«لم تُبهرني الإنجازات التكنيكيّة الحديثة». تبدو العبارة أقرب إلى عالم محمود المسعدي، حيث الابتعاد القصديّ من معظم المدارس الغربيّةK بغية الوصول إلى عمل متشبّع بالأساليب التراثيّة العربيّة. أما لو أضفنا العبارات الآتية: «لا يجب أن يكون الموضوع فقط محليًا، ولكن الشكل أيضًا. يومَ أن نحقّق هذا، يمكن القول عندئذ إنّنا قدّمنا أدبًا عربيًا صحيحًا إلى العالم»، فسنتوه قليلًا ونظنّ أنّنا صرنا في عالم عبد الرحمن منيف المولع بالحضّ على الكتابة «من دون استعارة أصابع الآخرين»، وهي جملته الأثيرة التي استخدمها مرارًا في تنظيره لروايةٍ عربيّةٍ لا تشبه إلا نفسها، كما هي حال روايات أميركا اللاتينيّة والرواية اليابانيّة. على أنّ المفاجأة هي أنّ العبارات المقتبسة السابقة كلّها لنجيب محفوظ. أجل، هو ذاته نجيب محفوظ الذي صُوِّر دومًا بكونه شيخ كار الرواية التقليديّة تارةً (يبدو التصنيف متوافقًا لدى القارئ العجول مع عبارة محفوظ الأولى)، وحامل لواء الرواية الغربيّة تارة أخرى (نعم، يمكن أن تجد لدى صاحب الروايات التي تربو على الثلاثين التّصنيف المُتخيَّل الذي يحلو لك!).
وستتضاعف المفاجأة حين لا نجد أثرًا لها في القراءات النقديّة التي تناولت أعماله، وهو الكاتب العربيّ الذي حظي بأكثر قراءات نقديّة عربيّة وأجنبيّة على الإطلاق. نطق محفوظ بهذه التصريحات في الثمانينيّات والتسعينيّات، إلا أنّ التّطبيق العمليّ لها موجودٌ في أعمال السبعينيّات التي تخبَّط النقّاد في تصنيفها، إذ هي لا تشبه التقسيمات الاعتباطيّة التي ركنوا إليها في تصنيف عالم محفوظ: ليست الرواية الفرعونيّة (على الأخص حين باغتهم برواية فرعونيّة أخرى لا تشبه رواياته الفرعونيّة القديمة، أي العائش في الحقيقة (1985)، التي صدرت بعد أربعين عامًا من صدور روايته الفرعونيّة الأخيرة كفاح طيبة (1944))؛ وليست الواقعيّة التي طبعت أعمال الخمسينيّات كما أقنعنا النقّاد، بالرغم من أنّ آثار الواقعيّة حاضرة في أعماله كلّها على اختلاف العقود؛ وليست «رمزيّة» الستينيّات، وإنْ كانت أعمال محفوظ كلّها رمزيّة بهذا القدر أو ذاك، لو ارتضينا وجود تصنيف عموميّ كهذا.
كانت أعمال عقدَيْ السبعينيّات والثمانينيّات سديمًا غامضًا بالنّسبة إلى النقّاد المُكبَّلين بقيود التّصنيفات، والمولعين بالقراءات المدرسيّة. رمى محفوظ لهم مفتاحًا جديدًا في التّسعينيًات حين نشر أصداء السيرة الذاتيّة (1995)، ليُغرِقنا النقّاد باكتشافهم الجديد: «الشذرات» أو ربما «القصص القصيرة جدًا»، وكأنّ محفوظ لم يكتبها إلا اليوم، وكأنّهم لم يقرؤوا حكايات حارتنا (1975) مثلًا، قبل عقدين من نشر الأصداء وأحلام فترة النّقاهة.
نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف عالمان مختلفان بالمطلق. هذا ما دأبَ النقّاد والقرّاء على تصديع رؤوسنا به طوال عقود. لا يصحّ هذا الاختلاف إلا قبل السبعينيّات حين لم يكن منيف قد بدأ بالكتابة الروائيّة أصلًا، غير أنّهما قريبان إلى درجة غير قابلة للتصديق للوهلة الأولى، وإنْ كان لكلٍّ منهما أسلوبه المتفرّد (أساليبه لو شئنا الدقّة؛ إذ نكاد لا نجد عملين متطابقين لأيٍّ منهما؛ مرة أخرى، بعد السبعينيّات بالنّسبة إلى محفوظ). يشترك كلاهما في البحث الجاد عن هويّة عربيّة غائمة للرواية المكتوبة بالعربيّة، ولروايتهما على الأخص. ويشترك كلاهما في الإخلاص للكتابة كما لم يُخلِص لها كاتب عربيّ قبلهما أو بعدهما من ناحية التفرّغ التام تقريبًا. ويشتركان في كونهما الكاتبين الأشهر باتّفاق الجميع، والكاتبين الأعظم بحسب الغالبيّة الراجحة من القرّاء، والكاتبين الأكثر مبيعًا حتّى بعد غرق مشهد النّشر في مستنقع «البست سِلر»، وفي كونهما الكاتبين الأكثر حضورًا في المشهد النقديّ، أكانت دراسات أكاديميّة أم مقالات عابرة؛ يكفي حضور أيٍّ منهما في عنوان أيّة مقالة (كمقالتي هذه) كي يضمن كاتبها قراءات كثيرة بصرف النظر عن المحتوى.
وبالرغم من هذا الحضور الطاغي (والحضور الكثيف غياب من نوع آخر)، نكاد لا نجد قراءة عميقة لأعمالهما بعيدًا من التقسيمات الاعتباطيّة والافتراضات المسبقة والاختزالات المُجحفة، كأن يكون منيف «رائد الرواية البدويّة» (!). أما التّحليل الجديّ لأعمالهما من حيث التكنيك والتطوّر والتجريب والشخصيات، فغائب عن المشهد النقديّ. ولكنّ هذا السّديم الغامض الذي يحيط بأعمال كلٍّ منهما يتبدّد في الحوارات الكثيرة التي باحا فيها بمفاتيح أعمالهما، على أمل أن تُعاد قراءتها تحت ضوء أدقّ، من دون فائدة كبيرة إلى اليوم. في واقع الحال، لا نجد اختلافًا كبيرًا بين القراءات النقديّة وبين الحوارات، إذ اشتركت جميعها تقريبًا في دَبَق التوصيفات المكرورة، بحيث كانت الحوارات أشبه بأصداء لتلك القراءات المدرسيّة. الفارق المهم الذي يمنح الحوارات أهميّتها هو الهوّة الشاسعة بين الأسئلة وبين الأجوبة، والذّكاء العظيم لمحفوظ ومنيف في تنويع الحوارات حتّى ضمن الأسئلة المملّة ذاتها. بوح آخر، صدى آخر للأعمال الإبداعيّة حاول فيه كلاهما مقارعة أصداء التّكرار المُتربّص بقراءة أعمالهما. لن نبالغ لو قلنا إنّ أفضل ناقدٍ لنجيب محفوظ هو محفوظ ذاته، وأفضل ناقد لمنيف هو منيف ذاته. ثمّة فوارق بينهما طبعًا، إذ لا يميل محفوظ – بكل أسف – إلى الكتابة النظريّة في الرواية وعنها، بينما كرَّس منيف معظم سنوات التّسعينيّات وبداية الألفيّة للكتابة عن الرواية، عن الرواية العربيّة عمومًا، وعن تجربته الروائيّة خصوصًا، في الكاتب والمنفى (1991)، ورحلة ضوء (2001) على الأخص. أن يكون الكاتب أعظمَ نقّاده (إنْ لم يكن النّاقد الجديّ الوحيد لأعماله)، فهذا يعني بالضّرورة أنّنا نعيش مصيبة كبرى. وأن يكون هذا الكاتب هو محفوظ أو منيف، فهذا يعني أننّا تجاوزنا مرحلة المصيبة إلى الكارثة، على الأخص حين نرى بوضوح أنّ الأجانب قرؤوا أشهر (وأعظم) روائيَّيْن عربيَّيْن أفضل بما لا يُقاس بالمقارنة مع القراءات النّقدية العربيّة.
