في عددها الأخير نشرت مجلة الدراسات العربية مقالا لك بعنوان “النهضة في البرلمان: المؤسسات التعليمية التي أنشأها طه حسين، ١٩٢٢-١٩٥٢”، وهو عنوان غريب بعض الشيء لأننا لم نعرف عن طه حسين أنه كان عضوا في مجلس الأمة أو مجلس الشيوخ. فما المقصود من العنوان؟ وما علاقة طه حسين بالبرلمان؟
طه حسين لم يكن عضواً في البرلمان، هذا صحيح. ولكن من واقع دراستي لأعمال طه حسين كرجل سياسي وكرجل دولة، وجدت أن البرلمان ممثلاً للشعب المصري قد لعب دوراً محورياً في تشكيل مشروعه للثقافة والتعليم في مصر. فمع بداية الحياة البرلمانية عام ١٩٢٤، تحمس طه حسين جداً للبرلمان واعتبره الضامن الرئيسي لحقوق الشعب المصري والوسيلة الوحيدة التي تمكن الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه لنفسه كما كان يحب أن يقول، وبعد انتهاء الإشراف البريطاني على شؤون التعليم في مصر عقب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، طالب طه حسين وزارة المعارف بعرض كافة المشاريع التعليمية والثقافية على البرلمان وطالب بشفافية كاملة فيما يخص هذه المشاريع ودورها والهدف منها وتكلفتها. ولتحقيق مشروعه لإنشاء نظام مصري متكامل لإنتاج المعرفة فقد انخرط طه حسين في العمل السياسي في سياقه البرلماني، وأعتبر أن حزب الوفد هو الأقرب من اتجاهاته وأفكاره، والأقدر على مساعدته في تنفيذ هذا المشروع.
فأصبح المستشار الفني لوزير المعارف الوفدي نجيب الهلالي (١٩٤٢-١٩٤٤) ثم وزيراً للمعارف في حكومة مصطفى النحاس الأخيرة (١٩٥٠-١٩٥٢) مما مكنه من تطوير التعليم العالي وإقرار مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والفني كما هو معروف. ومن المهم الإشارة إلى أن طه حسين قد وظف دوره كمثقف وأديب في حملته الشهيرة في الأربعينيات والتي عرفناها باسم حملة “الماء والهواء”، للدفاع عن مبدأ مجانية التعليم، ليس فقط للرد على المتخوفين من المجانية مثل خصمه التربوي المعروف اسماعيل القباني، وإنما لتوضيح المبدأ ذاته للرأي العام المصري، ولإقناع جموع الناخبين بضرورة اختيار الحزب القادر على تنفيذ هذا القرار، ومن وجهة نظره كان ذلك حزب الوفد. وقد كان، وعاد الوفد إلى الحكم بأغلبية ساحقة مما مكن طه حسين من إقرار المجانية. بمعنى آخر، فإن النظام البرلماني، على الرغم من كل مشاكله والتي تعرض لها الكثير من الباحثين، هو الذي مكن طه حسين من تحقيق أهدافه، وهو السبب الذي جعل طه حسين يردد دائماً إن مجانية التعليم حق اكتسبه الشعب. وكما أشير في المقال، فإن طه حسين قد افترض وجود نظام برلماني، لضمان نجاح مشروعه على المدى البعيد، بمعني وجود نواب قائمين على حماية حقوق الشعب، وشفافية في اتخاذ القرارات، وفي توزيع ميزانية الدولة، وصحافة حرة وتداول للرأي، إلى آخره.
