ليس عبثًا، تصدير «يوسف رخا» نصه عما جرى بالقاهرة بين فبراير ونوفمبر 2011 – ثورة يناير وسقوط مبارك، تحالف الإخوان والمجلس العسكري، مذبحة ماسبيرو - برسالة الغربة «لأبي حيان التوحيدي» كمثقفٍ بغدادي إشكالي من القرن الرابع الهجري، تنافر مع مثقفي عصره، حُوصر بالتجاهل واتُّهِم بالزندقة، وأحرقَ كتبه في سن التسعين يأسًا من معاصريه، غالبًا أزمته هي أزمة مؤلف «كتاب الطغرى» الذي لا يختلف عن الراوي اللامسمى، وقرينه «مصطفى نايف الشوربجي». يعمد رخا إلى تضمين نصوص متباعدة بالمتن: نصُّ التوحيدي، أميات نجيب سرور، نصوص صلوات قبطية، روبرتو بولانيو، Tantric Chakra السنسكريتية. الرسالة الحيانية: نصٌّ ضد التصنيف، يتمتع بقدرة مذهلة على العبور وسط حقول ألغام.

الرسالة الحيانية

يوسـف رخـا

 

ما حكاه مؤلف (كتاب الطغرى) عن قرينه بطل الحدوتة التي يتضمنها الكتاب بعد الأحداث التي وقعت في "باب الدنيا" أو وسط القاهرة: من فبراير إلى نوفمبر ٢٠١١

 

-١-

"هذا وصفُ غريب نأى عن وطنٍ بُني بالماء والطين، وبَعُد عن ألأّف له عهدهم الخشونة واللين. ولعله عاقرهم الكأس بين الغُدران والرياض، واجتلى بعينه محاسن الحَدَق المراض. ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض، فأين أنت من قريب قد طالت غربته في وطنه، وقلّ حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟ وأين أنت من غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان… لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه، حتى يفضي إليه بكامنات نفسه، ويتعلّل برؤية طلعته، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته، فينثر الدموع على صحن خده…" أبو حيان التوحيدي

الأهم فالمهم. أمر عادي ربما أن تشعر بالغربة حيث تعيش، أن تلح عليك المغادرة طلباً في "وطن" مفارق. غير العادي أن لا يَنتج هذا الشعور عن خيبة أمل في حياتك أنت، في الدائرة التي تشغلها، بل عن إدراك -مفاجئ بالضرورة – للا جدوى انتمائك إلى جماعة بشرية يُفترض أن تعطي حياتك معنى. للضجر صبغة حين ترى الأكاذيب والعبث، ووجودك وسط العبث والأكاذيب يجعلها صبغة مقيّئة.

صحيح أن الغربة تحدث إثر تحول في الشأن العام، لكنْ صحيحٌ أيضاً أن التحول لا يصنع غربة بغير وعي خاص ويومي بفحواه، يكشف تواطؤك مع نتائجه السلبية. لحظة نادرة وشخصية ولا علاقة لها بالمعارك: أن تصبح أنت بزيك تجسداً للوطن المهزوم. لم تعد وحدك كما كان الحال من قبل، ولا هزيمة الوطن معزولة عنك كما هُيئ لك سنوات. لعلك لست إنساناً أصلاً، لست جزء من شعب يستحق أن يكون له وطن؛ على الأقل ليس كما يجب أو تريد. وفي إدراك لا جدواك منتمياً، يتراءى الدافع إلى إعادة صياغة الواقع بالكلام أو، على حد روبيرتو بولانيو، "الكتابة بدلاً من الانتظار". بلا إعادة صياغة للواقع، حتى المغادرة، الهجرة نفسها لا ترحم من الانتظار. في الغربة: الكتابة بدل الانتظار.

والحب أيضاً، العشق طلباً لوطن منمنم يسكنه شعب "ملّاكي" لا يعذبك الانتماء إليه؛ شرط أن تكون -عكس البطاركة القبليين -مستعداً لأن لا تسوق وحدك، لأن تغادر موقع "القائد الضرورة" متى اقتضت الحاجة وأن تعطي قدر ما تأخذ من أسباب الفرح بالحياة… لكن هذه، في النهاية، تفريعة ثانية. وكما سيرد أو يدلل عليه في هذه الرسالة اللاحقة على "كتاب الطغرى"، والمؤرخة نوفمبر ٢٠١١:

عاش قريني مصطفى نايف الشوربجي لحظة إدراك لا جدوى انتمائه على الورق سنة ٢٠٠٧؛ لكنه كان يعيشها في رأسي، أو أنا أعيشها، طوال النصف الثاني من العقد الأول بعد ألفية الميلاد المجيد. بين أول ٢٠٠٥ وآخِر ٢٠١٠، كنتُ أعيشها؛ وكان اختراع قرين في ذاته جانباً من عيشها حتى وأنا لم أنتبه بعد إلى مدى اتصالها بما يحدث في الشأن العام ولا إلى أن ما يحدث في الشأن العام قد يكون تَحوُّلاً. سنة ٢٠٠٥، فجأة، عدتُ إلى الكتابة بالعربية إثر أولى زياراتي لبيروت، والتي تزامنت مع "ثورة الأرز" في عز انتصارها: انسحاب القوات السورية أخيراً من لبنان… وفيما بدا أنه تصالح كاتب "ما بعد تسعيني" مع فكرة إدراج الأمور السياسية في الأدب -فعند التسعينين أن "الأيديولوجيا"، عملياً، حرام -كان التحول باتجاه البلوتقراطية البذيئة لحكم "جمال مبارك" قد بدأ يظهر عبر صياغة الواقع عن طريق مقارنة بيروت بالقاهرة في سياق أدبي كما في الواقع.

(بالبلوتقراطية أقصد: حكم الأغنياء؛ وبذاءتها في عهد "لجنة سياسات" الحزب الوطني راجعة إلى أنهم أغنياء حروب لم تقم، ورثة الاشتراكية والقومية من "فهلوية" الجشع والسلام المحوَّطين لهم عقود بِرياء "فلاحي" مُقيّئ لعله أقنعهم أنهم يتفضلون على الوطن فعلاً أو أنهم، في مجلسهم، فعلاً يمثّلون الشعب. كانت بلوتقراطيتهم، على طرف النقيض من نموذج الليبرالية الرأسمالية الذي يدّعون التطلع إليه، تعتمد على دولة الطوارئ القائمة منذ زعم عبد الناصر أنه سيحرّر فلسطين ويجابه الاستعمار ويوحّد الأقطار العربية.)

