تقارب الناقدة ومحررة (الكلمة) لوحتين أنجزتا في القرن التاسع عشر، تنتميان للميراث الفني الخاص بالوباء. وفي قراءتها تشير إلى كيفية تعبير الجميل عن قوله، وسياق مرحلته التاريخية، كما تسلط الضوء وفق وجهة نظرها على علاقة كل من اللوحتين مع مفهوم التقدم الذي هيمن على الخطاب الثقافي في القرن المعني.

الوباء و«تقدم» القرن التاسع عشر

أثير محمد على

 

مع هيمنةِ مفهوم «التقدم الخطيّ» نحو الأمام في القرن التاسع عشر الأوروبي، راجَ الخطف خلفاً من قبل الفنانين نحو التاريخ القديم، بحثاً عن مواضيعٍ لمنجزهم الجميل. وأدّى ازدياد العرض والطلب على التصوير التاريخي، في سوق الفن، إلى رسمِ لوحاتٍ بمقاييس كبيرة، بغية عرضها في المؤسسات الأكاديميّة، وتزيين جدران الأبنية الرسميّة التي ترافق إنشاؤها مع التوسع في عمران المدينة الحداثيّة. لكلِّ ذلك أخذ العديد من المبدعين بالتنقيب عن مشهديات تاريخيّة، والبحث عن وقائع دراميّة وميثولوجيّة في الأدبيّات الكلاسكيّة، ومن بين هذه المواضيع تبرز «موضوعة الوباء»، التي اكتسبت أهميّةً خاصة، من حيث قدرتها على مخاطبة حاضر القرن التاسع عشر، وهي تؤكد على مدى التقدم الحاصل، وإن على نحو غير مباشر.

هكذا، فضلاً عن سردية الطامات والجوائح الكبرى في «العهد القديم»، كوّنتْ المدوّنات التاريخيّة مرجعًا هامًا للتصوير، مثل «الحرب البيلوبونيسيّة» للمؤرخ ثوسيديديس، الذي وصّف طاعون أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، وأتى على ذكر «المناعة» لأول مرة في التاريخ. ومن الأساطير والأعمال الأدبيّة المرجعيّة، تحضر كذلك «إلياذة» هوميروس، ومعاناة الإغريق من وباءٍ قاتل، سببه تجرؤ آغاممنون على اتخاذ ابنة كاهن أبولو محظيّةً له؛ بيد أنّ رائعة سوفوكلس «أوديب ملكاً» (429.ق.م)، التي شكّل الوباء، الذي أصاب مدينة طيبة، مكونًا جوهريًّا في بنيتها التراجيديّة، مابرحت تفتن الفنانين، فتكرر إنجاز اللوحات التي تتّكئ عليها وتعيد قراءتها رسمًا، خاصة المشاهد التي يتعالق فيها الوباء مع خطيئة أوديب.

من بين هؤلاء الفنانين أذكر شارل فرانسوا جالابير François Jalabert (1819-1901)، في اللوحة الموسومة «وباء طيبة» (1842م)؛ وفيها قراءة تشكيليّة لمشهد مغادرة أوديب للمدينة، بعد أنْ اكتشف أنّه عِلَّة الطاعون، الأمر الذي أودى به إلى سَمْلِ عينيه والشروع في سبيل النفي الذاتي.

في اللوحة، يُرى أوديب الضرير وهو يشق سبيله إلى منفاه، وسط أبنية المدينة التي كانت يومًا عامرة، يتلمّس دربه مسترشدًا بابنته أنيتغون «المرأة التي لا تتزعزع»، بينما تحيق به اتهامات الجموع، وتحوّطه نظرات الإدانة والانفعالات الهستيريّة الرافضة.

فنياً، اللوحة وفيّة لمبادئ الكلاسيكيّة الجديدة، من حيث محافظتها على التوازن في توزيع الشخوض، ووحدة الموضوع، والتكثيف التراجيدي، خاصة حين موضعة شخصيّة أوديب في مركز الرسم، كما لو أنه يتماهى مع الوباء ذاته، فالوباء هو أوديب والعكس صحيح؛ حتى أنّ البعض من مواطني طيبة يشيحُ الطرف عنه، أو يتطلع إليه بحنق، بل يمكن للمتلقي أنْ يُميِّز في البعدِ الأول، امرأة مع وليدها المَيّت وهي تشير بأصبع الاتهام إليه. وثمّة رجال يسدون أنوفهم التي تزكمها رائحة الوباء الدفراء المرافقة لمرورِ أوديب: قاتل الأبّ، ومنتهك الشريعة بسفاحِ المحارم؛ بينما يتبدّى في التصوير أوديب متشحًا برداءٍ أبيض. لعل الرسام أراد به الإشارة إلى الكفن، وموت أوديب الرمزيّ؛ أو عساه رغب بالإيعاز إلى التطهُّر الأوديبيّ بالبصيرةِ في رحلةِ المنفى الأخير.

