لم يكن أبو حيان التوحيدي صوفيا بالمعنى الدارج للكلمة، وهي مسألة ينبغي ألا تعد معيارا للحكم على مصداقية ومشروعية رؤيته الصوفية معرفيا وقيميا. ان الغفلة عند التوحيدي لا تعني العدم المعرفي المحض، وانما حضورا معرفيا إزاء الموضوع، لكنه حضور الجهالة والغياب والعجز عن ادراك الحقيقة، أو ادراكها إدراكا وهما زائفا، ينطوي على الشبهة والضلالة والمخايلة. بمعنى ان الموضوع يستتر محتجبا بظاهره الخارجي المموه والذي يستلب الوعي ويغيبه عن لب الموضوع وحقيقته الخفية الكامنة في عمقه، وكونه حجابا على الحقيقة وان كان يومئ اليها من طرف خفي بوصفه احد إمكانات الوجود.
يقول التوحيدي: "أيها الغائص في الدهشة، اما لك من صرعتك نعشة؟ يا هذا... دع عنك ما جنا عنه عاجل عيانا، اما تمتعض من وقوعك في فخ الهوى وحبالة الشهوة، وشرك الشيطان بسبب ظاهري لا ثبات له، وزبرج لا صنعة فيه، وعارض لا غيث معه؟ لكنك في سكرتك عامه، وفي صحوتك من خمارك والهْ، والندامة والحسرة يجتمعان في العواقب ... يا صريع الشهوات في الشهوات، يا خائضا في الشبهات على الشبهات، معتقلا في الجهالات بعد الجهالات، متى يكون انتباهك؟ ... اسأل نفسك، من هذا العاجل المحشو بالتمويه، ولا تجنح في كل ما تراه عينك الى ظاهره، بل غص على خفيته ودفينته، فهناك اللب والحقيقة".
من الواضح ان النزعة الأخلاقية الكلاسيكية ذات الطابع الديني تسيطر على النص، حيث يتبلور مفهوم الغفلة المعرفي، في سياق السقوط القيمي للإنسان، حيث يغيب عن حضوره الروحي الخالد، أي ينحاز انحيازا مطلقا لطبيعته المادية، حيث تستسلم الروح وتخضع خضوعا مطلقا لهيمنة الجسد فتنحسر داخل حدوده وقوانينه، قوانين اللذة والالم والاحتياج المادي المحض، قوانين الضرورة المقيدة، بل التغير والزوال والعدم بالمعنى العبثي، حيث لم يبزغ فجر الوعي ولا التحديد الذاتي الذي يعبر عن القرار الارادي الحر للفرد المتميز، انها لحظة الانزلاق، اذ يسقط المرء في عمق ظلمة الجسد مستعبدا لهواه، مملوكا لشهوته الدنيوية، أسيراً لشياطينه القارة في اعماقه، لاهثاً وراء المتع العدمية اللحظية، مغترباً عن مملكة الروح حيث معانقة الوجود في حضوره الأصيل والمنطوي على العلو والحرية والخلود.
حصار الروح:
ان حصار الروح داخل قبضة الجسد يعني اختزال إمكاناتها وطاقاتها المعرفية والقيمية المتميزة والخلاقة، وفقا للتصور الكلاسيكي الوسيط، الذي يعتبر الروح (النفس الناطقة العاقلة)، أي مركز الوعي والادراك، وبذلك، ينحسر الوعي فاقدا فضاءاته البرحة عقليا وخياليا وحتى حسيا، لان اسير ظلمة الغفلة لا يعي ذاته الإنسانية كمعنى وجودي كلي الحضور، أي: لا يتحقق معرفيا بكونه فضاء جامعا للحقائق الوجودية (الإلهية بالأصالة)، او بوصفه مختصرا وجيزا او انسانا كليا جامعا فيما ارتأى (اخوان الصفا)، وتابعهم بصورة ما (التوحيدي)، ثم الصوفية من المتأخرين (كابن عربي) ومن تلاه.
