يعرض الكاتب المصري هنا لواحد من الكتب التأسيسية في مسيرة التنوير الإصلاحية التي عرفتها مصر في النصف الأول من القرن الماضي، وكيف كانت أمور الحرية والتشريع ومسؤولية الفرد في مجتمعه تستند إلى العقل وتأويل فكري مفتوح للنص الإسلامي قبل هجمة الردة وهيمنة تخلف الإسلامجية على الخطاب الديني.

الحرية في الإسلام

تامر محمد موسى

 

الكتاب الذي نحن بصدد عرضه لم يأخذ نصيبا كبيرا من الشهرة بين عامة المثقفين أو المتناولين لمجاله، وهو كتاب (الحرية في الإسلام) للدكتور علي عبد الواحد وافي، وقد تم نشره منذ ما يقارب الأربعين عاما بمصر. والكتاب بشكل عام يتناول مفهوم الحرية باختلاف أنواعها، ومنظور الدين الإسلامي الحنيف لها، ويعرض في تناوله لها آراء العديد من الفقهاء والعلماء القدامى والوسيطين، ويعلّق المؤلف على تلك الآراء بنقد واضح، مؤيدا كان أو معارضا للأفكار أو الطروحات التي تناولت الموضوعات التي بسطها في مؤلفه.

وقد انقسم الكتاب إلى مقدمة وأربعة أبواب:
الباب الأول: الحرية المدنية في الإسلام
الباب الثاني: الحرية الدينية في الإسلام.
الباب الثالث: حرية التفكير والتعبير في الإسلام.
الباب الرابع: الحرية السياسية في الإسلام.

وفي مقدمة كتابه يصرح المؤلف بأن الحرية هي مبدأ أصيل في النظم التشريعية الإسلامية، ولم تقيّد إلا في حدود الصالح العام أو احتراما لحرية الآخرين، وأن هذه الحرية طبقها التشريع الإسلامي بمبدئها السابق ذكره في شتى مناحي الحياة، والتي ستتناولها أبواب الكتاب متقدمة على أنظمة تشريعية كثيرة سابقة ولاحقة لظهور الإسلام.

الباب الأول: الحرية المدنية في الإسلام.
وقد عرفها المؤلف بأنها الحالة التي تجعل الشخص أهلا لإجراء العقود وتحمل الالتزامات ... إلخ. وتناول بعد ذلك أنواع الأشخاص الذين منحهم التشريع الإسلامي تلك الحريات وهم غالبية المجتمع، والآخرين الذين حرمهم منها، كالمجنون والسفيه، موضحا أسباب ودوافع ذلك الحرمان من حيث وقاية مصلحتهم، ومصلحة المجتمع ككل، ذاكرا رأي المذهب الحنفي الذي لم يجز ذلك الحرمان.

وأشار الكاتب كذلك إلى تساوي جميع أفراد الدولة المسلمة في هذه الحرية حتى غير المسلمين منهم إلا فيما يتعلق بشئونهم الدينية التي تحترم فيها عقائدهم.

حقوق المرأة:
ثم ينتقل المؤلف إلى بيان بعض حقوق المرأة المدنية في الإسلام كالاحتفاظ بحقوقها المالية، سواء كانت مملوكة لها من الأصل، أو ممنوحة لها من زوج أوغيره.

الحرية المدنية في الشرائع الأخرى:
ثم يقارن الكاتب بعدها بين الإسلام وغيره من الشرائع كالبرهمية واليونانية والرومانية القديمتين، وكذلك الشريعة اليهودية والقانون الفرنسي إلى منتصف القرن الماضي مبيّنا رقي التشريع الأسلامي مقارنة بهم.

نظام الرق في الإسلام:
ثم ينتقل الكاتب إلى موضوع الرق وكيفية معالجة الشريعة الإسلامية له، متصديا بالرد على بعض باحثي الغرب الذين صوروا الإسلام كدين استباح استرقاق البشر في ثلاث نقاط هي:

١. توضيح الظروف الاقتصادية والاجتماعية العالمية قبل وإبّان ظهور الإسلام وعلاقتها بنظام الرق في الشرع الإسلامي.

