حين يكون لدينا كاتب وافر الإنتاج وعظيم التأثير في ثقافتنا المعاصرة - مثل الدكتور علي الراعي - يكون من المفيد التنقيب والبحث عن كتابات الشباب؛ لأنها تلقي أضواء على منهجه ومواضع اهتمامه. تخرّج علي الراعي في قسم اللغة الإنجليزية، فكان من المتوقع أن يصير معلمًا أو مترجمًا أو مذيعًا. لكنه تمسك بالكتابة، وهي بالنسبة إليه لم تكن مهنة، وإنما رسالة. فكتاباته لم تكن تحمل له أي عائد مادي، بل على العكس كانت محفوفة بمخاطر الاعتقال السياسي. ولم تكن بالنسبة إليه بداياتٍ ولَبِنَاتٍ يبني عليها مجده الأدبي؛ لأنها كانت تصدر بأسماء مستعارة. هي – إذنْ – نوع من الكتابة النضالية، ومن هنا تأتي أهميتها؛ لأنها تبين لنا إلى أي الموضوعات تميل نفسه المتوقدة، وأي رسالة وهب لها عمره.
مجلة (الفجر الجديد) الأسبوعية كانت قصيرة العمر، لم تستمر سوى أربعة عشر شهرًا، لكنها كانت بمثابة حجر أُلْقِيَ في بحيرة من الماء الراكد. كانت منصةً عبَّر فيها جيل جديد من الشباب، الذين صاروا بعد ذلك مبدعين ونقادًا ومفكرين كبارًا، تتجاور فيها أسماء أنور عبد الملك، ونعمان عاشور، ويوسف الشاروني، وابراهيم سعد الدين.. وغيرهم. أمّا صاحب امتياز المجلة ورئيس تحريرها، وفي الوقت نفسه زعيم التنظيم الذي أصبح اسمه فيما بعد "طليعة العمال والفلاحين"، فهو الأستاذ أحمد رشدي صالح. أسماء كثيرة تظهر على صفحات أعداد المجلة، يبرز من بينها الأربعة الكبار: أحمد رشدي صالح، وأحمد صادق سعد، وأبو سيف يوسف، وعلي الكاتب (أحد الأسماء المستعارة لعلي الراعي)، وهو ما يبين أن علي الراعي لم يكن ضيفًا عابرًا، وإنما عضوًا فاعلًا بالمنظمة. كان قد تخرج لتوّه من كلية الآداب، حاملًا شهادة الليسانس من قسم اللغة الإنجليزية، فكان أول إسهام له في المجلة هو ترجمة لمقال بعنوان "الاقتصاد بين إنجلترا وأمريكا"، وتقوم فكرة المقال على أن التوافق السياسى بين إنجلترا وأمريكا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تكمن خلفه حرب اقتصادية حامية الوطيس. في العدد الثاني يكتب علي الراعي مقالًا بعنوان: "الفن الزائف والفن الحقيقي"، وهي محاولة أولى لتقديم رؤية ماركسية لعلاقة الفن بالمجتمع، وهو في رؤيته هذه يقتفي أثر كتاب "الفن خبرة" لفيلسوف البراجماتية جون ديوي. يبين المقال أن الفن في العصور السابقة كان وثيق الصلة بالحياة اليومية، ولكنه في عصرنا هذا انزوى في ركن بعيد، نائيًا بنفسه عن حياة الناس. والسبب في ذلك – من وجهة نظر ديوي - هو نمط الإنتاج الصناعي الذي يعتمد على التخصص وتقسيم العمل. ولكن الفن في جميع أحواله - في نظر الراعي - لا يمكن إنتاجه بمعزل عن الحياة، والنظرة الماركسية وحدها هي التي تستطيع أن تخترق هذا الجدار الهائل الذي أقامته الحضارة الصناعية بين الفن والحياة، لتكشف لنا عن الصلة بينهما. يختتم علي الراعي مقاله بمقتطف يشير إلى قضيته وانتمائه: قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: "فقل إن شئت إن الشعب يقظان نائم، يقظان لأنه يعمل وينتج، ونائم لأنه لا يحمي ثمار عمله من هذه الثعالب التي تأكل منها حتى تبشم، فلا يزيدها البشم إلّا نَهَمًا". طه حسين بك من كتاب "جنة الشوك".
