(1)
عن الأمومة والعنف
أقول: «أنت لن تهزميني
لن أكون بيضة لتشرخيها
في هرولتك نحو العالم،
جسر مشاة تعبرينه
في الطريق إلى حياتك
أنا سأدافع عن نفسي« 1
المقطع السابق من قصيدة للشاعرة البولندية أنّا سوير (١٩٠٩-١٩٨٤)، تتحدث فيه إلى ابنتها المولودة للتو. لكن القصيدة نشرت لأول مرة في بداية السبعينيات، أي بعد خبرة الولادة بثلاثين عاماً على الأقل - إذا أخذنا في الاعتبار سيرة حياة الشاعرة. من الصعب ألّا نتساءل كقراء: هل احتاجت سوير لكل هذه السنوات لتربي غضباً ما تجاه مولودتها، لتعيد استرجاع أو تطوير هذا الغضب في قصيدة عنوانها «أمومة»، حيث تصل المولودة لتهدد حياة الأم ووجودها؟
عمق ما أمسكت به سوير ليس في تعميم الصراع بين الأم ومولودها - إنه ليس صراع ملكية ولا جندر ولا أجيال - بل في ربطه بالولادة كعملية بيولوجية يشترك فيها كائن عاش وتكوّن وقام باختيارات ما تخص وجوده قبل لحظة الولادة، وهذا الصغير؛ الدمية الذي خرج للحياة من أحشاء الكائن الأول لتوه.
يخرج هذا الصراع بين الأم ومولودها على الأرشيف الإنساني العام؛ حيث الأمومة عادة عطاء، تماهٍ بين ذاتين، حب لامحدود وغير مشروط. كأن قصيدة سوير تجعلنا نفكر في أمومتين: أمومة المتن - الذي تكوّن عبر الخطابات الدينية والفلسفات والأخلاق والقيم الاجتماعية المقبولة - حيث يُنظر إلى الأمومة كفطرة إنسانية محمية بشكل طبيعي من الصراعات والتوتر، وأمومة في الهامش قد تجد شظاياها السردية في بعض كتب الطب والنصوص الأدبية وقصص الجرائم الأسريّة، وحيث هناك أصوات متفرقة تحاول التعبير عبر المرض النفسي أو الكتابة أو الجريمة عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها.
ما يشغلني هنا ليس كيف استقرت ملامح محددة للأمومة داخل المتن العام، ولكن كيف ننصت إلى ما يخرج عليه ويعارضه. كيف يمكن أن ندرك أن الأمومة الموسومة بالإيثار والتضحية تنطوي أيضاً على الأنانية وعلى شعور عميق بالذنب. كيف يمكن أن نراها في بعض أوجهها صراع وجود، توتراً بين ذات وأخرى، وخبرة اتصال وانفصال تتم في أكثر من عتبة مثل الولادة والفطام والموت.
مثالية الأمومة في المتن الثقافي العام تسبب مزيداً من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكون في كنه هذه المثالية داخل خبرتهم الشخصيّة. إنها تُقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقية واجتماعية، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه. ربما لهذا أيضاً احتاجت سوير إلى عقود لتتحرر فيها من قول ما هو متوقع منها، وهو ما لم يكن ليحدث في كل الأحوال بدون جهود شتى وسعت التساؤلات النسوية عن كل ما تم تعميمه وتنميطه في علاقة المرأة بجسدها وبالعالم.
شرخ الأمومة يبدأ من الداخل
ترفض الأم أن تكون بيضة يشرخها المولود في طريقه لحياته. يكمن هنا رعب التهديد وجديته؛ لحظة ولادة شخص جديد تتطلب موت كائن آخر، موت السابق شرط لا غنى عنه لكي يحصل الجديد على مجال لحياته كما يرى جورج باتاي.2 كأن ما يراه باتاي الجانب الساحر في مأساة الحياة هو نفسه ما تراه سوير تهديداً بالفناء، الجانب المأساوي في أكثر لحظات الحياة سحراً. في الحالتين، يبدأ شرخ الأمومة من الداخل.
في كتابه «الجين الأناني»، يصف ريتشارد داوكنز الحروب اللانهائية التي على الجين أن ينتصر فيها من أجل الحفاظ على النوع. البقاء ليس للأصلح فقط بل للأكثر أنانية وقدرة على كسب معركة الوجود ضد الجينات الأخرى.
لا توجد تضحية بلا هدف؛ إنكار الذات عند داوكنز هو طريقة للحفاظ على الجينات، الاستثمار في الجين مرهون بإثبات قدرته على الاستمرار وحده بعد ذلك.3 يأخذ الجنين نصف جيناته من الأم، ويعتمد عليها في كل ما يحتاج ليعيش، حتى لو كان ما يحتاجه ضد مصلحتها. طريقة الجنين المبرمجة على الأنانية تُسخّر جينات الأم وتجعلها تنكر ذاتها من أجله عبر «الحب». إذا تخيلنا أن رغبة امرأة في أن تكون أماً لا تخلو من رغبتها الفردية في أن يكون هناك امتداد لها، صورة منها، أن تترك أثراً منها في الحياة بعد موتها؛ فإن الحب والإيثار والتضحية مشاعر أمومية لا تخلو من حب الذات ومن أنانية الأم نفسها.
بنفس الدرجة، يمدنا أي وصف طبيّ لعمليّة الحمل والولادة بمجازات عديدة عن التهديد والصراع والانتقاء والاستثمار والخطر؛ يدافع الرحم عن نفسه ضد الجنين الضار، يزداد جداره سُمكاً وهذا ما يؤدي إلى الحيض، إنها الوسيلة التي يختبر بها جسد الأم صلاحية الجنين حتى يقبل باستمراريته. على جسد الأم أن يتأكد أن الحمل هو استثمار جيد للمستقبل. ستتكون المشيمة إذا كسب الجنين معركته، لكن في نفس الوقت لا بدّ من تكوّن غشاء رقيق يفصل دم الأم عن دم الجنين، الانفصال لا التماهي هو شرط النجاة لكليهما.
يحمل الحبل السرّي الغذاء والأكسجين من الأم لجنينها والفضلات من الجنين لأمه، ولكن خلال نقل ما هو ضروري من أجل الاكتمال، قد تنتقل الأمراض من الأم إلى ما تحمله. بيولوجياً، الجنين غريب داخل جسد أمه، كائن طفيلي، وقد يصيبها أيضاً بعدد كبير من الأمراض عبر وجوده داخلها كما قد يتسبب في موتها قبل أو أثناء أو بعد الولادة.
هذا الصراع الذي يحدث على المستوى البيولوجي لا يمكن أن نتوقع اختفاءه من العلاقة بين الأم وطفلها بعد الولادة. إنه الصراع الذي قد يجعل في كل تضحية من الأم تجاه طفلها شعوراً ملتبساً بالتهديد، وفي كل ممارسة منها في حب ذاتها شعوراً عميقاً بالذنب.
أشار ابني إلى تمثال ضخم يتواجه على قاعدته تمساح وسمكة قرش ثم سأل:
«إذا تعارك التمساح مع سمكة القرش، من سينتصر؟»
»لا أعرف، من سينتصر في رأيك؟«
»الديناصور طبعاً!«
الذنب
إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها فلن ينتصر أحدهما، سينتصر الديناصور «طبعاً»؛ إنه «الذنب».
يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن.4 إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوة والحب والعمل والصداقة، هو أيضاً نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية.
إنه شعور جوهري حتى إنه يصلح كتعريف لممارسات الأم في حياتها اليومية: ابنك وزنه أقل من معدّل وزن من هم في عمره، لا بدّ أنك لا تطعمينه ما يكفي. لقد استيقظ فزعاً من كابوس لأنه لا يشعر بالأمان. أنتِ لم تحضنيه أمام باب المدرسة لأنك كنت متأخرة عن عملك. أنتِ لم تتعلمي التزحلق على الجليد ورغم أنكِ تذهبين معه وتقفين في طابور في درجة حرارة عدة عشرات تحت الصفر فلن تستطيعي مساعدته في انتعال هذا الحذاء العجيب وسيذهب في النهاية للتزحلق وحده بينما أنتِ تجلسين في المقهى تقرأين كتاباً في انتظاره. أنت امرأة متعكرة المزاج في الصباح ومشغولة البال في المساء. الأمهات الأخريات يستمتعن بلعب الشطرنج ويحفظن الكثير من أغاني الأطفال.
الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك في لحظة الولادة وشقّ صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حرّرها من هويّتها السابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تماماً كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوّة.
لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، ولا بتمزق المرأة الحديثة بين العمل والأمومة، بل ينبثق أحياناً من نموذج مثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حب وحماية واستثمار في الوقت والتعليم… إلخ. قد يأتي أيضاً من التاريخ الشخصي السابق على الأمومة.5
بمجرد تأكدي من الحمل الذي أردته بكامل إرادتي، لم أشعر بالفرح الذي توقعته؛ سيطر عليّ طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة. كنت في الثانية والثلاثين، واكتشفتُ فجأة أنني لم أهتم بصحتي قطّ؛ كان الجسد مجرد وعاء لما أظنه نفسي، آلة لا تطالب بشيء ومع ذلك من المنتظر منها الاستمرار في الخدمة. كنت قد بدأت التدخين بشراهة قبل عشر سنوات، عشت نمط حياة شبه بوهيميّ، حيث لا يحتاج الجسد إلى وجبات منتظمة، ولا إلى ساعات محددة من النوم. هذا، بالإضافة إلى تاريخ من أدوية الاكتئاب والمنومات والمسكنات وغيرها مما وصلت إليه يداي.
هذا هو تاريخ جسدي قبل الحمل، أما بمجرد حدوثه، فقد ظهرت مؤسسات شتى تعمل ليل نهار على تنويري بكل المخاطر الممكنة التي قد يسببها هذا التاريخ الشخصي للجنين. الشعور بالذنب كان أسبق في أمومتي من كل المشاعر الأخرى.
كلمت أبي في صباح أحد أيام الشهر الثالث من الحمل، سألته إذا كنت قد أُصِبتُ وأنا طفلة بالحصبة الألمانية. قال لي: «أنتِ لم تصابي بالحصبة التي نعرفها ولكن ما هي الحصبة الألمانية؟»، لم أكن أعرف في الحقيقة إذا كنا نتكلم عن حصبتين مختلفتين. كل ما حدث أنني قرأت في الليلة السابقة عن مخاطر إصابة الأم بالحصبة الألمانية، وكيف أن العدوى يمكن أن تنتقل إلى الجنين وتؤدي إلى ولادة طفل أبكم أو أعمى أو بتشوهات في القلب والجهاز العصبي.
لم يخطر ببالي أني سأختلف مع أبي على المصطلح الطبي. سألته إذا كان من الممكن أن يحصل على تقرير من الوحدة الصحية التي نتبعها بكل التطعيمات التي حصلت عليها كطفلة. ردّ أبي ببساطة أن الوحدة التي كنا نتبعها حتى نهاية السبعينيات تم هدمها وأنه رأى بأم عينيه كيف تم حرق كل الملفات التي كانت بها قبل الانتقال لمبنى آخر.
مع وضد المؤسسات
ربما مر ببالي أن عدم قراءة كل هذه المعلومات عن الحصبة الألمانية أكثر رحمة من معرفتها، أن المعرفة الدقيقة باب للرعب والكوابيس، بينما المؤسسة الوحيدة التي كان يمكن أن تطمئنني، اختفت. جسد بلا تاريخ طبي موثق يواجه ثورة الطب الحديث التي تُسائل وتستشرف مستقبله من تاريخ أمراضه وتطعيماته.
لا تستطيع المرأة الحديثة أن تنعم بالسكينة وهي محاصرة بمعرفة ما يحدث في جسدها الحامل يوماً بيوم؛ الطبيبة ومنشورات مكتب الصحة وكتب الإرشادات التي تقول لها ماذا تأكل وكيف يجب أن تشعر وما هي معدّلات زيادة الوزن التي ستمر بها في كل مرحلة وتقارير طبيّة تصف لها ما تشعر به من غثيان وأحلام غريبة في الشهور الأولى، أو آلام الظهر وازدياد مرات التبول في الشهور الأخيرة. الأكثر من ذلك؛ جبل من الكتب المطبوعة والمواقع الطبية المتخصصة على الإنترنت تحذّر من الكوارث التي من الممكن أن تمر بها هي ومن في بطنها؛ من الإجهاض إلى الولادة المبكرة، من تسمم الحمل إلى تشوهات الجنين، من جدري الماء إلى احتمالات إنجاب طفل معوق أو مشوه أو مصاب بعيوب خلقيّة.
هل تقف مؤسسات الطب الحديثة بين الأم وجنينها؟ هل قصدت من القصة السابقة أن معرفة مخاطر الحمل تسبب الكثير من التوتر لا الأمان الذي قد يأتي من الجهل بهذه المخاطر؟ هناك كتابات مهمة تنتقد دور مؤسسات الطب والطفولة والأمومة في الغرب،5 لكني في الحقيقة لا أستطيع أن أتبنى نفس الموقف في«نقد» هذه المؤسسات، من دون الاعتراف بأن هذا التبني في حالتي ستنقصه الأصالة. طبقاً لمنظمة الصحة العالمية، هناك ما بين ٢٥٠ ألف و٣٤٣ ألف امرأة تموت سنوياً خلال تعقيدات الحمل والولادة و٩٩٪ من هذا العدد يموت فيما يسمى بالعالم الثالث.6
أنا مررت بتجربة الحمل والولادة في العالم الأول، وتمتعت بآخر إنجازاته الطبيّة، ولكنني في الأصل أنتمي لما يسمى بالعالم الثالث. موقفي من مؤسسات الطب والطفولة والأمومة شائك ولصيق بخبرتي في العالمين. عرفت في طفولتي نساء مُتن أثناء الولادة، يمكنني أن أحكي قصصاً كثيرة عن ذلك، ولكن، لماذا نذهب بعيداً؟ يكفي أن أقول إن أمي نفسها ماتت في سن السابعة والعشرين بعد عدة ساعات من ولادة طفل ميت، أو إنه لم تكن في متناول يدها كتب لتقرأها فتعرف أنّ سكون الجنين لعدة أيام في الشهر التاسع علامة خطر، أو إن المستشفى التي ذهبت إليها لم تكن قادرة على إنقاذها.
أمي التي ماتت في سبعينيات القرن العشرين، مثال نموذجي لكثير من نساء العالم الثالث إلى اليوم، نساء يلدن - للحظ السيء في لحظة يتعرض فيها الطب التقليدي والتبادل الشفوي للخبرات لانقطاع واضطراب بسبب الحداثة، بينما لا تتوفر لهن مؤسسات طبيّة تستطيع أن تقوم بهذا الدور بسبب تعثّر نفس الحداثة.
ولدت ابني الأول في كندا، بعيداً عن الأهل وفي شبه عزلة حيث كنت قد وصلت إليها منذ شهور فقط وليس لي فيها أصدقاء بعد، لكن كانت هناك الرعاية الكاملة من المؤسسات الطبية. أثناء زيارة روتينية للطبيبة، قالت لي بجدية إنها تشتبه في إصابتي باكتئاب ما بعد الولادة. أعطتني كتيباً عن المرض وأرسلتني إلى جلسات علاج نفسي جماعية أو ما يعرف بـ«جروب ثيرابي» يضم خمس أمهات أو مريضات غيري ويواجهن صعوبات مختلفة. على مدى ستة أشهر كنا نجتمع مرة أسبوعياً مع طبيب نفسي ومتخصصة اجتماعية. كان يُطلب منّا في كل مقابلة أن نقوم بتدريب محدد يسمى «الواجب»؛ مثل أن نحكي عن أكثر لحظة رعب مرت كل منا بها في الأسبوع السابق، عن أية رغبة في إيذاء الذات أو الطفل، عن الأحلام والكوابيس وعدد مرات البكاء المفاجئ. كلهن كنديات ولدن وعشن في هذه المدينة ولديهن دعم أسريّ بشكل أو بآخر ما عدا أنا وطبيبة إيرانية لم تستطع بعد أن تحصل على شهادة ممارسة تخصصها في كندا.