تفيدنا الحوارات بدايةً في ترتيب أعمال كلٍّ من محفوظ ومنيف كرونولوجيًا. قد يبدو الأمر نافلًا، سواء بالنّسبة إلى أنصار تجريد النص من سياقه التاريخيّ، أو بالنسبة إلى القارئ العاديّ الذي لا يكترث لترتيب الأعمال، إلا أنّ الترتيب المقصود يُسهِم إسهامًا مهمًا في إعادة قراءة وفهم الأعمال ضمن سياقها وخارج سياقها على السواء. على الأرجح أنّ أول عمل كتبه منيف كان شرق المتوسّط التي لم ينشرها إلا عام 1975، أو ربما كان لديه أربع روايات جاهزة للنشر عامَيْ 1970 و1971، ولكنّه فضَّل حذف أم النّذور التي لم تُنشَر إلا بعد وفاته، وقدَّم الأشجار واغتيال مرزوق (1973) وقصة حب مجوسيّة. لا نعلم سبب تأخير شرق المتوسط بدقة، ولكن يمكن لنا التّخمين أنّه لم يفضّل صدم القارئ منذ البداية بعمل يتناول التّعذيب في السجون السياسيّة تناولًا مباشرًا كيلا يحصره القارئ ضمن تصنيف بعينه، مع أنّ هذا التّصنيف طاله إلى اليوم برغم كل الاحتياطات المنيفيّة. ستتعاظم ثقتنا بخصوص تاريخ شرق المتوسط حين نجد أنّها قطعت التّسلسل المنطقيّ الذي يربط قصة حب مجوسيّة (1974)، وحين تركنا الجسر (1976)، والنهايات (1977) التي حاججتُ سابقًا بأنّها أقرب إلى ثلاثيّة منها إلى ثلاث روايات منفردة. وكذا فإنّنا نكتشف من حوارات منيف أنّه ضاق ذرعًا بالتّكنيكات الغربيّة (مع أنّه صاحب إحدى أهم روايات «تيّار الوعي» عربيًا: حين تركنا الجسر) وبدأ ينأى عنها بالتّدريج كي يقدّم «رواية عربيّة»، أكان من خلال استعارة القصص القصيرة داخل جسد الرواية في النّهايات، أو حتّى من خلال استعارة بنية ألف ليلة وليلة وتداخل الحكايات في مدن الملح.
حالة محفوظ أكثر تعقيدًا، إذ يكاد يكون الترتيب الكرونولوجيّ السائد لأعماله مغايرًا بدرجة كبيرة لتاريخ الكتابة. لا أعني مجموعته الأولى همس الجنون التي صدرت أواخر الأربعينيّات مع أنّ قصصها مكتوبة في الثلاثينيّات، إذ أبقى الناشر والكاتب تاريخ كتابة القصص الفعليّ، بل أعني الأعمال المحفوظيّة الكبرى: بين القصرين (أو الثلاثيّة كما ساد اسمها)، وأولاد حارتنا، والحرافيش. يجد القارئ في مسرد أعمال محفوظ أنّ بين القصرين نُشرت عام 1956، فيما هي كانت جاهزة للنشر منذ نيسان/ أبريل 1952، قُبيل حدوث «ثورة يوليو»، وكانت آخر عمل له قبل فترة الصمت الأولى التي امتدّت بضع سنوات. سيُفيدنا هذا التأريخ في إعادة قراءة بين القصرين بوصفها نهاية مرحلة، لا من حيث السياق السياسيّ المصريّ العام، بل أيضًا داخل المختبر المحفوظيّ، إذ كانت تلك الرواية آخر رواية «كلاسيكيّة» بالمعنى النقديّ السائد، وآخر رواية استلهمتْ نموذجًا غربيًا واضحًا إذ كانت – على نحو من الأنحاء – إعادة كتابة لرواية تومَس مان آل بودنبروك (التي نجد نظيرتها التّركيّة في رواية أوهان باموق جودت بيك وأبناؤه (1982)).
