"وهكذا، فإنني في النهاية لم أرَ سبستيان، أو على الأقل، لم أره حياً. ولكن تلك اللحظات التي أمضيتها وأنا أستمع إلى ما ظننته أنفاسه قد غيّرت حياتي كلياً، تماماً كما كانت لتتغير لو تسنّى لي الحديث إليه قبل موته. أيّاً كان سرّه، فقد تعلّمتُ سرّاً أيضاً، وهو: أن الروح ليست إلا وسيلة للكينونة- وليست حالة ثابتة، وأنه يمكن لأيّ روح أن تكون روحك، في حال عثرْتَ على دروب روحك المتعرجة واتبعتها. قد تكون الآخرة هي القدرة الكاملة على عيشنا بوعي في أيّ روح نختارها، في عديدها إن أردنا، عديد الأرواح اللاواعية لعبثها القابل للتبادل".
بعد شهرين على وفاة الروائي الشهير سبستيان نايت، يشرع أخوه في رواية سيرته الذاتية، ويمتزج على لسان من يستعرضون تفاصيل حياته الحقيقي بالزائف (على لسان شخصية غودمان) في تتبع حثيث للتاريخ الخاص والحميم لشخصية خارجة عن المألوف.
من كان سبستيان نايت؟ الكاتب المرموق، العبثي ذو الموهبة الصارخة، أم الرجل الحامل لصندوق من الأسرار وقد ألهب الحبّ كيانه في مغامرتين غريبتين؟ في «حياة سبستيان نايت الحقيقية» (1941) لفلاديمير نابوكوف (١٨٩٩-١٩٧٧) التي صدرت ترجمتها العربية أخيراً عن «منشورات الجمل» (ترجمة حنان يمق)، نحن أمام تحريات «وجودية» تحبسُ الأنفاس: الرواية الأولى التي كتبها نابوكوف بالإنكليزية تمثل تأملاً مريراً في استحالة معرفة الحياة الحقيقية لكائن ما، ولو جمعتنا به قرابة الدم. عام ١٩٣٦، وبعد وفاة أخيه الكاتب عن عمر ٣٦ عاماً، يتصدى الأخ غير الشقيق ذو الأصول الروسية للتنقيب في سيرة أخيه بالتركيز على محورين: النساء والكتب في حياة الراحل: أن يستعيد تجارب الحب بحذافيرها، وأن يروي كتبه ويضع نفسه في الحالة الذهنية والروحية التي كتب فيها الراحل العبثي مؤلفاته كلّها، ولا سيما الكتاب الأخير: إنه كتاب يخصصه سبستيان للموت حيث الشخصية الرئيسية تحتضر ويكون الكتاب بأسره ديكوراً لخطوات هذا الاحتضار.
بين هذين القطبين يتأرجح خيط السرد على إيقاع هادئ: الرواية الوحيدة التي لم يضمّنها نابوكوف مقدمة صغيرة تمسك بيد القارئ ضمن أعماله الروائية الكاملة الصادرة بطبعة «البليياد» المرموقة لا تخلو من السحر النثري لصاحب «العين» و«آدا»: يطعّم نابوكوف بعض فصول الرواية بضربات سريالية يقوم فيها برواية أحلام شخصياته بطريقة عجيبة تسحب القارئ إلى عالم فانتازي وغريب يمتزج فيه البشر بالأشياء، ويشكلان مزيجاً متنافراً وعجيباً يصعب تأويله. وينتقل بالقارئ في لعبة أشبه بالمرايا المتقابلة بين حقيقة تأخذ شكل الحلم والعكس صحيح، إضافة إلى الأقنعة التي تلبسها الشخصيات، كقناع الذئب الذي يضعه سباستيان مرة أثناء قراءة أعماله، كأن مقاربة الواقع تتم بتعدد الصور والأقنعة، وبأخذ تفاصيل واقعية من حياة الكاتب وضخّها في حيوات شخصياته المختلفة. الإشكالية المركزية التي تطرحها الرواية تنطلق من الشغف والإعجاب الذي يحمله بطلها لأخيه لتطرح السؤال حول إمكانية التنقيب عن سيرة مغايرة لشخصية أدبية، وإمكانية معارضة سيرة معروفة بأخرى يتقدم فيها المكبوت على المُعلن، والخيالي على الواقعي، والكومبارس على الرئيسي، والسؤال الآخر هو لماذا كتابة سيرة شخص آخر: لنتقمص وجوده بكل تفاصيله أم لثبيت وجودنا بحدّ ذاته؟ وهل جملة الراوي الأخيرة يمكن أن تجيب عن الأسئلة الصعبة، أم تزيدها تعقيداً: «سيبقى قناع سبستيان مثبتاً فوق وجهي، لا شيء سيلغي الشبه بيننا، أنا سبستيان أو ربما سبستيان أنا، أو ربما نكون، أنا وهو، شخصاً آخر، لا يعرفه أي منا؟».
