في هذا الجزء من دراسته يتوقف الناقد المصري عند عدد من أبرز كتاب جيل الستينيات: يحيى الطاهر وإبراهيم أصلان وعبد الحكيم قاسم ومحمد حافظ رجب وضياء الشرقاوي ومحمد مستجاب ومحمود الورداني، ويوضح آثار هزيمة 67 على قصصهم القصيرة سواء من حيث الرؤية أو تشكيلها فنيا.

القراءة السياسية للقصة المصرية القصيرة (4)

جيل الستينيات ونكسة يونيو

شوقي عبدالحميد يحيى

 

يحيى الطاهر عبد الله { 30 أبريل 1938 - 9 أبريل عام 1981)
قد يكون يحيى الطاهر عبد الله، أكثر أبناء جيله، تمردا، فعلى الرغم من موته المبكر –نسبيا- مثلما كان محمد تيمور، وشحاته عبيد، إلا أن كلا منهم ترك بصمة غير منكورة في مسيرة القصة القصيرة. المشحونة بالثورة على كل دواعى التخلف  والجهالة. فما من قصة ليحى الطاهر، إلا ونجد فيها تلك الثورة علي كل أنواع السلطة، سلطة الموروث، سلطة العادات والتقاليد، السلطة الرسمية، بمعناها القريب، والتى إن كانت تحتوى فيما تحتوى، كل أنواع تلك السلطات. ولا شك أن وفاة والدته مبكرا، وزواج أبيه من خالته التى كان قد انتقل إليها بعد وفاة أمه، كان له كبير الأثر علي نظرته للحياة، خاصة في السن المبكرة، وما زرع في نفسه الرغبة فى إثبات وجوده، كدافع ذاتى إنسانى، وفي هذه السن الصغيرة، لا يملك الطفل غير التمرد، إعلانا عن الرفض.

ولم يكن غريبا، معرفتنا بما عُرف عن يحيى الطاهر، من قراءة قصصه شفهيا، في المقاهى والمنتديات، و كأنه يقرأ قصيدة، لا قصة، حيث تبدو صيغة الشاعر الشعبى، واضحة في صياغته لقصصه، التى نقرأها وكأننا نجلس أمام شاعر الربابة في مولد شعبي، ينحو الشاعر فيه إلى اللغة الحوارية، و تكرار الجملة، وتأكيد الإسم في كل جملة. كما يمكن رؤية عناوين مجموعات يحيى _وكثير من القصص – التى تحتوى ما يمكن أن يصل إلى جملة، فى (ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا ، أنا وهى وزهور العالم، حكايات للأمير حتى ينام) وربما من كلمتين اثنتين ( الدف والصندوق، الرقصة المباحة)، ومن عناوين القصص (الحقائق القديمة فى حياة مازالت صالحة لإثارة الدهشة، حكاية بزخارف حتى تنام أيها الأمير، حكاية الصعيدى الذى هده التعب فنام تحت حائط المسجد القديم)، الأمر الذي معه يصبح العنوان قصة في حد ذاته، بما يشير إليه من مضمون، او بما يوحيه من دلالات. مثلما فى "الحقائق القديمة فى حياة مازالت صالحة لإثارة الدهشة". فالحقائق، هى الثوابت، أو الاعتياد، والتى لا تقبل المناقشة، أو تثير العجب أو السؤال، بينما الدهشة، هي التعجب والاستغراب، وحيث ترتبط الدهشة بالبراءة ، أو الفطرة والخضرة. فإذا كانت تلك الحقائق قديمة، ورغم ذلك ما زالت تثير الدهشة، فهو ما يعني الاستمرارية،  وتتحول الدهشة إلى استمرارها، كيف لهذه الأشياء أن تعيش وتستمر طوال هذه الأزمنة. كما أن تلك العناوين تمنح الإحساس ب(الرحرحة) أو التؤدة في الحكى، فليلة الشاعر طويلة وممتدة، وقد جلس المستمعون، أو المشاهدون والمتابعون، فى إنصات وإهتمام، ما يسمح له، بالاستفاضة. غير أن استفاضة يحيى الطاهر، وتكراراته، لم تكن أبدا عبئا على القصة، بقدر ما تمنحه خصوصية، من جانب، ومن جانب آخر تأكيد الرؤية المراد توصيلها عبر القصة.

