أنا منْ دَلّكمْ على جثّتي
فأخفيْتمْ شهْقتهُ
بينَ الْحجارةِ، والأعالي
ونثرتمْ زرعي
بينَ الْمساربِ الْبرّيةِ
أنا من دَلّكمْ على قاتلي
فجرحْتمْ جثّتي
واشتعلتْ ـ بينَ حاجبيهِ ـ الحرائقُ
حين آمنكمْ من وجَعي
أنا منْ ماتَ
وظلّ يرشدُكمْ
إلى جثّتي!
عائدا للتوّ، من مراثي الزمنِ الموحشِ
خجِلا من ساقيّ المْهملَتين في خلاءِ الحربِ
والنسوةِ اللائي حملنني إلى بيتٍ بعيدٍ
وخِطْنَ جراحَهن واحدا، واحدا
بما تبقى لي من ألياف، وصهيلٍ
وآخرَ السهوِ، علمنني الطيرانَ
أنا الآن حرّ
خالٍ من الماء، والوساوس الصغيرةِ
وأمرق بين الأحراش، والبيوتِ، بيسر شديدٍ
تارة أفتح بابا
وأنفضُ الغبارَ عن كرسيّ أبِي
تارة أصِلُ النّهرَ بدمعتِه الأولى
وأملأ أكمامَ الصّبيانِ بالغيمِ، والدّعاءِ
وتارة أخرى
أدحرجُ الوقتَ إلى عدمٍ واسعٍ
وأحْصي عددَ الصيحاتِ بين أسنانهِ
ودوائرَ الخوفِ في مقلتيهِ
حتى إذا أوغلَ في الغيابِ
وتراخى ـ في حلْقهِ ـ الكلامُ
وصلتُ عظامَه بأغْصاني
وانصرفْنا إلى بيتٍ بعيدٍ
متّكئيْن على هواء رخوٍ
وخالييْن منَ الضجر!
عائدا منَ الملاحمِ القديمةِ
تذكرتُ أنّي لم أمتْ بشكلٍ كافٍ
لم تكنِ السيوفُ، وراجماتُ النّيرانِ
رحيمةً بي
لم تخْطئْني الفِخاخُ، وأحذيةُ الجنودِ
وبارودُ الأحبّةِ، أيضا
أنهكتْني الرياحُ، والأمواجُ، والزلازلُ
لكنّي لم أمتْ بشكل كافِ
رأيتهم يرفعون أصابعَهم إلى الأعلى
إصبعيْن، إصبعيْن
ضاحكِينَ وخائفِينَ منَ النّهرِ الذي تدلّى
من خاصِرتي، بغتةً
لم يروا بسْمتي راكضةً
بين الأعشابِ
حين أفْلتَ بعضي من رباطِ بعضي
وأنتم
لا ترونني الآنَ
ولا تسمعون حديثي
وهذا دليلٌ آخرُ
على أني متّ بشكلٍ سيئ للغايةِ!
- كأسُ الْمسافرِ
عائدا منّي إليكَ
رأيتهم يُعِدّون الخيامَ، والشّرابَ
لم تكنِ الأواني نظيفةً
ولم يكنِ العنبُ طازجا
رأيت السّقاةَ مضْطربينَ، وغيرَ نظيفينَ
وعلى غيرِ العادةِ
لم يكنِ الأمرُ سِرّيّا
ولم تخرجِ الراقصاتُ من معاطِفهن
لأمرٍ ما بدتِ الشّوارعُ ضيقةً جدا
وخاليةً من همهماتِ الجند، والعاشقين
فلا تشربِ الليلةَ
هذه الكأسُ منْ دمِك المتشرّدِ
بين المدائح، والأسفار الليليةِ
وليست من فخّارٍ، أو زُجاجٍ
فلا تشربْ
ـ دمي مالحٌ يا فتى
له نصفُ ما في الأرضِ من ضوضاءٍ
وله رائحةٌ غيمٍ بعيدٍ
تقرُصُ الصّبايا باطنَ كفّهِ
برفقٍ شديدٍ
رذاذُ الصباح دَمِي
عرباتُ الناجينَ منَ الغرقى
دَمِي
والنّسغُ السائرُ في أرحامِ الغاباتِ
دَمِي
فكيفَ لكأسٍ صغيرةٍ
بحجم القلبِ
أن تسعَ الأضدادَ كلّها؟
ـ عائدا منكَ إليّ
أيقنتُ أنكَ ميتٌ آخر
تصغي إليهِ الحياةُ
بانتباهٍ شديدٍ!