بعد ذلك يختفي التوقيع باسم علي الراعي، ليبدأ التوقيع باسم علي الكاتب، وأغلب مقالات علي الكاتب تدور حول النظرة الماركسية للفن، في مقابل أبو سيف يوسف الذي كان يهتم بتقديم النظرة الماركسية للفلسفة. الأستاذة فاطمة رمضان، محررة الطبعة المجمعة من المجلة، أشارت في المقدمة إلى أن علي الراعي قد وقّع مقالات باسمه، ثم باسم علي الكاتب، وأيضًا اسم حسن زاهر. وأنا أرجّح أن هناك اسمًا رابعًا، وهو نور شريف. فهذا الاسم لم يكن له مستقبل في الكتابة النقدية بعد ذلك، مما يرجّح أنه اسم مستعار. وبالنظر إلى طبيعة المقالات التي يكتبها نجدها تدخل جميعًا في صُلب اهتمامات على الراعي. فبتوقيع نور شريف ظهرت مقالات بعنوان: "عن الأدب الإنجليزي"، "المدنية الجديدة: المسرح في روسيا السوفياتية"، "الأرض الخراب"، "الرومانتيكية في دورها التحريري". وفي هذه المقالة الأخيرة يتحدث عن التيار الرومانتيكي في الأدب الإنجليزي، ويهتم بشكل خاص بتفسير سبب تحوُّل الشاعر ووردزورث من الرومانتيكية إلى التصوُّف وحب الطبيعة، وذلك بسبب حماسه الزائد للثورة الفرنسية، ثم إحباطه بتحويل نابليون لها إلى نزعة عسكرية. وعندما تَعَرَّضَ علي الراعي - تحت اسم حسن زاهر - لتفسير نشأة تيار الرومانتيكية في مصر، مع الشاعر على محمود طه، فإنه ذكر مثال ووردزورث بكل تفاصيله.
كان الراعي - تحت اسم علي الكاتب - يغطي مَلَفَّات أخرى، مثل الجامعة العربية، والشئون الأفريقية، والأمم المتحدة، لكنها كلها بدت هامشية بالنسبة إلى موضوعه الأساسي حول الماركسية والفن. في مقال له بعنوان "الجدلية والفن الحديث" يتناول مفهوم الفن انطلاقًا من الأطروحة الأولى لماركس حول فيورباخ: "خطأ كل مادية سابقة، ومن بينها مادية فيورباخ، هي أن الموضوع والواقع والعالم المحسوس لم تُدرك إلّا في صورة الموضوع أو الحدس، وليس كنشاط إنساني محسوس، كممارسة عملية وليس بطريقة ذاتية." ويستنتج منها أن الإنسانية لا تقف موقف المراقب الذي يرصد حقيقة موضوعية مستقلة، وإنما هي جزء من الحقيقة، وأن الماركسية تتبنى في تقييم الفن مقياسًا ذا وجهين: نسبيٍّ، ويتعلق ببيان صلة العمل الفني بالحقبة والطبقة، ومُطْلَقٍ، يتعلق ببيان قيمة ما يحويه العمل من الحقيقة الموضوعية. ويختم هذا المقال باستشهاد من لينين: "لا يهم ما يعنيه الفن لنا نحن، ولا ما يعنيه لبضعة مئات أو آلاف من الناس في أمةٍ كأمتنا تُعَدُّ بالملايين. الفن ينتمي إلى الشعب، وجذوره يجب أن تمتد إلى قلب الجموع نفسها".
بالنسبة إلى علي الراعي، لم تكن النظرية الماركسية مجرد منهج يساعدنا على فهم طبيعة العمل الفني وإدراك قيمته الجمالية، بل صارت فلسفة عامة شاملة، قادرة على تفسير كافة نواحي الحياة. ففي مقال بعنوان: "مواقف إنسانية في حياة ماركس"، يؤكد الراعي على دعوة ماركس إلى تحليل دقيق للمجتمع الإنساني، واستخلاص لقوانين ذات أهمية في علم الاجتماع، بحيث توضع في مصافّ قوانين داروين في علم الحياة. ورأيه هذا يبين مدى الثقة التي تكوَّنت لديه عن علمية النظرية الماركسية وشمولها. ولكن يظل الحديث عن الأدب هو مجاله المفضل، الذي يمتلك فيه ثقافة واسعة - معاصرة وتراثية - يوظفها جميعًا في الدفاع عن التناول الماركسي للأدب، ودحض حجج الخصوم.