إحدانا كانت تكره أمها للغاية أو هكذا قالت: «أنا أكره أمي وأحتقرها أكثر من أي شخص في العالم، يقتلني الرعب لمجرد التفكير في أن علاقتي بطفلتي قد تصبح مثل علاقة أمي بي». واحدة منا كانت تعاني من الأرق، تراقب ابنها طوال نومه حتى توقظه إذا توقف فجأة عن التنفس. حكت لنا الطبيبة الإيرانية أنها ولدت ابنها ولادة طبيعية في المستشفى، أن كل شيء مرّ على ما يرام ما عدا أنها فشلت لأسبوع كامل في إرضاعه رضاعة طبيعية: «تحجّر الحليب في صدري، لدى ابني عيب خلقي في شفته السفلى يمنعه من استدرار الحليب. جرب الأطباء معي كل شيء ولم أنجح. كلمت جدتي في أصفهان وحكيت لها ما يحدث لي. قالت: "أحضري مشطاً أسنانه ضيقة، ضعيه في ماء دافئ وبعد تجفيفه دلّكي صدرك عدة مرات كل ساعتين"، قالت لي أيضاً: "ضعي الطفل تحت إبطك بحيث تكون قدماه خلفك، واسندي رأسه بيدك كأنك ترقصين معه واقفة وهو سيرضع"، ونجحت في إرضاعه في أقل من يوم«.
لا شك أننا جميعاً انبهرنا من عبقرية النصيحة التقليدية ونجاحها، لكن الطبيبة الإيرانية بدت تعيسة للغاية. بدا لي وكأنها غير قادرة على الاستمتاع بهذه التجربة لأن أمومتها حدثت في غير مكانها الأصلي، أو أن فرحتها بها مؤجلة حتى تعود إليه. انتبهت إلى أنه بصرف النظر عن فاعلية جلسات العلاج النفسي الجماعية والمؤسسة التي تقف خلفنا، فأنا وهي لا نشعر بالأمان لأننا دخلنا إلى التجربة ونحن بعيدتان عن الأهل ولأن هناك مرجعية ما نفتقدها في الغربة.
مرجعية الأمومة
يبدو أن التفكير في الأمومة يستدعي النظر في نفس اللحظة إلى اتجاهين مختلفين؛ اتجاه الماضي عندما كنتِ ابنة لأم، واتجاه المستقبل عندما أصبحت أمّاً لطفل. لا أعرف بأية طريقة تشكل البنوة أمومتنا لكن في مقدوري أن أتخيل استحالة تحييدها أو تفاديها.
هل يمكن أن يكون ذلك في حد ذاته سبباً غير مرئي لتوتر أمومتنا؟
إذا كانت أمك بالغة الحنان فربما تريدين أن تكوني مثلها، وربما تشعرين بالذنب لأنك لا تستطيعين ذلك. إذا كنت مشروع أمك الأول الذي استثمرت فيه كل ما تملك لتكوني كما تريد فقد تكررين نفس الاستثمار مع طفلك، أو قد تراقبين نفسك حتى لا تعذبيه - أنت التي تعذبت لتتحرري من طموحات أمك.
سواء كانت أمك مسالمة أو عنيفة، دافئة أو باردة، عاقلة أو مجنونة، فلا بدَّ أن هناك مرجعية لتخيل الأمومة التي تحلمين بها. لكن ماذا لو كانت أمك قد ماتت قبل أن تكوّني ذاكرة عن علاقتها بك؟ ماذا عن غياب الأم أو اختفائها كمرجعية شخصية يمكنك أن تتبنيها أو تتعاركي معها عندما تصبحين أماً؟ وماذا عن تجربة الأمومة في الغربة، حيث تغيبين أنت عن «وطنك» الأم؟ هل يجعلك هذا أكثر حرية أم أكثر ضياعاً في ممارسة دورك كأُم؟
قد تكون حواء هي المرأة الوحيدة التي مرت بخبرة الأمومة بدون أية ذاكرة شخصية أو جماعية عن كونها بنتاً لأم، بدون مرجعية تستضيء بها. كيف ولدت حواء مولودها الأول إذن؟ كيف تصرفت مع الغثيان خلال الشهور الأولى؟ وهل أحبت مولودها حين خرج منها؟ ومن الذي قطع الحبل السري بينه وبينها وبأية آلة؟ هل كانت هناك ثدييات لتراقبها وتقلدها أم أن هذا النوع من المعرفة يأتي بالفطرة؟ هل أرادت حواء أن تكون أمّاً أم لا؟ ثم، كيف لها أن تعرف إذا كانت هي نفسها لم تولد من رحم أُمٍّ ولم يكن في الدنيا أنثى أخرى قبلها! سمعنا أن حواء وآدم ارتكبا معصية، وأنهما طُردا من جنة عدن. عوقب آدم بأن يشقى في الأرض، وهو عقاب قد نرى من موقعنا في العالم الحديث أنه ليس خاصاً بالرجل، بل بالبشر جميعاً رجالاً ونساءً. لكن عقاب حواء يخصها وحدها ولا يشاركها فيه رجل وهو آلام الولادة، «تكثيراً أُكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجُلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك» {سفر التكوين ٣: ١٦}.
من الصعب تخيل الولادة الأولى على الأرض، بدون خبرات سابقة وبدون مؤسسات. من الصعب تخيل النساء اللواتي ولدن في الصحراء والحقول وغرف الخبيز وأطراف المدن، أو فقدن حياتهن قبل اكتشاف التخدير أو المضادات الحيوية. ولكن يظل من الصعب أيضاً أن تلدي وأن تكوني أمّاً، اليوم، ومع كل الامتيازات الطبقية والطبية الممكنة. الولادة فعل فردي، بغض النظر عن الأطباء والمساعدين ودعم الزوج والمحاليل والمسكنات. أنت وحدك عليك أن تلدي وأن تتحرري ممّا بداخلك لأن الألم أصبح لا يحتمل، لأن حياة المولود أصبحت مرهونة بالانفصال عنه ولأن وجودك أصبح موقوفاً على هذا الانفصال.
ستبدأين بعد الولادة رحلة مع كائن يفترض أنه جزء منك ولكنه قد يبدو غريباً بالنسبة إليك أحياناً. مع كل خطوة في هذه الرحلة سيواجهك سؤال جديد وكأنه عليك اختراع أمومتك من البداية، كأنها لم تحدث لأحد قبلك، كأنها اختبار لانهائي لوجودك الشخصي ذاته، لعلاقتك بجسدك أولاً ثم لعلاقاتك بكل ما كنت تظنين أنه أنتِ ثانياً.
نسويات
إذا كنت تأملين أن الجهد النسوي سينصت إلى تجربتك فربما سيصيبك الإحباط؛ فالكثير من الحركات النسوية تخوض معارك من أجل حقوق المرأة، المساواة في العمل وأمام القانون وفي الفضاء العام. ستجدين أكثر الحركات النسوية راديكالية تدافع عن حقك في استمرار مرتبك أثناء إجازة الوضع، في تقليل ساعات العمل أثناء الرضاعة، في الاعتراض على تقتير الدولة في دعم مؤسسات رعاية الأطفال أو رفعها مظلة التأمين الصحي عن مكتئبات ما بعد الولادة.
قد تفتح الحركات النسوية ملفات مسكوتاً عنها، مثل حقوق الأم بدون زوج أو الأم المثلية، ولكن في كل تلك الانتصارات، هناك تعميم لفكرة المرأة، بالبرهنة على موضوعيتها كجماعة، كقُوى في المجتمع، كندّ لجماعة الرجل.