٢. توضيح الوسائل التي اتخذها الإسلام لتصفية الرق وأهمها تجفيف منابعه، والتي كانت تشمل رق الطبقات، ورق الحروب، والخطف والاستعباد كعقوبة لجريمة معينة، ورق المدين وبيع الأولاد والنفس، حاصرا منابع الرق في رق الحروب ورق الوراثة مبينا أن هذين النوعين أيضا لم يسلما من تضييق الشرع الإسلامي لهما.

٣. بيان توسيع الإسلام لمنافذ عتق الرقيق على عكس الشرائع السابقة، مبينا بعض تلك المنافذ مثل:

  • العتق اللفظي المقصود والغير مقصود.
  • الوصية بتحرير العبد بعد موت مالكه.
  • أن تلد الأمة من سيدها فيصبح المولود حرا بالولادة، وتتحرر الأم بعد وفاة سيدها الذي سيحرم عليه بيعها أيضا.
  • المكاتبة، وهي اتفاق بين العبد وسيده على منحه الحرية مقابل مبلغ من المال يؤديه العبد لسيده.
  • رأى بعض الفقهاء كالحنابلة أن إيذاء السيد لعبده إيذاء شديدا يؤدي إلى عتقه تلقائيا.
  • جعل الإسلام تحرير الرقيق كفارة للعديد من الجرائم والأخطاء، كالقتل الخطأ وحنث اليمين والظهار.
  • تخصيص جزء من مال الزكاة (ميزانية الدولة) لشراء العبيد وتحريرهم.
  • تحبيب عتق العبيد للناس وجعله من أكبر القربات لله بنص الآيات القرآنية.

ثم يختتم الكاتب هذا الباب ببيان أوضاع الرقيق في الإسلام وتشمل:

١. بيان الحقوق المدنية للإسلام، كالاعتراف بإنسانيته، ومنحه حقوق الزواج والطلاق ومنح الرقيق المكاتب حقوق الشراء والبيع والهبة والرهن.

٢. حث الإسلام على حسن معاملة الرقيق، موضحا أمر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بذلك.

٣. حماية الإسلام للرقيق من سيده ومن غيره، ومنحه الحق قي مقاضاة من يسيء إليه.

٤. حماية الإسلام للرقيق بعد عتقه، ومنحه جميع حقوق المواطن الذي لم يسترق يوما.

الباب الثاني : الحرية الدينية في الإسلام.

وقد تناول الكاتب فيها أربع نقاط أساسية:

١. حرية الاعتقاد الديني وتحريم الإكراه في الدين، مستشهدا بالآيات القرآنية مثل (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وغيرها، ومستشهدا كذلك بالعهدة العمرية لأهل بيت المقدس، وعهد عمرو بن العاص لأهل مصر.

٢. حرية المناقشات الدينية في الإسلام، وبيان التوجه القرآني في هذا المسلك من المطالبة بحسن المحاجة والمناقشة بالبرهان والعلم.

٣. اشتراط اليقين والاقتناع في صحة الإيمان، وهنا يثير الكاتب نقطة بالغة الأهمية، حيث يوضح أن الدين الإسلامي يقرر أن الإسلام الصحيح هو ما كان عن اقتناع ويقين، لا عن تقليد واتباع كما كان في كثير من الأمم السابقة، مستشهدا بالقرآن الكريم وبرأي العلماء كالإمام محمد عبده في كتابه (رسالة التوحيد).

٤. إباحة اجتهاد في فروع الشريعة لكل قادر عليه، وهو المتمكن من القرآن والسنة واللغة العربية وقواعد الاستنباط، ويحترم رأيه في جميع الأحوال، وهو ما كان سائدا في أغلب العصور الإسلامية على الرغم من وقوع بعض الاستثناءات في ذلك في العصر الأموي والعباسي، وقد بين المؤلف انقسام العلماء في جواز التقليد لمن يملك القدرة على الاجتهاد إلى رافض له، ومجيز له بشرط معرفة دليل من يقوم بتقليده، أما من لا يملك المقدرة على الاجتهاد، فله أن يقلد العالم المجتهد، مقرا استحالة تكليف جميع المسلمين بالوصول إلى درجة الاجتهاد، بل وينتقد المؤلف رأي ابن خلدون في مقدمته الذي ينفي فيه وجود من يقدر على الاجتهاد بعد رأي الأئمة الأربعة.