حَبيباتِي اللائي حملْنَني
إلى بيتٍ بعيدٍ
وصلّينَ من أجْلي طويلا
خِطْنَ جراحَهن واحدا، واحدا
بفتائل منْ أعشابي
سمّيْنني زهرةَ العدمِ
واهْتدَين إلى قتْلي
"منتصبَ القامةِ"!
لم يكنْ واردا في الحُسبان أن أغنّي
أمام حشدٍ كبيرٍ من الشّهداءِ
وقتلى حوادثِ السّيرِ
وخياناتِ العشّاقِ
لم يكن وارداً أبداً
أن يطلبَ مني القاتلُ والمقتولُ
معزوفةَ" النّهرِ الخالدِ"
و يرافقَني الجندُ في "رقصةِ الأطلسِ"
وأن تكتظّ الممراتُ بالمنشدينَ
والعازفاتِ العائداتِ من فراغٍ قديمٍ
لم يكنْ واردا في الحُسبانِ
أن يخْرجوا من معاطفهمْ
إلى زحمةِ النّاسِ
ضاحكينَ، وممطرينَ
حتى إذا بلَغوا المَماتَ الكبيرَ
وهاموا في أوْديتهمْ
ردّدتِ الأحراشُ خلفهمْ
"أنا من ضيعَ في الأوهامِ عمرَهُ"!
الْملاكُ الذي مرّ بي اليومَ
في ممَاتي الأخيرِ
لم يكنْ راضيا عنّي
ولم يكنْ باستطاعتِهِ
أنْ يُميتَني منْ جديدٍ
يا أسَفي عليّ!
أحَيّا سأبقى هنا إلى الأبدِ؟
ما زلتُ أمارسُ عاداتِي
كما كنتُ أفعلُ سابقاً
أمشي بين العواصفِ
ألملمُ ما تناثرَ من حُبيْباتِ المطرِ
وأسندُ الزهرةَ التي تتسلقُ الحافةَ
إلى أن تصيرَ فراشةً
ونحلقَ في الأعالي معاً !
لا ماءَ في هذه البئرِ
لا ماءَ في البئرِ المجاورةِ
حرّكوا أطرافكُمْ
يخرجْ من أكمامِكمْ
مطرٌ لا آخرَ لهُ
وحينما ترْتوونَ
وتزدحمُ البيوتُ بالأشْجارِ
أنْزِلوني
لأدلّكمْ
على مخابئِ الْحطّابينَ!
ماذا سنفعلً الآنَ
بعدَ أنْ صرْنا
عصفوراً وحبّةَ قمحٍ
أنت جائعٌ جدّاً
وأنا دمعتُكَ الأخيرةُ
في هذا الخلاءٍ البعيدٍ؟
- أوهامُ ميتٍ
لِمَ أخْجلُ من ساقيّ المهْملتيْنِ
في خلاءِ الحربِ؟
أليسَ ممكناً
أن تصيرا شجرتيْنِ عالِيتيْنِ
ونادِرتيْنِ؟
وأن تصيرَ لهُما ثمارٌ
يأكلُ منها المحاربون مرّةً أخْرى
وظلالٌ يأوي إليها المهزومونَ
والجرْحى الذين فقدوا
سيقانَهم بعْدي ؟
أليس ممكنا أن يمرّ عاشقانِ من هنا
ويحْفرا اسميْهما في خاصِرتَيّ
بحجارةٍ مسنّنةٍ، أو مفتاحِ بابٍ ؟
من الممْكن جدّاً
أن يصافحَ المقتولَ قاتلُهُ
بينَ ساقيّ اللتيْن صارتا
شجرتيْنِ عالِيتيْنِ
ونادِرتيْنِ!
