العديد من الموبقات تُرتكب تحت ستار الدين، بدءًا من موجة الإرهاب التي تضرب العالم وتتخذ من نصوص دينية ذريعة لجرائمها ومرورًا بقدسية تُضفي على شخصيّات تتحدث باسم الإله ووصولًا إلى التشبث بقراءات دينية تجافي الواقع ومتغيراته. لتلك الأسباب مجتمعة ولغيرها يصير البحث في الفكر الديني السائد وتفكيك مُسلماته حاجة يفرضها العصر.
عبر سلسلة من الكتابات جاءت بعنوان «متاهات الحقيقة»، عمد الباحث والكاتب الأسترالي من أصل العراقي ماجد الغرباوي إلى مساءلة تلك الأنساق الدينية الراسخة.
يوضح الغرباوي في حديثه مع دورية «الدستور» المصرية أنه عمد من خلال تلك السلسلة إلى «التوغل عميقًا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعاء المُهمّش والمُستبعد من النصوص والروايات، وتكثيف النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطاق دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسلَّماته ويقينياته، والسعي إلى تقديم رؤية مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين.
يأتي كتاب «الفقيه والعقل التراثي» الصادر حديثًا عن «مؤسسة المثقف العربي بأستراليا ودار أمل الجديدة» لتفكيك منطلقات العقل الفقهي القائمة على العديد من المغالطات، في إطار سلسلة كتابات تهدف إلى نقد النسق العقدي المألوف وسلطة القداسة وغيرها الكثير من الموضوعات بدأت بكتاب «الهوية والفعل الحضاري» ثم «مواربات النص».
يقول الغرباوي لـ«الدستور»: السلسلة تنتمي إلى تراكم معرفي امتد لأربعين عامًا، سبقته أسئلة أبت مغادرة الوعي تبحث عن أجوبة تعالج إشكالية التخلف برؤية مغايرة تمارس النقد وتكف عن منطق التبرير، بعيدًا عن رهاب القداسة ويقينيات العقل الدائري.
جهود عدة في الإصلاح والتجديد للفكر الديني لم تؤتِ ثمارها في ظل سطوة العقل التراثي الذي جعل الدين دافعًا باتجاه العنف والإرهاب تارة والخرافة والسحر تارة أخرى، وظل السؤال حول إمكانات النهوض من كبوة أبقت المسلمين في كنف الماضي دون القدرة على مسايرة العصر وإشكالياته مستمرًا مع بقاء اتجاهات إسلامية قابعة في سجون معرفية مرتهنة لسلطة التراث ومنطق العبودية.
ونظرًا لأن الخطوة الأولى لإصلاح تلك الحالة تبدأ من النقد الجذري لمرجعيات التفكير الديني، يسعى الكاتب في هذا الكتاب إلى تفكيك العديد من المقولات التي اكتسبت قدسية على مدار عقود الممارسة الدينية ليشدد عبر ذلك على أهمية بناء معرفة مؤسسة على الدليل والبرهان ومرجعية العقل، وهو ما يمكن من خلاله التغلب على التحديات التي تواجه الدين على صعيد حقوق الإنسان والتطور الحضاري.
يرى «الغرباوي» في كتابه أن ربط الإرادة الإلهية بالمرجعية الدينية للفقيه من أبرز النقاط التي تحتاج إلى مراجعة جادة وجريئة، فالوعي الجمعي للمسلمين احتفظ بصورة مثالية للفقيه، جعلته فوق النقد والمُساءلة باعتباره مصدرًا للمعرفة الدينية وأحكام الشريعة وموضع أسرارها، وأسهم الصراع السياسي في ترسيخ علاقته بالسلطة وتعزيز خطاب رسمي عزز من الالتباس لدى قطاعات جماهيرية بين أحكام الشريعة وأحكام الفقه التي هي اجتهادات ووجهات نظر وفهم للنصوص المقدسة.