بشكلٍ غير مباشر، توعز اللوحة للمتلقي بإجراءِ تقابلٍ بين «التقدم الخطيّ» في حاضر القرن التاسع عشر، مع تقدم أوديب التراجيديّ في حلقةٍ مفرغة؛ فالآن الذي يحاول فيه تجنّب قدره والانزياح عنه، هو الحين الذي يقفُل إليه ويرجع .. من حيث لا يدري ولا يريد!

 

 

ورغم ازدهار لوحات الجوائح التي نهلتْ من الكلاسكيّات، لم يعدم من لجأ إلى مصادر أدبيّة تعود لأزمنة أخرى. ومثالها: لوحة «طاعون ديليان» (1849) للفنان لوي ديفو Louis Duveau (1818-1867).

قبل أنْ يتناول الرسام لوحة «طاعون ديليان»، وإسوة بمعاصريه، كان قَد أنجز لوحته الموسومة "نفي أوديب وأنتيغون من طيبة" (1843)، التي حازتْ على المركز الثاني في جائزة روما آنئذٍ. وفيها تناول اللحظة الفاصلة بين أوديب ملكًا وبين أوديب منفيًّا، وهو يفارق طيبة وسط إدانة أهل المدينة لتسبّبه بالوباء.

بعد لوحة "نفي أوديب وأنتيغون من طيبة"، التي تتوسد الأسطورة العابرة للزمانِ وتساكن التخييل، قفِل الرسام راجعًا إلى وقائع التراث القروسطي في بلدة إليان Elliant الفرنسيّة في القرن الرابع عشر الميلادي، وأعاد ترجمة الجائحة التاريخيّة التي أصابتها إلى لغةٍ بصريّة تشكيليّة بلغية.

تناقلت الذاكرة التاريخيّة الشعبيّة لساكنةِ إليان قصص الوباء الموسوم بـ"الموت الأسود"، أي الطاعون، والهول الذي عاناه الأسلاف؛ حتى أنّ إحدى الأناشيد الشعبيّة، المتناقلة بالتواتر الشفهي حصرتْ عدد الناجين بشخصين فقط، الأمر الذي أخذتْ به اللوحة والتزمت به حرفيّاً. بمعنى أنّ الفنان عاد للتاريخ من خلال أدب الهامش، وعبر أنشودة تسرد بالغناء القول الذي تمخض عن تلك الأيام.

 

 

هكذا، تحتل مساحة الرسم العظمى العربة المألوفة لنقل الحَصيدة، وقد تحولت إلى عربة جنائزيّة قبريّة، تتكدس فوقها جثامين الموتى المخضرّة، وتجرها أمّ مفجوعة في حالة مزرية، وغائبة على الزمان والمكان.

لا يخفى على المتلقي أنّ الوالدة تجرجر عربة الأبناء، ضحايا الوباء، إلى الجبّانة؛ بينما يحاذي القافلة المتقدمة الزوج (الأبّ) وقد أصابه المسّ؛ يترنح ذاهلاً وقد أُسقط من يده، لطالما يحمل قبعة بيمناه، والحذاء الخشبي الذي يحفظ أقدام الفلاح أثناء الشغل من رطوبة الأرض، بيسراه؛ ومع هذه اللفتة الاجتماعيّة يضيف الفنان إلى رعب الوباء، الإشارة إلى ظرف القهر في العمل الريفي في ذلك العصر والأوان الاقطاعي. وهنا يصل الفنان بهذا التفصيل الهامشي إلى جوهر الغروتسك أو الكوميديا السوداء.

اللوحة توحي بمناخ رومانسي، يشدد على حلوليّة المغيب، الرحيل، وأفول اليوم؛ كما لو أنه دنوّ من نهاية العمر، والغياب التام لمرحلة انطوتْ مع الطاعون ... مرحلة كانت تدعى العصور الوسطى.

من خلال المثالين الذين أوردتهما، أخلص إلى أنّ الفنون التشكيليّة، التي أبانتْ قولها حول الوباء بأدواتِها الجماليّة، في القرن التاسع عشر، توسدتْ على الأدب، سواء الكلاسيكي أو التراثي القروسطي، وهي تشدد على «التقدم» الذي اعتقدت أنها تعيشه ... والله أعلم!