يواصل محرر (الكلمة) هنا حديث الذكريات، ولكنه يعود إلى سياقات الكتاب الذي كان عليه أن يدرسه للطلاب حينما وصل إلى أكسفورد، ويطرح تأويله الخاص له، والعلاقة الوطيدة بين أيام طه حسين وما خاضه من معارك على مد حياته الخصبة التي غيرت حياة مصر كلها.

(أيام) طه حسين ومعاركه

صبري حافظ

 

إذا كان القسمان المنشوران في العددين السابقين من (الكلمة) يمزجان بين الذكريات الشخصية وتقديم صورة ما – من زاوية تجربة محدودة – لطه حسين الإنسان، فإن هذا القسم يوشك أن يكون راحة من الذكريات، ومحاولة لتناول جانب من جوانب مشروع طه حسين. وفي نوع من وصل ما انتهينا إليه، فإنني سأتوقف هنا مع (الأيام). لأن هذا الكتاب، وفي أشهر أجزائه جميعا، وهو الجزء الأول هو في قراءتي له رد طه حسين الجميل والبليغ على الحملة الظالمة التي شنها عليه أعداؤه عندما نشر كتابه العلامة (في الشعر الجاهلي). صحيح أن طه حسين كان يتوقع أن يثير (في الشعر الجاهلي) سخط التقليديين عليه أو انصرافهم عنه، فقد استهله بـ«هذا نوع من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد. لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وأن فريقا آخر سيزوَرّون عنه ازورارا. ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة.»

لكن ما آلمه أن من اختلفوا معه لم يكتفوا بالسخط أو الازورار عنه، ولا بما نشروه من تفنيد لمقولاته أو اعتراض عليها في كتب أو مقالات – وهو الجانب المحمود في تلك القضية – وإنما أوجعه أنهم اتهموه في دينه وفي عقيدته، وهو الأمر الذي يقول لنا النائب العام محمد نور الذي حقق معه أنه أنكره. ناهيك عن التشهير به، ومحاولة تجريده من وظيفته، والتضييق عليه في قوته، وجرّه إلى المحاكم.[1]

سياقات السيرة وطبيعة ستعاداتها:

بعد هذه المحنة الصعبة عاد طه حسين إلى نفسه يتأمل وقائع طفولته، وكتب الجزء الأول من (الأيام)، وهو أكثر أجزاء الكتاب شاعرية وتأثيرا – والذي نُشر مسلسلا في مجلة (الهلال) عام 1927،[2] وصدر ككتاب مستقل مطلع عام 1929. وكأنه بتلك العودة يرد على من كالوا له الاتهامات القاسية والظالمة معا. ويخبر كل من لم يفهم منهجه الشكّي الجديد، أن هذا المنهج ربما قد تبلور في صياغاته الفكرية على يدي الفيلسوف الفرنسي ديكارت، ولكنه المنهج الذي راد بحدسه المبكر به مسيرة حياته منذ بدايات الوعي بالحياة. وكيف أن أقصى ما كان يحلم به أبوه – وهو يرسله مع أخيه إلى "الأزهر" في القاهرة في خريف 1902 – هو كما يقول قرب نهاية الجزء الأول من (الأيام) [3] «ستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاورا ، وستجتهد في طلب العلم، وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا، وأراك من علماء الأزهر، قد جلست إلى أحد أعمدته، ومن حولك حلقة واسعة بعيدة المدى». (ص 112)

هذا هو أقصى ما كان يحلم به أبوه، أو حتى يتوقعه المجتمع منه، إن لم يبقه – كجل المحظوظين في الريف ممن كُفّ بصرهم – في حدود الاكتفاء بحفظ القرآن، وترتيله في مختلف المناسبات في القرية. لكن إرادته القوية، وشغفه بالمعرفة، وشكّه المستمر في كل ما استقر من رؤى وتصورات، هو الذي خرج به من إهاب الجهل والتخلف، ووصل به إلى ما حققه في ذلك الوقت من علم ومكانة. والواقع أن أي تمحيص لسياق كتابة كل من الكتابين: (في الشعر الجاهلي) و(الأيام) يكشف لنا عن وجود تلك العلاقة الوثيقة بين أيام طه حسين ومعاركة، والأيام والمعارك لغة من المترادفات؛ وبين مكاني كتابتهما: مصر وهي أرض المعارك الكثيرة التي خاضها طه حسين باقتدار وجسارة، وفرنسا وهي مكان كتابة (الأيام). حيث نعلم الآن من مذكرات كل من زوجته ونسيبه،[4] أنه أملى الجزء الأول من كتاب (الأيام) في تسعة أيام في السافوا العليا Haute-Savoie  في فرنسا، بينما ينهي الجزء الثاني من الكتاب بتاريخ تأليفه في مكان آخر من فرنسا – فيك سور سير  Vic-sur-Cère يوليو أغسطس 1939.[5] فقد كان طه حسين حينما تشتد عليه النوائب وتواجهه العقبات، يعود إلى نفسه في فرنسا، بعيدا عن صخب المعارك وغبارها، يسترد هدوءه، ويعيد شحذ همته، ويستجمع طاقته ويزيح عنها غبار تلك المعارك وأدرانها.

وفي هدوء الريف الفرنسي الجميل – الذي حرص على أن يقضي فيه أجازته السنوية حتى تلتقي زوجته بأسرتها كل عام، وهو تقليد لم يحد عنه إلا حينما منعه عنه ضيق ذات اليد – يسترجع ماضيه، ويكتب عما يعنيه ما دار في هذا الماضي البعيد، وكأنه في كل مرة يضع أمام القارئ بـ(الأيام) مرآة يرى فيها دلالات التقابل بين الزمنين من ناحية، ويستمد من تغلبه على ما سبق أن واجهه من صعاب تغلب عليها ما يشد إزره من ناحية أخرى. ومع أن كلا من الجزء الأول والثاني يكتب مرحلة مختلفة من أيامه الباكرة، فإن كلا منهما يوشك أن يكون نظيرا للمعارك التي سبقت كتابته، ونقيضا لها في آن. لأن الجزء الأول ينطلق من الوعي بما أصابه مبكرا من مرض ذهب ببصره، وأرهف بصيرته، وهو نظير السياق الذي سبق نشر كتابه العلامة (في الشعر الجاهلي)، وإن كان العمى فيه استعاريا وليس عضويا. كما أن سرده لمراحل طفولته وصباه الباكرة فيه، ينتهي بإعلانه – عقب الاستماع لأول دروس أخيه في الأزهر – «أنه احتقر العلم منذ ذلك اليوم.» (ص 116) ويعني به هذا العلم التقليدي المكرور الذي شن نفس شيخوه عليه تلك الحملة المسعورة النكراء بعد نشره (في الشعر الجاهلي).

لأننا نعرف من أي متابعة لحياة طه حسين منذ عاد من بعثته وهو في الثلاثين من عمره – عقب اندلاع ثورة 1919 بفترة قصيرة – أنه كرس نفسه منذ لحظة عودته للوطن لأهداف تلك الثورة، وحدد لنفسه دوره في تحقيقها، في مجاله العلمي المحدد، وفي ساحة العمل العام في وقت واحد. وأنه بدأ دروسه في الجامعة عن التاريخ اليوناني القديم في 7 ديسمبر 1919، وسرعان ما جعل من تلك الدروس دروسا في أنظمة الحكم الديموقراطية التي ينشد أن تتحقق في بلده، عندما قدم لطلابه كتاب أرسطو الشهير نظام الأثينيين Athenian Constitution أو «دستور الأثينيين» الذي عثروا على مخطوطته في مصر، ويدعو لترجمتها للعربية بعدما ترجمت للغات الأوروبية المختلفة. وكأنه يبسط أمام طلابه نظم الحكم المرتجاة، بعدما تحقق الثورة أهدافها في الاستقلال، وطرد الانجليز.

