تمهيد
الفنّ ميزة أساسيّة تضفي على الحياة بأبعادها المختلفة ألقا لا يمكن مقاومته، وهي بالنسبة إلى المجتمعات والشعوب بمثابة الرصيد الحقيقي الذي تقاس به متانة الثقافة، ولهذا يحاط الفنّان بهالة الفخر، ولا أدلّ على ذلك من استذكارنا -ضمن سياق الاعتداد بالنفس- لمنجز أسلافنا على اختلافه، وهكذا فإنّنا نحتفل بذكرى الشاعر والفنّان مصطفى خريّف المولود في سنة 1909 ضمن كوكبة مبدعين راسخين في الإصلاح والوطنيّة أعني أبا القاسم الشابّي والشيخ الفاضل بن عاشور وعلي الدوعاجي. ولا شكّ أنّ التطرّق إلى موضوع من هذه الشاكلة له أهمّية خاصّة لأنّه يطرح أسئلة كثيرة متّصلة بالكتابة عموما وكتابة الشعر خصوصا سواء على أيّام شاعرنا وفي زمنه أو على أيّامنا نحن، والجامع بينهما أنّ وضع الشاعر لم يكن أبدا في يوم من الأيّام مستقلاّ وحرّا، وإنّما على العكس من ذلك خاضعا خضوعا، وهذا طبيعي لجملة من المؤثّرات تماما كما أنّه -في المفترض- يتيح تأثيرات تكشف عن مداه وتعبيراته ومضامينه ورؤاه. لنقل اليوم إنّ مصطفى خريّف يمنحنا من جديد -تماما كما كان حيّا- فرصة الخوض في الشعر والأدب، أي تلك الكتابة العميقة وذات المغزى وبالغة الخصوصيّة وذات البلاغة التي تتفوّق على مجرّد النظم أو التحبير المفصول عن التأمّل والحساسيّة المرتفعة القيمة، ولكنّ الأهمّ من ذلك هو إقرارنا من البداية أنّ شاعرنا لا يفعل ذلك بمنأى عن محيطه الاجتماعي والثقافي والحضاري في إطار ما يعرف بلعبة التأثّر والتأثير التي يتوقّف عليها ظهور الكاتب أو عدم ظهوره وبقاؤه أو عدم بقائه وحياته أو مماته، إذ أنّ الفنّان ابن بيئته على حدّ عبارة الروائي الألماني الشهير توماس مان بما يعني أنّه في مثال شاعر من طينة شاعرنا لطالما التحم بالواقع وخاض فيه لا مناص -ضمن مقاربة ما- من النظر في التأثيرات كما في المؤثّرات لبناء صورة الشاعر في المحيط الذي هو مجالها الأرحب.
* * *
المؤثّرات
إنّ البحث في المؤثّرات أمر في غاية الأهميّة، فتأصيل النصوص أو منجز الفنّان يستلزم ذلك، فالفنّ عموما والأدب خصوصا ليس ظاهرة آتية من فراغ، وإنّما يمكن ربطها بما يفسّرها ويضيئها ويمنحها خصوصيتها وفرادتها العالية والمؤثّرة، وفي مثال مصطفى خريّف تكتسي مؤثّرات متنوّعة جاذبيّة خاصّة وتمارس إغراء لكلّ دارس، لكنّه من المفيد التذكير أنّ فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية طالت بظلالها حياة الرّجل بكلّ ما حملته من مصيريّة للشعوب المستعمرة، ومنها الشعب التونسي في زمن كان فيه الاستعمار مهيمنا على النفوس والتطلّعات الوطنيّة الحرّة. قد يقال إنّ المكان سرّ تميّز مصطفى خريّف، فقد توزّعت حياته على مكانين لكلّ منهما سماته الفارقة، فكانت ولادته بنفطة بالجريد التونسي وهي بيئة محافظة مفتوحة على الصحراء، ومسيّجة بالأسوار والقرابة الدمويّة والعاطفة الاجتماعيّة القويّة المفعمة بالأنفة والتحدّي، ولكنّه انتقل في ما بعد إلى تونس العاصمة إذ هاجر أبوه الشيخ ابراهيم خريّف إليها سنة 1920، لتشرع الأبواب في الحاضرة المنفتحة على التيّارات والهوامش والحساسيات المختلفة والهائلة. ورغم ذلك لا أعتقد أنّ علاقة المكان بالشاعر محكومة بصرامة المنطق، بحيث يغدو معها المكان مكيّفا لعبارة الشاعر، وهذا يفسح في المجال لاعتقاد آخر مفاده أنّ الشاعر سرّ الأصوات التي أتاحها له المكان، وهذا هو -تحديدا- ما يجعل مرئيّا هذا الظهور اللافت وأكاد أقول المثالي لصوت الشيخ ابراهيم خريّف الذي ارتبط اسمه من الناحية العمليّة بتأسيس أكبر الزوايا في نفطة لقراءة القرآن وإيواء أبناء السبيل نائيا بها عن الشعوذة والتدجيل ممّا شاب زوايا أخرى كثيرة، بل إنّ الرّهان كان فيها على العلوم اللّغويّة والدينيّة، في