فهو يخصص مقاله "النظرة الماركسية للأدب" للرد على فِرْيَتَيْن شائعتيْن في أواسط المثقفين: الأولى أن الماركسية تقتضي أن يكون الكاتب ماركسيًّا ليصبح أديبًا كبيرًا، والثانية أن النقاد الماركسيين لا ينظرون إلى العمل الأدبي نفسه، وإنما ينشغلون برده للظروف الاجتماعية التي أنتجته. وينبري الراعي للرد مبينًا أن الأديب العظيم لا يُشترط أن يكون ماركسيًّا، ولكن لكي يكون أدبه عظيمًا ينبغي أن يكون مُعَبِّرًا عن الظروف التي أنتجته، ولكي يحظى هذا العمل بالخلود يجب أن يكون مندمجًا في خط تطور المجتمع الإنساني. ويضرب مثالًا على ذلك بمسرحية "الدكتور فاوستس" للكاتب البريطانى كريستوفر مارلو، الذي كان معاصرًا لشكسبير، وتتعرض مسرحيته لأسطورة فاوست الذي باع نفسه للشيطان، مقابل الحصول على المعرفة. إذ عَبَّرَ لنا مارلو من خلال مسرحيته عن الموقف المحافظ من العلم، الذي يميز المجتمع الإقطاعي الآفل، وعن حماس المجتمع الرأسمالي الناشئ للمعرفة، لينتهي إلى أن "النظرة الماركسية للأدب هي الوحيدة التي ترد الأدب إلى أفق الإنسان، وتجعل منه شيئًا إنسانيًّا مفهومًا، فيكسبه بذلك جمالًا خالدًا خلود الإنسانية نفسها".
هذه المقالات تُعَدُّ بمثابة لَبِنَاتٍ أولى لبناء مدرسة في النقد الأدبي، وتمثل تقدمًا كبيرًا بالنسبة لما سبقها من مقالات حول علاقة الماركسية بالأدب، هي المقالات التي كتبها سلامة موسى، وعصام الدين حفني ناصف، والدكتور القاضي، في مجلات متفرقة على فترات متباعدة، وكلها كانت تدور - إجمالًا - حول فكرة ضرورة أن يتبنى الكاتب تطلعات الجماهير ويعبر عنها. كما تبين هذه الإسهامات أن علي الراعي لم يتأثر بالمدرسة السوفيتية الرسمية في النقد الأدبي والمعروفة بالجدانوفية، فهو لم يستخدم مصطلح الواقعية الاشتراكية الذي كان شائعًا في هذا الوقت في أوساط الأحزاب الشيوعية التي تدور في فلك موسكو، كما لم يستخدم باقي المصطلحات المقترنة به، مثل مناقشة علاقة الشكل بالمضمون، أو أهمية تحديد الانحياز الطبقي للكاتب، أو إبراز دور البطل الإيجابي.
وإنما كان الشاب علي الراعي - في تناوله الماركسيّ للأدب - ينهل من معين آخر، بعيدًا عن الماركسية الرسمية. وأراد علي الراعي أن يخترق الحصار المفروض، الذي لا يقدم للقارئ سوى نجوم الأدب الأوربيين والعرب. وبوَحْيٍ من تضامنه الإنساني مع المضطهدين قَدَّمَ الشاعر الزنجيّ الأمريكىّ "لانجستون هيوز"، وقَدَّمَ لأول مرة شاعرًا أفريقيًّا من ساحل الذهب، هو "بانكول رينر"، لكي يلفت انتباه القراء إلى صلتنا الوثيقة بأفريقيا التي نتناساها، وإلى نضالها ضد الاستعمار.
تَبَنَّى علي الراعي – إذنْ - الفلسفة الماركسية، وآمن بطابعها الشامل الذي يتناول كافة مظاهر الحياة؛ ولهذا كتب مقالات تتضمن تحليلًا اقتصاديًّا لعلاقة الدولة بالاقتصاد في إنجلترا بعد الحرب، كما كتب عن مدارس العلاج النفسي عند فرويد وإدلر ويونج، مبينًا كيف أنها تصل إلى طريق مسدود في محاولاتها لعلاج الأمراض النفسية للأفراد، إن لم تضف إلى منهجها نظرة ماركسية، تأخذ في الحسبان وضع الفرد في الحياة الاجتماعية والنظام الإنتاجي، وهو الاتجاه الذي توسعت فيه مدرسة فرانكفورت عند ماركيوز وإريك وفروم ووليم رايش، وهو نفسه الاتجاه الذي أكد عليه بعد ذلك بربع قرن جيل ديلوز وفيلكس جاتاري في كتابهما "ضد أوديب."