أذكر أن أكثر ما كان ينفرني في القاهرة بينما أكتشف بيروت ثم تونس عبر الكتابة عنهما هو سفالة الإنسان الفرد والتي اتخذت من التوريث وكذبة "النمو الاقتصادي في ظل الاستقرار" - الكسب غير المشروع على نحو مقنن، شرط الثبات وتجنّب المخاطرة - اتخذت منهما أماثل للنشاط الإنساني حتى في الإسلام السياسي (حيث تحول التيار "الجهادي" إجمالاً إلى تيار "سلفي"، من القتال في "دار الحرب" إلى إقناع الناس بضرورة إقصار النشاط الإنساني على طقوس العبادة وقطع الطريق على أي "اجتهاد" محتمل خارج أضيق مساحة ممكنة للقراءة السعودية - الحرفية - للنص المقدس وملحقاته)، والحقيقة التي لا تُذكر أنه لا محتوى للخطاب ولا إنتاج؛ حتى لو وُجد عمل، وهو أمر نادر، لا مقاييس للجودة أو ضمير. لا إنتاج.

سعياً إلى استيعاب ما يحدث، كانت قد اكتملت الطغرى. وكان لابد من حدوث شيء، لكن ربما -مثل ثورة الأرز -كان لابد أن يكون هذا الشيء بلا جدوى في التحليل الأخير. أواخر ٢٠١٠، قبل الأحداث مباشرة، قال لي صديق شاعر إن الثقافة العربية "عَرَض" أكثر منها حقيقة، يقصد الثقافة بمعنى الفن والأدب إلخ، وأوصلنا الأخذ والرد إلى أن الموجود في المجالات كلها فضلاً عن مجالنا نحن، حيث يفترض أن يكون هناك أفراد يبحثون عن حقيقة (أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى مهنية)، بأوسع وأبسط معاني البحث عن الحقيقة، أوصلنا الحديث إلى أن الموجود هو "جماعة صِيّع"، أو "شلّة واقفة على الناصية واللي معانا يتكلم زينا".

***

الآن فقط يذكرني حديثنا بما كنا نتندر به أنا والقرين الواقعي لراشد جلال السيوطي -الصديق الذي يوجه إليه مصطفى كتابه - قبل أن يهاجر، من أن الحياة في مصر عبارة عن أوضاع ومناظر؛ وهو التعبير الذي تمدد معناه وتكاثر منذ ابتدعناه سخرية من عنوان كتاب كنا قد رأيناه صدفة على أحد أرصفة "باب الدنيا" كما تسمى وسط البلد في الكتاب: "شخصيات ومواقف".

الآن منذ ١١ فبراير وأنا أتابع، فضلاً عن العبث واللغط والكذب بلا نهاية، ردود أفعال "النخب" حيال الأحداث ومبرراتها المفترضة: الآراء والرؤى. أتابع وأغضب ثم أتابع وأيأس ثم أتابع وأضحك ثم أتابع وأحس بعزلة مبهجة. وأظن أنني وصديقَي، بينما لم نكن على حق حين لم نتوقع أن يحدث شيء في المستقبل المنظور، كنا على حق تماماً في تصورنا غير المعلن عن ما يمكن أن يفضي إليه شيء حدث.

 

-٢-

١٨ فبراير (صدور الرواية):

لم يمر أسبوع على تنحي مبارك حتى صدر -أخيراً، عن دار الشروق -” كتاب الطغرى: غرائب التاريخ في مدينة المريخ"، كأنه هو اﻵخر كان معتصماً في ميدان التحرير ينتظر الفرج: أجندة مندسة ضمن أجندات عمر سليمان التي أشبعناها سخرية بينما المروحيات تحوّم في اﻷسبوع اﻷخير. "الطغرى" هي أولى رواياتي التي ترقبتُ صدورها طوال عام دونما أعلم بأن ثورة ستحدث أو أتنبأ بتغير جذري في الحياة. وحيث أنني، حتى أنا، لا أعرف بماذا يجب أن أشعر وأنا أقلّب صفحات الكتاب اﻵن، ينتابني شيء من الحرج حيال إعلامكم بصدوره. لا أخفيكم أن الثورة جعلت نشر "الطغرى" – كما جعلت كل شيء سواها – أقل أهمية بما لا يقاس.

واﻵن ليس من عزاء، ولا مبرر لبجاحتي في إرسال هذا البريد، سوى أن الرواية نفسها هي صورة للمدينة التي أنتجت الثورة قبل ثلاثة أعوام من حدوثها (أنا أتممت الكتابة في بداية ٢٠١٠، وحصرت اﻷحداث في ثلاثة أسابيع من ربيع ٢٠٠٧). هذا، وتلتقي الطغرى مع الشعب بكل التواضع الواجب في إرادة تغيير النظام: السخط على الوضع القائم واستبصار مؤامرة ضد الحرية في طياته، والبحث عن هوية تناقضه وتدفع الثمن. أهنّئكم وأهنّئ نفسي بالثورة، أتمنى أن يكون لكتاب الطغرى من بعدها وقت أو مكان. وبرغم المجهود الذي بذلته في إتمامه وأي فائدة قد ينطوي عليها، سيظل الشهداء دائماً أجدى منه باهتمامكم. دموع الفرح من ميدان التحرير منذ مساء ١١ فبراير...

٢٦ سبتمبر (إضراب النقل العام):

في بداية كتاب الطغرى، بينما هو يقود السيارة في طريقه من "بيت الزوجية" إلى "بيت الأسرة" إثر انفصاله النهائي عن زوجته، يلاحظ مصطفى الشوربجي بطل الرواية (بلغته الوسطية التي تجمع بين العامية والفصحى): "على الدائري وقفت السكة دقيقة – يحصل هذا كثيراً على الكباري، زي ما أنت عارف، من غير سبب: أظن أنه صدفة انحراف عدد معين من العربيات عن حاراتها بدرجة معينة في وقت واحد، إضافة إلى استعجال الجميع – وكما يحصل في كل مرة، انطلقت الكلكسات."

وفي موقع لاحق يصف النزول عن كوبري أكتوبر في ميدان الإسعاف: "من فوق، كتلة العربات المرقطة بالمشاة كأنها يوم القيامة. فأتذكر طلوع الميتين من قبورهم والتعبير الدارج: (أنا طلْعان ميتيني). وأحس أن الدنيا كلها طلعان ميتينها..."

تقع أحداث الرواية خلال ثلاثة أسابيع بين مارس وأبريل ٢٠٠٧، قبل أحداث يناير-فبراير ٢٠١١ بأقل قليلاً من أربع سنوات. وليس خافياً أن المصريين صاروا يقولون، سواء أعن المرور أم عن سواه، إننا "قبل الثورة" كنا نظن الأشياء لا يمكن أن تزداد سوءً، وها نحن "بعد الثورة" نرى، على العكس، أن الأسوأ كان ممكناً. (شخصياً لا أظن التردي راجعاً إلى ضعف أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة الدول، مع أنه مستحيل إنكار ذلك الضعف، وإنما – ربما حتى بالأكثر – أظنه راجعاً إلى ما أخفته "الثورة" عن نفسها كما عن "الثورة المضادة": إن الشعب ذاته الذي تحركتْ باسمه ضد وزارة الداخلية متورط في القمع والفساد، وإن الصلاة لـ"مصر" – ذلك الإله الزجاجي – لا تقود إلى الجنة.) نظراً إلى أن مصطفى يشبه مؤلفه إلى حد كبير على كل حال، أعتقد أنه كان سيشاركني القول بالمرارة ذاتها:

الأسوأ ممكن بدليل ما يحدث لي اليوم – يوم قيامة وطلوع ميتين لم يكن لدى كاتب ما بعد تسعيني من "التشاؤم" أو الوقاحة ما يسمح بتخيله قبل الانتهاء من كتابة الطغرى، سنة ٢٠١٠ – وهو ما كان يحدث لمصطفى بدرجة أهون لأن موظفي وزارة الداخلية، منذ ١١ فبراير ٢٠١١، وجدوا في "عداء الشعب" مبرراً للامتناع عن أداء مهامهم المدنية، ولأن حرية التظاهر النسبية التي اكتسبها للجميع آلاف ماتوا أو أصيبوا ولم يعد أحد منهم حاضراً أو ذكراه – والتي خلّفت احتجاجات نفعية لا آخِر لها دونما تحقق ذلك الذي مات وجُرح من أجله من اكتسبها – اتخذت، اليوم، شكل إضراب في جهاز النقل العام...

هذا، بالطبع، فضلاً عن أن هوس الناس بقطع الطريق بعضهم على بعض في معرض "السواقة" الدموية دائماً – صدفة انحراف عدد لا نهائي من "العربيات" عن حاراتها بجنون، إضافة إلى الاستماتة على كسب سباق مفترض لا خط نهاية له، ولا "ميداليات" – ليس سوى صورة أخرى لهوس السلطات بقطع الطريق على التغيير بأسرع وأعنف سبيل ممكن، الأمر الذي لا يفسّر فقط إعلان حالة الطوارئ بلا اعتراض سياسي أو شعبي يُذكر وإنما أيضاً يدل على أن الشعب أنتج حكامه بدرجة أو أخرى، بشكل أو آخر، في زمن أو مكان ما.

لعل بقية المشهد تعليق على "الثورة" بقدر ما هو تعليق على انفصال مصطفى عن زوجته: "خلال الدقيقة هذه بالذات تمثّلت التلوث السمعي أوركسترا لا يطلع من آلاتها إلا ضراط، من أرفع نوع إلى أثخن نوع، من الطويل الحزايني إلى المتقطع المرح. وشعرت بمتعة عجيبة وأنا أسمع سيمفونية عفوية تعكس حياتي في هذه المدينة الواسعة ذات العشرين مليون إنسان. كأن حياتي لحد الآن فيلم عربي سخيف ومقطوعة الضراط هذه هي الموسيقى التصويرية المصاحبة للمشهد الختامي."

 

