أجمل ما في هذه المجموعة القصصية، أن بساطة الحكي تكشف عن لعبة تناقضات مدهشة ومعقدة، هى فى الحقيقة تناقضاتنا الداخلية، وتناقضات كل البشر، أساس اللعبة التحولات السريعة، واختلاف القول عن الفعل، والداخل عن الخارج، ورغم هذا الكشف، الذى لا يخلو من سخرية ضمنية أو واضحة، فإن القصص تبتعد عن الحكم والإدانة، بل لعلها تتعاطف مع هذا الإنسان العجيب المتحول، الحائر بين أحلامه الخارقة، وقدراته المحدودة، وواقعه المادى الملموس.
هانى عبدالمريد، وهو أيضا روائى بارع، نجح فى هذه المجموعة القصصية التي تحمل اسم «من شرفة بيتهوفن»، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، أن يختبر البشر فى مواقف متنوعة للغاية، وأن يرصد التحولات بكل تفاصيلها، وعلى قدر بساطة الحواديت، وتكثيف سطور القصة، فإن الأسئلة حاضرة، وقانون الرحلة هو نفسه العبارة التى تتصدر المجموعة لجورج أورويل، يقول فيها: «هل خطر ببالكم يوما أن داخل كل رجل بدين رجل نحيف؟».
المعنى أن أبطال القصص عنوان تناقضات وصراعات أعمق من بساطة الحواديت، وأن المسافة تظل هائلة بين القدرة والرغبة، بين ما نريده، وما ننتهى إليه، بل إن النقص الإنسانى، والمناطق الرمادية الغريبة التى يختبرها عبدالمريد، لها جمالها وتفردها، إنها دليل ثراء وحيوية، وموضع تأمل ومحاولة، وهى التى تمنح المجموعة حيويتها وتنوعها، من الناحية الفنية أيضا، يصبح من الصعب أن تتوقع نهاية قصة، وكأن اللعبة حافلة بالمفاجآت، مستمرة، وعجيبة، وغير متوقعة، حتى لأبطالهم أنفسهم.
هذا الخمسينى الذى يعانى من ضغط الغضروف على العصب، والذى يهدده ضعف وصول الدم إلى شرايين مخه، تأسرة شامة فى عنق فتاة داخل الميكروباص، تتلخص أحلامه فى أن يقبل الشامة مهما كانت النتائج، كيف يجتمع الخطر والمغامرة فى لحظة؟ وكيف تخرج لحظة نشوة من قلب حصار الموت؟
وهذا اللص دخل ليسرق، فأسرته المكتبة والكتب، وصار يشبه صاحب المكان العجوز، وهذا الكابتن المعتزل، قرر أن ينسى تسامحه، وأن يدافع عن كرامته الكروية فى مواجهة طفل فقير يلعب فى الشارع، وهذا الحالم ببطولة الرماية، مستعد أن يتحقق حتى لو كان الثمن ضحية عابرة للطريق.
هذا العائش فى أبحاثه العلمية غير المجدية، غريب الأطوار والاسم، يصل أخيرا إلى حل يجذب أهل القرية، ويحميه من لقب مجنون، وهذا الباحث يصنع إنسانا جديدا من بقايا جثث بشرية، الإنسان الجديد يصبح مستقلا وحكيما، يضع صانعه فى مأزق، التناقضات تنتقل من الصانع إلى المصنوع، والدائرة بلا نهاية.
بطل آخر يكتشف خطأ فى رواية، لا يراه مشكلة، بل يعتبر أن فى النقص جمالا، أما كاتبة الرواية فهى خائفة من الفضح، تريد كمالا لا وجود له، تريد الستر والتغطية، ورجل عجوز فى نفس القصة مازال يحلم بالجسد، مازال يسمع الأغانى، ومازال جزءا من الحياة، رغم رحيل الأحباب.
الإنسان فى هذه الرواية مثقل بإحساس قديم بالذنب، يتجسد فى صورة جثة العم ونظرته التى لا تموت، مثقل أيضا بقيود الواقع، مثل الأبناء الثلاثة الذين تركوا قبر والدهم بعد دفنه، ومثقل كذلك بهيئته وشروط الحياة، مثل السقا الأخرس الذى يكتب الشعر، ومثل قصة لعبة الصمت بين أفراد الأسرة، التى صارت عنوانا على حياتهم المشتركة. ومثل حكاية ساحر القبيلة، الذى انحدر به الحال، فصار مهرجا، يطلب إعجاب المجتمع، بعد أن انكشف السحر، وبعد أن طاله التهميش.
مطاردون نحن دائما بأسئلة الموهبة والكهنوت والميلاد الجديد، حتى لحظات السقوط المروعة، نحاول أن نصنع منها أسطورة وحكاية، هل نسقط مثل حجر أم مثل ورقة شجر؟ معظم القصص لا تحمل الشخصيات فيها أسماء، وبعضها يكثف تاريخ البشرية مع قيودها فى سطور مدهشة، يولد الكهنوت، فيتمرد الإنسان بالشعر، لا تصل العبارة، بكل دلالاتها، فيصنع المنتظرون حياة كاملة على الأرض، ويؤجل فعل العبور من الشاطئ إلى الشاطئ الآخر، بكل دلالته، إنحيازا إلى صناعة الحياة.
من يكتب حكاية لا يموت، وهذه الحكايات تتأمل البشر، وتوظف الحواديت لصالح المعنى، سخريتها نابعة من تبدل المواقع، وتغير الأحوال، أو من قوة الجماعة فى مواجهة الفرد، أو من صعوبة الهدف فى مقابل ضعف الإمكانية، حتى لو ظهر كائن إنسانى جديد، سيكون مستودعا للتناقضات.
ومثل الذى أطلق عليه الرصاص، فصار راويا لحكايته، سنعيش أطول بفضل الحدوتة، وسنجد دوما من يكتب عنا بينما هو يكتب عنهم، وعن نفسه، فطوبى لمن ذهب ليسرق، فقرأ وعرف.
جريدة الشروق المصرية