منذ بضعة سنوات نشرت دار الكتب والوثائق القومية أوراق طه حسين ومراسلاته (من جزئين)، كما نشرت كتابا من ستة أجزاء بعنوان “تراث طه حسين، المقالات الصحفية من ١٩٠٨-١٩٦٧”. هذا بالإضافة للعديد من الدراسات والأبحاث والمقالات العلمية والصحفية التي يمكن أن تملأ مكتبة بالكامل. ألم تقدم لنا هذه الكتب كل ما هو متاح عن طه حسين؟ هل تحتوي مقالتك عن معلومات جديدة لم ينتبه لها من سبقك من الباحثين المعنيين بجمع أعمال طه حسين؟
في مقالي المذكور عاليه أنا لا اتحدث عن طه حسين عميد الأدب العربي الذي أُفردت له العديد والعديد من الدراسات، وإنما أنظر إليه وإلى تاريخه من زاوية جديدة فأركز على طه حسين موظف الدولة، والرجل السياسي الذي لعب دوراً خطيراً في تأسيس البنية التحتية الثقافية والتعليمية في مصر. فأنا أعرض هنا لتفاصيل مشروعه الاجتماعي والثقافي والذي حاول تنفيذه على مدى عدة عقود. فأهمية المقال تكمن في توضيح رؤية طه حسين الواسعة لمشروع شامل لإنتاج المعرفة، كان يرى أنه ضروري لبناء أي نهضة مصرية عربية وأساسي لتحقيق استقلال فعلي لا اسمي للبلاد. هذا المشروع كان قائماً على بناء مؤسسات ثقافية وتعليمية حكومية قوية قادرة على خلق كوادر وطنية متعلمة، منخرطة في الحركة السياسية ومستندة إلى ثقافة واسعة راسخة في التراث العربي الاسلامي، ومنفتحة على الأفكار الحديثة.
هذه المؤسسات، مثل الجامعات والمجمع اللغوي، كان يرى أن دورها هو توفير أحدث ما توصلت إليه النظم العلمية والاكاديمية الحديثة من حيث مناهج البحث والتدريس اللازمة، من وجهه نظره، لاشتباك نقدي وبناء مع الأفكار الحديثة، ومع التراث القديم بمعناه الشامل، أي فقهياً ولغوياً وادبياً وفلسفياً وتاريخياً، وذلك لفهم تاريخ مصر والتحديات التي تواجهها. وتوفير الحلول اللازمة لمواجهة هذه التحديات، ولتصميم المقررات المدرسية اللازمة لخلق مواطنات ومواطنين فاهمين لحقوقهم وواجباتهم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المقال يعرض كيف نقل طه حسين رؤيته النظرية إلى حيز التنفيذ وكيف حاول النأي بهذه المؤسسات عن السياسات الحزبية التي أضرت بالتجربة الديمقراطية في جو سياسي مضطرب، عصفت به مفاوضات الجلاء بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المفاوضات التي وصفتها المؤرخة عفاف لطفي السيد بانها كانت سرطان الحياة السياسية المصرية قبل ١٩٥٢.
هذا المقال مستقى من رسالة الدكتوراه التي قدمتها لجامعة ماجيل في كندا عام ٢٠١٧. كيف جمعت مادتك العلمية للرسالة؟ وما هي أهم أفكارها؟
عندما اخترت كتابة “سيرة اجتماعية” كموضوع للدكتوراه، قررت التركيز على حياة وأعمال طه حسين لكونه من أكثر الشخصيات المؤثرة والمحورية في تاريخ مصر الحديث. وذلك في محاولة لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها مصر في النصف الأول من القرن العشرين وحتى أوائل الستينيات، وهي تحولات عاشها وشارك في صنعها طه حسين. فالسيرة الاجتماعية ليست سيرة بيوغرافية بالمعنى المعروف، وإنما تتخذ من شخص ما وسيلة أو عدسة لدراسة وتحليل مؤسسات وتغييرات اجتماعية معينة، من خلال رؤية هذا الشخص لطبيعة ودور هذه المؤسسات والتغييرات المختلفة، وكيفية تعامله معها. مما يسمح للمؤرخ بالاشتباك سلباً وايجاباً مع السرديات التاريخية الكبيرة والتي لا تتطابق في أغلب الأحيان مع التجارب الشخصية على أرض الواقع.