يُصوِّر لنا النقّاد أنّ فترة الصمت تلك انتهت بنشر «الروايات الرمزيّة»، أي سلسلة الروايات المتلاحقة من اللص والكلاب (1961) إلى ميرامار (1967) التي مهّدت بدورها لظهور الرواية الرمزيّة الكبرى أولاد حارتنا. على أنّ الترتيب الفعليّ معكوس: كانت أولاد حارتنا أول رواية كتبها محفوظ إثر فترة الصمت بعد يوليو 1952، إذ انتهى من كتابتها في نيسان/ أبريل 1958، وبذا فإنّ سلسلة الروايات الرمزيّة لاحقة للرواية الكبرى وليست تمهيدًا لها. الفارق هائل، إذ يمكننا الآن فهم الرواية أكثر، بوصفها أول رواية محفوظيّة تحمل أفكاره تجاه «ثورة يوليو» وتجاه مفهوم السُّلطة بالمطلق. ويبدو أنّ ردود الأفعال الهائجة حيالها دفعت محفوظ إلى إعادة كتابتها، بمعنى من المعاني، ضمن أعماله الأقصر التي صدرت بتتابع مدهش وصولًا إلى أوائل السبعينيّات.
الحرافيش بالنّسبة إلى محفوظ هي مدن الملح بالنّسبة إلى منيف. كلتا الروايتين ملحمتان، لا بالمعنى الغربيّ وحده، بل أيضًا ضمن سياق الملحمة-السيرة التي مثّلت آخر تطوّرات النثر العربيّ قبل ولادة الرواية العربيّة من جديد بعد اعتناقها الأسلوب الغربيّ الصرف أوائل القرن العشرين. مهّد كلّ كاتب لعمله الكبير بعمل مفتاحيّ أصغر: حكايات حارتنا عند محفوظ، والنهايات عند منيف؛ وهما أول عملين نحى كاتب كلٍّ منهما قصدًا للتأسيس لرواية عربيّة لا تشبه مثيلاتها الغربيّة. التّشابهات كثيرة بين العملين، وتستلزم وقفةً طويلة مستقلة، إلا أنّ بوسعنا اختصارها في كونهما انطلقتا من «الحدّوتة» الصغيرة التي تنتهي بحدّوتة أخرى، في متتاليات حكائيّة ترسم بمجموعها العمل بأكمله.
ينير لنا محفوظ الطريق حين يقول إنّ «العمل الأدبيّ الوحيد الذي كتبتُه ولم أجد له شبيهًا، ولم أستطع تصنيفه في مدرسة معيّنة، هو حكايات حارتنا». ويتوسع في كلامه لاحقًا حين يتحدّث عن الحرافيش بوصفها «ثورة على كل ما هو أوروبيّ أو تقليديّ»، وحين يشدّد على أنّ «الرواية الصحيحة هي النابعة من نغمة داخليّة». كانت نغمة محفوظ الداخليّة الثريّة هي عالم الحارة الذي قدّمه في الحرافيش كما لم يقدّمه من قبل. استلهم محفوظ عالم طفولته وذكريات أسلافه ليكتب تأريخًا روائيًا للحارة لا يُعنى بإعادة كتابة التاريخ بقدر ما ينشغل بخلق عالمٍ موازٍ للعالم التاريخيّ، مع حرصه – في الوقت ذاته – على التأسيس لرواية مغايرة للروايات العربيّة السائدة، بما فيها رواياته هو.