بالطبع، إذا كان الوعي يختزل حضوره الذاتي في الفضاء المادي، فانه لا يبتذل ذاته فحسب، بل يبتذل كل الكائنات من حوله، ومجموع العلاقات التي تربطه بها، وهنا، الوعي يتمثل ذاته داخل فضاء الضرورة المقيدة، ولا يستثني من هذا علاقته بالمطلق. وهذا يعني، حصر الوعي داخل حدود الاستخدام او في ظل علاقات عارضة متغيرة وزائلة، تنتهك حضور الذات كما تختزل حضور الأشياء والاخرين اختزالا مؤذيا، ومن ثم، فضاء الغفلة هو فضاء للاستنفاذ العدمي النفعي، حيث تنتفي إمكانات الجدل الحيوي الخلاق معرفيا وقيميا بين الذات وذاتها، ما يقود الى امتلاء الذات بالفخاخ التي ترصد المرء فتخدعه وتغيب وعيه غيابا تاما عن ادراك الحقيقة في مختلف تجلياتها، وهو نمط من أنماط إعادة انتاج القمع والاذلال، لذلك، الوعي المنتهك حضوره دوما تستبيحه الذات، نافية له ومدمرة لهيمنته، اذ تسعى لاقتناصه كفريسة سهلة وتضلله، وتهيمن عليه فلا تمنحه حقيقتها او تتكشف له، بل تخايله دافعة به الى أعماق الغفلة والجهالة.
ولعل التوحيدي حين وصف الغافل بالمغيب المصروع، أراد ابراز مدى ما أصاب الذات من تدهور وانهيار، فغدت وجودا عدميا مبتذلا، فاقد الإرادة والعقل والمسؤولية، ومن ثم الحرية والكرامة، ويطلق التوحيدي على هذه الحالة تعبيرا كاشفا هو: "فسولة النفس". هذا الوعي الغافل واليائس ينطوي على نوع من انواع القلق السلبي، قلق القدر والذي هو مركب من الضرورة والصدفة، وهو يعني سيطرة قوى عمياء بلا قانون او نظام او غاية، تلقي بالذات في حمأة العالم وبهرجته، لتفقد هويتها وتفر من مواجهة مصيرها. انها حالة السقوط في اللامبالاة واوهام الأمان في أحضان اليومي وتفاصيله المشتتة. وتستسلم هذه الذات اليائسة والقلقلة للاندراج داخل حدود القطيع، وتغدو رقما لا شخصية متفردة ومتميزة، وتخضع تماما لمعايير القطيع وقيمه دون مناقشة، ولعل معايشة هذا الإيقاع المتغير لعلاقات هذا الفضاء اللاإنساني هو ما يمنح الذات امانها الزائف، اذ تواجه الياس والقلق القارين في داخلها دون ان تعيهما، او مواجهة التهديد بالتهديد دون وعي مأساوي للمسالة، حيث انه وعي عبثي لا يعي قدر عبثيته، والتوحيدي يعبر عن هذا بقوله: "وحين يبلغ العجز اخره ... ويسترق اليأس ظاهره وباطنه، أي لا رأي لمكذوب؟ إرادة مشوبة ... وعلاقات متهمة، وطمأنينة زائفة."
فضاء الغفلة وسقوط الذات:
اذا كان فضاء الغفلة هو فضاء التشيؤ والابتذال والياس والقلق اللاواعيين، فانه كذلك فضاء الوحشة المطلقة والاغتراب الحاد، حيث الهلاك والغرق في مساحات عدم التواصل وسوء الفهم المتبادلة بين الذات وذاتها، فحين تغيب الذات عن معناها الإنساني، فأنها تغترب عن حقيقتها الوجودية الاصلية، وعن مراياها العاكسة والكاشفة للحقائق الكونية والالهية بوصفها فضاء جامعا لهذه الحقائق، حيث تسقط الذات في الرؤية الجزئية المنغلقة، فتتشظى مراياها المعرفية ولا تستطيع التقاط ذلك المعنى الكلي المتجلي في الجزئيات الكونية، وهكذا، تغترب الذات عن ذاتها، لأنها لا تمتلك الوعي، القادر على التقاط حقيقتها الذاتية والكلية الكامنة، وبلغة الصوفية: "تعجز الذات حين تسقط في الغفلة عن قراءة الموجوداتK من حيث هي مجال للحقائق الإلهية الخلقية، بمعنى رموز واشارات لا بد ان تخضع للتأويل"، او كما يقول التوحيدي: "رمز وراءه رمز، واشارة فوقها إشارة." في هذا السياق، يلتهم العجز المعرفي، والسقوط اللاواعي في عمق المحدود والجزئي إمكانات الذات المعرفية، وتنحصر علاقاتها بالحقائق الإلهية والكونية في إطار حدود الضرورة التشريعية بالمعنى السلبي لها: كعبد السوء، الذي يرجو مباهج الربوبية ونعيمها، ولكنه يضيق بأوامرها ونواهيها، ويتحايل عليها مساوما بالعبادة الزائفة، مقايضا على الاخرة، "مقايضة عبيد الدرهم والدينار"، كما يطلق عليهم "ابن عربي".