وبعد دراسة أولية لما تمت كتابته عن طه حسين وجدت أن الباحثين لم يتعرضوا لحياة طه حسين الوظيفية والسياسية بالقدر الكافي، خصوصاً في الجامعات الغربية التي لم تفرز دراسات متخصصة أو كافية عن حياته وأعماله رغم الاشارات المتعددة لهذه الأعمال وخصوصاً كتابه الأيام الذي يدرس في الكثير من الفصول الأدبية. ومن خلال رسالة الدكتوراه أردت التركيز على محورين رئيسيين: أولاً، ماهية العلاقة بين طه حسين الأديب وطه حسين رجل الدولة، وكيف يغير طه حسين السياسي نظرتنا إلى كتبه وأعماله المنشورة، وثانياً، كيف يساعدنا الدور الذي لعبه طه حسين في بناء أهم المؤسسات التعليمية والثقافية في مصر، على تعميق فهمنا لما يعرف بالحقبة الليبرالية أو البرلمانية أي الفترة الممتدة من استقلال ١٩٢٢ وحتى ١٩٥٢، وإعادة النظر لبعض السرديات المهمة التي تسيطر على دراسات الشرق الأوسط في الغرب وهي الاستعمار والحداثة والقومية.
ومن هنا قررت عدم الاعتماد على كتب طه حسين المنشورة، وإنما على مصادر رسمية من دار الوثائق القومية، وأرشيف كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأرشيف وزارة التعليم، وأرشيف وزارة الخارجية الفرنسية. كما قابلت أسرة طه حسين وكانوا حريصين على الرد على أسئلتي وأمدوني بالعديد من الوثائق الهامة. وبشكل عام، توضح هذه الوثائق الأرشيفية والتقارير المختلفة عن نظام التعليم المصري مسؤوليات طه حسين الإدارية، ومشاريعه، وتبريره لأهميتها، وتعاملاته مع الحكومة الفرنسية وما إلى ذلك. وبعد دراسة طويلة ودقيقة لكل هذه الوثائق خرجت بمفهوم جديد عن طه حسين، فمثل الكثيرين كان انطباعي الرئيسي عن طه حسين أنه الأديب المشهور الذي أثرى الحياة الأدبية العربية بالعديد من المؤلفات الهامة، وأنه كان محوراً رئيسياً للعديد من المعارك الفكرية والأدبية، ومنها معركته المشهورة مع أدباء الالتزام والتي رفض فيها إقحام السياسة في الأدب، فاتهم بتفضيله لمذهب الفن للفن. ولكن من متابعتي لطه حسين في اجتماعاته الرسمية، ومفاوضاته السياسية وفي تفصيلات المشاريع التي قام بها ودافع عنها، ضد خصومه السياسيين، خرجتُ بصورة أخرى عن طه حسين، فقد كان رجلاً سياسياً من الطراز الأول، وموظفا محنكا وفاهما لأدق تفاصيل العمل الاداري والحكومي.
ومن ناحية أخرى، فإن دراسة هذه الوثائق فتحت لي نافذة واسعة على لحظة من تاريخ مصر الحديث آمن فيها المصلحون من أمثال طه حسين بإمكانية إحداث تغيير حقيقي للأفضل في حياة المصريين. ورأوا أن التركيز على آليات إنتاج المعرفة واتاحتها لعموم المصريين ودعم الدولة لها، هو الوسيلة الوحيدة لإنجاح العملية الديمقراطية ومواجهة الاستعمار. فعلى سبيل المثال، تحتوي دار الوثائق القومية على محاضر الاجتماعات والقرارات التي توضح الخطوات التدريجية التي اتبعتها الوزارات الوفدية المتعاقبة، من أوائل الأربعينيات في القرن العشرين لإقرار التعليم المجاني. وتشرح هذه الوثائق العقبات البيروقراطية والمالية التي واجهت هذه الإصلاحات، وكيف قام مسؤولون مثل طه حسين ونجيب الهلالي بتوظيف الضغط الشعبي، ممثلاً في طلبات الأهالي المتزايدة للحصول على إعفاءات من المصاريف المدرسية، لتبرير زيادة التمويل الحكومي للمنح الدراسية، والتمهيد بذكاء لإقرار التعليم المجاني. ومن هنا كان تركيزي في رسالة الدكتوراه على البعد المؤسسي في فكر وعمل طه حسين، كوسيلة لفهم التجربة البرلمانية، والمؤسسات المصرية الحديثة. بالإضافة إلى تاريخ العديد من الإصلاحات التعليمية والثقافية التي تمت خلال هذه الفترة، وذلك على الرغم من المصاعب السياسية والتحديات الاقتصادية والإحباطات النفسية التي عاشها المصريون في هذه الفترة المهمة.
