شعرتُ أني سأولد من جديد، فاليوم غير كل يوم، ابتسمتُ في وجه كل مَنْ التقيت على الشاطئ، أردتُ أن أرقص معهم، أن أسحب الأطفال إلى البحر، وأن أصرخ، كم هي جميلة هذه الحياة.
كنتُ أضع يدي في الحقيبة المُعلَّقة على كتفي، دون أن أنظر، ترتجف رئتيّ مخافة ضياع المُفكرة الخضراء، هي أثمن ما أملك، لأنها تحملُ جنين قصتي الأولى، من هنا يجب أن أبدأ هذه الحياة، ولو أني لست مستعدة بعدْ، لا فكرة لا كلمات ولا فلسفة أود التعبير عنها، أرسلت أطول نظرة أمكن لي إرسالها إلى ما يَبين من حدود المحيط، وابتسمتُ مرتاحة هذه المرة في وجه لا أحد، لأن البحر الذي يرزق البحّارة، والطيور التي تهبط على السطح وترتفع بالسمك، لن يبخل عليّ، تلك الأفكار أو تقريباً العواطف أنا لا أستطيع أن أميز بينها- توقفتْ فجأة لحُسن الحظ، فتصرفتُ بنباهة مثل الآخرين وصعدتُ إلى الأتوبيس، سيتخذ بعد قليل طريقاً طويلة، يخترق خلالها الجبال والهضاب والوديان، ليحملنا إلى الطرف الآخر من المحيط لكن عبر الأرض، لا السماء ولا الماء.
نحن ثُلّة من المهاجرين، يتصرف سائقهم المهاجر أيضاَ، كأنه لا يؤمن أن هناك هدفاً من الرحلة، لم يتطلع إلى شيء ولا حتى أرداف النساء، كان يؤدي وظيفته بميكانيكية دون خيال، لم تبهره مثلي فكرة الالتفاف حول البحر، ما رأيته خداعاَ للطبيعة وانتصاراَ عليها كان بالنسبة له مجرد مُهِمّة، يتوقف خلالها عقله عن العمل، يرحل إلى جهة بعيدة لا أستطيع أن أتبين مكانها، كان بليداً فحسب، وعندما تأملت جسده وهو يستعد للقيادة، فكرتُ أن بلادته هي الضمانة الوحيدة لوصولنا سالمين.
اكتشفتُ أن الكاتب الشهير أحد أبطال الرحلة معنا، عندئذ انفعلتُ وكدتُ أذهب إليه لأعرّفه بنفسي بناءاَ على موقعي الجديد من الأدب، كمُجرِّبة، ثم أضعتُ الفكرة في مكان ما عندما أخذ الهواء يُطيِّر باتجاهي صوته وهو يوبخ زوجته، كنتُ هناك في قلب الأتوبيس جالسةَ على المقعد المجاور للشباك وهو في الخارج، وكان زجاج كثيف يفصل بيني وبينه، لم يحمني كل ذلك من أن أستقبل الألم عندما قالت حركات يديه إن شيئاً انتهى، وانتهى يعني انتهى.
لم أستطع أن أميز إذا ما كان ما أشعر به هو ألمها أم ألمه، ربما كان ألميهما معاَ، لا أدري، كان السائق يقف على مسافة آمنة منهما، يتفرج على السيدة وهي هناك ثابتة مثل تمثال بشعرها الأسود الخفيف ينسدل على كتفيّها، ببشرتها السمراء ووضعها الرقيق أمام البحر، وحين كان يأتي النسيم ويهزها، لم أجرؤ على انتزاع نفسي من المشهد، وكذلك استجاب السائق، الكاتب الغضبان فقط هو الذي قرر أن يهجرها مع أنه يعرف أنها ستظل تتأمل رحيله عاقدةً ذراعيها حول صدرها، في إحدى اليدين تقبض أصابعها على منديل مُمزّق، والأخرى ساكنة على وضع التشنج، بعثت عيناها للأفق أكبر معنى للأسى رأيته في حياتي، قد يكون هذا التعبير مبالِغاَ، لكن المهم حقاَ هو أني لم أكن قسماً من هذا الأفق، شعرتُ بالغُبن وبلاأخلاقية هجران الروائي، رأيتُ سيارتها المركونة خلفها قريبة جداً من الشاطئ، كأنها خرجت من البحر لا المدينة، كان المشهد كله، برغم الحزن، يقول سأذهب معك إلى آخر العالم.
ربما أبدأ القصة بعبارة أبوح فيها عمّا أحسسته ساعتها، لقد تمنيتُ لو كانت هذه السيدة زوجتي.