يكمن أحد مآزق النسوية الغربية في تصورها بأن الحديث عن خصوصية الأمومة يناقض الدعوة المتماسكة للمساواة بين الرجل والمرأة. ربما لهذا تتفادى الإنصات إلى الخبرات الفردية، وإذا حدث واستمعت فإنها تنقدها بدعوى أنها إما تفصل بين خبرة الأمومة والمجتمع بمؤسساته، أو تحول المرأة إلى مجرد حامل وراعية للأطفال، أو لأنها فشلت في كل الأحوال في سرد الخبرة الذاتية التي يمكنها أن تدعم هذا الخطاب النسوي أو ذاك7.
تبدو الأمومة في معظم هذه الخطابات التي أرمقها على الرف وأنا أكتب، وكأنها خبرة مغلقة على نفسها داخل جماعة النساء في معركتها مع الذكورة دون الحفر داخل هذه الخبرة «المختلفة» والتي يمكن أن تغير وعي المرأة والرجل معاً.
إلى أن تنتبه النظريات النسوية إلى العنف والغضب والإحباط داخل الأمومة، عليك أن تسردي تجربتك
أو تأنسي إلى السرد الذي يساعدك على إدراك أنك لست وحدك.
رعب الفطام
تشغل علاقة الشاعرة السورية سنية صالح (١٩٣٥-١٩٨٥) بابنتيها شام وسلافة حيزاً في عالمها الشعري، خاصة في ديوانيها الأخيرين. هناك تيمة أساسية تعود لها صالح كلما حضرت ابنتاها في القصيدة، ويمكنني أن أصفها برعب الفطام. تكتب صالح:
»أغرقي رأسك فيّ
اخترقيني
حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضها البعض
ولنكن متجاورتين
متشابكتين كثنائية القلب
المسيني كما يلمس الإله الطين
فأنتفضُ بشراً«8
لا يوجد غضب ولا عنف في أمومة صالح؛ لكن هناك أمّاً خائفة من الانفصال، من انجراف الابنة بعيداً عنها. إنها تطلب من ابنتها أن تخترقها وتغيب بداخلها، أن تقوم بما هو عكس فعل الولادة، فتعود للرحم مرة أخرى.
حتى لو كانت صالح لا تحتاج إلى الانفصال عن ابنتها، فلا بدّ أنها كانت تعرف ضرورته للابنة، كيف أنه العتبة الأولى لتعرف نفسها، لتكتشف وجود «الآخر» الذي يتضمن الأم، ولتلمس لأول مرة ما يمكن تسميته «هوية».
يبدو رعب صالح من الانفصال عن طفلتها أكبر من مجرد نزعة فطرية للعطاء والتضحية، إنه أيضاً رعب من العالم الخارجي الشرير، كأن الأمومة رحم يحمي من أهوال العالم التي اختبرتها بنفسها، وستختبرها الابنة حتماً بمجرد الانفصال:
»أيتها اللؤلؤة
نمتِ في جوفي عصوراً
استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء
وهدير الدماء
حجبتك طويلاً... طويلاً
ريثما ينهي التاريخ حزنه
ريثما ينهي المحاربون العظماء حروبهم
والجلادون جلد ضحاياهم
ريثما يأتي عصر من نور
فيخرج واحدنا من جوف الآخر»9.
هذا المقطع من قصيدة عنوانها «شام، أطلقي سراح الليل». شام ليس اسم ابنة الشاعرة فقط بل إنه اسم وطنها أيضاً. لا يمكن تجاهل رمزية العنوان في الإشارة إلى الابنة كوطن، ولا في معارضته لرمزية الأم كوطن في الشعر العربي الحديث.
إذا قارنا بين قصيدتيّ سوير وصالح، فقد نجد أن الولادة لحظة عنف أصيلة وداخلية عند سوير، بينما العنف عند صالح يخص الخارج، مصدره التاريخ ومحاربوه وجلادوه. تأتي جملة «يخرج واحدنا من جوف الآخر» وكأن صالح تفاوض العام والخاص معاً؛ فهي ترى الولادة فعلاً مشتركاً تولد فيه الأم مثلما يولد فيه جنينها. لا يقلّ انشغال صالح بهويتها عن انشغال سوير بها، ولكنه لا يستطيع تفادي سياقه الثقافي الثقيل بالمرجعيات: قدسية الأمومة في الثقافة العربية من جهة واشتباك الشعر العربي الحديث مع عنف الواقع الخارجي من جهة ثانية.
لكن قراءة أوسع لقصائد صالح قد تكشف عن مرجعية أخرى خلف رعبها من الانفصال عن ابنتها، إنه رعبها القديم من الانفصال عن أمها ذاتها. تكتب في واحدة من قصائدها المبكرة «انتحبي بشدة يا أمي/ وبأعلى ما تستطيعين/ لا فضاء إلا حناجرنا،/ فأين الهواء العظيم ليحمل الصوت المتألم؟/ ثم عودي إليّ/ يا طفولتي البِكر والغريرة،/ يا براري أوسع من الخيال».10
تخاف الشاعرة من اغترابها القديم الذي تعرفه جيداً، منذ انفصالها هي نفسها عن أمها. تؤجل صالح الانفصال عن ابنتيها رغم أنها تعرف أنه سيحدث لا محالة. إنها تريد أن تحتمي بهويتها كأم أطول وقت ممكن ما دامت قد فقدت هويتها كابنة بموت أمها. الأمومة بالنسبة إليها رحم لا يحمي من شرور العالم الخارجي فقط، ولكن من خبرتنا الشخصية مع أمهاتنا أيضاً.
كان ابني في الرابعة من عمره عندما سألني: «ما هو المكان الذي زرناه أمس؟» حاولت أن أتذكر، ولما اكتشفت أننا لم نذهب إلاّ إلى الحضانة والحديقة في الأيام الماضية، فكرت في الأسبوع السابق: «ذهبنا إلى طبيبة يوسف». نظر إليّ وقد نفد صبره: «لا، لا، أمس». ظننت أن سوء التفاهم لا يدور حول المكان بل حول الزمن؛ ربما أمس بالنسبة إليه هو الشهر الماضي مثلًا. فشلت محاولاتي في الوصول إلى إجابة. بعد جهد، اكتشفت أنني كنت ببساطة معه في الحلم؛ أنه عندما يحلُم، وأكون معه في الحلم، فأنا فعلاً كنت معه، ومن الطبيعي أن أتذكر ما حدث لنا هناك.
في الاستئناس بالسرد
في رواية ج. م. كوتزي «إليزابيث كوستِلّو»، يرفض جان ابن الكاتبة الشهيرة إليزابيث كوستِلّو أن يقرأ ما تكتبه أمه، هو لن يقوم بذلك إلا عندما يصبح في الثالثة والثلاثين من عمره؛ « ذلك كان رد فعله تجاهها، انتقامه من بابها الموصود في وجهه. لقد أنكرته، لذا فقد أنكرها. أو ربما أنه رفض أن يقرأها من أجل أن يحمي نفسه».11 كيف أنكرت كوستِلّو طفليها ولماذا؟
يقدم لنا السرد شظايا متناثرة عن أداء كوستِلّو كأم؛ فعلى قدر ما يستطيع جان أن يتذكر «كانت أمه تعزل نفسها في الصباحات من أجل الكتابة. كان من المستحيل اقتحام عزلتها تحت أي ظرف من الظروف. لقد اعتاد أن يفكر في نفسه كطفل سيئ الحظ، وحيد، وغير محبوب».12
نحن لا نرى أمومة كوستِلّو إلا من وجهة نظر ابنها، هي لن تتطرق إلى ذلك طوال الرواية، إنها تتحدث فقط عن كتابتها وبعض المواضيع الكبرى مثل الواقعية وكافكا ومعاملة الحيوانات.