آراء طه حسين ومعاركه الفكرية معلومة للجميع، وتناولتها العديد من الأقلام. هل تطرقتُ في رسالتك لمعارك أو قضايا خاضها الرجل لم ينتبه لها غيرك من الباحثين؟
في رسالة الدكتوراه تعاملتُ مع طه حسين رجل الدولة والموظف الحكومي، فكان تركيزي على الجانب العملي لمشروعه، والحلول الوسط التي اضطر لقبولها، لتنفيذ هذا المشروع. فبناء أي مشروع يتعرض لضغوط سياسية واقتصادية عديدة، ومن هنا كانت ضرورة دراسة القيود البيروقراطية والمؤسسية والحزبية التي شكلت السياق الذي كون فيه طه حسين أفكاره وحاول تنفيذها. وكما أشرت، فإن التحدي الأكبر الذي واجهه طه حسين كان إنشاء نظام متكامل لإنتاج المعرفة، ونظراً لضخامة هذا المشروع فقد أدرك طه حسين حتمية قيام الدولة المصرية بدو هام في تنظيم وتقنين وتمويل هذا المشروع. وفي الوقت ذاته كان شاغل طه حسين الرئيسي هو كيفية ضمان أكبر قدر ممكن من الاستقلالية والحرية لهذه المؤسسات، وللباحثين فيها في ظل هذه السيطرة الحكومية. وعرضت في الرسالة وفي المقال للعديد من القرارات التي اتخذها طه حسين بهذا الصدد والتي اعتمدت على المحاسبة وتداول السلطة. وفي رأيي، فإن أخذ البعد المؤسسي في فكر طه حسين بعين الاعتبار يوفر لنا كشافات جديدة لقراءة معارك طه حسين المشهورة، فمثلاً كتاب (في الشعر الجاهلي) لم يكن الهدف منه إطلاقاً النيل من المقدسات أو الانتقاص منها، ولكن الكتاب كان في الأساس عبارة عن محاضرات موجهة إلى طلبة الجامعة المصرية الجديدة، حاول فيها طه حسين رسم منهج جديد لدراسة التراث، أو أي موضوع بحثي آخر. وهو المنهج النقدي الذي يشتبك مع المسلمات، ولا يقبل بها دون دراسة وبحث وتمحيص. فالهدف الرئيسي من الكتاب كان الدفاع عن حق الجامعة الجديدة وباحثيها، في حرية تحليل ودراسة النصوص دون التخوف من السلطات، ورسم خط جديد لدراسة الماضي بالأسلوب العلمي المعتد به في الأوساط العلمية وقتها.
ومن معارك طه حسين الجديدة التي أعرض لها في الرسالة وفي مقال جديد نشرته لي مؤخراً دورية (Die Welt des Islams) معركة خاضها مع الحكومة الفرنسية على الرغم من علاقاته الثقافية والعائلية المعروفة بفرنسا. فباستخدام وثائق مصرية وفرنسية كتبت ُعن تفاصيل أزمة قامت بين طه حسين والسلطات الفرنسية في شمال أفريقيا عندما حاول إنشاء معاهد لدراسات اللغة العربية والإسلامية في دول المغرب العربي في محاولة منه للتصدي للنفوذ الفرنسي في هذه الدول، وأغلب هذه التفاصيل لم تعلن في وقتها نظراً لحساسية منصبه، كرجل دولة وكوزير للمعارف في حكومة الوفد الأخيرة، وهي أزمة توضح البعد السياسي لمشروع طه حسين، وتثبت ايمانه بدور الثقافة العربية الإسلامية في مقاومة الاستعمار، وأن إيمانه بدور الثقافة والمعرفة لم يكن مجرد حباً في الثقافة للثقافة، أو حباً في الفن للفن كما اشيع عنه، حتى وإن أكد هو نفسه مراراً وتكراراً في اعماله المنشورة على ضرورة الترفع بالأدب والثقافة عن الدواعي السياسية الضيقة.