حين ارتبط اسمه من الناحية المعرفيّة بمخطوط [المنهج السديد في تاريخ أهل الجريد] بما عناه ذلك من تطرّق لتاريخ الجريد وبحث في خفايا مجتمع قوامه العروش، دون أن نتغاضى عن ديوان شعريّ ومقالات في الإصلاح تأثّرت خطى الإصلاحيين الكبار كجمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا. لقد مارس صوت الشيخ ابراهيم خريّف تأثيرا منقطع النظير في وسطه الأسريّ، فجلّ أفرادها مغرم بالأدب والشعر، فالبشير خريّف المولود في سنة 1917 من أشهر كتّاب القصّة القصيرة والرواية في تونس في النصف الثاني من القرن العشرين، ومحمّد الناصر كان محبّا للأدب ومبادرا في مسارات ثقافيّة، وأمّا ابنتاه فكانتا شاعرتين تنظمان الشعر بالعاميّة، وأمّا مصطفى فقد أقبل على الثقافة بأنواعها.لقد وفّر الأب -وفق ما سبق- المهاد الثقافي لمصطفى خريّف الذي منه ولد ذلك الأفق أمام الشاعر، وما كان ليولد ذلك الأفق أصلا لولا الشيخ ابراهيم الذي بنى كتّابا بجانب منزله في نفطة جعل فيه مؤدّبا اختصّ بتعليم أبنائه، وهكذا نشأت روافد نستطيع إجمالها في ثلاثة: أوّلها الرافد اللّغوي وثانيها الرافد الأدبي وثالثها الرافد الفكري الإصلاحي. ولهذا ربّما من الجدير قراءة تجربة شاعرنا كما عرف عند الباحثين من حيث هي تجربة أحد أبناء النخبة في ذلك الزمن، وليس من جهة اتّصالها بالشخصيّة معزولة، لأنّ العصاميّة غير مطروحة بالمرّة، كما أنّ الغربة بمعناها الكبير لا المكاني غير مطروحة في ظلّ الحميميّة المعبّرة عن الالتحام بالناس والعواطف وحبّ الأرض إذ ‘كان المكان المحبّب لسيدي مصطفى هو السقيفة التي تشرف نافذتها على الشارع الرئيسي للقرية، هناك كان يشاهد الغادين والرائحين... ويستمع إلى أغاني الواردات أو الرّاجعين من الواحة، أو يحادث من يجلس إليه من الأهل، وكثيرا ما كان يسبح في غيبوبة صوفيّة... فيأخذ كنّشه ويكتب ما يخطر بباله من أحاديث أو أشعار’(1). وهذا أمر يتوقّف عنده، فقد تميّز مصطفى خريّف بما يمكن أن نسمّيه قوّة الإنصات، وهي القوّة التي تجعل ما حوله مسموعا، ولكنّ أمرا بهذا القدر وهذا النوع لا يكون إلاّ في متناول شخصيّة تملك قبل كلّ شيء حساسيّة مختلفة، تلك هي حساسيّة الفنّان القادر على التفاعل مع محيطه، بل واستنطاقه، ثمّ تلك هي حساسيّة الفنّان الذي ينتقل من بيئة محافظة إلى أخرى منفتحة، فيشتدّ تفاعله مع ما حوله من مشائخ جامع الزيتونة دون أن يمنعه ذلك من التأثّر بتيّار التجديد العالمي من خلال مترجمات الأدب الغربي ممّا قام به الزيّات وطه حسين والعقّاد والمازني، ومن خلال المهجريين المستلهمين للثقافة الغربيّة عبر لغتهم العربيّة. وفي ذلك الخضمّ من التفاعلات في ذلك الزمن الذي لم يكن مهمّا فقط، وإنّما مفترق طرق تتقرّر عنده مصائر شعوب، وتمتحن ضمنه طموحاتها وآمالها في الحرّية بدا الحسّ الاجتماعي بإحالاته الثريّة على أصوات الشابّي والحدّاد والدوعاجي وبيرم التونسي والكبير محمّد علي الحامّي، وكذلك الموروث الحضاري الأندلسي، إذ لا يمكن بحال من الأحوال نسيان أنّ مصطفى خريّف حينما أقام بتونس العاصمة أقام في حاضرة صبغها الأندلسيون بسيماتهم على نحو كبير في الملبس والصناعة والعمارة واللّهجة والمأكل والأدب والفقه، وإلاّ كيف يتسنّى لنا تفسير تلك العلاقة التي جمعت بينه وبين خميّس الترنان أحد أكبر روّاد فنّ المألوف. والغريب في الأمر أنّ اهتمام الدارسين بشاعرنا ترافق -رغم الإشارات والهوامش- مع إغفالهم لأهميّة ما مارسته الأمّ وهي تونسيّة من العاصمة في ذهن ابنها وسلوكه ووعيه، وهي ناحية لو وقع تقصّيها لأبانت عن التأثّر بعامل الثقافة الأندلسيّة التي هي جزء من الثقافة المغربيّة أبهرت الغرب والشرق وأسّست لنفسها مراجع واضحة وراسخة.