يمكننا أن نتخيلها أماً شابة تعاني في تقسيم وقتها بين عملها وطفلين، أنها تشعر بالذنب أحياناً لأنها لا تقضي الوقت الكافي معهما. يمكننا أن نتخيل أماً متعكرة المزاج في ساعات الصباح وليس لديها طاقة للتعامل مع العالم فتوصد بابها في وجهه. ولكن تبدو كوستِلّو أكثر تعقيداً من ذلك، جان نفسه يتساءل عن حقيقتها التي لا يعرفها، بينما في عمق ذاته لا يريد أن يعرف.
لو كان بمقدوره أن يتحدث لقال: «هذه المرأة التي تتعلقون بكلماتها كأنها عرافة، هي نفس المرأة التي كانت تختبئ يوماً بعد يوم في مأواها في هامستيد، تبكي على حالها، تزحف مساءً في الشوارع الضبابية لشراء السمك والبطاطا، الطعام الذي كانت تعيش عليه، تنام بملابسها. إنها نفس المرأة التي اهتاجت كعاصفة بعد ذلك في المنزل بملبورن، شعرها يطير في كل الاتجاهات، وهي تصرخ في طفليها: ‘أنتما تقتلانني! أنتما تمزقان اللحم عن جسدي!».13
أدريان ريتش ليست شخصية روائية مثل إليزابيث كوستِلّو؛ لكنها كاتبة وأم أيضاً. كتبت ريتش في يومياتها في مايو ١٩٦٥ «أن تعاني مع ومن أجل وضد طفل - أمومياً، ذاتياً، عصبياً، أحياناً مع شعور بالعجز، وأحياناً مع وهم تعلم الحكمة - ولكن دائماً، في كل مكان، في الجسد والروح، أنت مع هذا الطفل - لأن ذلك الطفل هو جزء من نفسك.»14
يمكننا أن نتخيل أن ريتش مثل كوستِلّو في إحدى لحظاتها بشكل أو بآخر. فرغم أن طفلها هو جزء منها إلا أن هناك لحظة تعجز فيها عن الخروج من كونها امرأة لديها مشروعها الخاص الذي يسبق كونها أماً بخطوة، أن هويتها تكونت من خلال الكتابة، مثلما تتكون هوية أفراد آخرين من خلال ما يريدون أن يساهموا به في هذا العالم.
أن تكوني كاتبة وأماً، هو أمر لا ينطوي في حد ذاته على أيّ تعارض ظاهر، ولكن ريتش تتحدث في أماكن متفرقة من كتابها عن إحباطها لأنها لا تستطيع أن تجد وقتاً لنفسها، عن نوبات الغضب والبكاء، عن طفلها الذي يرفض أن تكون آخَر بالنسبة إليه فهو يترك ما في يده ويقفز على الآلة الكاتبة بمجرد جلوسها للعمل. أظن أنها تمنت أحياناً من طفلها الذي هو جزء منها أن ينفصل عنها بعض الوقت، أن يصدق أنّ من حقها أن تذهب وحيدة لمقابلة نفسها.
تواجه ريتش مثل كوستِلّو ذلك التجاور بين هويتها ككاتبة وهويتها كأم: «من وقت لآخر يسألني أحدهم: ‘ألم تكتبي قطّ قصائد عن أطفالك؟’. لقد كتب الشعراء من جيلي قصائد عن أطفالهم - عن بناتهم خصوصاً. بالنسبة إلي، الشعر يوجد حيث لا أكون أماً لأحد، حيث أوجد كنفسي.»15
إنه ليس مجرد تجاور بين مكونين داخل هوية الأم الكاتبة أو الكاتبة الأم، إنه تمزق، صراع على الوقت والطاقة، عندما تنجح الكاتبة في أن تكون أماً ليوم ستشعر بالفشل تجاه ما لم تنجزه من قراءة أو كتابة، عندما يكون لديها يوم لنفسها ستتألم من أنانيتها. عندما تستطيع في يوم ثالث أن تكتب بينما يجلس طفلها على ركبتيها، وأن تلعب معه لعبة الاستغماية بينما تفكر في تغيير كلمة في قصيدة، لا توجد ضمانة أنها لن تشعر بالذنب أو الفشل في فعل ذلك. أيضاً، لا توجد ضمانة أن طفلها سيقرأ ما كتبته يوماً أو أنه لن يكون غاضباً مثل جان ابن إليزابيث كوستِلّو.
وأنت تلدين تذكري أنك لست بيضة، سوير نفسها تعرف ذلك، قد تشعرين لأيام أو ساعات، أنكِ تحت رحمة «رحم» محاط بأعضاء أخرى، ولكنه محاط أيضاً بوجود وبتاريخ سابق للحمل. صحيح أن الولادة هي تلك اللحظة التي ستشقك إلى نصفين. ولكن، أليس بحياة كل منا كسر ما، شرخ، كما يقول سكوت فيتزجيرالد؟16 أليس هذا الشرخ هو هويتنا التي نتحرك بها في العالم؟
الولادة هي عتبة في رحلة، إنها المجاز الذي يقوم به الجسد لكي يعي ذاته. أدريان ريتش تقصدتها من أجل ذلك: «كنت أحاول أن ألد نفسي، وبشكلٍ ما كنت مصممة أن أقوم بذلك عبر الحمل والأمومة.»17
كأن الشاعرتين أنّا سوير وأدريان ريتش، كل بطريقتها، تريد أن تقول: «أنا لدي وعي بتصدعي الذي أعيش معه من قبل الولادة، أنا هشة، وإعطاء هذه الدمية الحياة وانفصالها عني شرخ جديد في وعيي. أنا لم ألد هذه الدمية للتو وحسب، بل عليّ من أجلها أن ألد نفسي أيضاً، ولادة شخصية، تجذّر شروخ ذاتي السابقة أو تساعدها على الالتئام.»
على سبيل الخاتمة - «مراد»18
“I don’t want to die, mama.”
»لن تموت الآن، أنت أربع سنوات فقط يا حبيبي».
“I don’t want to get old, then die, mama.”
»ربما ستكون وقتها مستعداً يا حبيبي.»
“But why do we die, mama?”
»ربما لأننا، أقصد ... ربما لأننا أكبر من الحياة يا حبيبي.»
“Tell God that Mourad doesn’t want to die, mama.”
»ولكنني لست على اتصالٍ به يا حبيبي.»
(2)
كيف تجد أمك في صورتها؟
الأمومة والفوتوغرافيا
عندما ماتت أمي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، اكتسبت صورتي الوحيدة معها أهمية ... تلك هي المهمة الأساسية للفوتوغرافيا، «التصوير الفوتوغرافي فن رثائي»19 كما كتبت سوزان سونتاج. بالنسبة إلى الطفلة التي كنتها، كان على هذه الصورة أن تكون توثيقاً للحظة التي وقفت فيها للمرة الأولى والأخيرة بجانب أمي في استوديو دون أن أعرف أنها ستموت بعد ذلك بأقل من شهرين. كان يجب أن تكون تلك الصورة تدريباً على استعادة اللحظة التي مرت، على استعادة ملامح أمي وحضورها، أو كما يقول بارت: «ليس استعادة ما ذهب، لكن لأشهد أن ما أراه في الصورة [أمي في هذه الحالة] كان حقاً موجوداً.»20
لم أشعر قطّ أن المرأة في هذه الصورة أمي. ربما نظرتها المتوترة أمام العدسة، كأنها تركت مملكتها في البيت وتقف الآن بلا سلطة. هذا الفستان الذي ترتديه ولم أرها به سوى مرة أو اثنتين أثناء السفر إلى المدينة. الشعر المنسدل حتى الخصر والذي كان في حياتها اليومية ضفيرتين طويلتين معقودتين في اتجاهين متعاكسين حول رأسها. لم تكن المرأة في الصورة مختلفة فقط عمّا أتذكره عنها، أو عمّا أريد أن أتذكره، بل كانت شبحاً. مثل الأشباح التي رأيتها كطفلة على شريط نيجاتيڤ لصور تم تحميضها، أقربه من عينيّ تحت ضوء الشمس محاولة تخمين شخوصه، وعندما أشعر بالملل أحول الشريط بأشباحه إلى إسوار حول معصمي.
