيق في ملابسات مقتل البطل طير الليل، لكنهما لحظتان زمنيتان غير متكافئتان، فالزمن الماضي متحرك متطور متقدم بتسارع ملفت نحو لحظة الراهن، بينما زمن حاضر السرد متوقف بطيء بط التحري والتدقيق في كشف حقيقة الجريمة. وهو ما جعلنا أمام الحالة التالية: كلما تقدم السرد لأحداث الماضي تحركت اللحظة الزمنية الأولى باتجاه الثانية (راهن التحقيق)، وضاقت المسافة بينهما، إلى أن تلتحق اللحظة الأولى بالثانية، وتتوحد الفصول وينتهي التناوب الزمني، لنشهد سيرورة الأحداث في الفصول الأخيرة عبر الأمكنة بصورة أفقية، بعدما كانت تنتقل عبر الأزمنة بصورة عمودية من الماضي إلى الحاضر.
ونلاحظ في هذا التقسيم المتناوب تارة عمودياً عبر الزمن وتارة أفقياً عبر المكان، أن الفصول الخاصة بالاسترجاع الزمني الماضي، موجهة حصراً لاطلاع القارئ على الأسرار التي يبحث فيها التحقيق الجاري في الفصول الخاصة براهن السرد وحاضر عملية التحقيق. ما يعني أن القارئ أثناء عملية التداول بين اللحظتين الماضية والراهنة، يكون أكثر اطلاعاً من المحقق الذي يتحرى الحقيقة من خلال استجواب هذه الشخصيات الشائخة والهرمة، وينبش في ذاكرتها لمعرفة العلاقة الخاصة والسرية بينها، لكشف محيط المقتول "طير الليل"، وطبيعة العلاقة بين شلته حينما كانوا شباباً، أي في الحظة الأولى للسرد التي، صارت الآن بيد القارئ وتحت نظره. وهي طريقة تجعل القارئ يساهم في تطوير السرد، ويعين السارد على الربط بين الأحداث وتوقع مآلاتها، بمزيد من التشويق الذي يحفزه الخبث المتبادل بين المحقق كريم سلطاني وشلة "طير الليل" من قدامى الثوريين.
رابعاً- المشاهد العائمة، وإنتاجية التلقي
تتكون فصول الرواية من مجموعة من المشاهد العائمة، التي تؤطرها شخصيات معينة، فحين تذكر شخصية في مساق السرد، يحضر في ذهن القارئ مشهدها الذي أطرته منذ بداية الرواية والذي اختفى ليظهر غيره، ثم يظهر مجدداً ليختفي غيره، ويبقى الأمر المتحكم في المشاهد هو ظهور الشخصيات واختفائها ثم ظهورها مجدداً، وترتبط جدلية الاحتجاب والظهور للشخصيات بحسب ترتيب مشاهدها التي تقودها. ولعبة الظهور والاختفاء هذه، تتم بطريقة عشوائية تماماً، ومصادفاتية، داخل كل فصل.
لكن الأهم في كل ذلك أن عملية تخزين الشخصيات وأدوارها في ذهن القارئ قد عمل الروائي على ترسيخها بشكل عميق، فيتكون ذلك المنعكس الشرطي الذي يجعل القارئ على استعداد دائم، بمجرد إطلالة الشخصية برأسها، أن يستحضر مشهدها السالف، ويدمجه آلياً ضمن مسار ظهورها الجديد، وهكذا يفعل مع كل شخصية تقود مشهدها، وهذا ما جعل لعبة ظهور واحتجاب الشخصيات التأطيرية للمشاهد، ترسم في هندسة الرواية استراتيجية المشهد العائم التابع لشخصيته. مع الإشارة إلى أن التقطيع المورفولوجي للرواية يعتمد مشاهد متحركة (لذلك سميناها عائمة؛ أي أن الانقطاع المتناوب لفصول السرد لا يؤثر في استئناف المشهد المنقطع، بعد عودته مجدداً، في فصل لاحق)، لذلك فهي ليست لوحات ثابتة التشكيل. بل مشاهد متحركة عائمة، متجددة الأنفاس. بعد كل قطع ومع كل ظهور متجدد للأحداث أو شخصيات سابقة.