الباب الثالث: حرية التفكير والتعبير في الإسلام.
أولا : التفكير والتعبير العام.

وقد بين المؤلف أن الإسلام أقر بهذا الحق في أوسع نطاق، مشتملا على جميع ما يكتنف الإنسان من شئون وما يدركه من ظواهر، ويوضح أن ذلك المبدأ ظل مرعيا في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين وصولا إلى العهد العباسي، يستثنى من ذلك الآراء التي كانت تهدد سلامة الدولة أو تنشر الفتن.

ثانيا: التفكير العلمي
كالتفكير في الظواهر العلمية والكونية المختلفة كالنبات والحيوان والفلك والطب وغير ذلك من العلوم، وقد بين المؤلف موقف الإسلام من تلك المباحث المختلفة، وهو منح الحرية الكاملة لمن يرغب في خوض تلك العلوم المتنوعة، مستحثا العقول في آيات القرآن الكريم الكثيرة على التفكير والتأمل والاستنباط دون تقييدهم بنظرية علمية معينة، وقد ضرب المؤلف هنا مثالا لذلك التوجه المانع للتقييد بآية الأهلة رقم 189 من سورة البقرة، إذ تتحول الإجابة القرآنية من فرض النظرية الفلكية إلى بيان أهمية تلك الظاهرة دينيا من حيث أنها تعرف الناس بأنها مواقيت للشهور والحج والصيام، وكذلك أمر الرسول بعدم تأبير النخل وتراجعه عن ذلك الرأي عندما رأى عدم صوابه.

ثالثا: الموقف من ربط آيات القرآن الكريم بالاكتشافات العلمية الحديثة وتفسيرها بتفسيرات غريبة عن المعنى المقبول للعقول مما يأتي بنتائج عكس ما يرجو من يتبنى هذا التوجه ظنا منه أنه بهذا الأسلوب يخدم الدين، في حين أنه في واقع الأمر يجعل الدين عرضة للهجمات، حيث إن القواعد العلمية في المجمل لا تتسم بالثبات، فالتقدم العلمي المطرد في جميع مجالات العلم لا يتوقف، والقاعدة العلمية المقبولة اليوم، قد تكون مرفوضة بالغد، وربط الدين بالعلم بصورة مبالغ فيها وتفسير النصوص المقدسة وفقا للنظريات العلمية حتى وإن بدا التفسير بعيدا عن المنطق السليم هو توجه يضر بالدين أكثر مما يفيد، فالنظرية العلمية التي سيتم رفضها ستؤدي بالنص المقدس إلى الرفض هو الآخر.

كما يلفت المؤلف إلى خطورة تصوير القرآن كما لو كان كتابا للنظريات العلمية البحتة، فهذا يبعد القرآن الكريم عن هدفه الذي نزل من أجله وهو توجيه البشر أخلاقيا واجتماعيا ولفت أنظارهم إلى الإشارات الكونية دون فرض نظريات علمية محددة عليهم.

الباب الرابع : الحرية السياسية في الإسلام
١. معنى الحرية السياسية ومصادر أحكامها في الإسلام
يبين الكاتب ان معنى الحرية السياسية أن تكون الأمة هي مصدر السلطات وأن يكون لأفرادها الحق في اختيار الحاكم ومراقبته. ويبين أنه لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية نص صريح يرسي مبادئ اختيار الحاكم ولا مراقبته، ولا طريقة ممارسة تلك الحقوق، ولكنه في الوقت نفسه يوضح وجود مبدأ هام في التشريع الإسلامي وهو مبدأ الإجماع. يستمد منه المسلمون العديد من مبادئهم الفقهية، وأرقى مظاهر هذا الإجماع هو إجماع الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الخلفاء الراشدين، وهذا الإجماع هو الذي استمدت منه الأمة قواعد اختيار الحكام ومراقبتهم. ويخالف الكاتب في رأيه هذا غيره من العلماء مثل الشيخ علي عبد الرازق، الذي يرى أن انظمة الحكم ليست من أمور الدين في شيء بل هي من الأمور الدنيوية.