إن ما يهمنا هنا هو أن ننظر كيف استخدم علي الراعي هذا المنهج في تناول أدبنا العربي المعاصر، وهو ما تجلّى في رده على الدكتور طه حسين الذي نشر بحثًا في مجلة (الكاتب المصري)، يميز فيه بين الأدب الرفيع والآداب الشعبية، ملاحظًا ميل الأدب بعد ثورة ١٩١٩ إلى التخفف من القيود الفنية والجمالية لكي يعجب الجمهور، معتبرًا ذلك نوعًا من السقوط فيما يمكن أن نسميه بلغة اليوم "الشعبوية"، ومُؤْثِرًا الحفاظ على الأدب الكلاسيكي المكتوب بالفُصحى، وإن بقي "نخبويًّا" لا يستسيغه عامة الناس.
وهنا يرد علي الراعي مُتَّهِمًا طه حسين بالمحافظة والخوف من التجديد، والتعالي على التذوق الشعبي للفنون، مُبَيّنًا قابلية اللغة الفصحى والعامية على السواء أن تنتجا فَنًّا جميلًا، وأن ثورة ١٩١٩ حرّرت المجال الأدبي فلم يعد مقصورًا على إنتاج الأدباء المرتبطين برُعاتهم من الأمراء، وسمحت بظهور أدباء أحرار يعيشون من الكتابة للجمهور، فأنتجوا بالضرورة أدبًا جديدًا أكثر شعبية. ويرد طه حسين في العدد التالي على الأديب علي الراعي، شاكرًا له حسن ظنه، ولكنه ينتفض ضد وصفه بأنه كاتب برجوازى: "وضعني (الكاتب) في موضع لا أحبه ولا يحبني، فلست كاتبًا برجوازيًّا، وما أحببت قَطُّ أن أكون برجوازيًّا، وإنما أنا رجلٌ شعبيُّ النشأة والتربية، شعبيُّ الشعور والغاية أيضًا". ويبين طه حسين أنه لم يكن يهدف في بحثه إلى أن يعزل الأدب عن الشعب، ولكنه يرى أن على الأدباء أن يرفعوا الشعب إلى أدبهم، وألَّا يهبطوا بآدابهم إلى الشعب، باختصار هو مع احتفاظ الأدب بحقائقه وضد الابتذال. ويضرب طه حسين مثالًا بالأديب ماكسيم جوركي الذي يكتب أدبًا رفيعًا لكنه وثيق الصلة بتطلعات الشعب.
ويختم طه حسين رده بإظهار نفوره من أن يصفه الكاتب بأنه أرستقراطيُّ النزعة. وعن مذهبه في الحياة السياسية يقول طه حسين: "لا أحب الديمقراطية المحافظة ولا المعتدلة، ولا أقنع بالاشتراكية الفاترة، وإنما أُياسر إلى أقصى ما أستطيع. فلنقنعْ بما قُسم لنا من حرية الرأي الآن، فمن يدري؟! لعل حظنا من حرية الرأي أن يعظم ويتسع في يوم من الأيام، ويومئذ نستطيع أن نقول كثيرًا. ولك أصدق تحياتى". الرسالة الضمنية التي نفهمها من رد طه حسين أنه يلمح بأنه اشتراكي راديكالي، لكنه لا يصرح بذلك. وهذه لفتة هي في جوهرها مجاملة وتحية لهؤلاء الشباب الذين يقتحمون بحماس الحقل الأدبي في مصر، وهم مُحَمَّلُون بآمال الكادحين في تحقيق العدالة الاجتماعية.