امرأة وطفلة، شاحبتان لأن الصورة لم تكن خالية من الأحماض، المرأة لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف أنها ستموت بعد ذلك بسبعة وأربعين يوماً بالضبط)، البنت لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف ما هو الموت)، للمرأة شفتا البنت وجبينها (للبنت أنف الرجل الذي سيظل دائماً خارج الصورة)، يدُ المرأة على كتف الطفلة، كف الطفلة منقبض (ليس ذلك بفعل الغضب بل لوجود نصف حبة من الكراميل)، فستان البنت ليس من القطن المصري (عبد الناصر - الذي كان يصنع كل شيء - مات منذ سنين)، والحذاء وارد غزة (غزة كما تعرف لم تعد منطقة حرة على الإطلاق). ساعة المرأة لا تعمل ولها حزام عريض (هل يتماشى ذلك مع موضة ١٩٧٤؟).
كتبت هذه القصيدة في سنة ٢٠٠٧ ونشرت في العام التالي قبل أن يتضمنها ديوان «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» في ٢٠١٣. بصرف النظر عن طموح أو فشل القصيدة، أقرأها الآن وأنا أفكر في صورة أمي؛ كتدريب على التذكر والكتابة وإعادة النظر في المسافة التي تفصلني عنها في نفس الوقت.
لماذا يبدو الصوت في القصيدة محايداً؟ لماذا يستحضر المعلومات الغائبة والوشائج بين كل تفصيلة داخل الصورة مع تفصيلة خارجها كأنه لا يعرف كيف يستعيد أمه من صورتها فيعيد ترتيب مفرداتها؟ كل جملة فيها إشارة إلى ما لم تحتو عليه الصورة، إنها لقطات مفتوحة بلا خاتمة، إذا كان عليّ أن أعيد كتابتها الآن فقد أضيف مداخل أخرى. أين أمي إذن؟ هل القصيدة صورة مهزوزة لها؟ أم أنها لا يمكن أن تكون موجودة سوى خارج الإطار لا داخله؟ هل الأم بعيدة إلى هذا الحد؟ غامضة؟ مخفية؟
الأم المستبعدة من ألبوم العائلة
شغلتني صورة أمي كثيراً خلال المرحلة الثانوية؛ ذلك الوقت الذي يصبح الألبوم العائلي عتبة في بناء الصداقة بين البنات. أزور صديقة للمرة الأولى وأجلس معها في غرفتها، لا نجد ما نقوله بعد الحديث عن الزميلات والمدرّسات. يحضر الألبوم العائلي أو بعض الصور على المكتب أو الحائط كمنقذ من الصمت؛ تنفتح طاقة للسرد: عن الإخوة والأقارب، الرحلات والمصايف والأماكن البعيدة التي تعود إليها جذور العائلة، عن الفساتين وقصات الشعر وأعياد الميلاد والهدايا. ألبوم الصور طريقة لتعريف الذات في هذه السن الصغيرة، كأن كُلًّا منا تريد أن تقول: «لست مجرد تلميذة.»
لا بدّ أنني شعرت بالغيرة من توفر الكثير من صور أمهات زميلاتي (أحياناً بسبب الطبقة التي وفرت كاميرا بيتية، وأحياناً لأنهن أمهات لم يمتن مبكراً وكان عندهن مزيد من الوقت للتصوير). بالنسبة إلي، لم يكن عندي سوى تلك الصورة الوحيدة، وكنت أقول في كل مرة أريها لصديقة: «هذه أمي ولكن صورتها لا تشبهها على الإطلاق.»
مرتان أدهشني غياب الأم من صور الآخرين؛ عبر استبعاد مقصود لها من ألبومات عائلية. في المرة الأولى، كنت في الصف الأول الثانوي، وزرت زميلة مسيحية اسمها «فادية» تعيش مع أبيها وكنت أظن أن أمها ميتة. في الحقيقة أحد أسباب قربي منها كان ظني أنها يتيمة الأم، كأن اليُتم هو الخيط الخاص الذي يربط بيننا. أرتني فادية ألبومها العائلي، واكتشفت أن أمها لم تمت بل هربت وتركتهم. قام والد فادية بقصّ كل تجسيد لأمها من الصور، وطمس كل ما يشير إلى حضور الأم القديم في حياة الأسرة.
في المرة الثانية، رأيت ألبوم صور لقريبة لنا، إنها في الحقيقة من نفس سني وأمها أيضاً تنتمي لجيل أمي. كانت أمها المتعلمة أكثر بنات العائلة جمالاً واهتماماً بالأناقة، أتذكر إعجابي الشديد بها وأنا طفلة في السبعينيات، كانت تبدو دائماً رائعة بالفساتين القصيرة وتسريحات شعر سعاد حسني. في التسعينيات، تدينت قريبتنا بشدة وتحجبت بعد إصابتها بسرطان الثدي. قامت بنفسها بقصّ نفسها من كل الصور السابقة على عودتها للإيمان، قبل المرض والحجاب.
بسبب انتقام والد فادية من زوجته التي تركته مع أولاده، لاستحالة الطلاق بينهما، وتوبة قريبتي عن «السفور»، رأيت ألبومين من الصور العائلية لأسرتين مختلفتين بعد استبعاد الأم منهما. بالطبع كان هناك ما يدل على وجود الأم المستبعدة: حذاؤها أو طرف ثوبها أو كتفها. هناك أيضاً تلك المعرفة أنها كانت موجودة في لحظة التصوير وأسباب التخلص منها أو التضحية بها.
لا شك أننا جميعاً نستبعد الهزائم والفشل والفضائح خارج ألبومنا العائلي. ألبوم الصور ليس أكثر من تأليف، سرد شخصي، أن تُرتّب ألبوم صور يعني أن تمارس الاختيار والتصفية والاستبعاد في نفس الوقت. إنه ليس توثيقاً للواقع، لتاريخ كامل، بل فعل انتقاء لما يتصوره المؤلف أو يريده كحياة وتاريخ. بمعنى آخر، كل ألبوم صور هو اقتراح لحياة ما، طبقاً لمن يسردها. هناك فعل رقابة ذاتي وقد يكون غير واعٍ لما يجب أن يقال ويبقى، ما يجب رؤيته وتأويله عبر من سينظرون إلى هذا الألبوم الآن وفي المستقبل. مهما توسع مؤلف الألبوم في اختياراته، ومهما كانت عوالم الألبوم متعددة، تظل صور ما خارجه، في أظرُف الخطابات والعلب والملفات.
لكن قد يتحول ما انتقيناه في لحظة سابقة على أنه انتصارات إلى فضائح وهزائم في المستقبل. ما الذي يحدث لصور الزفاف الجميلة بعد الطلاق؟ لصورنا مع صديق أو حبيب بعد اكتشافنا كم الأذى الذي سببه لنا؟ ما الذي في أيدينا غير الانتقام بتمزيق الصور أو حرقها أو على الأقل إخراجها من الألبوم والاحتفاظ بها في مكان ما... حتى نعود إليها ونغضب؟ بقدر الشغف الذي نؤلف به ألبوماً ما، ما يعادله من رغبة في تدميره.
ينطوي كل استبعاد لصورة من ألبوم موجود بالفعل على عنف ما أو غضب أو ندم أو على أقل تقدير رغبة في طمس تاريخ ما وكأنه لم يحدث. عندها نكون أمام ألبوم مشوه، صوره تالفة، إطارها لم يعد مربعاً ولا مستطيلاً. إنها لا تحفظ لحظات مضت ولن تعود وحسب، بل تثبت اللحظات التدميرية التي تم فيها إفساد الذكرى. لكن، من المؤكد أن استبعاد الأم من ألبوم عائلي يبدو أكثر فداحة. ربما لأننا لا نتخيل استبعادها من تاريخنا مهما حدث، أو لأننا لا نستطيع أن نسرد تاريخنا الشخصي دون وجودها فيه.