بل سرعان ما ينهض هو نفسه بهذه الترجمة حين يقول «إذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نُعنى باللغات القديمة، ولا نحفل بدراستها، فأني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأنني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد.»[6] ذلك لأنه يريد أن يقدم لأبناء وطنه مرآة يرون فيها ما يريدهم أن يكونوا عليه في المستقبل وقد تعودوا الحرية والأنفة، وتخلصوا من ذلة الشرقيين وتقديسهم لرجال مثلهم. لأن «الكتاب، كما هو، أحسن صورة موجودة تمثل الحياة السياسية اليونانية، وهو مع هذا صورة حيّة لنشأة الديموقراطية واستحالتها ورقيها قليلا قليلا حتى تصل إلى أقصى ما يقدر لها من النمو وسعة السلطان.»[7]

ولم يقتصر دور طه حسين الشاب على دروسه في الجامعة، وإنما عمد إلى توسيع جمهور هذه الدروس بالكتابة للقراء عامة، حين طلبت منه مجلة (الهلال) أن ينشر فيها فصولا عن «قادة الفكر» الذين يقدمهم لطلابه في الجامعة. وتلقى هذه الفصول عن سقراط وأفلاطون وأرسطو والإسكندر ويوليوس قيصر وهوميروس قبولا حسنا، وترهف وعي القراء بأهمية الدور الذي على المثقف أن يلعبه في تحقيق استقلاله وتنظيم الحكم في بلاده. وما أن تعلن انجلترا إنهاء الحماية على مصر بتصريح 28 فبراير 1922 وأنها أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة – برغم كل سوءات التحفظات الأربعة – حتى تنشق وحدة الأمة. بين من يرى أن الاعتراف بالاستقلال يمكن أن يكون حجر الزاوية في بناء جديد، يحوّل الاستقلال المنقوص بالتحفظات الأربعة، إلى استقلال حقيقي مع إنشاء حكم وطني ونظام دستوري ينهي حكم الفرد – السراي – ثم يحقق الاستقلال الفعلي بطرد الانجليز. بينما رفض سعد زغلول التصريح، وألب الشارع على الحكومة التي استردت به بعض استقلال مصر. ويتفاقم الخلاف بين السعديين والعدليين، وتخرج الجماهير إلى الشارع تردد هتافها المشهور : لا زعيم إلا سعد.

ومع أن طه حسين كان هو الآخر شديد النقمة على التحفظات الأربعة، وعلى سعي الإنجليز إلى إفراغ الاستقلال من مضمونه، إلا أنه – كأحد قادة الفكر في بلده – رأي مع عبدالخالق ثروت رئيس الوزراء وقتها، أن من الضروري أن نستخدم هذا الاستقلال المنقوص في تأسيس الدعائم التي تحوله إلى استقلال حقيقي. وكتب رافضا الرأي الذي يقول لا زعيم إلا فلان، ولا رأي إلا رأي فلان، لأن فيه مصادرة لآراء الآخرين وعدوان على الحرية.[8] كتب هذا وهو يعرف أنه يثير بذلك سخط سعد وسخط الجماهير الغفيرة الموالية لسعد عليه، بعدما كان قد أثار سخط السلطان – الذي أصبح ملكا بعد هذا لإعلان – برفضه حكم الفرد ودعوته لدستور يفصل بين السلطات. ثم يتضاعف سخط السلطان عليه حينما يطلب الملك فؤاد من عبدالخالق ثروت تعديل المواد الواردة في مشروع الدستور – دستور 1923 الشهير – بأن الأمة مصدر السلطات، فيكتب طه حسين ويكتب معه عباس محمود العقاد تأييدا للنص على مبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات، بل ينتقد طه حسين إغفال الدستور للقب الملك بأنه ملك مصر والسودان، إرضاء للإنجليز ويكتب «نزلت الوزارة عنه لأن ممثل الانجليز قطب جبينه ولوى وجهه، فسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا الانجليز.» وبهذا يستثير عداء الانجليز بعد عداء القصر، وعداء سعد ومن وراءه من الغوغاء. بل إن عداء الانجليز له يتزايد حينما يكتب مقالات عنيفة ضد مطالبة الانجليز بدفع تعويضات – ضخمة وغير مبررة – للموظفين الإنجليز الذين استغنت عنهم الحكومة بعد الاستقلال.

وإلى عداء هؤلاء جميعا كسب طه حسين – بحسن نية وبرغبة صادقة في تحديث اللغة العربية – عداء كاتب طالع، ومن ورائه مجموعة واسعة من التقليديين الذين سبق وأن عانى من عدائهم له حتى قبل السفر إلى فرنسا. فقد كتب لصحيفة (السياسة) التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل ويشرف على قسمها الأدبي طه حسين، كاتب من طنطا يطلب منها نشر رسالته التي استخدم فيها نمطا ظريفا من أنماط النثر العربي. فلما قرأها هيكل على طه حسين رد عليه بأن علينا أن ننشرها، وسأكتب عليها تعليقا موجزا: وكان تعليق طه حسين «أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرنين الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي تغيرا كبيرا.» وتنشر السياسة كلمة الأديب مصطفى صادق الرافعي الذي كتب لها من طنطا، وتعليق طه حسين عليها، ويكتب الرافعي تعليقا على التعليق.

وتنشب معركة بين القديم والجديد يشترك فيها الكثيرون من أدباء تلك المرحلةـ فيؤيد أحمد زكي أبوشادي وسلامة موسى طه حسين، بينما يكتب عباس العقاد رسالة قال عنها طه حسين «إن فيها خيرًا وشرًّا، وفيها ثناء وذمًّا.» فقد كان العقاد سعديا متحمسا لم يغفر لطه حسين – رغم اتفاقه مع كثير من أفكاره في ذلك الوقت – رفضه تأليه سعد. كما يكتب من بعده الكثيرون من التقليديين يهاجمون طه حسين. بالرغم من أن طه حسين كان يكتب في هذا الوقت في (السياسة) «حديث الأربعاء» الذي كان يقدم فيه عيون الأدب العربي القديم وأعلامه للقراء بأسلوب شيق وبسيط مكن القارئ العادي من حب الشعر والنثر القديم على السواء. وهو الأمر الذي لم تستطع أن تحققه كتابات التقليديين المتتابعة بأي حال من الأحوال. وبالرغم من أنه أكد أكثر من مرّة: «نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قوامًا للثقافة وغداء للعقول لأنه أساس الثقافة العربية، فهو إذن مقوم لشخصيتنا، محقّق لقوميتنا، عاصم لنا من الفناء في الأجنبي، مُعين لنا على أن نعرف أنفسنا.»

والواقع أن هذا الاستعراض الذي طال قليلا للسياق الذي تبلور حول طه حسين قبل نشر كتابه العلامة (في الشعر الجاهلي)، يكشف عن التزام طه حسين العميق بروح ثورة 1919 التي اندلعت في مصر طلبا للحرية والاستقلال، حتى قبل عودته من فرنسا. لأننا نعرف أنه التقى بأعضاء الوفد المصري – سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي وأحمد لطفي السيد – حينما مروا بباريس وهو لايزال طالبا بها، وأنه قال لسعد «كيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ، ودعوتموه فاستجاب؟! ويكرر أنه مادام الشعب يقظا فإن مطالبه العادلة ستتحقق دون شك.»[9] فنحن هنا بإزاء وعي قادر على استشراف المستقبل، ولذلك فإنه يسعى منذ عودته لمصر للمشاركة في تحقيقه من خلال دور المثقف في رفض كل أشكال الاستبداد والطغيان، باعتباره المعبر الفعلي عن ضمير أمته. وهو الأمر الذي راد خطواته طوال رحلته الطويلة والصعبة في مصر.

فإذا كان طه حسين قد قدم إسهامه الفكري والسياسي في التأسيس لتلك الثورة، ووضع القواعد التي ينهض عليها دستورها – دستور 1923 – حينما كان مدرسا للتاريخ القديم في الجامعة الأهلية عقب عودته من بعثته؛ فإنه ما أن عين أستاذا للأدب العربي بعدما تحولت الجامعة إلى مؤسسة حكومية باسم (الجامعة المصرية) عام 1925 حتى شرع في التأسيس لمنهج جديد لدراسة هذا الأدب العربي بدروسه في العام الأول له كأستاذ للأدب العربي فيها، والتي نعرف أنها كانت الأساس الذي نهض عليه كتابه (في الشعر الجاهلي). فنحن هنا في الحالين بإزاء مثقف يعي دوره في طرح الحقيقة في وجه القوة، وخاصة إذا ما كانت تلك القوة فردية أو شعبوية (سعد زغلول) أو غاشمة مستبدة (السراي)، ناهيك عن أن تكون مستعمِرة (الانجليز).