خامساً- مآخذ فنية على الرواية:
1- مطية المشاهد الاجترارية وإطباق الدائرة البوليسية المغلقة على السرد التاريخي المحتجز
ككل الروائيين البوليسيين، الذين يجترون ذلك المشهد الذي كرسته أجاتا كريتسي، وسربله من ورائها الآلاف من الكتاب المتبولسين، ومنه الجزائريون خاصة، لا يختلف عمارة لخوص عن سابقيه، أو أنه لا يريد الحياد عن نمطية أسلافه في ذلك الاجترار للمشهد الافتتاحي المجتر، والوظيفة الاجتماعية للمحقق، فيعيد أمامنا المشهد المتكرر والنمطي نفسه، حين تفتتح الرواية بجريمة قتل غامضة المرتكب، في مشهد جرائمي دموي استباقي تفتتح بها الرواية إشكاليتها أمام القارئ، كبادرة تشويقية، ثم يدخل المحقق مع فريقه، ويباشر تحرياته مع أهل بيت الضحية ومحيطه الأقرب، وهو مشهد رجراج في السرد البوليسي منذ ظهوره في نهايات القرن التاسع عشر، لم يتطور ولم يكف عن الدوران في حلقة صار القارئ يجدها في مستهل كل رواية كأنما هي بداية موحدة لكل الروايات، لا تختلف فيها هذه الرواية عن آلاف الروايات التي قبلها، لنجد أنفسنا أمام برود تاريخي لمشهد افتتاحي نمطي متكلس منذ قرون، ليتفتتح لنا رواية في 2019.
المظهر النمطي الثاني المجتر في هذه الرواية، هو: تقديم المحقق الذي أسندت إليه مهمة التحري في هذه الجريمة، وهو العقيد كريم سلطاني، المكلف بالتحقيق في ملف اغتيال طير الليل (ميلود صبري). وككل سلالة المحققين الذين سبقوه، من شارلوك هولمز (المحقق في روايات السير آرثر كونان دويل (1859-1930)، إلى هركول بوارو (المحقق في روايات أجاثا كريستي)، إلى كثير من نسخهما المتكررة عالمياً وعربياً، وهو نموذج المحقق الفاشل اجتماعياً وعاطفياً (المطلّق)، والذي يتلقى العتاب والسباب من أسرته الصغيرة وزوجته السابقة، بسبب إهمال اجتماعي مستحق عليه تجاهها أو تجاه ابنه. وعادة ما يلتقيان في مطعم تتحول جلسة الغداء فيه إلى معركة أسرية من تقاذف التهم، وتعليق كل طرف لأعباء الخلاف على الآخر، وينتهي بحنق متبادل لا يكون ضحيته سوى طلبية الأكل التي لم تؤكل ... الخ.
نفس هذا السيناريو المجتر نراه يتكرر ببرودة بجميع تفاصيله في هذه الرواية مع المحقق في جريمة مقتل طير الليل: العقيد سلطاني المطلق/ الفاشل اجتماعيا/ والذي يلتقي بزوجته السابقة نادية في أماكن عامة/ وتلومه ويلومها/ ويفترقان/ ثم نراه يسقى ظمأه العاطفي بمغامرات عشقية جانبية، مع عشيقته مريومة وهي بدورها مطلقة وزوجة سابقة لشعبان عليلي .. إحدى الشخصيات الهامشية في الرواية.
وهذا الوجه البوليسي هو الوجه النمطي الاجتراري الثابت في الرواية عكس، الوجه التاريخي المتحرك والمتطور الذي رغم حركية إحداثه، إلا أنه لم يستطع الخروج من قبضة الدائرة المغلقة التي فرضتها عليه نمطية السرد البوليسي المتحكمة في مسار التحقيق الذي يرهن كل مصائر ومآلات هذه المغامر السردية، منذ بدايتها الكونانية (جريمة/ أداة جريمة/ ضحية/ محقق)، إلى نهايته الكونانية أيضاً: (كشف المجرم وحقيقة الضحية/ وأسباب الاغتيال/ وغلق الملف).
2- انكشاف المونتاج، ومشكلة الكولاج (الملصقات السردية)
ما نلاحظه بداية في تركيب مشاهد الرواية، أن المونتاج فيها كان مكشوفاً للقراء، مع تمايز جلي لحدود التأطير (le cadrage) بين مشهد وآخر وذلك راجع إلى عدة عوامل بدت ظاهرة بدورها دون كثير عناء.