٢. حق الأمة في اختيار الحاكم
يبين الكاتب ان الإجماع في عهد الخلفاء الراشدين قد استقر على منح الأمة الحق في اختيار حاكمها الأعلى. وهذه الطريقة في الاختيار تختلف عن النظم الحالية سواء كانت جمهوريات رئاسية، ينتخب رئيسها بالاقتراع العام، أو برلمانية يختار فيها ممثلو الشعب رئيسهم. أما التشريع الإسلامي فيعهد إلى أهل الحل والعقد في اختيار الحاكم الأعلى، وهم أئمة المسلمين وفقهاؤهم وأمراء الجند وذوي الشوكة فيهم، والقرار الذي تتفق عليه غالبيتهم هو الذي يعتمد رأيا للأمة جمعاء.

ولفظة البيعة في الإسلام هي نظير للإنتخاب المتعارف عليه في وقتنا الحالي وهي عهد على الطاعة كما وضح ابن خلدون، ويستمد الحاكم قوته من الأمة التي بايعته عن طريق أهل الحل والعقد فيها، وبذلك يكون الإسلام أول من أقر بأن الأمة هي مصدر السلطات. وإقرار أغلبية المسلمين لبيعة شخص من الأشخاص كافية لتصبح بيعته سليمة ولا يضرها تخلف الأقلية عنها، كما يبين العلامة ابن تيمية، وإلا لن نجد إمامة أو مبايعة نافذة.

ويبين الكاتب أن جميع الخلفاء الراشدين قد تولوا الخلافة بناء على مبدأ البيعة الحرة، وأن أي توصية من خليفة منهم بشخص يليه، كانت مجرد رأي منه تملك الأمة الحق في قبوله أو رفضه، بل إن علي ابن أبي طالب لم تتم التوصية به، وكانت هناك معارضة لتوليته، ولكنها لم تصل إلى حد الأغلبية التي بايعته.

٣. حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته على أعماله
يوضح الكاتب أن ذلك المبدأ قد تقرر بأقوال الخلفاء الراشدين أنفسهم وأعمالهم وإجماع مسلمي ذلك العصر ويسوق في سبيل ذلك العديد من الأمثلة لأقوال الخلفاء الراشدين كالصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان ابن عفان التي تراوحت ما بين الإقرار بحق الأمة في مراجعتهم حين الخطأ وبين التراجع عن مواقف بدا لهم خطؤهم في اتخاذها، مقرين بذلك مبدأ هاما وهو موافقة بل وحرص الخلفاء الراشدين علي منح الأمة حق مراقبة الحاكم.

٤.  مبدأ الشورى في شئون السياسة
يوضح الكاتب أن مبدأ الشورى من المبادئ الثابتة في الإسلام، بل إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه المعصوم به " وشاورهم في الأمر" آل عمران
159 "وأمرهم شورى بينهم" الشورى 38

ويلاحظ في هذا الصدد أمران هامان:

الأول:  لم تكن هناك مجالس محددة للشورى كما الحال الآن، بل كان الخليفة يستشير من يراه أهلا لذلك من العلماء أو الفقهاء أو غيرهم، ولم تكن هناك أماكن ثابتة لذلك التشاور، فقد يتم في المسجد أو أي مكان آخر.

الثاني: كان للخليفة الحق في اتخاذ القرار النهائي، فيما يعرض من أمور الأمة، سواء وافق ذلك الرأي رأي مستشاربه أو خالفه، فالخليفة ذاته كان مجتهدا له المقدرة على استنباط الأحكام الشرعية، وفي نهاية الأمر هو المسئول المحاسب على قراراته. فله الحق حينها في اتخاذ القرارات، ويسوق مثالا لذلك ما قرره أبو بكر الصديق من محاربة مانعي الزكاة مخالفا في ذلك رأي مستشاريه، وعلى رأسهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقد أثبتت الأحداث بعدها صحة رؤية الخليفة أبي بكر الصديق للأمر والتي أقرها ابن الخطاب بعدها.