وها هو في كتابه الجديد يطرح الحقيقة في مواجهة سلطة لا تقل عن تلك السلطات عقما وعنتا، ألا وهي سلطة التقليد والتكرار والتخلف. لذلك كان نشر هذا الكتاب فرصة لتأليب المؤسسة الرسمية – بجناحيها الديني والسياسي معا – عليه. فقد كان طه حسين الذي عاد من بعثته إلى فرنسا مسلحا بما تعلمه فيها من ناحية، وبجانبه امرأة محبة تشد أزره من ناحية أخرى، قد امتلأ بالأمل في أن يلعب دوره في حياة الأمة التي علمته، وبعثته إلى الخارج كي يعود ليلعب دورا في تعليمها. وبدأ بالفعل في القيام بهذا الدور على خير وجه، وعلى عدد من الجبهات الجامعية منها والسياسية، كما وضحنا. لكنه وهو يعتقد أن الفكر ساحة للجدل الحر والحوار الخلّاق، لم يكن مستعدا للدخول في تلك المعارك – وكان كثير منها انتهازيا وغير نزيه – وأن لم يسلم من تأثيرها السلبي عليه، وما سببته له من ألم ونَصَب.[10]

والواقع أنه كان قد استشرف هذا الموقف قبل هذه المعركة بأربع سنوات حينما كتب في تقديمه للطبعة الثانية من (تجديد ذكرى أبي العلاء) التي كتبها عام 1922 بعد عودته من أوروبا «أعلم أن أناسا قرؤوا هذا الكتاب، فدُفِعوا أو اندفعوا إلى نقده بعلم وبغير علم، مخلصين وغير مخلصين. ولقد كنت أود لو وجدت فيما كتبوا شيئا يستحق أن يُسطّر ويناقَش، ولكني آسف الأسف كله، لأنّي لم أجد فيما كتبوه إلا شتمًا وسبًّا، وإلا طُرقا في الفهم معوجّة، ومناهج في التفكير عتيقة. فإن عليّ لنفسي وللقراء ألّا أضيع الوقت في العناية بذلك ومناقشته. وما زلت أنتظر نقد الناقد المخلص لا يدعوه إلى نقده إلا حب العلم والرغبة في الإصلاح. فأما هذا الذي يبغضك ويحقد عليك فيتخذ النقد سبيلا إلى إيذائك والنيل منك، فخليق بك أن تتركه وشأنه. وأن تنصرف عنه إلى ما ينفع ويفيد.» (تجديد ذكرى أبي العلاء، ص 8) ولهذا آثر طه حسين ألا يرد على نقاد (في الشعر الجاهلي) للأسباب نفسها، وإن كانت الطبعة المنقحة من الكتاب، بعنوان (في الأدب الجاهلي) تضمنت عبر بعض ما أجراه عليها من إضافات وتعديلات رده على ما يمكن دعوته بالجانب الموضوعي في الرد عليه، إلا أنه امتنع كلية – رغم ولعه بالمعارك والجدل في مجالات عدة كما يتبين من كتاباته في الصحف والمجلات – عن الرد على مهاجميه، وقد خصص الكثيرون كتبا كاملة للرد على كتابه.[11]

وسوف نعرف فيما بعد، وحينما يكتب صهره عن ذكريات تلك الأيام أنه امتنع عن الدخول في معترك هذه الأزمة حرصا منه على الجامعة، ووعيا منه بأنه ليس وحده المستهدف، وإنما الجامعة الوليدة هي الأخرى مستهدفة من ورائه. لأن صهره وهو يروي وقائع مشاركته في مؤتمر اليونسكو الكبير في البندقية في سبتمبر 1952، وعقب حركة الضباط الأحرار في مصر، والتي جرت إثناء غيابه عن مصر في إجازته السنوية في فرنسا – والتي كان مشغولا فيها بإكمال الجزء الثاني من (الفتنة الكبرى: علي وبنوه) – حيث يعلق على ما تقرأه له زوجته من تغطية الصحافة الإيطالية لحديثه في المؤتمر: «الجريدة الأخرى فيها عنوان رئيسي "مانشيت" أفرحني بالنيابة عنك، وعن مصر كلها: هو: هونيجر، وهنري مور، وطه حسين، ورو، يدافعون عن كرامة الفنان. هل تسمع؟ من بين المئات من أدباء القارات الخمس التي تحضر مؤتمر اليونسكو في البندقية الآن تلمع أربعة أسماء وترتفع إلى "المانشيت"، من هذه الأسماء الأربعة اسم أحد الكتاب العرب، اسم طه حسين، مندوب مصر، مندوب مصر الجديدة، ألا تسمع؟ ويقول طه حسين سمعت! ولكني كنت أفكر في شيء آخر. كنت أفكر في أول مرة سمعنا فيها موسيقى هونيجر. وتقول سوزان في رقة نعم في إقليم سافوا في سنة 1926. أذكر ذلك، كان هونيجر قد كتب مقطوعته "جوديت"، وكنت قد أحضرت اسطوانتها لك لأنك ... ويقول طه: لأنها كانت سنة 1926، وكانت الأصوات التي أسمعها من مصر لا تُطربني، وكنت مضطرا إلى الصمت. كنت مثل هيلين كيلر لا أستطيع الكلام، ولكني كنت أسمع، كنت مضطرا ألا أتكلم، خوفا على الجامعة التي كان يُراد لها أن تُخنق في المهد»[12]

(الأيام) يرد على نقاد طه حسين:
وحينما سافر إلى فرنسا في إجازته السنوية – وكان لايزال يعاني من أوجاع ما سببته له تلك المعركة،[13] والتي تركها دائرة وراءه، ثم استمرت بعد عودته حينما رجع ليواجه النيابة للتحقيق معه بشأن القضايا التي رفعت عليه – أملى الجزء الأول من (الأيام)، والذي يشكل من وجهة نظري ضربة معلم بكل المقاييس. لأنه يعدّ ردا إبداعيا بليغا على كل من هاجموه، بقي خالدا في ذاكرة الأدب العربي بطريقة مغايرة لتلك التي خلدت (في الشعر الجاهلي). فقد فتح الطريق أمام نوع جديد ونادر من كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، الذي لم يكن يعرف هذا الجنس الأدبي قبله. وإذا كان علينا دراسة (الأيام) كسرد سيرذاتي من نوع فريد، مكتوب بضمير الغائب، وحريص على زعزعة مركزية الشخصية المحورية وهي تسرد وقائع تجربتها الخاصة، دون التضحية بالتماهي معها، أو حتى نقض العهد السيرذاتي حسب مصطلح فيليب ليجينPhilippe Lejeune الشهير. [14] فأنني سأدرسها هنا باعتبارها رد طه حسين الفريد على من هاجموه، لأنه فتح طريقا جديدا لدراسة الأدب العربي القديم، وهو الطريق العلمي الصحيح الذي انتصر، واستمر حتى يومنا هذا في مصر وفي غير مصر. ولأن هذا التأويل هو ما طرحته على طلابي في جامعة أكسفورد في أول تجربة لي للتدريس في الجامعات الغربية.