في كتابه الجديد “لا مخرج: الوجودية العربية، وجان بول سارتر، وحركة التحرر الوطني” (٢٠١٨) يقول يواف دي كابوا إن حركة الالتزام التي ظهرت في أواخر الخمسينات، وتصدرت المشهد الأدبي في الستينات قضت على جيل الأدباء، وعلى رأسهم طه حسين. وهناك من يقول إن نجم طه حسين انزوى مع الناصرية. وآخرون يقولون إن حركة الإحياء الإسلامي منذ السبعينات قضت على تيار التنوير الذي كان طه حسين يمثله. ماذا تبقى إذن من تراث طه حسين، ولماذا ندرس أعماله؟
أحد أسباب وقوع اختياري على طه حسين كموضوع للسيرة الاجتماعية هو اهتمام المفكرين والباحثين به وإشارتهم المستمرة لأفكاره وتأثيرها على أجيال من المفكرين العرب. ولكن على الرغم من هذه الإشارات المتعددة لطه حسين في أعمال بحثية هامة مثل أعمال دي-كابوا وأمنية الشاكري وروجر ألان وغيرهم، فإن الأعمال المتخصصة عن طه حسين بالإنجليزية أو الفرنسية نادرة جداً. وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن طه حسين باللغة العربية، فإن الباحثين الجادين مثل عبد الرشيد محمودي ومنجي الشملي وتلاميذه يأخذون على الكثير من هذه الكتب إعادة ترديدها لذم ومدح يوجه لطه حسين منذ عقود طويلة، فلا تشتبك مع فكر طه حسين بطريقة نقدية ولا تحاول ربط أعماله الغزيرة بعضها ببعض. ونتيجة لهذا الانقسام الشديد حول طه حسين، فهناك الكثير من اللغط والجدل حول أعماله ونياته والهدف منها، فيكفي ذكر اسم طه حسين الآن حتى تثار ردود أفعال قوية، لا يتعرض لها في العادة أبناء جيله. وفي المجمل، فإننا نجد أن أغلب هذه الأعمال إما يمدح طه حسين كل المدح ولا يرى فيه إلا البطل الذي كافح الظلام، جسدياً ومعنوياً، وإما يذم طه حسين كل الذم ويلفظ كل ما كتب بل ويتهمه في دينه وعقيدته. وأنا فيما كتبتُ عن طه حسين لم أحاول الدفاع عنه ولا أزعم أنه وجيله قاموا بكل شيء كما ينبغي، ولكنني حاولت أن أفهم طه حسين وجيله من خلال السياق التاريخي الذي عاشوه وأنتجوا فيه، وليس من خلال ما جاء بعد ذلك.
فمع العهد الناصري والحرب ضد الاستعمار واستحالة استمرار مشروع طه حسين المنفتح على القديم والحديث بأسلوب نقدي، تم تصنيف هؤلاء المفكرين كإسلاميين أو كتنويريين، كعلمانيين أو كتقليديين إلى آخره، وطه حسين من أهم أسيري هذه التصنيفات التي تحجب التداخل والتعقيد، بل والتناقض أحيانا في فكره، كما تحول هذه التصنيفات بيننا وبين فهم سياق طه حسين التاريخي ورغبته المحمومة في توظيف المعرفة لمقاومة الاحتلال وبناء حياة ديمقراطية سليمة توفر للمصريات والمصريين حياة كريمة. وحتى في الغرب فإننا نجد ذلك منعكساً في بعض دراسات مابعد الكولونيالية التي تعتمد على التحليل الأدبي لبعض النصوص المختارة من مطبوعات طه حسين وغيره من هذا الجيل، لرسم صورة لهم كمفكرين غرر بهم الغرب وحضارته.