- أولها أن الكاتب أثناء سرده للمقاطع الراهنة كان يقرأ كثيراً مقاطعه السابقة ويعد المشاهد اللاحقة، أي أنه كان يمارس المونتاج أثناء التأليف في الوقت نفسه، من خلال ذهنية القارئ لما سبق، التي سيطرت على ذهنية الكاتب التلقائي المنسجم مع تأليفه. وقد ظهر هذا في كونه لا يقدم مشهداً جديداً حتى يعيد علينا، أو يذكرنا بظلال مشهد قديم مررنا عليه في فصل سابق، فهو إما يذكر القارئ من خلال هذه العودات الفلاشباكية المتكررة، أو أنه يذكر نفسه ليمنح انسجاماً لفكرته الجديدة مع ما سبقها، وفي كلا الحالتين، هو يمارس فعل القراءة الذي سيطر على فعل الكتابة وغطى عليه. فكان قارئاً للتاريخ أكثر منه كاتباً له، لذلك سيطر الأسلوب البوليسي على السرد التاريخي ورهنه، في هذا النص.
- كما ظهرت كثيراً (بصورة واعية أو لا واعية) مراجع الواقع التي اعتمد عليها الكاتب، وأطلت برأسها من جنبات المشاهد، وكشفتها تقنية الكولاج. أي الإلصاق، التي ضاعفت من وضوح خطوط المونتاج وفواصله السردية، أمام القارئ، فتحولت معظم مساحات السرد إلى: إما لفيف من الاسترجاعات الفلاشباكية المركبة، أو الاستدراكات التعقيبية على مشاهد سابقة، في محاولة لتكييفها العسير مع المشاهد الراهنة للسرد، مما تطلب من الكاتب في أحيان كثيرة، أعادة النظر في ملابسات أفعال وأحوال شخصياته، من أجل تكييف مصيرها مع مسارها السابق، ولكن هذا الترقيع وتصويب المسار، دائما ما يأتي متأخراً، مما يكشف المونتاح والكولاج والترقيع. وخير مثال على ذلك ما وقع لشخصية المحقق العقيد كريم سلطاني الذي يحمل في كل ظهور له صفة ملصقة جديدة لصفته الاجتماعية تضاف إلى الملصقات السابقة لوظيفته وفعله كمحقق. وهذا بعد أن يكون الكاتب قد أهمله طويلاً ثم يتذكره ويعود إليه بتأثيث وصفي جديد. يتطلب منه زرع فلاشباكات تسترجع مساره السالف لتربطه مجدداً بمساره اللاحق.
- وبدرجة أقل تتضح الملصقات في المسار المتناقض لصفات وأفعال شخصية زهرة مصباح، زوجة طير الليل، تعرضت عملية إعدادها للعب دور المجرم الذي سينكشف أمره في الأخير، إلى عدة اهتزازات غير منطقية ولا منسجمة مع طبيعة زوجة رب عسكري من أرباب النظام في الجزائر.
- خاصة بشأن إعداد حياتها الحميمية مع طير الليل، ثم هجرانه بداعي التدين الذي سقط عليها فجأة، حين اكتشفت أنه خائن للثورة وقاتل عشيقيها السابقين: سي يزيد رفيقها في السلاح وقائد مجموعة ال29، (ص122/123) الذي تمت الوشاية به إبان الثورة، (والواشي هو ميلود صبري)، وعشيقها الثاني الذي لم تتزوج به (عباس بادي المكنى البلارج)، ثم اكتشافها للعلاقة الجنسية بين زوجها ميلود واختها فريدة القتيلة على يد ميلود صبري بعد تحليلها للحمض النووي لإدريس طالبي الذي تبين أنه وليد تلك العلاقة بين أختها فريدة وزوجها ميلود صبري (ص230)، فكان أن حرمته (بوازع ديني) من حقه الشرعي في الاقتراب منها، ولبسها الجلباب، واعتكافها على الصلاة والصيام، ثم تكفلها شخصياً بقتله (كأنما بأوامر فوقية تناقض سلوكها الديني السابق)، ثم التنكيل بجثة زوجها القتيل؛ بقطع أنفه ووضعه على صدره كمصير رمزي للخيانة، عشية عيد الاستقلال.