لأننا ما أن نتقدم بضع صفحات في قراءة (الأيام) إلى قسمها الثالث – يتكون هذا الجزء الأول من 20 قسما قصيرا – حتى يخبرنا ببذور هذا المنهج الذي يعتمد على التدقيق والشك في وعيه الباكر. «كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته. وكان يشعر بأن له، بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال، مكانا خاصا يمتاز من مكان إخوته وأخواته. أكان هذا المكان يرضيه؟ أكان يؤذيه؟» (ص 24) وإذا فاتت القارئ أهمية هذا الاستفهام والتشكك الذي سيستطرد في أسئلته بأسلوبه السلس البديع، فإنه ما أن يبلغ نهاية هذا القسم الثالث، حتى يؤكده له الكاتب مرة أخرى – بأسلوب هذه الذات المزدوجة التي أدعوها بالذات المتحللة من مركزيتها Decentred [15]Self أي القادرة على رؤية الواقع والشخصية من الداخل ومن الخارج في آن – بأسلوب الراوي القادر على التماهي مع الشخصية والتعليق على ما تعيشه في الوقت نفسه، ونحن نتعرف معه على اكتشافه المبكر لقدرة إخوته على وصف ما لا علم له به، فعلم «أنهم يرون ما لا يرى» وهو الأمر الذي دفعه إلى «حزن صامت عميق». (ص25)

أقول إذا فاتت القارئ أهمية هذه الإشارات الباكرة إلى تجذر المنهج الشكّي في حياته، فإن القسم الرابع يبدأ: «كان من أول أمره طُلعة لا يحفل بما يَلقى من أمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم. وكان ذلك يكلفه كثيرا من الألم والعناء.» (ص26) وهي مقولة على بساطتها الشديدة وغناها بالدلالات توشك أن تكون تلخيصا لحياة العميد ومسيرته الخصبة. خاصة وأنه يردفها في الصفحة التالية مباشرة «من ذاك الوقت تقيدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء لا حد له. ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادة قوية. ومن ذلك الوقت حرّم على نفسه ألوانا من الطعام، لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين.»[16] (ص 27) وكأن طه حسين أراد أن يقول للذين هاجموه، وحاكموه أن ذكاءه الفطري الذي دفعه لطرح الأسئلة على كل شيء، ورغبته في استكشاف ما لا يعلم برغم ما قد يكلفه هذا من ألم وعناء، وإرادته القوية التي ألهمته مواصلة الدرس والاستمرار، هي التي قادت هذا الصبي الفقير الذي كان أقصى ما يُتوقع من أمثاله أن يحفظ القرآن، ويردده في المناسبات، إلى ما هو عليه من مكانة: أستاذا في أهم جامعات البلاد، وخريجا ناجحا من أعرق الجامعات الفرنسية.

فالجزء الأول من (الأيام)، الذي كُتب عقب معركة (في الشعر الجاهلي)، في نوع من العودة للذات والاعتصام بها في وجه كل ما تعرض له من أذى واتهامات، يبدأ من طفولته المبكرة في عزبة الكيلو – قرب مغاغة في صعيد مصر – والتي نشأ فيها طه حسين الطفل، ويستمر معه في رحلة التكوين إلى صباه وحتى الأسبوع الأول من التحاقه بالأزهر. ويصحبنا معه إلى عالم «الكُتَّاب» لحفظ القرآن على يديّ «سيدنا»، ويخبرنا أنه «لم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعي من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملة صالحة، وحفظ إلى ذلك كله القرآن.» (ص 31) وما يعقب حفظ صبي صغير للقرآن من طقوس، وكيف أن اهمال تلك الطقوس دفعه إلى الانخراط فيما ينخرط فيه الصبية من عبث وشغف بالحكايات وإهمال، حتى نسي القرآن.

فلما حان يوم أراد والده أن يتباهى بحفظ ابنه صغيرا للقرآن أمام زائرين، أدرك أنه نسي القرآن. فقال له أبوه في هدوء «قم، فقد كنت أحسب أنك حفظت القرآن. قام خجلا يتصبب عرقا، وأخذ الرجلان يعتذران عنه بالخجل وصغر السن، ولكنه مضى لا يدري أيلوم نفسه لأنه نسي القرآن؟ أم يلوم سيدنا لأنه أهمله؟ أم يلوم أباه لأنه امتحنه؟» (ص 41) لاحظ بدايات المنهج الشكي بالنفس قبل الآخرين في تتابع تلك الأسئلة. ويرده الأب إلى «سيدنا» من جديد يعيد معه الكرّة، و«يقرئه القرآن من أوله، شأنه مع من لم يكن شيخا ولا حافظا» (ص 41) حتى تأكد من حفظه للقرآن من جديد، فيعود به إلى أبيه مصرّا على أن يمتحنه أمامه. و«كان الامتحان عسيرا شاقا، ولكن صاحبنا كان في هذا اليوم نجيبا بارعا، لم يُسأل عن شيء إلا أجاب في غير تردد وقرأ في إسراع .... حتى قال له أبوه: فتح الله عليك، اذهب إلى أمك فقل لها إنك حفظت القرآن حقا.» (ص 43)

ويسعد الأب بحفظ ابنه للقرآن ويسعد «سيدنا» بنجاحه، وقد خلع عليه الأب «جبة» من الجوخ، ويعهد به للعريف – وما أدراك ما العريف – كي يعيد عليه تلاوة القرآن مرة كل أسبوع كي لا ينساه من جديد. ويدخل بنا النص إلى عالم القرية المصرية، ومؤسسته التعليمية الأساسية في ذلك الوقت، وما يدور في عوالمها الخلفية بين العريف ومن يوكلهم الشيخ له من تلاميذ من وقائع وأحداث. حيث يكشف لنا عن أن العريف ليس أقل من سيدنا محدودية وفسادا. وكيف استطاع «صاحبنا» أن يتعامل بذكاء نادر مع ذلك العالم الخلفي، ويشبع فيه شهوته للمعرفة، بعيدا عن الحفظ والتكرار. ويكشف لنا من خلال ذلك كله عن الكثير من قدرات «صاحبنا» ومما تعلمه من خبرات حياتية باكرة، وعن انخراطه فيما يدور في القرية والكُتّاب معا، وإهماله من جديد للقرآن حتى مُحِي من صدرة مرة ثانية. وما أن دعاه أبوه لامتحانه فيه بعد شهور من اللعب والانخراط في عوالم الكُتّاب الخلفية من لعب وتبادل للرشى والحكايات، حتى يكتشف أنه نسيه من جديد. (ص53)

هنا تتغير به المسارات، ويعهد به أبوه إلى شيخ آخر، كان يقرأ القرآن في البيوت ولم يكن له كُتّابا. فهو حريص أشد الحرص على أن يحفظ ابنه القرآن. ويطمئن صاحبنا إلى أنه ترك عالم الكُتّاب إلى غير رجعه، فلما كان يجيء له زملاء الكُتّاب يلعبون معه بعد العصر، ويقصون عليه ما كان يدور فيه، كان «يعبث بهم وبكُتّابهم، وبسيدنا وبالعريف. وكان قد خيل إليه أن الأمر قد انبتّ بينه وبين الكتاب ومن فيه، فلن يعود إليه، ولن يرى الفقيه ولا العريف. فأطلق لسانه في الرجلين إطلاقا شنيعا، وأخذ يظهر من عيوبهما وسيئاتهما ما كان يخفيه، وأخذ يلعنهما أمام الصبيان ويصفهما بالكذب والسرقة والطمع، ويتحدث عنهما بأشياء منكرة؛ كان يجد في التحدث بها شفاءً لنفسه، ولذة لهؤلاء الصبيان.» (ص 57) لكن «سيدنا» لم يستسلم لانتصار فقيه آخر عليه، وظل يتوسل إلى الأب بنفسه تارة، وبإرسال الوساطات إليه تارة أخرى، حتى لانت قناته، وأمر ابنه بالعودة إلى الكُتّاب.