وكما أوضح في الرسالة، فطه حسين كواحد من أهم اللاعبين على المسرح السياسي والثقافي والتعليمي في مصر الحديثة يعتبر مفتاحاً مهماً لفهم لحظة فارقة في التاريخ المصري الحديث، ولفهم مشروع عربي إسلامي واجه فيه مفكرون وسياسيون مثل طه حسين المشروع الاستعماري بثقة في النفس، وإيمان كامل بقدرة الثقافة العربية الاسلامية على التعامل مع كل الجديد الآتي من أوروبا مثل الجامعة الحديثة، وأنواع جديدة من المعرفة ومناهج البحث. ولم يروا في ذلك تخلياً عن تقاليدهم، وإنما ضرورة فرضها عليهم واقع جديد، مكن أوروبا من السيطرة على العالم، فكان اشتباكهم مع الجديد قائماً على الابتكار ومحاولات معقدة لموائمة الجديد مع القديم والواقع المعاش – اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وقد نتفق أو نختلف فيما ذهب إليه طه حسين في أفكاره، ولكن الأهم من وجهة نظري هو تركيزه على إنتاج المعرفة وتهيئة الظروف اللازمة لذلك من مؤسسات وتمويل وبعثات وحرية أكاديمية وتوفير أحدث سبل البحث العلمي للباحثين المصريين إلى اخره.
وفيما يخص أعمال طه حسين، وأغلبها في التاريخ الاسلامي والأدب العربي، فأنا متفق مع كل المهتمين بالتراث العربي الإسلامي بأهمية هذه المؤلفات لما تحتويه من أفكار ومصادر يشتبك من خلالها طه حسين مع هذا التراث بيسر غريب، وهو في هذه الكتب لا يكتفي بنقل التراث أو إعادة طباعته، وإنما يقدم لنا رؤيته لهذا التراث من واقع اهتمامات عصره ومحاولاته الدؤوبة لتقريب هذا التراث من معاصريه، وفتح باب النقاش والتعرض لأسئلة مهمة مثل السؤال السني الشيعي في الفتنة الكبرى مثلاً. ولكنني أعتقد أننا لا يجب أن نكتفي بإعادة طبع كتب طه حسين، وإنما يجب إضافة مقدمات نقدية لهذه الكتب، موجهة للقارئ المعاصر تشرح له قصة هذه الكتب، والظروف التي دفعت طه حسين لكتابتها، والسياق العام الذي أخرج هذه الكتب وخلفية هذه الاهتمامات.
تمر هذا العام الذكرى الخمسون لظهور الترجمة العربية لكتاب ألبرت حواني “الفكر العربي في عصر النهضة: ١٧٩٨-١٩٣٩”، وقد ظهرت بالفعل كتب ودراسات نقدية بالإنجليزية بمناسبة مرور نصف قرن على ظهور الأصل الإنجليزي للكتاب. ما الذي تضيفه دراساتك لطه حسين للسجال الدائر حول أيسر الطرق لدراسة تاريخ الفكر العربي الحديث؟
كتاب ألبرت حوراني من الكتب الرئيسية في مجالنا، وهو الكتاب الذي قدم الكثير منا إلى التاريخ الفكري للنهضة العربية الحديثة. من خلال قراءة حوراني الدقيقة لأعمال الكثير من المفكرين العرب المهمين، بالإضافة إلى أسلوبه المتميز، فهو السهل الممتنع الذي يجذب القارئ إلى الكتاب وأفكاره. ولكن كما أشارت المؤرخة ديالة حمزة، فإن كتاب حوراني أسس لنموذج معين مازال مسيطرا على منهج دراسة التاريخ الفكري للمنطقة. وهذا النموذج يعتمد في الأساس على دراسة ما نشره هؤلاء المفكرون، ومقارنته بأوروبا وقياس إسهاماتهم بناء على هذه المقارنة، والتي لا تسمح في الغالب لظهور هؤلاء المفكرون كمبدعين حقيقيين، وقد ساهم هذا النموذج في ربط فكرة النهضة العربية الحديثة بالفشل، لعدم قدرتها على تحقيق ما قامت به نظيرتها الأوروبية. ومن خلال دراستي لطه حسين وفكره وأعماله كان تركيزي على دوره الوزاري والحكومي والجامعي، وهي أمور لم يتعرض لها حوراني في دراسته لطه حسين نظراً لطبيعة المصادر التي اعتمد عليها حوراني وهي الكتب المنشورة، وكما أشرت سابقا فقد أخذت في الحسبان الظروف السياسية والاجتماعية التي اضطر طه حسين للتعامل معها والخطوات التي اتخذها لتنفيذ مشروعه ونجاحه في تأسيس العديد من المؤسسات الهامة وإدخاله المجانية في التعليم الابتدائي والثانوي رغم الاحتلال، وتصديه للسياسات الحزبية المعقدة، كما بذل مجهوداً كبيراً لترسيخ المبادئ الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة، فتاريخ طه حسين وغيره من المفكرين وانجازاتهم لا يقاس فقط بما نشروه من كتب، ولذلك يجب التنويع في المصادر التي نستند إليها في تحليلاتنا التاريخية.