ويشير الكاتب إلى أن «الفتوى تجل لوعي الفقيه وانحيازه اللاشعوري لقبلياته ومصالحه، ومن الخطأ وصفها بالموضوعية والتجرد التام بل ولا علاقة لها بالتقوى ومراعاة القواعد العلمية والمنطقية دائمًا، لأن المعرفة البشرية تخضع لنظام اللغة، وآلية اشتغالها داخل فضائه المعرفي، وفهم النص يتأثر بثقافته ومستوى وعيه ويقينياته، لذا يتعين تحري بدايات وعيه ونقد مقولاته التي ترسبت لا شعوريًا ضمن أنساق مضمرة يصعب اكتشافها وتقويضها إلا بالنقد والتفكيك».
تسهم تلك النظرة النقدية لحدود دور الفقيه وعلاقته بالنص الديني في نزع القداسة التي تضفي على مقولات فقهية بالية هي بالأساس انعكاس لاستقبال الفقيه الخاص للنص الدين بما يتماهى مع بيئته الثقافية والاجتماعية، فقد يأتي العقل الفقهي ازدواجيًا في معاييره، أو منغلقًا على نسقه العقدي بما ينتج فقهًا مُستلبًا يفرض قناعاته على النص الديني، ومن هنا تأتي خطورة الانقياد الأعمى للأطروحات الفقهية وإضفاء القداسة عليها.
ويلفت الكاتب إلى أن «التباس القبلي بالفقهي والسياسي بالشرعي الذي كان الفقيه وراءه كان السبب الأساسي وراء تزوير الوعي الديني وتكريس الاستبداد والعبودية والطاعة والانقياد، فالنظام الديني للمسلمين مهما اختلفت صيغه هو حكم ثيوقراطي يكرس سُلطة الحاكم الأعلى ويُحرِّم الخروج عليه ويمنحه سلطات واسعة، وهو نظام ينسجم مع القيم القبلية ويتناغم مع وعي الفرد في نظرته وتقديسه بشيخ العشيرة».
يُشدّد الكاتب على أهمية إعادة النظر في الأحكام المتعلقة بقضايا المرأة والجهاد والقتال، وتحري أسباب العنف وجذوره وكوامنه في الفكر والفقه. فرغم أن الأحكام الشرعية لا تلغي ما دام مصدرها النص القرآني، إلا أنه من الممكن ألا تكون فعلية بسبب عدم فعلية موضوعها فتسقط عن التكليف استنادًا لكون الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق المصالح وليس المفاسد.
ويُبيّن الغرباوي أن «صدقية العقائد التي ظهرت بعد وفاة الرسول تتطلب معرفة ظروف نشأتها ومسارها التاريخي وفلسفتها والأجواء الثقافية والسياسية والدينية والفكرية المحيطة بها، فالعقائد والمفاهيم لم تأت من فراغ بل مهدت لها ضرورات مذهبية وسياسية»، وذلك بهدف نزع قدسية مقولات فقهية جاءت لتحقيق مكاسب وقتيّة لا يمكن أن تكون مطابقة لكل واقع.
وينطلق الكاتب من حديثه في تلك المسألة من خلال نقطة ارتكاز مُحددة، إذ يشير إلى أن ثمة قاعدتين أصوليتين: الأولى حق الطاعة والثانية قُبح العقاب بلا بيان.
تعتقد القاعدة الأولى بشمول الشريعة لكل صغيرة وكبيرة وتسمح للفقيه بتشريع أحكام واسعة النطاق، وتنعدم فيها مساحة الحرية. أما القاعدة الثانية فهي: قبح العقاب بلا بيان، والتي تنطلق من قناعة بأن الحكم الشرعي الصادر عن الله يواكب حركة الإنسان والمجتمع ضمن دور الدين في الحياة، وعليه لا يجوز تقديم الرواية على الآية.
