كانت تلك بداية تجل لتجربة إبداعية ذات ملامح مختلفة عما كان سائدا من أشكال التعبير الأدبي والفني وما يرتبط بهما من تصورات مجتمعية يتنازعها التقليد والتحديث، وما اكتسبته من معارف تختلف في مرجعيتها عما كان سائدا من بنيات ومعتقدات فكرية، تحفظ الموروث وتدافع عن إطلاقيته. ولتأكيد طبيعة اختياراتهم وانحيازهم لمنحى التحديث، بدا لهم أن يجعلوا مقالهم الافتتاحي في العدد الأول من المجلة «قراءة في الفكر المغربي المعاصر» للمفكر الأستاذ عبد الله العروي، وفي ذلك إشارة قوية لإبراز المنحى الذي أقروا أن يسلكوه في تفاعلهم مع واقع، كان في تقديرهم يحتاج إلى إعادة تأسيس منطلقاته ومحددات الفعل فيه.
تناول الأستاذ العروي في مطلع مقالته «منهج الفكر المغربي المعاصر» أسس المنهج النقدي الذي يرى ضرورة اعتماده عند تقويم البنية الفكرية المغربية والرؤية التي تتحكم في تصوراتها وتمثلاتها، رفعا لكل لبس في التحليل وللتمييز بين مختلف آليات النقد المرتبط بمختلف المجالات الإبداعية. فما يعنيه بنقد الفكر هو ما ينحصر معناه «في إظهار مطابقة أو عدم مطابقة التعبير المعبر عنه زمن التعبير»، وذلك بالتمييز « بين الوعي الجماعي والوعي الفردي» ثم «التخلف في الزمن الذي يعطي بعدا تاريخيا يمكن من تمييز الواقع الجديد عن الواقع القديم، وبالتالي الوعي الجديد عن الوعي بالقديم»، كما قال ماركس؛ « فهمنا للنظام الرأسمالي هو مفتاح فهم النظام الإقطاعي « في شرح المعنى لما يقصده العروي في تحديده لطبيعة المنهج الذي اعتمده في نقد الفكر المغربي المعاصر، للتمييز بين التحليل الوضعي والتحليل التاريخاني الذي يرفض «وجود حقيقة مسبقة لكنه يرفض أيضا الحياد»، لأن « التطور التاريخي لا يتبع وتيرة واحدة»، ولأن لكل مجموعة بشرية سياق تحولها الخاص الذي يحدد حقيقة طبيعة تطورها. وفي تفاصيل المقال يتم عرض حدود تطابق الإيديولوجية وحركية الواقع، وكذا تحول مفهوم الطبيعة في علاقة بالمستجدات المعرفية والاكتشافات العلمية، في ارتباط مع توالي الأحداث والوقائع وما تتركه من مؤثرات في الفرد والجماعة.