لم أغادرْ هذه المغارةَ، ولم أعثر عليكِ، بعدُ
أعرفُ أنكِ لم تغادري هذه المغارةَ
ولم تعْثري عليّ أيضاً
أتعقّبُ الرذاذ الذي يسّاّقطُ منكِ
على الأزهار كلّ صباحٍ
ولا تهتدين إلى همْهاتي بين الأزهار
تركضينَ في كلّ اتّجاهٍ
ولا أهْتدي إلى انْسيابِ الْموسيقى
بينِ ساقيّ، وآخرِ الحديقةِ
لم يكن أحدٌ قريباً منّي ليدُلّني عليّ
وسطَ الرذاذِ الذي يسّاّقطُ منكِ
لم يكن أحدٌ قريباً منّي لأدْفئهُ
أو يحملَ أنْفاسي إلى أوّل النّهرِ
فأطلعَه على سرّ الحرائقِ في غاباتِ الدمِ
وكيف تُفتحُ الأبوابُ بغتةً
في وجه العائدين من مرافئ النسيان
تعالي. لِننْهِ هذه اللعبةَ الآنَ
جرّبي أن تَمْلَئِي حقائبَ المسافرينَ
بالقمحِ، واندهاشِ الطّيورِ
وأن يكون ظلّكِ أعلى من متاريسِ العدو
أليس جميلا أن تخْضر ّ
قبعاتُ المحاربين، وبنادقُهم
وتورقَ الكرومُ بين الخنادق؟
مالذي جاءَ بجمْجمتي إلى هذا المكانِ
فارغةً من الأحلامِ، والظنونِ؟
كيف لانتْ أساريرُها
وانقبضتْ منابعِ الدّمعِ فيها؟
من أوْدعَ فيها طيناً، وحشائشَ بريةً
وجاء بالنّحلِ صفّا، صفّا، إلى نوافذِها
في المحْجرينِ قبضةُ نعناعٍ
في فتحةِ الأنفِ عيدانُ نخلٍ هجينٍ
والصّبارُ الأشعثُ مكانَ الأسنانِ؟
أريدُ جمْجمتي، كما كانتْ
قبعةً واقيةً منِ الرّصاصِ
و من لهيبِ الشمسِ
واقيةً من حوادثِ السّيرِ
وضوضاءِ منتصفِ الليلِ
أريدُها كما كانتْ
خوْدةَ جنديّ بلّلها رذاذُ الأماسي
وخيمةَ مشّاءٍ ضلّ الطريقَ
إلى دهشةِ الْعاشقِ
أعيدوا إليّ جمْجمتي
فأنا ذاهبٌ
إلى قلقٍ جديدِ!
في الطريقِ إليكَ
تسلّلَ الكثيرون إلى معْطفي، و خطايَ:
حراسُ الخيباتِ، والمدائحِ القديمةِ
القاتلُ والمقتولُ، وما بينهما من وجعٍ
النسوةٌ اللائي جرحْنَ باطنَ الغيمِ
باستدارةٍ سريعةٍ
التوابونَ، والخطاؤونَ
والرّماةُ الذين ورثوا الأرضَ، والنشيدَ
كلّهُم صاروا أنا
فاحذرْني
يا رفيقي!