وحسب رأى الكاتب، التعامل مع النص الديني يخضع إما إلى منطق العبودية أو منطق الخلافة. ففي منطق العبودية، تأتي فتاوي الفقهاء مُتخمة بالتحريم والاحتياط الوجوبي بما يختزل دور الإنسان بالفتنة والاختبار ويقتصر فيه دور الفرد على تطبيق الأحكام الشرعية وسلبه حرية الحركة خارج ما هو مشرع منها، في اتجاه يضع النص فوق العقل ولا يؤمن بأي فلسفة وراء الأحكام الشرعية.
في مقابل منطق العبودية، هناك منطق الخلافة الذي يختلف في رؤيته للإنسان والدين وأحكام الشريعة، فيعزز من مركزية الإنسان ودوره في استخلاف الأرض، وتأتي الغاية من تشريع الأحكام وفق هذا الاتجاه لتحقيق مصالح الاجتماع البشري وليس لقياس درجة طاعة الإنسان ومستوى عبوديته.
وانطلاقًا من تلك الرؤية، يشير الكاتب إلى أن معالجة «روح العبودية» سيحد من تضخم الفتاوي والأحكام، «فما جاء في القرآن من تشريعات تكفي حاجة الإنسان ليواصل حياته اعتمادًا على عقله وقيمه ومبادئه الإنسانية التي تحفظ له كرامته وتحقق شروطه الحياتية، فهو فهم مختلف لا يسمح بتضخم الأحكام الشرعية، لكن الفقهاء لم يلتزموا به لأنه لا يحقق سلطتهم ومركزيتهم، فالأحكام الشرعية الزائدة عما هو مدون في الكتاب الكريم مشكوك في حجيتها وشرعيتها ما لم يكن لها جذر قرآني، وعند الشك فالأصل حاكم وهو الأحكام الشرعية القرآنية».
وفي إطار نقده الأحكام المُطلقة التي ترسخها فتاوي دينية بالية، يتحدث الكاتب عن كثير من نقاط الالتباس المتعلقة بالسنة النبوية ليشدد على أن الشرط في حجية السنة هو وجود جذر قرآني للحكم النبوية، وهو ما يفترض توظيف مناهج حديثة في دراسة حيثيات الحكم الشرعي قرآنيًا وتفكيك المنهج النبوي في التفصيل والبيان لمعرفة خلفياته ودوافعه والكشف عن بشريته.
ورغم أن «علم الجرح والتعديل» في السنة جاء لتدارك الضعف في فرز الأحاديث وتمييزها، فإن الكاتب يرى أنه كرّس الاستبداد السياسي والديني وتمت صياغته بما يخدم الفرق الدينية المتصارعة، ومن ثم جرى أدلجته بما يوافق رؤية الفقيه وأهدافه السياسية، ولكن في الآن ذاته ثمة حاجة لدراسة الأحكام النبوية ذات الجذر القرآني ومعرفة دوافعها وضروراتها.
ويوضح: «ثمة ضرورات موضوعية لتجديد مناهج علوم الحديث تفرضها نظرة مغايرة للدين تحد من إطلاقات الأحكام عندما ترتهن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وهذه الضرورات هي عدم الاعتناء بحديث يخالف العقل والمنطق والقوانين الكونية والقيم الإنسانية أو يُكرّس الظلم والاستبداد والاستهانة بالإنسان وعقله ووعيه أو يؤسس لمذاهب تنأى عن هدف الدين».
ويشدد «الغرباوي» على أن علوم الحديث «لا يمكن التعويل عليها مطلقًا»، لا سيّما بعد أن اختلف المسلمون حول القيم العلمية لأحاديث الصحاح وحول عدالة أو وثاقة عدد كبير من الرواة وشروط التحديث، فضلًا عن تسقيط بعض الرواة لأسباب طائفية، «فحينما تتحكم منطلقات الفقيه الأصولية والفقهية بهذا العلم وتتأثر بخلفيته العقيدية فلا يمكن الاعتماد عليه في جميع الأحوال، مما يبعث الريبة في قيمته المعرفية».
(نقلا عن صحيفة الدستور المصرية)