هنا يكتشف صاحبنا أن زملاء العبث في العصاري، كانوا يشتمون له الفقيه والعريف، ويغرونه بشتمهما ثم ينقلون لهما كل ما كان يقوله عنهما، تقربا به ووسيلة، وأن هذا الأمر قد أحال حياته في الكُتّاب بعد عودته له إلى جحيم من التقريع واللوم. وهكذا تعلم صاحبنا «الاحتياط في اللفظ، وتعلم أن من الخطل والحمق الاطمئنان إلى وعيد الرجال، وما يأخذون أنفسهم به من عهد. ألم يكن الشيخ قد أقسم لا يعود الصبي إلى الكتّاب أبدا؟ وها هو ذا قد عاد. وأي فرق بين الشيخ يقسم ويحنث! وبين سيدنا يرسل الطلاق والأيمان إرسالا، وهو يعلم أنه كاذب؟ وهؤلاء الصبيان يتحدثون إليه فيشتمون له الفقيه والعريف، ويغرونه بشتمهما، حتى إذا ظفروا منه بذلك، تقربوا به إلى الرجلين، وابتغوا به إليهما الوسيلة.»(ص 59)

فطه حسين يسرد علينا هذه الحكاية الباكرة، أو هذا الدرس القاسي، كي يخبرنا بأمرين: أن حدّة عقله النقدي وتفنيده الصارم لما يعرفه – وإن جرّت عليه الكثير من المشاكل منذ صباه – هي جزء أساسي من موهبته العقلية، وأنه تعلم منذ بواكير حياته ألا يثق في وعود الرجال! وأقرب الرجال إليه. وأن الأمر الثاني أن ثمة خطل أساسي في الثقافة العربية عامة، وهو عدم وعيها بأهمية التعامل الصادق والجدي مع الأطفال – والأذكياء منهم خاصة – والصدق معهم، وكيف أن خداعهم والكذب عليهم يترك تأثيرا ضارا يحتاج لزمن لإصلاحه. لأن وعدا آخر قطعه الأب له بالذهاب مع أخيه إلى القاهرة ليجاور في الأزهر في ذلك العام، بعد أن حفظ القرآن من جديد، سرعان ما يواجه الحنث. فقد كان لايزال صغيرا، ولم يكن أخوه يود أن يحتمله، فأشار بأن يبقى حيث هو سنة أخرى. يستعد فيها للأزهر، ودفع إليه كتابين يحفظ أحدهما جملة، ويستظهر من الآخر صحفا مختلفة.

«فأما الكتاب الذي لم يكن بدّ من حفظه كله، فألفية ابن مالك، وأما الكتاب الآخر فمجموع المتون» (ص60) ويدفع الأب بابنه إلى قاضي المحكمة الشرعية كي يقرأ عليه الألفية، فيتيه صاحبنا بتميزه – وهو راغب في هذا التميز منذ ذلك الوقت المبكر – وقد أحس أنه ارتفع بذلك درجات «فأصبح سيدنا لا يستطيع أن يشرف على حفظه للألفية، ولا أن يقرئه إياها.»(ص64) والمثير في (الأيام) أنها تقدم لنا ومنذ هذا الوقت المبكر كيف أن هذا العقل الراغب في المعرفة، والشغوف بقراءة القصص والأحاديث، شديد الضيق بمنطق الحفظ والتكرار الرتيب. لأنه أقبل بشره على الألفية في البداية، سعيدا بأنه يتميز بها على أقرانه، ولكنه سرعان ما ملّ الحفظ بعد المائتين الأولين، وضاق به.

وكما كان يناور سيدنا والعريف، أخذ يناور أباه كلما سأله عما حفظ من الألفية، ويلقي عليه شيئا مما حفظ لا يتفق بأي حال مع ما كان عليه أن يحفظه من أبواب جديدة منها. وكاد أمره أن يفتضح حينما عاد أخ أكبر له كان يختلف إلى المدارس المدنية، إلى القرية وشهد مناورة صاحبنا لأبيه، وهدد بفضح أمره له، غير أن أمه توسلت إليه؛ وكان الشاب رفيقا بأمه، رؤوفا بأخيه فلم يفعل. «وظل الشيخ على جهله حتى عاد الأزهري. فامتحن الصبي، وما هي إلا أن عرف جلية الأمر، فلم يغضب، ولم ينذر، ولم يخبر الشيخ؛ وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكُتّاب والمحكمة. وأحفظه الألفية كلها في عشرة أيام.»(ص 68) وهذا ما يؤكد ما خلصت إليه من أن صاحبنا إذا تفرغ لأمر أنجزه، ولكنه يملّ حياة الحفظ والترديد، مع أنه قادر عليهما. وما حفظ (الألفية) في عشرة أيام بالأمر اليسير.

والواقع أن الفصلين التاليين لذلك – الفصل 14 و 15 – يكشفان عن حدّة ملاحظات صاحبنا وذكائه، وهو يستعرض مكانات مختلف المشايخ وأصحاب العلم في القرى وسذاجتهم، وتصرفات أهل الطرق الصوفية وحيلهم التي لم تنطل على الصبي، منذ ذلك الوقت المبكر. كما تكشف لنا عن مدى ثراء معارفه التي استقاها من جل تلك المصادر المتشابكة والمتعارضة، كما استمدها مما كان يروج في القرى من كتب السحر والطلاسم التي يتنقل بها الباعة في القرى، ومعهم منها مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، «وقصة القط والفأر، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر ... ثم أورادا مختلفة، ثم قصص المولد النبوي ثم مجموعات من الشعر الصوفي، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين وعنتر والظاهر بيبرس وسيف بن ذي يزن ... وقد قرئ لصاحبنا من هذا كله، فحفظ منه الشيء الكثير.» (ص 82)

هكذا يقدم لنا صاحبنا الكثير مما استوعبه عقله الشره للمعرفة منذ بواكير الصبا، ويقدم لنا معه قدرة هذا العقل النقدية الباكرة، وانتقاداته الصائبة لما في هذا الخليط من تنافر وتناقض. كما يكشف لنا في الوقت نفسه أنه لا يفوّت فرصة الاعتزاز بما يميزه بين الآخرين، فيروي لنا في شيء من التيه كيف أدخله أبوه على شيخ طريقتهم الصوفية، فمسح رأسه، وتلا قول الله تعالى «وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما». من ذلك اليوم اقتنع أبو الصبي بأن سيكون لابنه شأن». (ص 77) ويبدو أن الصبي نفسه – وفي هذا العمر المبكر –  كان يستعجل أن يكون له شأن، فيروي لنا أنه لمّا قرئت له قصة (حسن البصري) من (ألف ليلة وليلة) ضمن ما شغف بأن يُقرأ عليه من الكتب والقصص، وعرف منها بأمر العصا السحرية التي أهديت له وكان ما أن يضرب بها الأرض حتى تنشق ويخرج منها نفر من الجن يأتمرون بأمره، حتى «فتن الصبي بهذه العصا، ورغب في أن يظفر بها رغبة شديدة قوية، أرّقت ليله ونغصت يومه. فأخذ يقرأ كتب السحر والتصوف .. يتلمس وسيلة تمكنه من هذه العصا. » (ص 84)

ولا يريد طه حسين أن ينتهي من هذا القسم الأول من (الأيام) قبل أن يكشف لنا عن جانب آخر من جوانب شخصيته التي تبلورت منذ ذلك الوقت المبكر، وجرّت عليه وعلى من يتصلون به من قريب أو بعيد الكثير من المشاكل. فقد كان الواقع الذي يعيش فيه محكوما بتصور محدود – إن لم يكن سلبيا – للفتى الذي امتُحِن مبكرا بفقدان البصر، ولا يتقبل تميزه منذ ذلك الوقت البعيد. وقد روى لنا صنوفا من شقاء "سيدنا" به كلما انشغل عن القرآن حتى مُحِي من صدره أكثر من مرة، وصنوفا أخرى من تعالي الصبي على أترابه وعلى سيده وعلى العريف بعدما بدأ في التميز عنهم بحفظ الألفية. وها هو الباب يُفتح أمامه بتميز آخر عليهم جميعا – وهو باب تجويد القرآن – فيفرح به فرحا شديدا، فقد ألفناه حفيا بكل جديد، حريصا على معرفته وإتقانه. فتعلم «المدّ والغنّ والإخفاء والإدغام وما يتصل بهذا كله. وكان الصبي معجبا بهذا العلم، وكان يتحدث به إلى أترابه في الكُتّاب، وكان يبين لهم أن سيدنا لا  يحسن المدّ ولا يتقن الغنّ، ولا يعرف الفرق بين المد الكلمي والحرفي، ولا بين المد المثقل والمخفف. وكانت أصداء هذا كله تصل إلى سيدنا فتغمّه وتحزنه وتخرجه أحيانا عن طوره.» (ص 95) فصاحبنا يتميز منذ ذلك الوقت المبكر بعقل نقدي حاد، وبنفور شديد من الجهل، ويروم المغامرة في أصقاع كل جديد.

