تبدأ الناقدة بعقد مقارنة بين الشاعرين وديع سعادة وعماد أبو صالح الذي فاز بجائزة سركون بولص في دورتها الثالثة. ثم ترى أن تجربته كبرت حين صارت جزءاً من يومياته وركضه بإخلاص باتجاه الهامش، وترسخت بالتوازي مع نشوء جيل جديد من القراء يقدر المغايرة وإعادة تفكيك الثابت، وبناء مفاهيم بديلة.

عماد أبو صالح حارس الظل الذي يهندس العالم

عزة حسين

 

عام 1968 كان شاعر لبناني سيغدو فيما بعد رائداً، يكتب أولى قصائد باكورة دواوينه، وهو بعد لم يتم عقده الثاني. بعدها بخمس سنوات سيُشاهَد الشاعر في شوارع بيروت، يبيع للمارة ديوانه المنسوخ بخط اليد، مقابل ليرتين أو مجاناً لمن يريده ولا يملك نقوداً. على تخوم نفس العام ولد شاعر مصري سيصير لامعاً، وسيقوم بعدها بسبعة وعشرين عاماً بنشر ديوانه الأول بمطبعة صغيرة، ويسلمه بيده لمن أراد قراءته، بعدما طالبه الناشر المكرس أيامها بمبلغ فوق طاقته.

وديع سعادة وعماد أبو صالح

توالت العقود والمجموعات الشعرية، وتكرست الأسماء وصار لها أتباع ومريدون بطول المنطقة العربية وأبعد، لكن ظلّ الشاعر الأول يفضل النشر الحر الذي يوصل شعره إلى القارئ دون وسيط، مستعيناً بسلطة الإنترنت المتجاوزة لسلطة الناشرين والرقباء، فيما ظل الشاعر الثاني يكرر نفس تجربة نشر ديوانه الأول: ينشره بمطبعة صغيرة بتكلفة قليلة، ويوزع نسخه المحدودة التي طالما انفرد برسم غلافها بيديه، لمن اختاره ولمن أراد.

الشاعران هما وديع سعادة (يوليو 1948) وعماد أبو صالح (ديسمبر 1967)، وبخلاف ظروف خروج ديوانيهما الأوليْن، ورسوخ تجربتيهما الشعرية والحياة في الظل كخيار فني وإنساني، هناك الكثير من الملامح المشتركة بين هاتين التجربتين اللتين ألهمتا أجيالاً من الشعراء. ومؤخراً نشأ رابط جديد، إذ فاز الشاعر عماد أبو صالح بجائزة سركون بولص، الشاعر العراقي الكبير، والصديق القريب جداً من وديع سعادة، الذي حرضه قبل قرابة نصف قرن على الهجرة لأرضٍ جديدة.

إلى حد كبير تناسب ظروف منح جائزة سركون بولص عماد أبو صالح نفسه، فهي تختار من يفوز بها، ولا تسمح بالتقدم أو الترشح إليها. محدودة القيمة المادية، بشكل يضمن لحائزها ألا تنقلب حياته رأساً على عقب، كما تفعل جوائز العقود الأخيرة، والأهم أنها تحمل اسم شاعر حقيقي، أخلص للشعر بقدر ما أخلصت المؤسسات العربية في إنكاره، لكنه كان بذاته مؤسسة بالمعنى الإيجابي للكلمة.

في رسالته الشهيرة إلى وديع سعادة عام 1971، يقول سركون بولص: "اخرج. لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو الله أو بوذا أو الشيطان: ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) والبحث عن الله وباقي الخرق الثقافية الأخرى".

ما أكدته السنوات أن وديع سعادة استجاب تماماً لهذا النداء، ربما لأنه كان صدى لصوته الداخلي، أما عماد أبو صالح فلا نعرف، هل قرأ نصيحة بولص عندما اختار، أوائل تسعينيات القران الماضي، الاستقرار داخل عزلته الاختيارية، ومجافاة الواقع الثقافي المصري خلال واحد من أكثر عقوده ثراء وفوراناً وتمرداً؟ فحتى عندما قادته الظروف للعمل بمهنة على تخوم الكتابة والإبداع كالصحافة، اختار أن يكون صحافياً اقتصادياً لا ثقافياً، والسبب في ذلك، كما أورده عماد في حواره النادر مع الكاتب والشاعر محمد خير، بصحيفة الأخبار اللبنانية، أنه لم يشأ أن يشتغل بالثقافة: "ربما خوفاً من التعامل مع المثقفين، ربما هرباً من أن أجد نفسي في (دكان) ثقافي، أو من أن أصير صاحب سلطة ما، وغالباً لأنّ الشعر -المنطقة الحميمة في حياتي- لم أشأ أن أخلطها بالعمل".