-٣-

بعض ما قاله مصطفى بلغة جديدة عن ميدان التحرير سنة ٢٠١١

... أذكر أولاً أنني، حين أذهب إلى أمر على ميدان التحرير وأجده يغص بسيارات تنظمها شرطة المرور ولا أثر لشيء ثوري أو إشارة إليه، لا أكاد أصدق: كنا نظن ميدان التحرير سيظل منفصلاً عن مدينة العادم و"الكلكسات" ليصير مزاراً تاريخياً خارج الزمن، كنا نظنه لا يعود أبداً إلى ما كان عليه في السابق، وكانت فرحتنا بالرقاد على الأسفلت ربما أكبر من فرحتنا بالاحتجاج. لا أكاد أصدق وأشعر بحزن كأنه الفجيعة. في البداية، أصبح ميدان التحرير. أقصد: أصبحت القاهرة ميدان التحرير. بين مساء الثامن عشر من يناير وليل التاسع عشر، تقريباً. كنا في مساجد الأحياء المترامية (أكثرنا يصلي مضطراً، ربما لأول مرة منذ الطفولة) ثم كنا في شارع قصر العيني وعلى كوبري قصر النيل، منهكين جراء السير على الأقدام وتفادي القذائف واستنشاق الغاز؛ من منافذ وسط البلد المؤدية إلى "الميدان"، أيضاً (كما صار يُطلق على المكان اختصاراً، بدلاً من "التحرير")، كنا نجابه السدود الأمنية في طريقنا وكانوا يستعملون العنف بقصد إيذائنا والناس تتفرج من النوافذ حتى تنضم إلينا أو تغلقها. بين يوم وليلة، هكذا، لم تعد هناك قاهرة. حين ظهرت جثث وفوارغ قنابل وطلقات، اختفى الأمن ليعود بأشكال دائمة التجدد: أكثر من حفلة تنكرية على مدى أسابيع. تحولت الشوارع إلى خلاء ليلي يبقبق بخطر البلطجة وملاحقة الأمن أو أشباهه من متطوعي "لجان شعبية" نبتت بين يوم وليلة بسماد الشائعات السحري، إذا ما اشتُبه في أن المارة من "بتوع التحرير"؛ بينما النهار كله في مساحة يحدها ميدان عبد المنعم رياض إلى الشمال، وإلى الجنوب: "المُجمَّع" - ذلك البناء السوفييتي، نعم، البناء الكافكاوي، التعريف المعماري لقاهرة يوليو ١٩٥٢: عبث البيروقراطية المركزية وسطوة التوجس - مجاوراً لجامع عمر مكرم من حيث كانت ولا تزال تخرج جنازات الأكابر، ثم ميدان طلعت حرب من الشرق وكوبري قصر النيل من الغرب. أنشئت المداخل حيث استقرت آليات الجيش وتطوع بعضنا بتفتيش بعض أثناء عبورها. قيل إننا وجيشنا "إيد واحدة"، تقريباً، في حماية الجهات. ووقت كان يتضح أننا لسنا كذلك، كانت مواجهة تلك الحقيقة تصبح منكرة؛ من يقل إن الجيش مع الحكومة يصر مع الحكومة... ولكنني أتكلم عن الجهات الأربع المرقطة بسيارات ضخمة كأنها سلاحف صحراوية عملاقة منثور عليها جنود بخوذات. لن يكون للمساحة شمال وشرق ولا جنوب وغرب إلا أنْ تخرج من رؤوسنا بوصلة تحولها إلى مربع جغرافي. على كل حال أصبحت مساحة. أصبحت مساحة وأصبحت المساحة مدينة ثم أصبح للمدينة حدود. بالتدريج ظهرت أسباب الحياة: نوم وأكل وعلاج وعبادة، ولا حاجة إلى مواصلات. كنا قد فقدنا شبكات الموبايل والإنترنت ثم استرددناها، ومع استتباب الحديد و"الكاكي" عشنا. خلال ثمانية عشر يوماً بداية من منتصف ليل الثامن والعشرين، كان خط تماس عبد المنعم رياض بالذات مسرحاً لاستعار "الاشتباكات"، وإن أتت الهجمات (المسكوت عنها من جانب الجيش، كما اعترفنا لاحقاً) من طلعت حرب وعمر مكرم كذلك. لكن المربع كان أيضاً دائرة، وكما في لوحة ليوناردو دافينشي الشهيرة لجسد رجل مرسوم بالنسب المثالية طبقاً لقوانين المعماري الروماني فيتروفيوس الهندسية، نمت يوتوبيانا في مساحة تداخُل المربع والدائرة، بشكل ما: واحة وسط صحراء، لكن مع الوقت أيضاً سجن ثلاثي كسجن أبي العلاء، لا تُرى بلا عينين ولا تخرج من بيتها وهي في جميع الأحوال حبيسة القاهرة. أقصد: كفر عشرات الآلاف بالقاهرة أو كفّروها ليهاجروا إلى الميدان. أصبح فضاء عام حقيقي لأول مرة منذ الخمسينيات. أصبح جسد إنسان حيث المربع والدائرة. أصبح إنسان فعلاً: شخص اسمه التحرير أو الميدان أو الثورة. عن نفسي، وراشد السيوطي الذي عاد من إنجلترا أسبوعاً ليشارك وصرنا ننسق ذهابنا معاً، لم نكن نبيت. نذهب عند استيقاظنا ونعود قرب موعد النوم؛ ولعل ذلك، فيما حمانا من عصاب أو حتى ذهان سيحل لاحقاً بالكثيرين ممن لم يغادروا الميدان طوال الأسابيع الثلاثة -رحلاتنا، مشياً، من الفراغ إلى الزحمة بالنهار وبالليل من مركز ما هو بشري وحقيقي إلى بيوت ترتجف عبر مدينة مزيفة وعاطلة -لعله أكد لدينا فكرة انتهاء القاهرة. في المساءات المشحونة بدأت أفكر في معنى ميدان التحرير: كيف يتطابق مكان مع فكرة أو توجه قد يمثله جسد -شخص -هو الآخر مثالي؛ كيف تختلف نظرتك إلى جسد ما حين تعرف صاحبه؛ وكيف تصبح مواقع مختلفة داخل مكان يشبه جسداً أعضاء بيولوجية فاعلة أو نقاط جذب لا مرئية كالـ"تشاكرا" التانتريتية، لكل منها وظيفة. قلتُ لراشد إن الجزيرة المستديرة التي تتوسط قسماً من الميدان -التجلي الحالي لكعكة أمل دنقل الحجرية -هي الركبة التي لا يمكن بدونها للشخص أن يقف أو يسير. إن مجمع التحرير هو القدمان ونصب البطل العسكري عبد المنعم رياض، ذلك التمثال المعدني الرديء، صولجان مرفوع على اليد اليسرى مواز للرأس الناتئة -مرفوعةً هي الأخرى -فوق الأشياء كلها وناحية لاشيء، فيما خط التماس الرئيسي يقطع السرة ما بين المتحف المصري والجهة المقابلة باتجاه طلعت حرب. قلتُ لراشد إن شيئاً رهيباً سيحدث لهؤلاء الناس لو أن الحكاية انتهت و"نأبهم طلع على شونة". كنا قد بدأنا نلاحظ تأثير العزلة والقرب: بارانويا تسري بدءً من غروب الشمس حول ما إذا كان بين المعتصمين دخلاء يجمعون المعلومات عنهم أو يوجهونهم إلى أفعال ضارة؛ مبالغة في خطابات الانتصار والاستمرار وفي قَصر "الأخلاق" على سلوكنا داخل الميدان حيال أشياء تافهة وغير متصلة؛ هوس بالقضاء على أفراد بعينهم -أحمد شفيق، عمر سليمان، أنس الفقي فضلاً عن آل مبارك -بلا التفات لا إلى أخلاقية استهدافهم ولا إلى ما يمثلونه بغض النظر عن ذواتهم ومدى انتشاره في الوعي الجماعي، حتى وعينا نحن. قلتُ لراشد إنه جسد وقال إنه دماغ. قال إنه يريد أن يعد دراسة أنثروبولوجية عن التحرير أثناء الاعتصام يعتمد فيها المواقع ذاتها مقارباً إياها من منظور فرويدي: خارج الدائرة ما يسمى "ما قبل الوعي"، بينما مكونات الوعي الثلاثة - الإيد والإيغو والسوبرإيغو - تشغل قطاعات متداخلة في جوفها: الإيد في الذراعين والقدمين حيث التمثال والمجمع وجبهات القتال، والإيغو في المنطقة الآمنة المحيطة بالكعكة الحجرية، بينما السوبرإيغو (معقل القيم والأحكام) ففضلاً عن المتحف المصري حيث كان الجيش يعتقل البلطجية، في السرة نفسها حيث دبابة ثابتة كأنها محج تمثل التفاعلات حولها بين المحتجين والجنود تحالف الشعب والجيش الذي تغذت عليه أسطورة الثورة نفسها ...

 

-٤-

رسم بإصبعه مربعاً وقال إنه شباك، دعاك إلى تفقُّد الدنيا خلاله. وحتى بعدما دوّختك الصدمة، ظل يومئ أن تعال: تعال! تعال، هنا شباك! بعد سنين سوف يمكن الاعتراف بأن كلامه كان مقنعاً، بأنك كنتَ شريكه في الخدعة. وربما لنطح الحيطان وجاهته أيضاً، حين تكون في غرفة مصمتة. الشيء الوحيد المؤكد في دور "صلّح" هو أن أحداً سيُضرب على قفاه.

 

-٥-

أنا هو الرجل الذى رأى المذلة. أتى علي بقضيب غضبه وقادني وسيرني فى الظلمة لا فى النور. والآن رد يده على النهار كله. بلى لحمي وجلدي وسحق عظامي. أحاط بي ونكس رأسي. وأذلني وأجلسني فى مواضع مظلمة مثل الموتى منذ القدم. سيج علي حتى لا أخرج، ضعف ربطي ووثق سلسلتي. أدعوه فلم يستجب لي. وأصرخ إليه فلم يسر وصدّ صلاتي. سيج سبلي وأغلق طرقي المسلوكة... صار لى كأسد كامن فى موضع مختف. طاردني وصرعني وتركني هالكاً. أوتر قوسه وأقامني هدفاً ليلقي فىّ سهامه. أدخل فى كليتي نبال جعبته. صرت ضحكة لكل شعبي وأغنية لهم النهار كله. جرعني الحنظل وأسكرنى من العلقم. هشم بالحصى أسناني وأطعمني الرماد. وأبعد نفسي عن السلام ونسيت الخيرات… جيد للرجل أن يحمل النير منذ صباه. - من مراثي إرمياء، الإصحاح الثالث، ١-٧ (في النص الذي يترنم به أقباط مصر)

الأهم فالمهم. مساء ٩ أكتوبر، انضم الأهالي ممن حرضتهم قنوات التلفزيون الرسمية والدينية على "النصارى" إلى ميليشيات "البلطجية" الموالية للسلطات فضلاً عن الأمن المركزي والشرطة العسكرية، ليس بغرض تفريق وترويع وإنما بغرض إيذاء مسيرة احتجاج سلمية مناصرة لحقوق الأقباط إيذاء متعمداً: ضُرب الحصار على المحتجين في منطقة "ماسبيرو" وقد تعرضوا لعدوان أخف في الطريق إلى هناك من نقطة انطلاقهم في "شبرا" على يد "المواطنين الشرفاء" من المسلمين. ولأول مرة في حياتي سمعتُ بأناس -خارج مجال التظاهرة -ينهالون على الأفراد ضرباً أو حتى يقتلونهم بدم بارد لمجرد أنهم مسيحيون.