هذا المقال كان بمثابة خارطة طريق لما ستعرضه مقالات أعداد المجلة، وما فتحته من آفاق في الإقبال على النشر من طرف العديد من المثقفين بمختلف مشاربهم ،كم من الانتاج الأدبي وحوارات فكرية، شجع على انطلاق مبادرات أخرى اتخذت نفس المنحى فتعددت المنابر الثقافية وأعطت زخما لتوجه فكري وتصور معرفي، ساهم في توسيع آفاق الفعل المجتمعي، كما شكلت دعما قويا لاختيارات سياسية وسط فئات واسعة من الشباب التي انخرطت في بلورة مسار كفاحي لتغيير ملامح الممارسة السياسية وتوسيع مجالات تأثيرها. قابل هذا المد المتميز بنفسه النضالي، الرامي إلى تفتيت بنيات المنطلقات الفكرية والتصورات التقليدية في تشكل العلاقات المجتمعية وتأملات الواقع في كل تفاصيل مكوناته، وجوبه بقمع غير مفهوم كرد فعل على ما استشعرته السلطات الحاكمة، كخطر يهدد أسس بنيتها التقليدية وسلوكها الاستبدادي في تدبير الشأن العام وضبط حركية المجتمع والتحكم في أفراده. ففي فبراير سنة 1984 ، أي بعد ما يقرب من عشر سنوات على إصدار العدد الأول من المجلة، اتخذت السلطات قرار منع نشر وتوزيع مجموعة من المجلات لاحظت أن الاقبال عليها قد تزايد وأنها أصبحت ذات فعالية في فتح آفاق فكر جديد وتصور أكثر واقعية وبعيد عن التبجيل والمغالطات، وقد شمل هذا القرار كلا من الثقافة الجديدة، البديل، الزمن المغربي ومجلة الجسور، وهي منابر شكلت واجهة الصراع الثقافي في مرحلة تميزت بتحولات في سياق التدافع السياسي ومحاولات ضبط الخارطة السياسية بالبلاد وتعميم ثقافة الخنوع والاستسلام. كان الرد المباشر على هذا المنع إصدار يومية «أنوال» ملحقا ثقافيا عبرت من خلاله الجريدة عن استنكارها للقرار الجائر وتضامنها المطلق مع المجلات المقموعة، وفتحت صفحات عددها الأول لمدرائها الأساتذة محمد بنيس وبنسالم حميش، سعيد علوش وعبد الحميد عقار، للتعبير عن ردود فعلهم ضد ما تعرض له مشروعهم الثقافي، وما اعتبروه خرقا للقوانين وكل الأعراف الديمقراطية التي تقر بحرية التعبير وتدافع عن الحق في الاختلاف. لقد كان فعل القرار حسب الشاعر محمد بنيس «اغتيالا لحلم جماعي»، اتسعت دائرة الحالمين وأصبح كابوسا يقظ مضجع الحاكمين، الذين أدركوا أن الفعل الثقافي أداة فاعلة في التغيير والرفع من إيقاع الصراع المجتمعي وتوسيع دائرته، فدفعهم اضطرابهم إلى إصدار قرار بدون حيثيات قانونية أو سند يبرر المنع الذي استهدف سد كل المنافذ على القوى المعارضة وإخضاعها لمنطق التفكير الواحد والقبول بالأمر الواقع. لقد كشف القرار أهمية العمل الثقافي ودوره في تعميم الإدراك بمعيقات التطور وأسسه الفكرية، وما يمكن أن يحدثه من خلخلة في البنيات التقليدية في مواكبة لمختلف التحولات المجتمعية والتطورات الاقتصادية والإنجازات العلمية. فكان لزاما أن يتسع النقاش لتسليط الضوء على العلاقة بين السياسة والثقافة وما يحكم العلاقة بينهما في تلازم وتضاد، فنظمت جريدة «أنوال» ندوة فكرية دعت لها مجموعة من المثقفين من بينهم أساسا مدراء المجلات الممنوعة، وهي الندوة التي نشرت كل تفاصيلها في العدد الخامس من «أنوال الثقافي»، حيث وسع المشاركون في مداخلاتهم ومن مواقعهم المختلفة، في توضيح تداعيات العلاقة بين الثقافي والسياسي، مؤكدين على أهمية الثقافة في تجديد الوعي وتطوير علاقة المواطن بواقعه، وبتوسيع مداركه للملاءمة بين سلوكه والتحولات المجتمعية. وقد اقتضى النقاش البحث العميق حول السياسي والثقافي من زوايا استقلالية المجالات ومواقع الفعل، وفي العلاقة التفاعلية في كل أبعادها الفكرية والمجتمعية، وما تقتضيه من تواصل في حرص تام على احترام دواعي الخصوصية وشروط التكامل.
للتذكير، فإن تجربة مجلة «الثقافة الجديدة» كان وراء تأسيسها مجموعة من المثقفين الفاعلين في الساحة الثقافية في مقدمتهم الشاعر محمد بنيس والقاص المرحوم مصطفى المسناوي والشاعر المرحوم عبد الله راجع والأستاذ الباحث محمد البكري وآخرون.