ولا ينتهي الكتاب قبل أن يخبرنا بنوعين آخرين من المعارف أو التجارب التي اغتنت بها خبرة الصبي قبل أن يغادر القرية ليجاور مع أخيه في الأزهر. أولهما عذب لذيذ يستمد عذوبته من تفتح براعم الاقتراب الحميمي من الجنس الآخر، حينما توطدت الأواصر بينه وبين زوجة المفتش الذي يجوّد عليه القرآن، والتي لم تكن تكبره إلا بسنوات قليلة. فاتصلت بينهما «مودة ساذجة كانت حلوة في نفس الصبي، لذيذة الموقع في قلبه.» (ص 96) أما الثاني فكان شديد الوقع والمرارة، لأنه نجم عن قرع الموت باب دارهم أكثر من مرة. كانت أولاها حينما اختطف المرض أخته الصغيرة "نفيسة" وهي في الرابعة من العمر. ثم فقد الأب أباه بعد شهور، وفقدت الأم أمها بعد شهور أخرى، فلف الكمد والحزن والحداد البيت بعتمته القاتمة.

وبلغ الحزن ذروته الموجعة حينما اختطف وباء الكوليرا الذي ضرب مصر في ذلك العام أخاه "محمود"، في يوم الخميس 21 أغسطس 1902 – وهو تاريخ حُفِر في ذاكرة الأسرة كلها وابيضّ له شعر الوالدين – أنجب أفراد الأسرة وأذكاهم وأجملهم، وأرقّهم قلبا وأصفاهم طبعا، وأبرّهم بأمه، وأرأفهم بأبيه، وأحنّهم على أخوته وأخواته. كان في الثامنة عشرة من عمره، «ظفر بشهادة البكالوريا، وانتسب إلى مدرسة الطب، وأخذ ينتظر  آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة. فلما كان هذا الوباء، اتصل بطبيب المدينة، وتطوع لمرافقته وهو يقول: إنه يتمرن على صناعته.» (ص 104) فأصابته الكوليرا، واختطفه الموت من بين أفراد أُسرته بسرعة صادمة.

وقد تركت صدمة الموت تلك أثرها البالغ على صاحبنا، فزعزعته كما زعزعت أباه وأمه. فقد ظل في حجرة أخيه وهو يحتضر، فعاش تجربة الاحتضار كاملة، «وإن الصبي لينسى كل شيء قبل أن ينسى هذه الأنّة الأخيرة التي أرسلها الفتى نحيلة ضئيلة طويلة ثم سكت. في هذه اللحظة نهضت أم الفتى وقد انتهى صبرها ووهِي جَلَدُها، فلم تكد تقف حتى هوت أو كادت ... وانبعثت من صدرها شكاة لا يذكرها الصبي إلا انخلع لها قلبه انخلاعا. واضطرب الفتى قليلا، ومرّت في جسمه رعدة تبعها سكوت الموت. وأقبل الرجلان فهيآه وعصباه وألقيا على وجهه لثاما، وخرجا إلى الشيخ، ثم ذكرا أن الصبي منزو في ناحية من نواحي الحجرة، فعاد أحدهما إليه فجذبه جذبا وهو ذاهل، حتى انتهى به إلى مكان بين الناس فوضعه فيه كما يوضع الشيء.» (ص 108)

والواقع أن هذا الفصل من الكتاب – الفصل 18 وهو أطول فصوله جميعا – يكشف لنا عن مدى حساسية صاحبنا لما يدور حوله، وعمق تأثره بصدمة الموت، وقدرته الفذة على استكناه مشاعر من يحيطون به رغم حداثة سنه. بل يوشك أن يكون تسجيلا بالغ الدقة لوقع الموت القاسي على الصبي من ناحية، وعلى حياة الأسرة كلها – وخاصة الأم – من ناحية أخرى. فقد استطاع أن يجسد فيه بحق كيف «استقر الحزن العميق في هذه الدار، وأصبح إظهار الابتهاج أو السرور بأي حادث من الحوادث شيئا ينبغي أن يتجنبه الشبان والأطفال جميعا.» (ص 109) وكيف «تغيرت نفسيه صبينا تغيرا تاما. عرف الله حقا. وحرص على أن يتقرب إليه بكل ألوان التقريب: بالصدقة حينا، وبالصلاة حينا آخر، وبتلاوة القرآن ثالثة ... يريد أن يحط عن أخيه بعض السيئات.» (ص109) وكيف أن هذا التغير والتفكير المستمر فيما جرى لأخيه جعله عرضة للأرق من ناحية، وللأحلام المروّعة من ناحية أخرى لسنين طويلة. (ص110)

ويبلغ الكتاب غاية مسعاه الأزهري حينما يخبره أبوه في آخر النهار في يوم من خريف 1902 «أما في هذه المرة فستذهب إلى القاهرة مع أخيك. وستصبح مجاورا، وستجتهد في طلب العلم ... وسمع الصبي هذا الكلام فلم يصدّق ولم يكذّب، ولكنه آثر أن ينتظر تصديق الأيام أو تكذيبها له، فكثيرا ما قال أبوه مثل هذا الكلام، وكثيرا ما وعده أخوه الأزهري مثل هذا الوعد. وفي الحق أنه لم يفهم لماذا صدق وعد أبيه في هذه السنة.» (ص111) لكنه وهو يقصّ علينا هذا كله يذكر قارئه قرب نهاية الكتاب بما أكده له في أوله، وهو أن هذا العقل النقدي الذي يمحص كل ما يتلقى من معلومات، ويتشكك فيها ويمتحنها بكل تدقيق، هو الذي قاده إلى ما وصل إليه من مكان ومكانة. كما يكشف له في الوقت نفسه عن مدى حساسيته الشخصية وحبه لأسرته في آن، لأنه كان محزونا في هذا اليوم الذي طالما تشوق إلى تحققه، وإن لم يفهم بعض أقرب الناس إليه – أبوه وأخوه الأكبر – سر حزنه. فيحتفظ بسره لنفسه «شهد الله ما كان الصبي حزينا لفراق أمه، وما كان الصبي حزينا لأنه لن يلعب، وإنما كان يذكر هذا الذي ينام هناك من وراء النيل. كان يذكره، وكان يذكر أنه كثيرا ما فكر في أنه سيكون معهما في القاهرة، تلميذا في مدرسة الطب. كان يذكر هذا كله فيحزن، ولكنه لم يقل شيئا ولم يظهر حزنا، وإنما تكلف الابتسام. ولو قد أرسل نفسه مع طبيعتها لبكى، ولأبكى من حوله أباه وأخويه.» (ص 113)

ثم يصحبنا النص في رحلته إلى القاهرة، واستقبال أصدقاء أخيه من المجاورين لهم، وكيف مضى في يومه الأول بها إلى الأزهر لصلاة الجمعة مع أخيه، فلم يجد فيها شيئا مختلفا عما ألفه في مثلها في مدينتهم، فعاد إلى حجرة أخيه «خائب الظن». ولكن ما أن يسأله أخوه عما يبدأ به دروسه في الأزهر صباح اليوم التالي، حتى يكشف لنا – وهو لايزال في الثالثة عشرة – عن وعي حاد بما يريد. «سأله أخوه: ما رأيك في تجويد القرآن ودرس القراءآت؟ قال الصبي: لست في حاجة إلى شيء من هذا، فأما التجويد فقد أتقنته، وأما القراءات فلست في حاجة إليها. وهل درست أنت القراءآت؟ أليس يكفيني أن أكون مثلك؟ إنما أنا في حاجة إلى العلم، أريد أن أدرس الفقه والنحو والمنطق والتوحيد. قال أخوه حسبك! يكفي أن تدرس الفقه والنحو في هذه السنة.» (ص 114)

ها هو الشوق الكبير للعلم والمعرفة، والنفور من الدور المحدود الذي يمارسه قراء القرآن ممن كُفّ بصرهم، بإتقان التجويد والقراءات، يسفر عن نفسه منذ اليوم الأول للفتى في القاهرة. فأخوه يعرض عليه ما يبدو أنه تصور هذا الأخ لدور أخيه الكفيف أي تجويد القرآن ودري القراءات، بينما الفتى يتحدى تلك الإعاقة ويعلن بوضوح اكتفاءه بما درس من التجويد، وأنه ليس في حاجة لدروس القراءات، وإنما هو في حاجة إلى العلم الحقيقي. بصورة تسفر عن طموحه لدراسة الكثير من العلوم مرة واحدة، حتى قال أخوه حسبك! كاشفا عن أن إيقاع الدرس بالأزهر أبطأ من شغف صاحبنا بالعلم والمعرفة، وهو الأمر الذي سيقوده إلى البحث عنهما خارجه بعد سنوات قليلة.