لا أعرف إذا كان استبعاد أمّ فادية من صورها الكثيرة أقسى من شبحيّة أمي في صورتها الوحيدة. ولكني أتخيل فادية وهي تفكر كثيراً في أمها مثلي تماماً، تغمض عينيها وهي تحاول استرجاع ملامحها حتى لا تنساها مثلاً. بمعنى آخر، لا بدّ أن استبعاد الأم يجعل حضورها أكثر طغياناً.
لا أستطيع أن أتخيل قريبتي التي قصت ركبتيها الجميلتين الجذابتين خوفاً من الفتنة ... كيف تنظر إلى الصورة وهي تعرف أنها كانت هناك وأنها من طردت نفسها من ذاكرة الألبوم! كيف سترى طفلتها في الصورة جالسة هكذا في الفراغ بدون الركبتين اللتين كانت تجلس عليهما؟
لم يستبعد أحد أمي من صورتنا معاً. إنها أمامي، وأشهد أنا نفسي أني كنت معها ولكنها شبح. صورتها عبء، اعتداء على ما أتذكره وتزييف له. إنها لا تستحضر أمي، بل تشحذ مقاومتي لتجاوز شبحيتها، لإنقاذ ما تخفيه الصورة.
مجاز الأم المخفية
لجأ المصورون الأوائل لحيل مختلفة حتى ينجحوا في التقاط صورة جيدة لرضيع أو طفل صغير. لقد أرادوا بالطبع ألا تكون اللقطة مهزوزة، وأن يكون الرضيع أو الطفل هو موضوعها الأساس، وحده، مستقلاً، هادئاً وثابتاً أمام العدسة لمدة لا تقل في أفضل الأحوال عن نصف دقيقة لتسجيل اللقطة على الكولوديون الرطب. من أجل ذلك، تخبرنا الدراسات الحديثة عن فوتوغرافيا القرن التاسع عشر بأنه كان على المصور الڤيكتوريّ أن يوفر مقعداً خاصاً لجلوس الصغير، ولكن كانت هناك وسيلة أخرى أكثر سهولة ونجاحاً؛ أن تختفي الأم خلف المقعد أو تحت شرشف أو ستارة وهي تحمل طفلها أو تسنده من خلف حجاب حتى يأخذ الوضع المأمول في اللقطة. يمكننا أن نتخيل أنه على حسب حرفية المصور وسرعته وأيضاً على حسب مزاج الطفل وشعوره بالأمان لقربه من أمه، تنجح اللقطة أو تفشل؛ فيظهر مستقلاً وهو الهدف، أو يبقى في الصورة ما يدل على وجود الأم المختبئة: يدها مثلاً وكأنها عضو مقطوع من جثة، أو شبح جسدها مجسماً تحت الغطاء.
في ستينيات القرن التاسع عشر، عندما أصبحت تكلفة التصوير في متناول شرائح أكبر من الطبقة الوسطى في أوروبا وأمريكا الشمالية، وجد المصورون تقنيات أخرى. على سبيل المثال، حذف الأم من الصورة بعد التقاطها؛ كأن يقصوها قبل الطباعة، أو أن يطبعوا الصورة كاملة على الصفائح المفضضة أو اللوحات الزجاجية ثم يكشطون الأم من على سطحها.
ما أصفه هنا كان يتم الإشارة إليه عابراً في مجالات أكاديمية مختلفة مثل تاريخ التصوير في العصر الڤيكتوري، والحياة الاجتماعية للطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر،21 لكن أصبح له حضور في الثقافة الشعبية أو ما يعرف بالـ«Pop Culture» في العشرين سنة الأخيرة، حتى إنه يمكنك أن تشتري إحدى صور الأم المخفية 22«Hidden Mother Photos» من المواقع الإلكترونية لبعض محلات الأنتيك.
رأت الفنانة الإيطالية ليندا فرينيي ناليير إعلاناً على موقع eBay لإحدى هذه الصور، حيث يصفها المعلن بأنها «صورة مضحكة لرضيع وأمه المختفية»، فبدأت مشروعاً جمعت فيه أكثر من ألف صورة تنتمي لهذه الظاهرة وتعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين وأصدرتها في كتاب بعنوان «الأم المخفية.»23
قد نفكر أن جوهر الأمومة هو «التضحية». إننا أمام أمهات طمسن هويتهن أمام الكاميرا من أجل هدف مشترك وهو أن يظهر رضعهن مستقلين ومركزيين في الصورة. لقد وصل جيفري باتشين، أستاذ تاريخ التصوير في مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك إلى هذه النتيجة؛ ففي دراسته المنشورة في الكتاب يقول: «من المدهش، أنه رغم وجود بعض الآباء المختفين في هذه الصور، إلا أننا عندما نتحدث عن الظاهرة نشير إلى الأم المختفية فقط، المختفية لا يمكن إلا أن تكون أماً على وجه التخصيص. إننا نشهد الإيثار وإنكار الذات مع كل أم، ونختبر وضع المرأة في المجتمع الأبوي ككائن بلا هوية تخصها، مجرد عابرة، أداة للإنتاج، قناة تربط بين الرجل والطفل.»24
معظم المختفين في الصور «أمهات»، وفي القليل منها يختفي الآباء. لكن الصور القليلة التي اختفى فيها الأب خلف الرضيع بدلاً من أمه، تحتوي على الأم أيضاً، ولكن أين؟ تجيب ناليير: «الوضع الذي تشغله أمهات الأطفال في هذه الصور بالغ التعقيد. لقد اكتشفت سلسلة من المصاعب عندما حاولت أن أقوم بنفسي بأخذ صورة لأم مختفية، استخدمت نفس تقنية التحضير المتبعة في هذه الصور، وهذا ما لاحظته أثناء العملية: أمام الكاميرا هناك شخص على رأسه ستارة، بينما في الجهة الأخرى خلف الكاميرا، المصور في ملابسه السوداء. الطفل في المُنتصف، محاط بالأشباح، ولهذا فهناك حاجة لشخص ثالث ليشغل انتباهه، ليشعره بالأمان، إذا لم تكن الأم هي بالفعل الشخص تحت الستارة فإنها من يقوم بمهمة تسليته، لكل هذا عليها في كل الأحوال أن تبقى خارج ما نراه.»25
يجعلني اقتراح ناليير أتخيل الأم أيضاً خلف الكاميرا، في محيط نظر طفلها. هي لا تأخذ الصورة بنفسها فهناك مصور محترف بالطبع. إذا لم تكن الأم تحت ستارة تحمل طفلها أمام الكاميرا، فهي تقف على يمين المصوّر أو شماله كأنها عين الكاميرا، ناظرة عن بعد في عين طفلها كي يشعر بالأمان.
يستطيع المتصفح لهذا الكتاب أن يتتبع الوسائل المبتكرة التي طورتها الأمهات في التخفي، كأن تكون إحداهن كرسياً مغطى بورود أو بطة خلف أريكة أو دمية كبيرة تحمل رضيعاً. قد تثير هذه الصور مجتمعة في كتاب واحد الضحك، حيث نعرف نحن القراء أن هناك شخصاً مختبئاً ولكننا قادرون في معظم الأحيان على تخمين مكانه ووضعه.
لكن هناك ما يثير الحزن أيضاً؛ أمامنا أطفال لا نعرفهم، نخمن أنهم ماتوا بالفعل إذا انتبهنا لمرور قرابة قرن أو أكثر على معظم الصور، وأمامنا أمهات يبدون كقطع أثاث، كأنهن يمثلن الموت. لا بدّ أن واحداً على الأقل من أطفال هذه الصور بعد أن كبر، بعد أن ماتت أمه، جلس يتأمل ظلها المستتر، أو ربما أشار إلى شبحها أمام الكاميرا أو خلفها في تلك اللحظة البعيدة قائلاً لشخص آخر:
»انظر... هنا، هذه أمي، أمي كانت هناك.»