لا يمكن قراءة «حياة سبستيان نايت الحقيقية» بمعزل عن حياة نابوكوف نفسه. لكن هل يمكن العثور على سيرة حقيقية لصاحب «لوليتا»؟ خيط أريان في هذه السيرة سنمسكه بأيدينا استناداً إلى ما قاله نابوكوف في إحدى مقابلاته: «لقد لاحظت غالباً أنني حين أحدّد شخصيات رواياتي، فإن تفصيلاً معيناً من حياتي الماضية كنت قد حفظته بحرص في الذاكرة يشحُبُ في العالم الزائف الذي أضعه فيه بغتة. يأخذ التفصيل بعدها مكاناً متأخراً في ذهني، وينتهي بأن يفقد حرارته الشخصية وجاذبيته الأنطولوجية، ليتماهى بعدها بسرعة مع الرواية أكثر مما يتماهى مع أناي الداخلية، حيث كان محفوظاً بعيداً عن تدخّل الفنان، [...] ينتفض في داخلي الإنسان على الروائي».
يولد سيباستيان نايت في السنة نفسها التي ولد فيها نابوكوف (١٨٩٩)، ويصف تجارب حب شبيهة بما خاضه نابوكوف في عمر المراهقة وفي عقده الثلاثين مع حسناء روسية. أما العلاقة بين الأخوين، فلا بد أن «التفصيل الشاحب» له علاقة بالعلاقة المعقدة بين نابوكوف (الذي ربما هو الراوي فيكتور في الرواية) وأخيه الأكبر سيرغي الموسيقي والمثلي، وحيث تظهر العلاقة المعقدة مع الوطن الأم، روسيا، كما عاشها نابوكوف تماماً على لسان سباستيان: «لقد ولدت في بلد، حيث فكرة الحرية، مفهوم الحق وطباع الخير البشرية كانت أموراً محتقرة ببرود ومحظورة بوحشية. على مرّ التاريخ، كانت حكومة منافقة، بين الحين والآخر ترسم فوق جدران سجن الأمة ظلالاً صفراء جميلة وتعلن بصوت عالٍ عن منح الحقوق المعروفة لأبنائها الأسعد في العالم، ولكن لم يتمتع بتلك إلا السجانون أو أولئك الذين يمارسون الفساد سرّاً [...]، إنه أيها السادة بلد مظلم، بقعة من السعير، وإن كان هنالك من الحياة ما أنا واثق منه، فهو أنني لن أستبدل يوماً حرية منفاي بالزيف والخساسة التي وصل إليها وطني»، إضافة إلى معاناة سباستيان المغترب مع الإنكليزية (كانت الرواية أول أعمال نابوكوف بهذه اللغة). ولا يفوت نابوكوف في طيات الرواية أن يهاجم نظرية فرويد في الجنس الذي وصفه يوماً بـ «دجال فيينا»: «السماح لفكرة الجنسانية- إن كان حقاً ما يسمى بذلك- أن تغزو وتفسر كل شيء، لهو خطأ منطقي فادح، إن تكسّر موجة فوق الشاطئ لا يمكن أن يفسر كلّه، من قمره إلى ثعبانه». ولكن هل يمكن قراءة «لوليتا»، العمل الأبرز لنابوكوف بمعزل عن هذه الجنسانية، هو الذي عشق ايرينا وتزوج فيرا؟ في «حياة سبستيان نايت الحقيقية» يأخذنا الكاتب المهووس بالفراشات في لعبة المرايا إلى مداها الأقصى، يحضر سؤال أشبه بجدلية الفراشة والضوء، أيهما يصفي حسابه مع الآخر: الكتابة أم الحياة؟
جريدة الأخبار اللبنانية