يسعى الكاتب السكندري هنا إلى الكشف عن بعض أبعاد العلاقة بين النص الأدبي وما يدور في الواقع، ويقدم لنا من خلال عرضه لمسرحية تولستوي هنا طبيعة التحولات التي يجريها الكاتب على الوقائع الحقيقية ليحيلها إلى عمل فني يعبر عن رؤاه وأفكاره.

ليو تولستوي ومسرحيته الجثة الحية

مصطفى نصر

 

يقول الكاتب الألماني جوتة: لو بدأت حياتي الفنية من جديد لما شغلت نفسي بتأليف قصة من ذهني ولاقتصرت دائما على إعادة كتابة القصص القديمة مع تموينها بمعانٍ جديدة حيوية. ويقول توفيق الحكيم: في مقالة له في مجلة (الكاتب المصري): ليس الخلق أن تخرج من العدم وجوداً، إنما الخلق في الفن وربما في غيره أيضا أن تنفخ روحاً في مادة موجودة. فالكثير من موضوعات شكسبير نقل عن بوكاشيو وبعض موليير عن سكارون وجوتة في فاوست عن مارلو، ومآسي راسين عن مآسي إيروبيد. وإيروبيد وسوفكل وآشيل عن هوميروس وشعراء الشعب  المجهولين المتنقلين بالأساطير.

وهذا ما فعله نجيب محفوظ، فقدم "سعيد مهران" – بطل رواية اللص والكلاب – عن قصة حقيقية لسفاح الإسكندرية "محمود أمين سليمان". وقدم شخصية "بسيمة عمران" في روايته "الطريق"؛ قاصدا بها "زينب عصفور" القوادة المشهورة في الإسكندرية، وقدم شخصية "عباس نوري" في روايته "المرايا"  ويقصد بها  الكاتب الكبير "كامل الكيلاني" الذي كان يعمل معه في وزارة الأوقاف، وقدم الكثير من الشخصيات الحقيقية في رواياته.

وكذلك فعل يوسف إدريس، فحمزة بطل روايته (قصة حب) والتي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان "لا وقت للحب" من إخراج صلاح أبو سيف؛ مستوحاه من قصة حقيقية للبطل السياسي "حمزة البسيوني" الذي كان صديقا ليوسف إدريس، وكان طبيبا مثله واعتقلا معا، فحكي له حكايته، فحولها يوسف إدريس إلى رواية.

وهذا ما فعله الروائي السوداني "الطيب صالح" فقد قدم شخصية "مصطفى سعيد"، بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" وقد استمدها من حكاية صديقه السفير السوداني في انجلترا وفرنسا "علي أبو سن"، فقد حكى له عن تجربته في لندن، وعلاقته بالكثير من النساء الإنجليزيات.

وقد قدم الكاتب الروسي الكبير "ليو تولستوي "مسرحية الجثة الحية" – عن حادثة حقيقية حدثت عام 1898، وعرضت على المحاكم الروسية في نفس العام، وعُرفت بقضية "الزوجين جيمر". فقد أدمن الزوج (جيمر) الخمر مما أدي به إلى فقد وظيفته، وساءت حالته إلى حد بعيد، وأصبح عالة على زوجته. فطلبت منه أن يختفي، وستدّعي أمام الجميع بأنه قد انتحر، ثم تزوجت (بصفتها أرملة) من فلاح وعدها بالرحيل معها إلى إحدى المستوطنات الزراعية في أطراف روسيا ليكملا مشوار حياتهما هناك.

لكن – لسوء الحظ – حدثت صدفة كشفت عن هذه اللعبة، وتم اكتشاف الخدعة، فألقي القبض على الزوج والزوجة ومثلا أمام المحكمة، وكان مصير الزوجة الإدانة بالزواج من رجلين في وقت واحد. ومن ثم حكمت عليها المحكمة بقضاء عام كممرضة في مستشفى السجن.

عرض المسرحية

كتب تولستوي المسرحية عام 1900 - أي بعد عامين من حدوث القصة الحقيقية، لكنها عرضت على المسرح عام 1911 بعد وفاته. وقد صدرت ترجمتها للعربية في عدد (من المسرح العالمي) رقم 208 في أول يناير 1987 من ترجمة دكتور فوزي عطية ومراجعة دكتورة سمية عفيفي.

تبدأ المسرحية بهجران “بروتازوف“ لزوجته ليزار، يترك لها رسالة بهذا المعني. فقد انغمس في الخمر، ولم يعد يمارس عملا ما، وأصبح عبئاً عليها بعد أن أنجب منها ولداً. وترحب أم الزوجة بهذا فهي لا تريد له العودة، لكن (ساشا) (أخت الزوجة) تود أن يعود، وتعود حياته مع أختها، فهي تعلم أن ليزا تحبه. يأتي فيكتور – (بناء على طلب ليزا) فهو صديقها ويحبها منذ طفولتهما، وتفرح أم ليزا، فهي تود أن يكون فيكتور زوجاً لابنتها، لا “بروتازوف“. لكن ليزا تريد فيكتور لشيء آخر، وهو أن يكون رسولا بينها وبين زوجها، ليعود إلى بيته وابنه. فيكتور يحب ليزا حقاً، رغم هذا، يتمنى أن تعود لزوجها، ويذهب إليه في بيت الغجر. فهو يعيش مع ماشا المغنية الغجرية، يسمع موسيقى الغجر ولا يدفع لهم مالا، لأنه لا يمتلكه. ماشا الغجرية تحبه رغم فقره، وتغني له. فيرفض العودة مع فيكتور، بل يود أن يُطلق ليزا؛ ليتزوجها فيكتور، فهو يعلم أنه يحبها، وربما هي الأخرى تحبه.