نظرة إلى أمهات الأرشيف
جعلتني صورة أمي أنشغل طويلاً بصور الأمومة. هناك أرشيف من صور الأمومة يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر، ويمتد في كتب الفوتوغرافيا التي يتم تصنيفها حسب الطبقة: (العليا أو الوسطى أو المناطق الصناعية… إلخ)، أو حسب ثيمة محددة: (الحرب العالمية الثانية أو الأمهات في التطهير العرقي في رواندا … إلخ)، أو حسب المصور: (آني ليبوڤيتس أو دايان آربوس أو هيلين ليڤيت ... وغيرهن)، وحتى صور الفيسبوك وإعلانات المصورين المحترفين عن تصوير الولادة والصور العائلية … إلخ. أرشيف الصور هنا هو ما يعادل ما تناولته في الفصل السابق من سرديات الكتابة عن الأمومة.
قبل تأملي لمجاز «الأم المخفية»، كنت مشغولة بأسئلة عامة عن الأمومة والفوتوغرافيا، مثلاً: ما الذي يتم انتقاؤه وتوثيقه وعرضه من الأمومة عندما تصبح موضوعاً للفوتوغرافيا؟ هل هناك تصور مسبق عمّا يجب الإمساك به لصناعة «أُم»؟ ما الذي يتم قصه واستبعاده خارج إطار اللقطة المتقنة حتى نؤكد الأمومة المثالية في خيالنا؟ هل تستبعد بعض الصور إذا لم تتطابق مع هذه المثالية من الألبوم العائلي أيضاً؟
أمام هذا الأرشيف، كان عليّ أن أذكّر نفسي أنني لا أسعى لتقديم «دراسة» عن الأمومة في وسيط الفوتوغرافيا، بل أود اختبار أسئلتي عن الأمومة من خلال الفوتوغرافيا كوسيط. لكني كنت أتوه كلّما حاولت الكتابة.
لقد ساعدني مجاز «الأم المخفية» أو «المختبئة» أو «المطموسة» أو «المستبعدة بإرادتها» على تفادي الأسئلة العامة رغم أهميتها. أدركت من خلاله أنني أتساءل عن «أُمي المخفية»، وأنني لا أستطيع أن أرى هذا الأرشيف الضخم إلا من خلال سؤالي: «إذا لم أكن أستطيع أن أرى أمي في صورتها، فما الذي أستطيع رؤيته عندما أنظر إلى أمهات الأرشيف؟ هل أستطيع حقاً أن أرى أُمهات الآخرين؟«
صورة لأم مخفية وطفل. ليندا فرينيي ناليير، رقم ٠١٧٣، صورة فوتوغرافية عن الأم المخفية، ٢٠٠٦-٢٠١٣. ٩٩٧ صورة فوتوغرافية مطبوعة أو مصورة بتقنيات مختلفة.
لا شك أن هناك صورة مثالية للأم في المتن الثقافي العام، تجده في الكتب واستوديوهات التصوير والإعلانات والإنترنت وألبومات صور الآخرين... معنى ودلالة «الأم» في فوتوغرافيا المتن العام تبدو مباشرة ومتماثلة (الخلفية ومكان الأم والنظرة الأمومية أمام الكاميرا والعلاقة بين الأشخاص في اللقطة). الأمومة «جلية» في المتن العام؛ صورة حامل تضع يدها على بطنها أو امرأة ترضع صغيرها أو تضعه على حجرها أو تجلس بجانبه على الأرض… أمّ في حفل تخرج ابنتها أو زواج ابنها… إلخ، هي لقطة تحتوي على متن وقصد يسيران في نفس الاتجاه، لا تعارض بينهما. إنها لقطة مفرداتها منسجمة، تشبه «المشهد الطبيعي» العادي أو الفاتن، قد لا تحبه، وقد تتمنى أن تتمشى فيه مع صديق أو أن تملك بيتاً على إحدى تلاله. في الحالتين، أمام «المشهد الطبيعي» لا تحتاج إلى جهد لتعرف تاريخ الصورة ولا قصّتها حتى تستقبلها وتفهمها. أنت في الحقيقة لا ترى الأم في الصورة، إنها غير مرئية «Invisible Mother»، عابرة، إنها مُعرّفة بكونها أمًّا عامة، أمًّا ما، أمًّا للآخرين.
صور الأمومة «غير المرئية» في المتن العام ليست «جليّة» في مفرداتها فقط بل في تلقيها أيضاً. أتردد أن أقول، إنها صور فقيرة في التلقي، محفزاتها مطروقة ومفهومة؛ استقبال التفاصيل في اللقطة يعاد إنتاجه إلى ما لانهاية. أن تقدم الصورة «أماً» من غرب إفريقيا تحمل طفلها على ظهرها أو من الهند تحمله على صدرها هو اختلاف في العادات وليس في معنى الأمومة. أمومة تنعم بمميزات طبقية في مدينة ما أو تأتي من الصحراء، أو تظهر أمامك في التايم لاين على الفيسبوك، هي «أمومة» بديهية في علائقها، مضمونة في انتمائها لما نعرفه عنها: العلاقة البيولوجية والحب غير المشروط والرعاية والتضحية… إلخ. إنها على أقل تقدير - مفهومة، إلا إذا كان هناك ما يعوق أو يعترض أو يضيف لهذا الفهم العام، فنكون أمام نوعٍ ثانٍ من صور الأمومة؛ الأم الأداة/ الذريعة «Instrumental Mother».
في صور الأم الأداة، ترى مثلاً صورة عادية لأم وطفلها ثم تعرف «كمعلومة» أن الطفل أصبح جون لينون. تطالعك صورة أم وطفلها على صفحة جريدة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تقرأ أن ذلك الطفل البريء في الصورة غرق في البحر للتو، أو أنه قد قتل أمه عندما كبر!
صورة «الأم الأداة»، تصبح ذريعة لإلقاء نظرة أخرى، لتخيل علاقة أمومة بملامح تختلف في الكثير أو القليل عن صورة الأم في المتن العام. إنها أمومة مميزة أو غريبة أو متناقضة أو درامية، أو ببساطة لها قصة. قد تكون هذه الأم محملة بسرد أكبر منها، تصبح رمزاً للحظة تاريخية بكاملها، لصراع اجتماعي، لكارثة، للأمة كلها، وهناك أمثلة عديدة على ذلك:
• الصورة الأيقونية التي التقطتها دوروثيا لانج لأم مهاجرة مع طفليها المتضورين جوعاً أثناء الكساد الاقتصادي في أمريكا عام ١٩٣٦. إنها صورة للأمومة تحت وطأة الجوع واليأس؛ عينا الأم المرهقتان لا تنظران إلى العدسة، بل إلى المجهول، ويدها تحت ذقنها في انتظار إجابة أو مخرَج. لا نرى وجهيّ طفليها لأنهما يدفناهما في كتفيّ الأم، إنهما معلقان برقبتها، بقصّة الشَعر المتشابهة وسنهما المتقاربة. هناك بؤس الكساد الاقتصادي وما فعله بالأفراد، بجيلين، بالطفولة، ولكنه أيضاً مثل بوتقة تصهر معنى مجازياً للأمومة في لحظة تاريخية قاسية.
دوروثيا لانج، الأم المهاجرة، نيبومو، كاليفورنيا، ١٩٣٦.
• الصورة التي التقطها و. يوجين سميث عام ١٩٧٠ للأم اليابانية ريوكو أويمورا تحَمِّم ابنتها المحتضرة. موضوع الصورة ولا شك هو الآثار الرهيبة لمرض ميناماتا (وهو نوع من التسمم بالزئبق) على جسم وعقل الابنة توموكو، لكنها أيضاً توثيق للأمومة في مواجهة الموت. لو تخيلنا صورة أخرى بنفس التقنية