"سلمية"، يصرخ المتظاهر؛ فيرد عليه البلطجي: "إسلامية"!

كانت مدرعات القوات المسلحة المصرية تدهس رؤوس العزل ممن أُطلق عليهم الرصاص الحي. وقيل في تبرير ذلك - كذباً - إن المحتجين كانوا مسلحين وبصدد قتل جيشنا الوطني قليل الحيلة، فوجهت المذيعة "رشا مجدي" نداء إلى الشعب بنجدة جيشه ضد عدوان الأقباط ممن عُرف عنهم طوال التاريخ الحديث أنهم مسالمون إلى حد التفريط في الحقوق بل ونُعتوا بالجبن نتيجة لذلك، ثم اعتُقل عدد من المحتجين بعدما مُثل بالجثث وقُذف بها في النيل؛ ولم يثبت أن جندياً واحداً مات خلال حدث ستظل الأدبيات الرسمية تصفه بكلمة "مواجهات" بين أفراد الجيش والمتظاهرين الأقباط، علماً بأن بعض المتظاهرين وأحد الوفيات من المسلمين (سيتضح فيما بعد أن جندياً واحداً مات بالفعل، في مقابل أكثر من ثلاثين متظاهر في الإحصاء الرسمي). كان بين الضحايا أحد أشجع ثوار يناير، الميكانيكي "مينا دانيال" ذو التسعة عشر عاماً، والذي ذهب إلى ماسبيرو ليلتها -كما صرحت أخته لاحقاً -يراوده الاستشهاد. وبينما اتخذت غالبية المسلمين موقفاً طائفياً صريحاً إن لم يكن مناصراً للمجلس العسكري الذي صار يقيناً أنه امتداد لنظام مبارك المدعوم من واشنطن، كانت أسر الضحايا تقول إن أعراساً تقام لهم في السماء وإنهم ليسوا خسارة في المسيح.

عندما يعبّر مفجوع عن إيمانه، عن فرحته باستشهاد الفقيد، يكون صوته على حافة الكفر تماماً؛ هذا وحده يجعل كلامه مؤثراً.

في الأيام التالية بت -وبات ولابد مصطفى الشوربجي -مذهولاً. كنت قد تعرضت لحادث نشل بحجة "خناقة" في "المهندسين"؛ أكثر من صديق لاقى قطاع طريق ضربوه وأخذوا ما معه؛ واعتُدي على أكثر من صديق لأن "شكله أجنبي". بدا لي، بغض النظر عن الفاشستية الطافية أسرع فأسرع إلى سطح الحياة، أن القاهرة لم تعد "آمنة" كما اعتدنا أن نقول عنها، محملين "الداخلية" وحدها وزر الإرهاب الممنهج. لكن ما أذهلني لم يكن القلق و"الانفلات". لم يكن -حتى-ما أقدم عليه الجيش من جرائم حرب وما تبعه من كذب مفضوح عن سرقة المدرعات ومؤامرات خارجية؛ إلى الآن، مؤامرات خارجية! لا. ما أذهلني وأشعرني بغربة لم أحسها في عمري هو قابلية المواطنين من مختلف الطبقات، حتى المتعلمين منهم، حتى "المثقفين"، على تنحية ليس فقط وعيهم السياسي وضمائرهم وحتى تعاليم "الدين الحنيف" الذي يستغلونه في اقتراف أضرار تتراوح ما بين التلوث السمعي وقمع الحريات الشخصية ولكن أيضاً رغبتهم في معرفة الحقيقة. ما أذهلني هو قابلية المصريين على تنحية رغبتهم في معرفة الحقيقة نتيجة كراهيتهم المجانية لقوم مظلومين لا يختلفون عنهم على الإطلاق.

ولا غرو. فـ"الفتنة" التي اتُهم بها القوم إجمالاً أشعلها في الحقيقة محافظ أسوان (ضابط الجيش السابق، والذي أوصت لجنة تقصي الحقائق المعنية بإقالته فوراً قبل أيام من المذبحة، بلا فائدة)، حين أثنى تلفزيونياً على "شبابنا الملتزم" من المسلمين الذين تطوعوا بإحراق كنيسة تقام فيها الصلوات منذ عقود بحجة أن المبنى غير مرخص لهذا الغرض. لكن هذا لغط مفارق…

***

ربما المرجح أن تبدو القاهرة لمصطفى، بدلاً من طغرى، على هيئة هلال وصليب يختزلان منطقة ماسبيرو وما حولها، حيث الهلال كورنيش النهر والصليب مساحة قتل الأبرياء، ولأول مرة في حياته، ربما، سيخجل مصطفى من أنه مسلم.

 

-٦-

دعني، ورذاذ البحر ينعشني، أحكي لك عن آخر مرحلة في جولة القاهرة الإسلامية، بعد المكالمة المصيرية هذه من قدام المسجد والدنيا تظلم... كنت في زقاق صغير متفرع من شارع محمد علي. قلت أتمشى لحد منطقة العتبة الخضرا وأنا هيمان هكذا من غير ما أفكر في الآثار، وبعد ما أصل أكمّل مشياً أو أركب من هناك لشارع الجلاء. وفضلت أمشي لحد ما انتهيت إلى هذا الزقاق الطويل فلقيت نفسي لوحدي في الظلمة ومن ورائي الربع نقل: عربة بعد عربة بعد عربة نورها مطفأ ولا أي إشارة أنها تقترب أو ميعاد محدد لاقترابها. كيف كانت تتقدم هكذا بلا صوت؟ كأنها ماشية على قطيفة، ولا صرّيخ ابن يومين في أي اتجاه.

كنت أحس بالواحدة منها فجأة هكذا في ظهري، من قبل ما يسورني الكلكس الذي يضربه سواقها كأنه يخلّص حقه من الدنيا، فأرتبك وأنخض لغاية ما أقف وبسرعة أحشر جسمي بالعرض بين الأسفلت والعربات المركونة في ناحية واحدة من الطريق لأمررها. من هنا لحد واجهات المباني في الناحية الثانية يا دوب عرض عربة متوسطة الحجم وأنت لازم تمشي هكذا وسط السكة. ما فيه رصيف ولا شيء. من غير سبب واضح استشعرت حضوراً شيطانياً، كأن الحركة التي بدأت بسواق التاكسي الملائكي وتوسطها الأشقر أبو سبحة الذي تحس بقوته الغيبية دونما تعرف إن كانت أقرب للخير أو الشر لابد أن تنتهي بلقاء مع الأبالسة.