انطلق منيف أيضًا من نغمة داخليّة متفرّدة هي بيئته المحليّة التي صودف أنّها كانت حقلًا بكرًا في الرواية العربيّة. لم تكن هناك روايات حقيقيّة عن الصحراء قبل رواية (النهايات) ومن ثم (مدن الملح). كانت هناك محاولات لكتابة رواية تضم صحراء هنا أو هناك، ولكنّ كتّابها ليسوا أبناء لتلك البيئة، ولذا بقيت نظرتهم قاصرة، وظهرت روايات صحراء لاحقة ولكنّها كانت روايات «إكزوتيك» تسعى إلى الإبهار لا إلى تقديم عالم الصحراء بكل جماليّاته وقسوته وثرائه واتّساعه. حين نستعيد تاريخ الرواية العربيّة، سنجد أنّ هاتين الروايتين تحديدًا: (الحرافيش) و(مدن الملح)، تبرزان بقوّة بوصفهما روايتين مغرقتين في المحليّة، ولعلّهما – في الوقت ذاته – أول روايتين عربيّين يمكن لنا القول بثقة إنّ لهما مكانةً متفرّدةً حتّى ضمن الرواية العالميّة.
ويلفتنا أنّ بداية التّفكير برواية عربيّة لا تشبه غيرها، بدأت جديًا في السبعينيّات، على يد محفوظ ومنيف، ولاحقًا إميل حبيبي، بوصفهم الأسماء الأبرز، مع مساهمات مهمة أخرى لجمال الغيطاني على الأخص. وإنْ كان منيف يرى أنّه كتب روايتين فعليًا ولدت منهما رواياته كلّها: (الأشجار واغتيال مرزوق) أولًا، و(مدن الملح) ثانيًا، يمكن لنا بالمقارنة القول إنّ محفوظ كتب روايتين فعليًا ولدت منهما رواياته كلّها: (أولاد حارتنا) أولًا، و(الحرافيش) ثانيًا. على أنّ المفتاحين الحقيقيّين اللذين يمكن لنا استثمارهما لقراءة أعمال كلٍّ منهما هما العملان التمهيديان الأصغران: (حكايات حارتنا)، و(النّهايات).
يقول بورخس في كتابه هوامش سيرة: «كلّما قرأتُ شيئًا ضدّي، لا أشارك في المشاعر فحسب، بل أشعر أنّ بإمكاني أن أقوم بالمهمّة أفضل بكثير منهم». وهذا ما فعله محفوظ بقوّة في حواراته، وما فعله منيف بدرجة أقل. إذ لم يقتصر أيٌّ منهما على تقريع كسل نقّادهما وقرّائهما ولفت نظرهم إلى المفاتيح الحقيقيّة لأعمالهما، بل قوّما كفّة الميزان حين انتقدا أعمالهما بنفسيهما. تعرّض محفوظ ومنيف لانتقادات كثيرة بكل تأكيد، إلا أنّها لم تخرج في معظم الأحيان عن خانة التّشهير وتصفية الحسابات (التي وقع فيها نقّاد مهمّون بكل أسف على الأخص في السبعينيّات إثر تصريح محفوظ بآرائه حيال السلام مع إسرائيل)، أو من خانة قولبة الأعمال ضمن تنميطات غريبة، كأن يُنتقَد منيف لأنّ بعض الشخصيّات «الشريرة» ليست شريرة بما يكفي، بل كُتبت ضمن سياق قد يدفع القارئ للتعاطف معها! نجد الانتقادات الفعليّة في إجابتهما على أسئلة الحوارات، إذ يعترف محفوظ بأنّه ربّما كان قد أخطأ حين أسرع بنشر رواية الكرنك (1974)، لأنّها الرواية الوحيدة التي كتبها اعتمادًا على السّماع، من دون أن يكون ملمًا بكلّ تفاصيلها.