ويوشك أن يكون يومه الأول في الأزهر – والذي ينهي به سرد أيامه في هذا الجزء الأول – وحكمه على أستاذ أخيه أن يكون استشرافا بالغ الدلالة لما ستتكشف عنه (الأيام) له من مسار، دفعه للصدام مع أساليب الأزهر العقيمة، وأساتذة الحواشيى والشروح، وأخذه بعيدا عنه الى الجامعة الوليدة، وطريق الاستنارة العريض. لأنه يقول لنا تعليقا على أول درس حضره في الأزهر – وكان درس أخيه للفقه، عن "ابن عابدين على الدرّ" الذي ألقى عليه عنوانه وقد ملأ به فمه كما يقول لنا – مع أنه كان قد سمع اسم الشيخ الذي سيحضر درسه ألف مرة من أبيه، الذي كان يفتخر بمعرفته له حينما كان قاضيا للإقليم. كان الصبي يعرف الشيخ، بعدما سمع عنه الكثير من أبيه وأخيه. وكان سعيدا بأن يفتتح علاقته بالأزهر بالذهاب إلى حلقته والاستماع له. ولكنه يقول لنا بعدما حضر هذا الدرس: «اجتمعت شخصية الصبي كلها حينئذ في أذنيه. وأنصت. ماذا يسمع؟ يسمع صوتا خافتا هادئا رزينا ملؤه شيء قل إنه الكبر، أو قل إنه الجلال، أو قل إنه ما شئت، ولكنه شيء غريب لم يحبه الصبي. ولبث الصبي دقائق لا يميز مما يقول الشيخ حرفا. حتى إذا تعودت إذناه صوت الشيخ وصدى المكان، سمع وتبين وفهم. وقد أقسم لي بعد ذلك أنه احتقر العلم منذ ذلك اليوم.» (ص 116)

ويختتم الفصل بعد ذلك بأن أخاه قد «مضى به بعد ذلك إلى الأزهر فقدمه إلى أستاذه الذي علمه مبادئ الفقه والنحو سنة كاملة.» في تركيز دال على إنهائه لتلك المرحلة من السرد، وإن لم ينه الكتاب بها. وهو أمر بالغ الدلالة على الدور الذي لعبه هذا الكتاب – وسيلعبه الجزء التالي له، والذي سينشر في مناسبة موازية – في حياة طه حسين ومنجزه الفكري. لأنه ينهي الكتاب بفصل أخير – الفصل 20 – يتوجه به كله إلى ابنته – التي كانت وقتها في التاسعة من العمر – وإلى قارئه المضمر الذي يتابع محنته مع (في الشعر الجاهلي) في آن. ويقيم في هذا الفصل مقارنة بين وضعه صبيا قبل أكثر من ربع قرن من زمن كتابته – أي عام 1902 الذي وفد فيه من قريته ليجاور في الأزهر – ووضع ابنته في حاضرها الراهن، مع أبيها وأمها. وهو الأمر الذي يؤكد طبيعة النص كمرآة، تضع الماضي في مواجهة الحاضر كي تضيء كليهما من ناحية، وتضع القارئ المتعجل لـ(في الشعر الجاهلي) أمام مسؤولياته الفكرية إزاء ما يقرأ من ناحية أخرى.

لأن طه حسين ينهي هذا الجزء بحديثه إلى ابنته البكر "أمينة" – وكانت في التاسعة من العمر – وهو يصف لها أباها حينما كان أكبر منها قليلا، حال التحاقه بالأزهر وهو في الثالثة عشر من العمر. «كان نحيفا شاحب اللون مهمل الزيّ أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، تقتحمه العين اقتحاما في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين أثناء عباءته، وقد اتخذ ألوانا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام. ومن نعليه الباليتين المرقعتين. تقتحمه العين في هذا كله، ولكنها تبتسم حين تراه على ما هو عليه من حال رثة وبصر مكفوف، واضح الجبين مبتسم الثغر مسرعًا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر عليه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين، تقتحمه العين ولكنها تبتسم له وتلحظه في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس مصغيًا كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهاما. مبتسما مع ذلك لا متألما ولا متبرما ولا مظهرا ميلا إلى اللهو، على حين يلهو الصبيان من حوله أو يشرئبون إلى اللهو.» (ص 119)

وهو إذ يؤكد شغف الصبي بالمعرفة وسعيه المستمر إليها منذ ذلك الزمن البعيد، لا ينسى أن ينبه قارئه إلى دور النص كمرآة، وإلى طبيعة السرد السيرذاتي الحوارية هنا، وهي تريق على السرد المستعاد ضوء الواقع المعاش، وإلى التباين بين حاله وقتها وحال ابنته الآن. «عرفته يا ابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته. إذّا تقدرين ما بينك وبينه من فرق، ولكن أنّى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيما وصفوا. عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء، لا شاكيا ولا متبرما ولا متجلدا. ولا مفكّرا في أن حاله خليقة بالشكوى ... لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر؛ إن كانوا ليجدون فيه ضروبا من القش وألوانا من الحصى، وفنونا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألّا تعرفيه. كذلك كان يعيش أبوك جادّا مبتسما للحياة والدرس، محروما لا يكاد يشعر بالحرمان.» (ص 120)

ثم يؤكد مرة ثانية لمن فاته التأكيد الأول على طبيعة النص كمرآة: «كذلك كانت حياة أبيك في الثالثة عشرة من عمره. فإن سألتني كيف انتهى إلى حيث هو الآن؟ وكيف أصبح شكله مقبولا لا تقتحمه العين ولا تزدريه؟ وكيف استطاع أن يهيئ لك ولأخيك ما أنتما فيه من حياة راضية؟ وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضى عنه وإكرام له وتشجيع؟ إن سألت كيف انتقل من تلك الحال إلى هذه الحال، فلست أستطيع أن أجيبك! إنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب، فسليه ينبئك. أتعرفينه؟ أنظري إليه! هو هذا الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ. ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار! ... لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا. ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك، فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدين. وما أنتما ببالغين من ذلك بعض ما تريدان.» (ص 122)

حاشية:
هكذا ينهي طه حسين الجزء الأول من (الأيام) في نوع من الامتنان والعرفان بالجميل لزوجته التي أحبته وآزرته ووقفت إلى جانبه، أم تراه الحب! أيما كان الأمر فإن هذا الكتاب قد احتل – وما زال – مكانا مرموقا في انتاج طه حسين – فهو أكثر كتبه ترجمة لأكبر عدد من اللغات – خاصة وفي الأدب العربي الحديث عامة. وإذا كنت قد ركزت قراءتي التفصيلية له هنا على وجه أساسي من وجوهه كرد على من هاجموه أثناء معركة (في الشعر الجاهلي)، وكنص يحتفي بآليات استيعاب المعرفة والتكوين العقلي، لأن معركة هذا الكتاب كانت معركة استقلال الرأي، واستقلال العقل، وحرية البحث العلمي، فإن ذلك لا ينفي أننا بإزاء نص مفتوح لقراءات متعددة قد تستغرق كتابا بأكمله، بل إن ثمة أكثر من كتاب حول هذا الموضوع. كانت أبرزها تلك القراءة التي طرحها مترجمه للإنجليزية بعنوان (طفولة مصرية An Egyptian Childhood).[17] لأن الكتاب حينما صدر بالإنجليزية صدر بهذا العنوان، وليس بالترجمة الحرفية لعنوانه العربي. لأنه في أيسر القراءات – الاستشراقية له – يقدم  لنا بحق واحدة من أصدق الصور الأدبية وانصعها عن الطفولة المصرية في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. وهي طفولة «الفتى» في صعيد مصر، وفي واحدة من أكثر شرائحه تميزا في ذلك الوقت، حيث كان الأب يعمل في شركة السكر، وهو الأمر الذي يرفعه درجات عن بقية فلاحي قريته. ويجعله محط زوار المنطقة ممن يُوفد إليها من موظفي الحكومة تارة، أو من مشايخ الطرق الصوفية أخرى.