ثم بدأت الرحلة، تحدثنا بلغة الأم المشتركة، فلم نعانِ الحاجة لمُترجِم ولا أربكنا عناء شرح أفكارنا في لغة ثانية ولا حتى ثالثة، على راحتنا ضحكنا وأكلنا من طعام السيدات المحجبات المخلصات، تناولنا الشاي في أكواب ورقية بيضاء خالية من أي رسمة، ثم قبضنا عليها أكفنا وتركناها تزوي بإهمال، كان الجو منعشاَ، وقد سمحتُ لنفسي ألا أفكر في الكتابة وأن أنسى المُفكِّرة، لعبتُ مع الصغار الذين تقدموا باتجاهي، كانت شعورهم تهتز مع حركة الأتوبيس مثلما كان يهتز شعر السيدة على البحر، شعرتُ أن قلبي يتحرك في صدري وأن عليّ أن أطلق عليها اسماً، ثم أخرجتُ ما معي من عملات معدنية واقترحتُ على الصغار لعبة تشبه الملك والكتابة، انتصروا فيها عليّ وأغرقوني في ضحك أليف معهم، ارتاحوا على فخذي وأسمعوني بأصوات متنافرة حكايات عن مخلوقات تسكن لابد العالم الأزرق، سمك صغير يجتمع ليصبح حوتاَ، وشمس تحس بالملل فتصير سمكة تُقبِّل قدم الصبي الذي في الماء، كنتُ مسحورة مثل أليس في بلاد العجائب، ومثلها كانت عيناي تلمعان، كان الأتوبيس يمر بين الجبال، أحياناً وددتُ أن أبكي، توالت على ذهني أسئلة أتعبتني وأعادتني لحلم الكتابة البعيد.
كان الكاتب يجلس على المقعد الأمامي وظهره لي، يضع سماعات بيضاء في أذنيه، ويريح رقبته على وسادة خفيفة، مُغمضاَ عينيه كأنه نائم ويحلم بقصة جديدة، تمنيتُ أن أُبحِر عبر الحلم، أن أتفرج على شخصياته تتحرك كما يراها هو لا كما أراها أنا على الورق، لجأتُ إلى مفكرتي فرسمتُ ما خطر على بالي، صورتُ شيئاً من جثمان السيدة التي تركها الأتوبيس قرب الماء وأوغل في الطريق، كنتُ سأحتاج الصورة يوماً ما، ونمتُ بعد قليل من هذه الفكرة.
لقد حذّرنا السائق، أنا أذكر هذا جيداً، انطلق صوته عدة مرات قبل المرة الأخيرة، لكنه بالنسبة لي على الأقل أخذ صوته يختلط بالحلم، أعتقد أننا كنا بين جبلين، حين جاءت صيحته الأخيرة، وقد وقع الأمر بسرعة لم تمكنني أبداَ من التنبؤ، لم يصدر من أحدنا صوت، دعم الصمت إحساسي بالنجاة أول الأمر، أو ربما أملي فيها لا أعرف، كان آسفاً والمقود يُفلت من بين يديه بلا شك، وكنا جميعاً نياماً، كل ما رأيت هو الدرجات اللامتناهية من اللون الأزرق وهي تتخلل عينيّ، الدرجات التي لا اسم لها، المُقدسة كسرّ، وكانت كلها صافية وواسعة وهي تحتوينا، لم أر مثيلاَ للمشهد طوال حياتي، وعندما أقول أملي في النجاة فإني أعني خضوعي لخدعة أن الحُسن غير المتوقع الذي أبداه لي اللون، يعني أنه كان يجب أن أعيش أطول لأحاول وصفه، لأحاول كتابته.
تعرفتُ على مصيري عندما وجدتُ نفسي هائمة على سطح المحيط، والأمواج الناعمة تتثاءب تحت قدمي، كأنها جائعة وبعد الوليمة شبعت ونعست، نظرتُ في اتجاه الأفق، فكانت الشمس على وشك الشروق من جديد، حدثت الحادثة ليلاَ إذاَ، لم يكن قد مر وقت طويل على مشهد الأفق ذاك، عندما بدأت الموجات تحمل الأطفال بتحنان شديد كأنها أم وتودِعهن على رمال الشاطئ، تمت عملية الدفن، بين المد والجذر وعبر تنظيم دقيق، ما بدا لي كعمل موسيقي كبير، وكان عدد الجثث غير المحدود كافياَ للتتفيه من أي شعورٍ بالحزن.
ظل عليّ أن أرتب مشاعري إذاَ، وحاجتي الوحيدة كانت إلى شريك يتأمل معي المشهد، ويحس بما أريد أن أقوله عندما أريد أن أقول، حين التفت وجدتُ الكاتب واقفاً إلى جواري، بلا سماعات بيضاء وبلا مُفكرة، غير أنه كان ينظر إلى مكان جديد، ذلك المكان ظهرت منه السيدة التي تمنيتُ أن تصير زوجتي، كانت قد خرجت من الماء هذه المرة حقيقة لا مجازاً، وسيارتها مركونة خلفها، تحركنا إليها وتحركت إلينا في اللحظة نفسها فبدا المشهد مهيباً وسينمائياً في عينيّ طائر النورس الأعلى.
بين أصابعها منديل مُمزق، كانت تحاول أن تمسح به الملح عن جسدها وما حدث فعلاَ بفضل رقة الحركة أن بياض المنديل أخذ يتوزّع أكثر على سطح بشرتها، وقد حركني ذلك، كانت قد سبقتنا في الوصول إلى هنا، أخذها المحيط قبل أن يأخذنا، ظلت تنظر إلى الكاتب بسماح وتصفو ابتسامتها، وهو خفّ زعله منها أو طار مع الأتوبيس، ما يهمني حقاً وصفه من المشهد هو انتباهها إليّ، والبسمة الكريمة التي منحتها لعينيّ، انتقل ثلاثتنا إلى هنا، لا أعرف لأي هدف مُسمى، غير أني سرعان ما وجدتُ سلواي بفضل هذه الابتسامة.