* * *
التأثير
من الواضح أنّ مصطفى خريّف شارك بطريقة مميّزة في الشأن الثقافي في النصف الأوّل من القرن العشرين وإلى اليوم، ويستند مثل هذا الإقرار إلى منجزه الأدبي أي الشعري والغنائي والقصصي والفكري الذي تركه لنا، أي تلك المدوّنة المتنوّعة والثريّة التي لم تختصّ بتوجّه أحاديّ رغم غلبة لقب الشاعر على الرجل دون غيره من الألقاب. وهذا -ربّما- ما تبيّنه شهادته على نفسه في مقدّمة ديوانه الأوّل’ الشعاع’ في سنة 1949 إذ قال: [نشأت وتعلّمت على غير نظام، بل كانت حياتي ومشاعري مثالا رائعا للفوضى واجتماع النقائص وائتلاف الأضداد، فلست أصلح أن أكون قدوة على ما أرى](2) هذه شهادة في غاية الشجاعة تقرّبنا إلى شخصيّته التي قلنا سابقا إنّها خاضت في محيطها ولم يقتصر الأمر على مجرّد التعايش، فقد نأى بنفسه عن الادّعاء وبنفسه وقف على حدود تجربته من منظوره الخاص، وأمّا نعته لحياته بالفوضويّة فهو تفسير لتعدّد المسارات التي انطلق فيها بالتوازي مع المتغيّرات الحاصلة من حوله، وهي متغيّرات حضاريّة في حقبة مفصليّة ذات علاقة بجميع المستويات، وما كان لمثقّف كمصطفى خريّف أن يكون على هامشها. وإذا نظرنا إلى مجال الشعر فلا بدّ من ملاحظة عدم إيمانه بالممارسة الشعريّة في إطارها العام حتّى تكون جديرة بتسمية الشعري، ممّا جعله يعارض ‘شعر الزور’ القائم على القول المبتذل والتكلّف، فالشعر عنده ‘لسان القلب’، وهكذا لا يمكنه أن يكون وليد المناسبات، لأنّ ذلك يحيد به عن حقيقته المرتبطة بالتجربة والحياة، وهو لذلك كون له دلالته الكبرى التي تتجاوز ما هو ظرفي ونفعي. ولئن استند الشاعر إلى ثنائيّة الإمتاع والإفادة من ناحية المنظور فقد أراد تصحيح وضع الشعر من الناحية الاجتماعيّة حتّى لا يكون مجرّد ذريعة لنظم الناظمين، وإنّما ليرتقي إلى مرتبة الفضيلة التي تنطوي على عمق وتقوم إلى جانب البيان المتقن الذي من فرط إتقانه يتناسب مع الطبع على الخيال المعجب. وقد استتبع ذلك كلّه إسهام مصطفى خريّف صحبة الشابي والطّاهر الحدّاد وعلي الدوعاجي وسائر أترابه من جماعة تحت السور في النهضة الأدبيّة، ولا شكّ أنّ ذلك اندرج في سياق الحفاظ على قيمة الأدب والحرص على دوره ووظيفته، وقد يقول قائل منطلقا من قول الشاعر: حبّذا الشعر للزمان يسجّل يومك السابق الأغرّ المحج لإنّه لم يكن هناك من غرض في أفق الرّجل غير التسجيل وما يحيل عليه ذلك من مجرّد الوعظ والإرشاد، غير أنّ هذا لا يرتضى لشاعرنا لأنّه رأى دائما إلى المثل الأعلى -بالضبط- من باب السموّ بالنفس وما يتطلّبه ذلك من طاقة الفنّان ومقدرته المتفوّقة كما أقرّ الأستاذ كمال عمران(3). والذي لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا ذلك الصوت الإصلاحيّ، والذي هو عند مصطفى خريّف -ربّما- تعبير عن نظرته إلى الواقع وهوسه به، فالذات الشاعرة عنده لا تستطيع القفز فوق واقعها، وهكذا فإنّه لم يستطع أن