يعود فيكتور ليبلغ ليزا بما حدث. ويعرض عليها الزواج. والده فيكتور؛ امرأة متمسكة بالعادات الارستقراطية. وبتعاليم الدين الذي لا يحبذ الزواج من مطلقة. فتعارض الزواج أول الأمر. لكن الأمير ابرزكف يقنعها بالموافقة، فتوافق بعد أن ترى ليزا، وتحس كم هي بريئة وطاهرة. يرسل فيكتور مبلغاً من المال إلى “بروتازوف“ لكي يدفعه رشوة لقس الكنيسة ليوافق على الطلاق، لكن “بروتازوف“ يرفض ويفكر في الانتحار، خاصة أن الواقع الذي يحتم البحث عن المادة لا يطيقه، يكتب رسالة إلى فيكتور وليزا، يعلمهما فيها بأنه سينتحر حتى يخلي الجو لهما. لكن ماشا الغجرية تأتيه وتقرأ الرسالة، فتعرض عليه أن يمثل الانتحار. يترك الورقة ويذهب، فتُرسل ماشا  الرسالة إلى فيكتور وليزا.

وأشيع في البلدة أنه انتحر، وتشاهد ليزا جثة خرجت توا من النهر، كانت الجثة مشوهة ومحللة، فتظنها جثة زوجها. يحاول “بروتازوف“ أن يحول علاقته مع ماشا من مجرد علاقة عابرة، إلى ارتباط رسمي؛ لكنه يواجه بالرفض من أهل ماشا؛ فلا يجد أمامه هذه المرة، أيضاً، إلا أن يهرب من حياته الثانية هذه. ومرة أخرى نجده الآن وقد قرر من جديد أن يضع حداً لحياته بالانتحار، بيد أنه هذه المرة أيضاً يجبن ولا يقدم على الانتحار؛ فيهرب وقد ازدادت حدة انهياره.

في تلك الأثناء، وإذ تكون كل الدلائل قد أشارت إلى أن “بروتازوف“ قد مات، لا تجد زوجته ليزا، مفراً من أن تستجيب لتوسلات الرجل الآخر، فيكتور لها؛ فتقترن به. وفي حانة يجلس “بروتازوف“ مع رفيق يشاركه الشراب، وفي لحظة سكر؛ يحكي لزميله عما حدث، فيسمعه صعلوك من رواد الحانة، كان قد تشاجر معه من قبل، فيتصل بالشرطة، ويقبضوا عليه، ويصل الأمر إلى القضاء. وتوجه المحكمة إلى الزوجين (فيكتور وليزا) تهمة:

1 - للزوجة: الزواج من رجلين في وقت واحد. وتتهم تحديداً بأنها هي التي دبرت اختفاء زوجها الأول كي تقترن بالثاني.

2 – للزوج: الزواج من امرأة متزوجة.

ويأتي “بروتازوف“ بعد أن صار في صورة بشعة من التردي والاهمال، ويركع أمام الزوجين (فيكتور وليزا) طالباً الصفح، ومعلناً أنه لم يقصد الاساءة إليهما، ولولا ذلك الصعلوك التافه ما حدث شيء. ويشهد أمام القاضي على أن اختفاءه كان تلقائياً، وأن ليزا لم تكن لديها أية طريقة لمعرفة أنه على قيد الحياة. ويقرر صراحة أن ليزا بريئة من التهم الموجهة إليها. ثم يسمع من المحامي أن القاضي، حتماً سيحكم بإلغاء الزواج الثاني، وبعودة ليزا إليه، فيقتل نفسه في المحكمة إنقاذا لزواجها من فيكتور. وعندما تجده ليزا صريعاً أمامها؛ تصرخ بشكل هستيري وتعلن أمام الجميع: إنها تحبه، بل لم تحب سواه طوال حياتها.

استبدل تولتسوي الأشخاص الحقيقية للحادثة المشهورة بشخصيات تعيش في مستوى مرتفع، فالزوج في المسرحية “بروتازوف“، رجل متعلم، ثري، كما أنه رغم إدمانه للخمر، واللا اهتمام بكل شيء؛ كان ذو قيم ومبادئ، فقد رفض أن يدفع مالاً كرشوة لقساوسة الكنيسة ليوافقوا على الطلاق. وكانت علاقته بماشا الغجرية  الغجرية – التي ضحت بكل شيء من أجله، لم تتعدى العلاقة العادية بين رجل وفتاة عذراء لم تزل. كان  “بروتازوف“ (الزوج) محبا للفن، غير راغب في الانغماس في أسباب المادة وعالمها، وزوجته من اسرة ارستقراطية تعودت على الانفاق والبذخ.

حتى الزوجة ( ليزا ) لم تكن تكره زوجها، رغم إعراضه عنها، بل هو الذي هجرها لا هي. وكانت تريده، ولم تدفعه الانتحار كما حدث في الحقيقة، بل لم تكن تعلم أنه يريد الانتحار. لا شك أن الواقع الذي عاشه ليو تولستوي مع زوجته سونيا أثر عليه وشده نحوه بعد أن تابع أحداث المحاكمة التي حدثت عام 1898، وربما تمنى أن يكون مكان الزوج الذي تظاهر بالانتحار.  فقد كان تولستوي يريد أن يهرب من الواقع، وأحس أن هناك بوناً شاسعا يفصل بين حياته الفعلية وبين معتقداته الفلسفية التي أراد لها الانتشار لمواجهة شرور الانسان، والعودة به إلى الفطرة والسلام الداخلي.