بدأت أتلفت ورائي وأنا مضطرب من الزنقة والاستعجال، ولا أرى للزقاق أولاً من آخر... كانت الأنوار قلّت حبة حبة لحد ما بقيت الدنيا ظلمة كحل. وحسيت كأني محبوس في مكان مريب وأريد أن أخرج فقعدت أمد لكن الزقاق ما كان يخلص من قدامي. فجأة كأن زاويته تغيرت أو مساحته اختلفت وبدأت أنتبه لوجود بيوت في المباني التي على الشِمال لكن حتى هذا، وسط القفر العام، لم يطمئني. سمعت خطوات ثابتة آتية في الاتجاه العكسي فرجعت، وقلبي يدق، أبطأت. كان الربع نقل لازال يأتي وراء ظهري يفزعني بالكلكسات. وساعتها، على أضواء جانبية خافتة جداً طلعتْ من شبابيك البيوت كأنما بالتحديد لهذا الغرض، بدأتُ ألمحهم:

سيل لا يبدو أنه سينقطع من السنيين الملتحين في جلاليب بيضاء قصيرة أو طويلة أو في قمصان وبنطلونات، رؤوسهم يا إما محلوقة يا إما عليها طواقي ملونة. كانوا يقطعونني بسرعة إما كل واحد لوحده أو كل اثنين معاً وبين وقت ووقت في جماعات صغيرة. وجوههم مكشرة وعيونهم مبرقة وهم يظهرون فجأة من وسط الظلمة ثم، بعد ما يمرون من جنبي وأكتافهم تحك في كتفي، يختفون.

أغرب شيء أني كنت أسمع خطواتهم وهم آتون ناحيتي فقط: بعد ما يقطعونني، مثل عربات الربع نقل تماماً، لا صوت لخطواتهم أبداً كأنهم ماشون على قطيفة. ساعات أسمعهم يدمدمون بصوت ضعيف فيما بينهم، لكنهم في العموم يبرقون لي وهم صامتون ولا يُلقون السلام. حسيت برعب حقيقي لما بدأ احتكاك الأكتاف يبقى عنيفاً يا أبا السيوط. مرة أو مرتين خبطني كتف معضل بقصد وأنا لا أتكلم. وفضلت أتنفس بصعوبة وأجاهد لأتحكم في حركتي لحد ما ظهرت أنوار الشارع العمومي.

على الناصية شفت آخِر واحد فيهم. كان ربعة برأس كبير مكعب، وتهيأ لي أن وجهه نسخة من وجه فستق. هو فقط بذقن واصلة إلى سرته ورأسه قرعاء، يرتدي جلابية لا تكاد تصل إلى ركبتيه ولا شيء يستر ساقيه من تحتها. كان لوحده – أنا متأكد أنه كان لوحده – لكنه كان يدمدم بصوت أعلى من الآخرين، وكان صوته عالياً كفاية لأسمعه وسط دوشة الشارع العمومي. أسرعت، وكنت أظن أني تفايدته فعلاً لكنه رجع ظهر فجأة من جنبي. خبطني في كتفي خبطة مفترية وقال بنبرة متهكمة: «مصطفى كمال بيسلم عليك، ما تفتكرش إنه هيسيبك.» ولما استدرت بعد ما فقت من الخبطة كان اختفى في ظلمة الزقاق.

- من نص كتاب الطغرى، القسم السابع

 

قلتُ إن مصطفى يشبه مؤلفه. ومع أنه ليس هو – لا يمكن أن يكون هو، بالضبط – ماذا كان سيحدث لمصطفى لو أنه بقي في مصر حتى يناير ٢٠١١؟ هل كان سيرى، من ميدان التحرير إلى سائر أطراف المدينة، خريطة جديدة على غرار الطغراء التي تحولت إليها القاهرة على يديه ولكن على هيئة أخرى؟

لقد اكتشف مصطفى، عبر انهياره الشخصي وتغلغل ذلك الانهيار بأثر رجعي في جوانب حياته، أن مدينته قلب من قلوب الأمة الإسلامية. حدث هذا حين ظهر له شبح آخر سلاطين آل عثمان (محمد وحيد الدين بن عبد المجيد، المتوفي سنة ١٩٢٧)، لكنه حدث بناء على تعريف خاص جداً لتلك الأمة: تعريف قد يبدو، رغم تطابقه في مخيلة مصطفى مع "دولت أبد مدت" ورغم أنه يكرس للصراع التاريخي بين المسيحية والإسلام، أنه زائف أو غير محتمل.

هنا – ولأن قريني تعلق بتصور إيجابي وبعيد المنال عن هويته الإسلامية – لا مناص من الإشارة إلى أحد التحولات الطارئة على "الثورة" ما بين ١١ فبراير – جمعة "ارفع راسك فوق"، و٢٩ يوليو – جمعة "التوحيد والنور" كما سميت سخريةً، على اسم أحد أكبر المتاجر "الإسلامية" متعددة الفروع في القاهرة (لأن منظمي المظاهرة بدعم سعودي سموها "جمعة توحيد الصف")، ومروراً بكل تلك الأشياء الدستورية التي أقدم عليها المجلس العسكري بدعم الإخوان المسلمين وعدد من "المفكرين الإسلاميين" الموالين لهم بدرجة أو أخرى وجحافل "السلفيين" فضلاً عن جانب من "اليسار" التقليدي (الاشتراكي والقومي) الذي يرى في الإسلام السياسي بديلاً عن الصراع الطبقي والتحرر من الاستعمار أو تمثلاً لهما... كل تلك الأشياء الدستورية "الملعبكة" تعديلات أكانت أو إعلانات أو حركات قانونية موازية بينما "المليونية" السلمية تقع كل جمعة تحت اسم جديد والقائمون بعمل "الثورة" الأصلي من مجابهة للشرطة هم "الألتراس" من مشجعي كرة القدم ولا سؤال سوى هل سينضم الإخوان…

***

شأنها في ذلك شأن أي حدث "تاريخي"، لابد أن للـ"ثورة" روايات متعددة؛ لكن في روايتي ورواية من أعرفهم ممن شاركوا منذ البداية -إما من مساء ٢٥ يناير أو، مثلي أنا، من بعد صلاة الجمعة ٢٨ يناير -لم يكن للإسلاميين أي دور. بـ"الإسلاميين" أقصد المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين والمنتظمين مع مختلف التشكيلات "السلفية" إضافة إلى المتعاطفين معهم. لم يكن لهم دور. لم يشاركوا في الأحداث في البداية إلا فرادى وبأعداد غير مؤثرة.

وحيث أن لمصطفى ما لهؤلاء من مآخذ على اللحظة التاريخية، وحيث أنني متأكد أنه -على عكس ما فعلوا -كان ليشارك من فوره في الأحداث وما كان ليتحالف مع المجلس العسكري فيما بعد (أو يتطوع، مثلما بادر المنتمون إلى "مدرسة الإسكندرية" من السلفيين الذين سيؤسسون حزب النور، لإقناع أهالي الشهداء بقبول الدية)، يبدو لي "إسلام" مصطفى الشوربجي -تعلقه بفكرة الخلافة كمخرج من المأزق الحضاري -مختلفاً عن إسلامهم على نحو جذري.