يؤدّي عن تجربته بطريقة واحدة أو بأسلوب أحاديّ لأنّه أديب [متعدّد](4) بعبارة الأستاذ مصطفى الكيلاني ممّا جعله يحذّر من قراءته قراءة [مجتزأة قد تؤدّي إلى نتائج مبتسرة إذا لم نبحث في المشترك القائم بين ألوان الكتابة المذكورة](5) ولهذا -تحديدا- اعتبرت في موضع سابق أنّ مدوّنة الرّجل ذات سياقات وميولات وهوامش، لذا فإنّه إذا تجاوزنا شعره الفصيح في ‘الشعاع’ و’شوق وذوق'(6) وكذلك عاميّه وتلك المعارضات كمعارضة ‘ياليل الصبّ’ للحصري بعين الاعتبار نجد إسهامه في مجال الصّحافة المكتوبة والمسموعة، فهو مؤسّس جريدة ‘الدستور’ التي اتّخذها نافذة للنّضال بطريقة ما ضدّ المستعمر الفرنسي، وقد قال في عددها الأوّل: [العنوان الذي اخترناه لها يفصح عنها أتمّ الإفصاح، فالدستور هو رمز الأماني الوطنيّة بأوسع معانيها وأبعد غاياتها، نحمل مع رجال الحزب الدستوري قسطنا في الجهاد ونضرب مع الوطنييّن الأحرار بالسهم المستطاع [هذه الجذوة التي تشير إلى مصطفى خريّف تحضر أيضا في معاركه الداخليّة كما هو الشأن حينما ناصر الطّاهر الحدّاد بعد إصداره لكتابه ‘امرأتنا في الشريعة والمجتمع’، وكان ذلك بيانا لموقفه الدّاعي إلى ضرورة إعادة النظر في الموروث ونقده بما يكشف أنّه كان مسائلا لواقعه وناظرا إلى آفاق مختلفة عن واقع مجتمعه آنذاك الرّازح تحت الاحتلال من ناحية والجهل من ناحية أخرى.
* * *
خاتمة
مهما يكن من أمر فإنّ مصطفى خريّف ظلّ في كلّ الأحوال محافظا على بهرج اجتماعي في لباسه وحضوره بين مجالسيه وظرفه المميّز في مقاهي ‘باب البحر’ و’باريس’ مقاوما لعلله ومرضه الذي لاحقه من الصّغر فلم يرد أبوه الإثقال عليه، وممّا لا شكّ فيه أنّ تعامله مع الفنّان خميّس الترنان والأستاذ صالح المهدي فيه دلالات واضحة على مكانته ووجهه الفنّي ذي الصلة بالموسيقى التقليديّة والمألوف. وحينما نعود إلى الماضي نجد إشادات كثيرة بمصطفى خريّف، منها إعجاب الشيخ الفاضل بن عاشور بمنجزه وتقديره لوطنيّته، ومنها إعجاب الناقد اللّبناني الكبير مارون عبّود محيلا إلى متانة ثقافته، ولكن ما يبقى في البال أنّ الرّجل تميّز بقدرة بالغة على التأمّل استطاع بفضلها أن يمدّ جسورا في اتّجاهات مختلفة من حيث الأسلوب ليعبّرعن توقه إلى السموّ بمجتمعه قبل أن يتوفّى في 11 آذار مارس سنة 1967 مخلّفا وراءه إرث مثقّف يقظ وعنيد.
(كاتب تونسي)
* * *
الهوامش
(1) محي الدين خريّف: صور وذكريات مع مصطفى خريّف، الدار العربيّة للكتاب، 1977.
(2) مصطفى خريّف: مقدّمة ديوان الشعاع، مطبعة المنار، 1949.
(3) كمال عمران: بين أبي القاسم الشابي ومصطفى خريّف (حوار عن الشعر بين المبدعين)، الحياة الثقافيّة التونسيّة، العدد 217 تشرين الثاني نوفمبر 2010.
(4) مصطفى الكيلاني: مصطفى خريّف الأديب المتعدّد، ن. م.
(5) مصطفى الكيلاني: ن الدراسة، ن. م.
(6) مصطفى خريّف: ديوان شوق وذوق، دار الكتب التونسيّة، 1965.