وقد أثار تغيرها السلوكي السابق تساؤل زوجها ميلود صبري، قبل مقتله، كما تثير تساؤل القارئ تلك الوظائف المكثفة والتأثيث غير المتجانس، لهذه الشخصية، التي أرهقها الكاتب بالملصقات المتناقضة إلى درجة صار من المتوقع منها أن تلبس أي شيء يريده الكاتب، ليس لأن اللباس (الوظيفي) ينسجم معها، بل فقط حين يريد الكاتب تكليفها بمهمة ما تخضع لما يريده هو لا لما ينسجم مع سابق صورتها. إذ لا يهم إن انسجمت العلاقات العشقية خارج الزواج مع التدين مع القتل مع الوفاء مع الخيانة. ثم ينتهي مصيرها مع كل تلك الأفعال إلى اللاعقاب. بإرادة الكاتب دوماً، كأن ما يهم فقط أن تلبس هذه الشخصية المحورية لباس الوظيفة التي ستوكل إليها فقط، دون مراعاة أي منطق يربطها بمسارها السابق الذي يكون القارئ قد احتفظ به عبثاً. أو أن نتيجة اللاعقاب كمصير ختامي لها، ينسجم مع ما ارتكبته في البداية والنهاية؟؟
أم أن هذا اللامنطق في التأثيث واصطناع المصائر في حد ذاته فكرة الروائي التي يريد تسليطها على مسار التاريخ الثوري الجزائري في هذا النموذج الروائي؟ ولكن هذه الفكرة أيضاً تكشف تسلط الكاتب وتكليف شخصياته بمهام يكشف تناقضها ولا منطقيتها عن كثير من خيوط الماريونات الظاهرة بيد كاتبها. ويكفي القارئ تتبع مسار هاتين الشخصيتين، ليرى جلياً ذلك الإلصاق والتركيب المعلنين في تأثيثهما المرحلي.
*- والتكليف بمهمة هو ميزة ملصقة بجميع الشخصيات في هذه الرواية. فكانت وظائف الشخصيات مثلها مثل المشاهد واللوحات، رهينة في حركتها، لسيادة المونتاج، فهي لا تتحرك بصفتها المحددة إلا في إطار زمني ومهمة خاصة، أوكلت إليها، مما يجعلها شخصيات مكلفة بمهمة أكثر منها شخصيات تتحرك بحرية، وتفرض منطقها على النص.
*- يبدو المنطق الوحيد المهيمن على النص هو منطق يد الكاتب التي تحرك أطراف الشخصيات، بأوامر وخيوط ظاهرة للقارئ، كأنما تتلقن الشخصيات دورها وخطابها عند كل ظهور. بشكل تلقيني واضح.
*- وهنا حدث تغير في المنطق البوليسي الذي انتقل من وضعه الداخلي كأسلوب يحكم علاقات البنى الروائية من شخصيات وأحداث، إلى علاقة سلطوية خارجية تسم علاقة الكاتب بشخصياته. التي لم تكن تملك أية حرية أو تلقائية أو منطق ذاتي في تصرفاتها، أو سلاسة في أحداثها.
-* إن تقريرية المواقف والتوجيه الصارم في تحريك الشخصيات، وبروز المونتاج في إملاء أدوارها، هو ما ضاعف من سيادة المونتاج التعسفي البوليسي الذي مارسه الكاتب على شخصياته، وجعل هذا الأسلوب الخارجي الظاهر؛ السمة الأسلوبية المهيمنة على الرواية وشخصياتها المكلفة بمهمة.
*- الأمر الذي قضى على عناصر مهمة في السرد البوليسي، والتاريخي والنسق التشويقي الذي يتطلبانه، كالأقدار، والصدف، ومنطق يمنح هوية حكائية للحبكة، بينما كان التشويق محسوباً وتقريرياً، والمهام فوقية التكليف والتنفيذ، في قبضة الكاتب لا في قبضة منطق السرد.
وكما أن الروائي قد قدم لنا التاريخ محتجزاً بيد عصابة رهنته تاريخيًا، وصارت تتصرف به، فقد قام هو بالفعل نفسه، لكن سردياً.
ناقد وأكاديمي جزائري
*- الرواية: "طير الليل" للكاتب الجزائري عمارة لخوص، منشورات: حبر/ المتوسط، إيطاليا، ط1، 2019.