مصطفى يعدّد "الحاجات الحلوة التي طلّعها الإسلام" - "الشِعر، المعمار، الخط، المنمنمات، التجويد، الذكر، التصوف، الفلسفة والعلوم، آل البيت وأولياء الله، القصص، العشق، آداب النكاح، الواجب الاجتماعي، مكارم الأخلاق" -مشيراً إلى أن "الناس تتجاهلها تماماً. وإذا ذكرها أحد يذكرها بس ليذمها أو يحرمها"... لكنني لا أقصد الفرق بين هذه "الحاجات" و(كما يقول مصطفى أيضاً) "الأشياء المتفق عليها منذ قيل إن الغزالي قفل باب الاجتهاد، الله يسامحه": العبادات والتحريمات، والتي حوّلها الإسلام السياسي -حتى هي -إلى طقوس عبادة مفرّغة من محتواها. هناك فرق أعمق أظهرته أحداث ٢٠١١ بين إسلام مصطفى والإسلام السائد: إن الواحد سؤال عن ذات مفقودة بينما الثاني إجابة شديدة السخف عن كل الأسئلة المحتملة؛ الواحد أمل في شيء مجد بينما الثاني يأس مشرّع له إلهياً.

ولا غرو. فالتحول المقصود هو أن تحركاً بدأ، على الأقل في روايتي ومن أعرفهم لوقائع الثورة، مدفوعاً بالرغبة في الالتحاق بمجريات الحضارة الإنسانية كما هي الآن - الحرية الفردية وحقوق الإنسان وتداول السلطة - انتهى إلى خلاف سياسي بين "الإسلاميين" و"العلمانيين" (وكأن خبرات دول مثل إيران وأفغانستان والسودان والصومال وباكستان لا تكفي لحسم السؤال أخلاقياً وسياسياً وروحانياً عن جدوى الدولة الدينية) ثم آخر بين "القوميين" و"الليبراليين" يقوم الطرف الأول فيه - ما سمي اصطلاحاً بـ"اليسار" - ليس فقط بإنكار احتمال تغيير الوضع القائم مع كل خطوة باتجاه ذلك التغيير (كان أرباب حزب التجمع أول من عارضوا المبيت في ميدان التحرير ليلة ٢٥ يناير، وهي الخطوة التي أدت، عبر تصعيد القمع الأمني، إلى "جمعة الغضب" ومن ثم "احتلال" الميدان) ولكن أيضاً بالترويج لكذبة مؤداها أن ما حدث حدث بمعرفة وتدبير الإخوان المسلمين، وأن أي تغيير يحدث في مصر لا بد أن يمر عبر الإسلام السياسي...

بينما الحقيقة أن الإسلام السياسي، ذلك المثبط الاجتماعي والفزاعة الدولية، ليس سوى إسفنج مشبع بمياه الحقد الطبقي، حل محل اليسار بعدما اشترته السلطة -أقصد اليسار-أو حيدته.

تحرك بدأ مدفوعاً بالرغبة في تحطيم الأصنام انتهى إلى سجالات خرقاء عن معنى أن تكون مصرياً: الصنم الأكبر والذي بدونه، للغرابة، ما كان للـ"ثورة" نفسها أن تحدث. "ويوم بدأ علم مصر في الظهور بكثافة وسط لافتات ميدان التحرير،" هكذا كتبت في سياق آخر، "انتابتني أول شكوك الثورة المضادة"...

إلى أن اتضح أن السجالات، في السياق، عن معنى أن تكون مسلماً عربياً. أعرف الآن أن هذا هو الموضوع. أن تكون مسلماً عربياً يعني أن لا تقبل بالحرية الفردية وحقوق الإنسان وتداول السلطة ولا تسعى إلى تغيير الوضع القائم، بغض النظر عن موقفك من الحكومة القائمة، أنك غير قادر على تصور تسيير الأعمال بلا "عسكر" أو "ملالي"، كما يعني أنك رهين وعي خرافي يختزل مشكلتك في مؤامرة على المسلمين والعرب من جانب "الكفار" و"اليهود" (أمريكا وإسرائيل) ويعين الإخفاق السياسي لمجتمعك في تواطؤ "الحكام" مع تلك المؤامرة.

في عبارة لعلها تلخص كتاب الطغرى يقول مصطفى: "في قلبي من هذا العالم مرض شفاؤه الرحيل إلى عالم آخَر، أو أن لا يكون الواحد – في هذا العالم – مسلماً عربياً."

***

الأهم فالمهم: الثورة صنعت مساحة وعي ممسوس تسمح بهجوم مدبّر على السفارة الإسرائيلية (سيمجّده الإسلاميون والقوميون سواء، متعاملين مع نزع العلم عن مبنى السفارة وكأنه تحرير القدس) من أجل إعلان حالة الطوارئ مجدداً بعد إلغائها بالدماء وتحويل الأنظار عن استمرار قمع المتظاهرين والتعذيب فضلاً عن المحاكمات العسكرية بل والاغتيالات وتقويض أي سعي حقيقي لتعطيل منظومة الفساد الممنهج، بينما تؤدي إلى محاكمة صغار ضباط الجيش المنقلبين على المجلس العسكري لصالح تغيير فعال بمباركة الثوار أنفسهم، لأن انقلاب هؤلاء الضباط - كما ادُعي اعتباطاً - ليس سوى مؤامرة مدبرة من جانب المجلس (مع أنه لم يظهر على ذلك دليل واحد منذ أبريل).

الثورة تركت فراغاً في مؤسسات الإعلام حيث العمل يعتمد على تملق الجهات الرسمية والكذب في سبيل "تلميعها"، كان منطقياً أن يملأه -أقصد الفراغ -المجلس العسكري الذي يحكم (بالضبط كما كان نظام مبارك يحكم) ليس في خدمة الناس ولا لصالح أيديولوجيا معينة ولا حتى طمعاً في السلطة ولكن من أجل الاستحواذ -كما اتضح -على أموال المعونة الأمريكية وغيرها من الأموال. كان منطقياً أن تجاور تلميع المجلس العسكري "بروزة" للإسلاميين على اختلافهم بصفتهم المعارضة الوحيدة الحقيقية، لكي تُقحم على تحرك مناهض للقمع الأمني بالأساس أيديولجياهم المعادية للنظام العالمي (والتي لم يتبنها التحرك من قريب أو بعيد).

الثورة وإن أطلقت قوى الإسلام السياسي لم تؤد إلى أي اعتراف بأن خريطة القاهرة يمكن أن تتحول إلى طغراء وجعلت بين الهلال والصليب -في خريطة جديدة تصورها مصطفى إثر الأحداث -بركاً من الدم المسفوك بلا عقاب لأنه دم "الأقلية". الثورة لم تشف المرض الذي في قلب مصطفى، أقصد. الثورة لم تحدث بعد.