للمحبّةِ طعمٌ آخرُ، هنا
تأخذينَ شتاءَكِ الْعالي إلى الْبيتِ
وألهثُ خلفكِ بالأشجارِ، والودْيانِ
والْحزانَى
تمْطرينَ طويلاً
ولا تمّحي آثارُ جناحيّ على الرّملِ
ولا أكفّ عن الطيرانِ
تبتلّ الكائناتُ الصغيرةُ، والترابُ
والعائدونَ إلى أطفالِهمْ منكسرينَ
ولا تكُفينَ عن الطيرانِ
ترْخين ضفائرَكِ الطّويلةَ
والأنهارَ، في فرحٍ
بينما أُعِدّ الأوطانَ المفْقودةَ للسّكنى
تصيرُ الأطلالُ أرْزا، وسنابلَ عاليةً
تصيرُ الشّرفاتُ شموساً صغيرةً
والْمتاريسُ مشابكَ منْ صوفٍ
ويندَسّ الصّغارُ مثلَ هواءٍ خفيفٍ
بين حُبيْباتِ الطّينِ، والضّجرِ
فاحْتملِي فرَحي
إنّي لمْ أكفّ، بعدُ، عنِ الدّورانِ!
عائدا منَ المدائحِ الكبْرى، إلى بيتنا الْقديمِ
حيّيتُ الأطفالَ، والجيرانَ، وكلبَ الحراسةِ
قبّلتُ صغيراتِ الحيّ، ورأسَ العجوزِ التي كانتْ
تدعو لي بالسّلامةِ، والرزقِ كلّ صباحٍ
وما التَفتوا إليّ
كأيّ ضيفٍ مهملٍ
جلستُ على كرسيّ هزّازٍ
بنظّارتيْنِ صغيرتينِ، وكتابٍ
وناديتُ كلّ واحدٍ باسْمهِ
وما الْتفتوا إليّ
وكلّما لمستُ أحداً، أو أغلقتُ نافذةً
فزِعوا
وتحدّثوا بصوتٍ خفيضٍ
عنِ الغامضِ الذي يعيدُ ترتيبَ البيتِ
وكيّ الملابسِ، واللصوصِ
يسبقهُ بردٌ، وضجيجٌ خفيفانِ
ورائحةُ فرنٍ مهجورٍ
في الطّريقِ إلى بيتنا الْقديمِ
أدركتُ أنهمْ غيّروا اسْمي
غيّروا اسمَكِ، والأقْفالَ كلّها
صرْنا شبحيْنِ غريبيْنِ
كلّما حنّا إلى أحدٍ
كسَرا شيئاً
أو فتحَا نافذةً!
لا بحْر هنا
تأتيكَ منه السفائنُ مكتظةً
بهمهماتِ الضائعين
ومتاعِهم
لا مرافئ يأوي إليها
الناجون، والقراصنةُ، والجنودُ
لا موج هنا
يعلو
فيسْرع الغرْقى
إلى جلودِهمْ
خجلينَ منَ الملحِ، والمدائحِ
لا صبايا يزرعْن ريشَهن
بين حُبيباتِ الرّملِ، وبردِ الصباحِ
فرحاتٍ بالياسمينِ الذي يسّاقطُ
من جراحِهنّ
لا أحد هنا
يذكرُ
هذا الجحيمَ
سواكَ!
- زهايمر
أحدٌ ما
خلعَ جثّتهُ الخضراءَ جدّا
عندَ بابِ النّهرِ
وسارَ إلى جانبي
متنكّرا في زيّ طائرٍ
حسنِ الصّوتِ
ولما اكْتفى منْ شرابي
والقمحِ الذي طمرْتهُ
تحتَ حطامِ البيوتِ
واسْتدارَ إلى الخلفِ
ضلّ الطريقَ إلى بابِ النّهرِ
وما عثرتْ عليهِ جثّتُهُ!
موتايَ البعيدينَ
أحِبّوا بعضَكم
فإن المماتَ الكبيرَ
يضعفُ بأسُهُ
عندَ العناقِ!