أخيرا، سؤال عن علاقتك الشخصية بهذا المفكر والسياسي، فأنت عايشته بالطبع على مدار السنوات القليلة الماضية، وقرأت له العديد من الأعمال، وتتبعته في معاركه وسجالاته وأحاديثه. هل تستطيع أن تجزم بأنك فهمته وألممت بجوانب شخصيته المعقدة؟
لا أعتقد أنه من الممكن فهم كل الجوانب الشخصية لشخص ما، خصوصاً شخص معقد وغزير الانتاج ومتشعب العلاقات مثل طه حسين. ولكن من خلال دراستي المتأنية لكتبه ومقالاته ومقابلاته ومناقشاته وحياته العائلية واهتماماته وصداقاته وواجباته كأكاديمي وكموظف حكومي، أستطيع أن أقول انني أراه الآن في الأساس كابن للعصر الذي عاش فيه. فقد تفاعل مع المشاكل الموجودة في عصره، وحاول بصبر أن يواجه هذه المشاكل باستخدام الأدوات المادية والمعنوية المتاحة له في ذلك الوقت. وفي محاولته لتنفيذ مشروعه الضخم كان طه حسين أميناً فكرياً، بمعنى أنه لم يكتب إلا ما اعتقد بوجوب وضرورة وإمكانية تنفيذه، ثم لم يتوان عن الدخول في أي معركة شعر أنها ضرورية لتنفيذ هذا المشروع، فقد كانت ”يده في الشغل“ كما نقول بالعامية المصرية. طه حسين لم يفصل بين التنظير والتنفيذ، وكان يأخذ بعين الاعتبار الجوانب العملية والقيود المفروضة على أفكاره؛ ويقوم بتأطيرها وفقاً لفهمه العميق للواقع الاجتماعي والسياسي المصري.
ولذلك فأنا أقول إن فهم هذا المشروع الواسع ضروري لاستيعاب ولربط أفكار طه حسين وسجالاته الكثيرة بعضها ببعض. فطه حسين لم يكن فقط عميدا للأدب العربي، حتى وإن ردد هو نفسه دائماً إنه كان يفضل التفرغ للأدب وعدم الانخراط في العمل السياسي. ومن خلال طه حسين ومشروعه الاجتماعي-السياسي، تمكنت كمؤرخ من فهم مصر التي عرفها طه حسين: كيف رآها وكيف تفاعل معها وكيف حاول تغييرها وماذا تمنى أن تكون.
(عن موقع الدكتور خالد فهمي استاذ التاريخ بجامعة كيمبريدج)
حسام أحمد باحث مصري بدأ حياته الأكاديمية كطالب كمبيوتر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث حصل على رسالة البكالوريوس. إلا أنه تحول للدراسات الإسلامية في درجة الماجستير التي حصل عليها من جامعة ماجيل بكندا. ثم تحول مرة أخري للتاريخ، وكتب رسالته للدكتوراه عن طه حسين في قسم التاريخ بنفس الجامعة، جامعة ماجيل. وسوف تصدر رسالته تلك بالإنجليزية عن دار نشر جامعة ستانفورد في يونيو القادم بعنوان The Last Nahdawy: Taha Hussein and Institution Building in Egypt.