 

-٧-

وياما ثرنا وبقت ثوراتنا بالدَّورة

وننام ونصحى نلاقيها ثورة ع الثورة

تنتصري ليه يا بلد متناكة يانجسة

- نجيب سرور

 

قال المصاب: هذا بلد"نا". قال الميت: نحن مثلـ"كم"! ومنذ الأحد الماضي كلما رأيتَ لحية أو "كاب"، تتذكر أجداداً كالبهائم؛ ومنذ قالوا إنـ"هم" صليبيون، لا شيء إلا الصفاقة في ديار"كم". من ذهب إلى المسيرة ذهب إلى المسيرة، ومن ترشح في الانتخابات ترشح في الانتخابات. من هاجر هاجر قبل اندلاع الاحتجاج. وذات يوم سيجيئون بك أنت أيضاً مصاباً، وقبل أن تموت تقول لهم: أنا مثلـ"نا" - "هم" - "أكم"…

***

نوفمبر. وصلت إلى الإسكندرية في عز النوّة. لم أكن قد ذهبت إلى هناك منذ بداية العام. المطر والبرد. كان قد مر على الثورة والطغرى تسعة أشهر، ولم تكن الطغرى قد حازت ما ظننتها تستحقه من اهتمام لأن الناس مشغولون بالثورة أو ربما لأنه ليس هناك ناس. منذ فبراير -وقت تنحي مبارك وصدورها -بدا العالم الذي ترسمه أوضح وأقرب. الفرق أنه، بينما فقد مصطفى الأمل في العروبة والغرب ما بعد المسيحي ليتصور إسلاماً عثمانياً مجدياً، أنا فقدتُ الأمل في العروبة والغرب والإسلام.

أجلس الآن في مقهى ديليس الأثير لدي، مستمتعاً بالقهوة والإنترنت بينما الشمس تغيب من فوق الكورنيش والسماء لوحة فيديو عبقرية. أفكر لا في الطغرى ولا في الثورة ولكن في معنى الإسكندرية -وبيروت -في حياتي، اقترانهما بالبدايات والنهايات. منذ فبراير -أفكر -بدا أن المشكلة لم تكن في نظام مبارك بقدر ما كانت في أسبابه الداخلية بالأساس. أجلس في مقهى ديليس وأستعيد آخر فقرة من كتاب الطغرى، حيث مصطفى في بلكونة فندقه الأثير في عين المريسة بعد وصوله إلى بيروت: "قرب نهاية أبحاثه في الدولة العلية – كما أوردنا – سحب مصطفى أحد كشاكيل طبعة دار الشعب من عجائب الآثار عشوائياً من وسط الكتب المتكدسة في قبو الصالة ووضعه بين دفترين على مكتبه، بعد ما نفّضه، بنية أن يقرأ فيه في الفترة اللاحقة. لكنه لم يقرأ منه كلمة إلا بعدما وصل بيروت، حيث انتقل الكشكول بالصدفة مع الدفترين؛ وكان مصطفى نسيه تماماً وسط أحداث الباب السادس. الوقت لما لقيه في شنطة سفره وهو يقلّب في الدفاتر – داخل غرفة الفندق بعين المريسة – أحس بألفة وحنين وشك في أن يكون للصدفة دلالة تساعده على إنجاز المهمة. يومها مع ركوة بن كبيرة – كما يسمون الكنكة في بيروت – قعد في البلكونة يقرأه. ولم يكن في الكشكول معلومات أو إشارات قد تساعد في العثور على معروف الشالچي. فقط أحب مصطفى الفقرات الأخيرة من الكشكول، وهي تلخيص مكثف للسنتين السابقتين على الحملة الفرنسية أكد لمصطفى أن بعض الحاجات التي كتبها – كما قال له بعض الذين قرأوها – كانت شعراً بالفعل. لأن الجبرتي هو الآخر دونما يقصد، في هذه الفقرات على الأقل، كتب شعراً: «لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف لها النفوس... سوى ما تقدمت إليه الإشارة... وكلها أسباب عادية وعلامات، من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات. فبالنظر في ملكوت السموات والأرض يستدلون، وبالنجم هم يهتدون. فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي في منتصف شهر الحجة ختام سنة اثنتي عشرة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر. وحضر طائفة الفرنسيس إثر ذلك في أوائل السنة التالية...» قام مصطفى من بلكونة الفندق وفي قلبه وجد، وخرج يقول لنفسه إن الشعر كالمعجزات دائماً موجود حيث لا يتوقعه أحد."

في الصباح سمعنا أن الغد هو "ثورة الغضب الثانية" عبر أنحاء البلاد. ربما خامس مرة نسمع فيها هذه العبارة. لا أفكر في المشاركة ولا أترقب شيئاً إيجابياً. فقط، بعد قليل، سأذهب إلى البحر. سأنظر إلى الأمواج في الظلام وأستنشق الهواء. لا أعرف مدى الامتنان الذي سأحسه لأنني عبرتُ "الثورة" إلى هنا، كما عبر مصطفى إلى بيروت. أعرف فقط أنني سأحس بامتنان.

***

يتكون كتاب الطغرى من تسعة أقسام هي أيضاً رحلات لمصطفى عبر القاهرة وآخرها إلى بيروت، فلعل هذه هي رحلته العاشرة: عبر ثورة مجهضة أو مهزومة إلى بداية ثانية لمحاولة العيش بمنطق معاصر. يبدأ كتاب الطغرى بطلاق مصطفى الذي يشعره أنه غريب بحاجة إلى اكتشاف ذاته في المجتمع المحيط. مصطفى الذي يشعر الآن أنه غريب أكثر من أي وقت مضى ترك بيروت وكلودين حبيبته المهاجرة المتزوجة ليتزوج حبيبة أصغر وأكثر إقبالاً على الحياة، يحس أنه كان يبحث عنها العمر كله، وهو مستبشر في زيجته الثانية. مصطفى مستبشر في زيجته الثانية ليس لأنه أقل غربة في "مصر الثورة" ولكن لأنه لن يعود يبحث عن وطن أو ذات إلا بين فخذي امرأته. ليطلق المجلس العسكري مدرعاته وليقم حزب النور الحدود. مصطفى لن يعود يسأل عن وطن.

 

يوسف رخا مواليد الدقي ١٩٧٦، حاصل على بكالوريوس الآداب من جامعة هَل، إنجلترا ويعمل في جريدة الأهرام ويكلي منذ ١٩٩٩. ساهم في تأسيس جريدة “ذا ناشونال” في أبو ظبي عام ٢٠٠٧-٢٠٠٨، وكان ضمن أفضل أربعين كاتباً تحت الأربعين في مسابقة بيروت ٣٩ عام ٢٠٠٩. يكتب بالإنجليزية والعربية، كما ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وشارك في العديد من الفعاليات الأدبية في العالم العربي وأوروبا. حصلت أعماله على تغطية واسعة كما ساهم بالكتابة في العديد من الصحف والمواقع العربية مثل العربي الجديد وأخبار الأدب والنهار ومعازف والأخبار اللبنانية.