وهي طفولة تكتب لنا صورة حيّة لبيت الطبقة الوسطى الميسورة نسبيا في الصعيد وقتها وطقوس الحياة اليومية فيها، وموقفها من العلم ومن الدين ومن السلطة على حد سواء. طفولة تعاني مما في صعيد مصر وقتها من تخلف – أودى ببصر الصبي – ولكنها تنهل في الوقت نفسه من كل ما توفره تيارات الثقافة الشعبية التحتية في صعيد ذلك الوقت من معارف: من قصص (ألف ليلة وليلة) والسير الشعبية وملاحم عنترة وأبي زيد، إلى أساطير الخرافة وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر . كما أنها تكتب لنا بحساسية وعقل نقدي لا يخلو من لمسة تهكمية مؤسسته التعليمية الأساسية وقتها «الكتاب» بكل قصورها، حيث لا نجد أن «سيدنا» فيه أفضل كثيرا من «العريف». ووسط هذا السياق الغني تقدم لنا مسيرة طفل بالغ الحساسية، حاد الذكاء، صلب الإرادة تطرح عبره إمكانيات الإنسان الفرد في مواجهة ثقل العالم وما يفرضه عليه من قيود. ناهيك عما أشرت له في سياق تحليلي للنص من تطويره لأسلوب فريد في كتابة السيرة الذاتية يحررها فيها من مركزيتها، واستخدامه الحاذق له كمرآة تمكن الواقع من رؤية صورته وقد انعكست على صفحتها علّه يعيد النظر فيها.

 

[1] .  تصف سوزان طه حسين حاله إبان تلك الواقعة: «لم يكن يفهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيُّز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي جرِّهِ إلى المحكمة بعد أن صادروا كتابه، والحملات القاسية في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدَّة أشهر؛ كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرًا. وقد قلق فعلًا على الطفلين عندما أرادوا أن يحرموه من مورد رزقه (ولم تكن تلك هي المرَّة الوحيدة!) ومع ذلك فقد احتمل كل شيء بصلابة ورأسٍ مرفوع. وعندما أُعلن ردَّ الدعوى بعد ذلك بعدَّة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة، لم يُقهَر؛ ومن الممكن أن يظنه المرء حصينًا، لكنه لم يكن إلا شجاعًا رابط الجأش (كتاب سوزان طه حسين (معك)، ترجمة بدرالدين عرودكي، مراجعة محمود أمين العالم، طبعة مؤسسة هنداوي، 2015، ص  77)

[2] . بدأ طه حسين نشر الكتاب منجما في (الهلال) في عدد ديسمبر 1926، وكانت محنة الشعر الجاهلي لا تزال في أوج تفاعلاتها وانتهي من نشره مسلسلا فيها في عدد سبتمبر 1927، ثم صدر عن ناشره (دار المعارف) في كتاب في مطلع 1929.

[3] . اعتمدت هنا على طبعة مؤسسة الأهرام لكتاب طه حسين (الأيام) التي ضمت أجزاء الكتاب الثلاثة في كتاب واحد، وهي الطبعة التي صدرت في (القاهرة، مؤسسة الأهرام، 1991) وقدم لها زوج ابنته أمينه: محمد حسن الزيات. وإلى هذه الطبعة تشير أرقام الصفحات هنا.

[4] . راجع كتاب سوزان طه حسين (معك)، ص 77، وقد صدرت طبعة الكتاب الأولى عن دار المعارف بالقاهرة، 1977)،  وكتاب محمد حسن الزيات (مابعد الأيام)، طبعة مؤسسة هنداوي 2017، ص 56.

[5] . راجع أيضا طبعة (الأيام) الكاملة بأجزائها الثلاثة في كتاب واحد، ص 306. والسفوا العليا Haute-Savoie هي منطقة تقع في أقليم أوفيرني-رون- ألب Auvergne-Rhône-Alpes الذي يقع بدوره في وسط شرق فرنسا بالقرب من سويسرا، وهي منطقة تتسم بجمالها الطبيعي الخلاب، حيث يتدفق فيها – كما يشير اسمها – نهر الرون  العريض، وتطل عليها جبال الأب وبحيراته. كما أنها قريبة إلى المنطقة التي تنحدر منها أسرة سوزان بريسو زوجة العميد. أما فيك سور سير   Vic-sur-Cère التي كُتب فيها الجزء الثاني من الأيام، فهي قرية صغيرة في نفس الإقليم Auvergne-Rhône-Alpes أوفيرني-رون- ألب.

[6] . طه حسين من مقدمته (نظام الأثينيين)، القاهرة، دار المعارف، 1921، ص.8.

[7] . المرجع السابق، (نظام الأثينيين)، ص 41

[8] . كان طه حسين قد طلب من إدارة الجامعة السماح له بالكتابة في الصحف عام 1922، وأخذ ينشر مقالات سياسية أسبوعية في جريدة (السياسة) وهي لسان حزب الأحرار الدستوريين في ذلك الوقت.

[9] .  محمد حسن الزيات، (مابعد الأيام) ص 18.

[10] . استشهد هنا بما كتبته زوجته بعد ذلك عن أثر تلك المحنة عليه: «ما كانَتْه هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى. لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير ١٩٢٦ ، وأنجزه في مارس من العام نفسه؛ كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعًا بحماسة بلغَتْ به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية، لكنَّ ما حدث له أرهقه. (معك، ص 77)

[11] . هناك كتب عدة ظهرت للرد على كتابه من أشهرها كتب محمد الخضر حسين (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) ومصطفى صادق الرافعي (تحت راية القرآن) بعنوان الاستفزازي، ومحمد فريد وجدي (نقد كتاب الشعر الجاهلي) ومحمد لطفي جمعة (الشهاب الراصد) ومحمد أحمد الغمراوي (النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي) ومئات المقالات في الصحف والمجلات.

[12]  محمد حسن الزيات (مابعد الأيام) ص 190.

[13] . تخبرنا زوجته: «لكي يتمكن طه من التغلب على مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحِبْتُه إلى فرنسا، إلى قرية صغيرة في السافوا العليا. وهناك كتب، خلال تسعة أيام، كتابه الذي يحمل اسم (الأيام)» (معك، ص 77)

[14] . راجع Philippe Lejeune, On Autobiography: Theory and History of Literature, tr. Katherine Leary (Minneapolis, University of Minnesota Press, 1989) ..

[15] . بلورت هذا المصطلح النقدي Decentered Self من خلال التعامل مع الأعمال السردية لكتاب من خلفيات ثقافية وأثنية مختلفة يكتبون باللغة الانجليزية، وهناك عدد لا بأس به من الكتاب المنحدرين من أصول عربية واستطاعوا تحقيق أنفسهم عبر الكتابة الجيدة باللغة الانجليزية. وقدرة هؤلاء الكتاب عامة مع اختلاف خلفياتهم، وأشهرهم بالقطع كازو إيشيجورو الكاتب الياباني الأصل الحائز على جائزة نوبل للآداب لكتاباته باللغة الانجليزية. راجع دراستي المطولة عنه في مجلة (الكلمة) عدد 127 نوفمبر 2017.

[16] . سنكتشف أن هذه الإشارة الباكرة لتغير حياته، ودخول ما سبق أن حرّمه على نفسه من جديد فيها هي إشارة لتاريخ دخول حبيبة عمره وزوجته Suzanne Bresseau (1895–1989) إلى حياته.

[17] . صدرت ترجمته للإنجليزية بهذا العنوان عام 1932.