لم يغفر محفوظ لنفسه هذه «الزلّة» الإبداعيّة بالرغم من النيّة الأخلاقيّة التي كانت الدافع الأساسيّ لكتابة العمل، حين قرّر محفوظ كتابته، لأنّه يمتلك حصانةً غير متاحة لغيره من الكتّاب في مواجهة بطش السُّلطة ورقابتها. ربّما تجاهلته السُّلطة لأنّها لم تكن تريد الدخول في معمعة سجن قامةً كبيرةً مثل محفوظ، إلا أنّها انتقمت من الرواية نفسها حين أخضعتها لرقابة قاسية، بترت منها نصفها تقريبًا وشوّهت ما تبقّى باعتراف محفوظ نفسه، الذي يؤكّد أنّ النص الذي بين أيدينا اليوم نسخة مشوّهة من الأصل الذي لا يمتلك محفوظ نسخة منه.
نجد هنا صدى لتأجيل منيف نشر شرق المتوسط لأسباب مشابهة، في صراعٍ دائمٍ بين الجانب الفنيّ والجانب الأخلاقيّ من عالم الأدب. غير أنّ الانتقاد الأهم الذي يوجّهه محفوظ ومنيف لنفسيهما يتّصل بجانب اللغة: ما اللغة التي ينبغي للكاتب استخدامها في السرد والحوار؟ يسخر محفوظ من استخدامه لتعبيرات قرآنيّة في رواياته الفرعونيّة، ويُفصِّل منيف تأمّلاته حيال لغة أعماله قبل (مدن الملح). بقي محفوظ على عناده حيال لغة الحوار، إذ يرفض استخدام المحكيّة إلا في جزر متفرّقة داخل محيط الفصحى المُخفَّفة، إلا أنّه طوَّر لغته باستمرار بحيث نجد فارقًا هائلًا بين لغته في روايات الخمسينيّات، ولغته في أعماله الأخيرة، حيث بدت اللغة أصفى وأبهى. أما منيف فقد رضخ أخيرًا للمحكيّة في الحوار في روايته الأخيرة (أرض السّواد)، بعد أن كان قد جرَّب استخدامها جزئيًا في (مدن الملح).
عَنْونَ منيف آخر مقالاته في كتابه الأخير الذي صدر بعد وفاته (إعادة رسم الخرائط) (2007): «إجابة على سؤال لم يُوَجَّه لأحد». وهذا بالضبط ما فعله محفوظ ومنيف في حواراتهما، حين أعادا رسم خرائط عالمهما الروائيّ الشاسع. كانا يتلاعبان على الأسئلة، كي يقدّما إجابات أفضل لأسئلة أهم لم تخطر في بال مُحاوِريهما. ولا نكاد نبالغ لو قلنا إنّ محفوظ ومنيف أكثر من ظُلما في الحوارات المكرورة المملّة، وإنْ كان الوضع ليس أفضل مع غيرهما، أو حتّى في ثقافة الحوارات الأدبيّة عربيًا بالعموم، حيث يفضّل المُحاوِرون الأسئلة الجاهزة على السّجال، الذي ينبغي أن يكون أساس عمليّة الحوار.
إلا أنّ محفوظ ومنيف لم (ولن) يخيّبا آمالنا، إذ قدّما لنا الأضواء الأولى التي ينبغي لنا أن نسلّطها في إعادة قراءة أعمالهما كي نفهمهما أكثر، ونفهم الأعمال أكثر. لدى منيف عبارة استخدمها أكثر من مرة بشأن طقوسه في الكتابة، إذ يقول: «يكتب الروائيّ بقفاه». ويعني أنّ على الروائيّ أن يجلس بدأب وصبر كي يُثمِر جهده. هذا ما كان محفوظ يفعله أيضًا طوال ثلاثة أرباع القرن من الكتابة. الدّأب والصبر؛ هذا ما كان لدى محفوظ ومنيف، وما ينبغي أن يكون لدينا كي نقرأهما قراءة صحيحة.
عن (جدلية)