ومن حيث تطبيق المنهج الماركسي في تناول الأدب العربي، علينا أن ننظر في دراسة علي الراعي الرائدة عن الشعر العربي في مصر، التي صدرت في ثلاث حلقات في مجلة (الفجر الجديد)، تحت اسم آخر هو "حسن زاهر"، وهذه الدراسة أقرب إلى أن تكون بحثًا في سوسيولوجيا الأدب، إذْ تربط بين نشأة المدارس الأدبية والتحوّلات الاجتماعية التي تحدث في الأمة. ويعتبر ثورة ١٩١٩ ثورة البرجوازية المصرية لتحقيق الطموحات الوطنية. وهي الأطروحة التي أصبحت - فيما بعد - المنطلق الأساسي لدراسة تاريخ مصر المعاصر في أقسام التاريخ بالجامعات المصرية. وفي هذه الدراسة يحاول أن يفسر الظهور المدوي للشاعر علي محمود طه والمدرسة الرومانتيكية، فيبين أن ثورة ١٩١٩ قد خلصت الشعر من الالتزام بأغراض القصيدة الكلاسيكية: المديح والهجاء والفخر والرثاء، وأن معاهدة ١٩٣٦ قد خففت من إلحاح مطلب الاستقلال الوطني على ذهن الشاعر، فأصبح يُولي اهتمامًا أكبر بذاته وفرديته، فظهرت المدرسة الرومانتيكية.
ويعتذر الكاتب في بداية الحلقة الثالثة من أن دراسته قد تتصف بنوع من التبسيط، ولكن هدفه هو بيان أن إنتاج الأدب وتطوره غير معزول عن تطور الحياة الاجتماعية. ويضرب مثلًا على ذلك بتفسير التشابه الكبير بين شعراء التروبادور في أوربا وشعراء الحب العذري في الأدب العربي. فكثير من النقاد يميلون إلى فكرة أن شعراء التروبادور قد نقلوا شعر الحب العذري من العربية إلى اللاتينية، أو على الأقل تأثروا به. ويهدف علي الراعي إلى تحرير درس الأدب المقارن من البقاء أسيرًا لإثبات التأثير والتأثر. فهو يرى أن التشابه لا يرجع إلى التأثير والتأثر بقدر ما يرجع إلى تشابه الحياة الاجتماعية لهؤلاء الشعراء، سواءً أكانوا عربًا أم لاتينيين، حيث كانوا يعيشون في قصور الأمراء التي كانت تحوي عددًا قليلًا من النساء أغلبهن أميرات، وعددًا كبيرًا من الرجال: فرسانًا وكتبةً وحراسًا وخدمًا. كانت المرأة بعيدة المنال، فكان التعبير عن الحب أفلاطونيًّا بلا أمل في لقاء واقعي.
في مجلة (الفجر الجديد) كتب كثيرون عن الأدب، ولكن رئيس التحرير أحمد رشدي صالح، المهموم بالسياسة، كانت له دعوة أدبية تركت أثرًا كبيرًا بعد ذلك، وهي مناشدته للاهتمام بالأدب الشعبي. اتهم رشدى صالح البرجوازية المصرية أنها تكرس الأدب الرسمي، أدب طه حسين والمازنى والعقاد، الذي لا يقرأه سوى عدد قليل ممن يعرفون القراءة، وتهمل الأدب الشعبي الذي يستمتع به غالبية الشعب المصري من فلاحين وعمال، وهو أدب المواويل والسيرة الهلالية وأغاني الأفراح وغيرها. وقد كان لهذه الدعوة صدى كبير، فهي التي جعلت الأدب الشعبي تخصصًا أكاديميًّا معترفًا به في الجامعات المصرية. لقد تأثر علي الراعي بدعوة رفيقه في الاهتمام بالأدب الشعبي، وتجلّى ذلك في العروض التي قدمها عن النظرة الماركسية للأدب. ورغم تخصصه بعد ذلك في المسرح العالمي - حيث درس الدراما المسرحية عند برنارد شو - إلّا أنه حرص طيلة حياته النقدية الزاخرة على أن يكرس حيزًا كبيرًا في إنتاجه للأدب الشعبي، وخصوصًا في مجال المسرح، حيث قدم دراسات عن خيال الظل والأراجوز والكوميديا المرتجلة في الموالد الشعبية. هذه الإطلالة على كتابات الشباب عند علي الراعي ربما تفسر لنا جوانب كثيرة في تناوله لأدبنا المعاصر، من مسرحية وشعر ورواية.
عن (مجلة عالم الكتاب، عدد 47 سبتمبر 2020)