ينطوي فضاء الغفلة على مفارقة أساسية تكمن في كونه فضاء للانتهاك، وهو دعوة لممارسة الحرية والانفلات والتمرد خارج إطار وحدود المعايير والقيم السائدة، ومن خلال وضعيتها اللاواعية والعبثية الى حد كبير، تمارس لذة الانتهاك كلذة وهمية زائفة، تحوّل صاحبها لأضحوكة ومثارا للتهكم والسخرية، ما تجعله مصدرا للتهديد الفعلي للأخر وقيمه ومعاييره المستقرة والثابتة. يحكي لنا (اخوان الصفا) في رسالتهم ما يلي: "ذكروا انه كان رجلا من ارباب النعم متدينا، وكان له ابن متجاهر بالسكر، وكان الرجل كارها لذلك فيه، فقال له يوما، يا بني: "انته عن السكر حتى اعطيك شطرا من مالي وعقاري، وافرد لك دارا وازوجك بحسناء من احدى بنات ارباب النعم".
قال ابنه:" يا ابت، وماذا يكون؟؟!"
قال الاب:" تعيش فرحا مسرورا ملتذا ما بقيت".
قال ابنه:" ان كان الغرض هو هذا، فهو حاصل لي".
قال الاب:" كيف ذلك؟؟!"
قال ابنه:" لأني إذا سكرت، وجدت نفسي من الفرح واللذة والسرور، حتى اظن معه، ان ملك كسرى كله لي، واتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور مثلا قدر البعير".
قال الاب:" ولكن ان صحوت لا ترى ذلك حقيقة!!"
قال ابنه:" اعود فاشرب ثانية، حتى أسكر، فأرى مثل ذلك".
وهكذا تمارس الذات سقوطها وغيابها بلا توقف، مندفعة اندفاعا عبثيا نحو الهاوية المظلمة، وتحيا غفلتها ملتذة بالوهم الذي هيمن عليها، فأصبحت أسيرة في قبضته يستلبها كيفما يشاء. إن مخلوقات الوهم المنفلت خارج إطار القوانين الواقعية والعقلية، هي إمكانية مفتوحة للا نهائي الحضور ولا قيود تحدها، انها رهن ارادتنا الجموح وشططنا المستحيل، حيث تتحقق كل احلامنا بيسر شديد داخل هذا العالم السحري اللذيذ. ان لذة الوهم هي لذة آمنة، وفضاءاتها مليئة بالوعود الجميلة غير المكلفة، لكن الاستغراق فيها الى درجة الاستغناء بها عن اللذة الواقعية، انما يدل على تعبير نزعة عبثية يائسة، وان كانت لا تعي يأسها واحباطها. إن فتح باب الممكنات الذاتية دون إرادة فاعلة وواقعية لتحقيق هذه الممكنات، هو نفي لحضور الذات وإعلان لعدمها، بل يمكننا القول: إنه نفي وسلب لحضور موضوع الرغبة، اذ يدمج الموضوع في الوعي، ويفقد حضوره وشرطه الخاص ككيان مستقل مفارقٍ ومغوٍ وواعد،ٍ ولكنه مهددٍ في ان واحد، لذلك، لا بد لنا ان نميز بين أوهام القطيع اليائس، وسيطرة الوهم المضلل الزائف من ناحية، وبين الحلم الواعد للخيال المتمرد والخلاق، والكامن في عمق تجربة الانتهاك، بوصفها تجربة تمرد إيجابي ابداعي الطابع، من ناحية أخرى.