منذ منتصف التسعينيات، أنتجت عزلة عماد أبو صالح ثماني مجموعات شعرية وكتابي رسوم، وعدداً من الترجمات والمقاربات مع مبدعين غربيين. وتميزت بداياته بغزارة الإنتاج، فكان ينشر مجموعة شعرية كل عام، وبهذه الطريقة صدرت مجموعاته الخمس الأولى تباعاً، وحملت عناوين لافتة مثل: "أمور منتهية أصلاً، 1995"، "كلب ينبح ليقتل الوقت، 1996"، "عجوز تؤلمه الضحكات، 1997"، "أنا خائف، 1998" و"قبور واسعة، 1999" قبل أن تبدأ هذه الدورية في التعثر قليلًا، ليصدر ديوانه السادس "مهندس العالم" عام 2002، بفارق عامين عن سابقه، ومن ورائه ديوان "جمال كافر" عام 2005 بفارق ثلاثة أعوام، ويصمت بعده عماد لعشر سنوات كاملة، انتهت عام 2015 بصدور ديوانه الأحدث "كان نائماً حين قامت الثورة":

"كان نائماً حين قامت الثورة

لم يغادر سريره

رغم أنه سمع الهتافات الهادرة من شبّاك غرفته

نام بعمق

كان وحيداً في البيت

في الحي كله

لا ضجيج بائعين

لا صراخ أطفال

ولا نباح كلاب

وحيدٌ وحرّ

بينما الثوّار هناك

يشيِّعون جنازة الحرية".

في حياة معاصريها من المبدعين، كانت الثورة كحدث مركزي وكمفهوم كوني بالطبع محرضاً وركيزة إبداعية، قطعت صمت الكثيرين، وكُتبت باسمها صراحة وضمناً عشرات النصوص، التي انحاز الكثير منها للفكرة على حساب الفن وجماليات الكتابة، لكن كتابة عماد ظلت تشبهه، في اختلافها وعدم مألوفيتها رغم توسل البسيط والهامشي، وهو ما يبدو جلياً من عنوان الديوان "كان نائماً حين قامت الثورة"، فلا مصكوكات إيديولوجية، ولا زعيق سياسي، ولا طوباوية رومانتيكية، كالتي وسمت إبداع هذه الفترة، بل ربما العكس من كل ذلك: لقد بدا الديوان وكأنه كتابة ضد. ربما منحه التجاوز الزمني فرصة الكتابة بعقل أبرد ومشاعر أكثر نضجاً، الكتابة من زاوية المساءلة والتعليق لا التصفيق، دون اكتراث بمدى الصدمة والمفاجأة التي يمكن أن يحدثها ذلك:

" يا إلهي..

كم هو رائع هذا الشاب هناك!

يتقدم الصفوف

ويفتح صدره للرصاص

يعالج الجرحى

ويتنازل عن طعامه القليل للجوعى

كأنه نبي

أنا معجب به

إلى كل طفل

يحلم أن يكون بطلاً:

تعلم منه

لتثور ضده

بنفس طريقته

حين يصبح ديكتاتور المستقبل".

لكن الصدمة والمغايرة والسخرية من التابوهات وإعادة تفكيك الثابت والمطمأَن إليه ليست ملامح الديوان الأخير فقط، فالذين قرأوا له قبل "اكره أمك" أو "الكلاسيكي، المشاع، السهل، هو أن تكره الأب"، لن تدهشهم رؤية الشاعر للثورة كحدث وفكرة نزلت من عليائها في العقد الأخير، وارتكبت باسمها المآسي. كل المفاهيم لديه قابلة لمناقشتها وتعريتها من أية قداسة، وإعادة بناء مفاهيم بديلة.

عالم جديد قاتم وكابوسي، لكنك لا تملك إلا التورط به تماماً. الجميل الآن هو أن التورط في شعر عماد أبو صالح وتجربته لم يعد حكراً على صفوة المثقفين، الذين احتفى كثيرون منها نقدياً بها، ولو على سبيل استعراض النزاهة والموضوعية، ربما لأن عماد لم يزاحم أحداً على جائزة، ولا منصة أو مطبوعة، ولم يبدل نهجه طوال 25 عاماً، وهو ما يفسر حالة الارتياح التي سادت عقب إعلان فوزه بالجائزة، ومن قبلها ترجمة شعره إلى اللغتين الإسبانية والكتالونية، فأحياناً يتمنى البعض أن يحدث ولو شيء واحد صحيح.

لقد كبرت تجربة عماد أبو صالح في الغياب، وترسخت بالتوازي مع نشوء جيل جديد من القراء. أصبح الفن بمستوياته المختلفة، جزءاً من طقوسه اليومية، ولا أعرف إذا كان الشاعر يرحب بوجود مقتطفات من نصوصه تحت عنوان "أقوال المشاهير" أو "أجمل العبارات"، هو الذي ظل دائماً في متن المشهد الشعري العربي، طوال ربع قرن، كان خلاله يركض بإخلاص باتجاه الهامش، لكن الأكيد أن شعره، الآن وأكثر من أية وقت مضى، لم يعد يرافقه في عزلته.