ويبدأ الرفض من الطفولة، وفي محيط القرية التى نشأ فيها والتى قال عنها يوما – وما يوضح تمسكه بها في رؤاه للقصة فيما بعد "أرى أن ما وقع على الوطن وقع عليها، قرية منسية منفية، كما أنا منفي ومنسي، أيضا هي قرية في مواجهة عالم عصري، إذن عندما أبتعد عن قريتي أسعى إليها في المدينة، وأبحث عن أهلي وأقربائي، وناسي الذين يعيشون معي، وأنا لا أحيا إلا في عالمها السفلي، فحين ألتقي بهم، نلتقي كصعايدة وكأبناء الكرنك ونحيا معًا". وما نستبينه في قصة "جبل الشاى الأخضر"[1].  حيث يعمل العنوان، إلى المراوغة، واللعب مع القارئ الذى يتصور بأن القصة تدور حول جبل من الشاى الأخضر، غير أن القصة تظل أملا أن يحدث ذلك، فهى أمنية نابعة من ذلك الجفاف، والسكون القابع في رمزية الجبل، والذى يحتض تلك القرية في صعيد مصر. حيث نتعرف على ذلك (الطفل) الذى كانه الكاتب يوما ولا يزال يتأمل أحواله، بغير رضى، ويرى أن دوره قد جاء سعيا للتخلص من ذلك الجمود، وتلك العادات المتحكمة، حيث يجلس الطفل، مع والده وجده، فى طقس يومى، والجميع صامت لا يتكلم {كنا صامتين، فجدى لم يكن قد تكلم بعد..}. تحلق الجميع حول (راكية) النار، والجد يوزع الشاى ما بين الأحمر والأخضر. إلي أن طلب الأب من ابنه الطفل، أن يذهب لأخته نوال، كي تُحضر اللبن من الجاموسة، غير أن الطفل، وجد نوال التي تكبره بتسعة شهور، بينما أخته الأصغر "عواطف" تصغره بتسعة شهور كاملة، ليشير إلى ذلك التوقيت ، والذي كأنه العداد الذى يمتد ب(الخلفة) كما الأرنبة. دفع الصبي باب الحوش ليجد نوال{راقدة فوق ظهر جاموستنا.. وكانت تمرجح ساقيها وتحك فخذيها بباطن الجاموسة الأسود السخين.. كنت أرى أصابع قدمها التى تواجهنى كخمسة مسامير دقت أسفل بطن الجاموسة}. ولم يلبث الطفل أن يسرع إلى الجميع حول الراكية ليخبرهم بما رأى وبينما هو يروى ما رآه { كان جدى يدوس شفته السفلى تحت أسنانه، أما أمى فقد خرجت من الغرفة ولاحظتُ أنها راغبة فى البكاء... وفى لحظة كان أبى قد عاد وصرخ بأنها غير موجودة، وزعق طالبا أمى، وصرخ فيها طالبا منها أن تحضر نوال من تحت باطن الأرض. وفى غمضة العين كانت أمى قد أحضرت نوال وهى تجرها}.. وانهال الأب على ابنته ضربا، والجد يأمر الأب في غيظ {إضرب .. اضرب يا كامل} لتظهر عاطفة الأم {كانت أمى تصرخ.. وكان صوتها باكيا.. وكان أخى رمضان على صدرها لاشك يبكى.. وكانت تخاطب زوجها: {جَوِزها يا كامل.. كفاية يا كامل وتتجوز}.لنتأمل عمر تلك الطفلة التى يرون علاجها بزواجها، مع ذلك العدد المترتب بتوقيتات تسعة شهور، لنصبح أمام كارثة مزدوجة، التزويج المبكر، وكثرة الأولاد. وكان الأب قد لطم الطفل السارد على وجهه، ليسيل الدم من وجهه، ويرتمي بالأرض والأم تسقيه (مية ورماد). ليصرخ فيها الأب ان تعطيه مية بسكر وتعصر عليها لمونة، لتخبره بأن ليس لديهم (لمون). فيخرج الأب ، والطفل في تخيله لا يسمع {خطو قدميه الحافيتين تنغرسان فى الرمل الساخن الجاف، وقد هبط من فوق ظهر ناقته "عاتكة" وبلغ الجبل وصعده.. يجمع من حوافيه أعشاب الشاى الأخضر .. الخضراء .. ويأتى ومعه أيضا بحبات الليمون الخضراء}. وقد تخير الكاتب الشاى كطقس تقليدي عند التحلق حول (الراكية) . أما الشاى الأخضر ، بأوراقه الخضراء، هو ما ساءل الطفل لجده ، لماذا الطفلة (عواطف) لا تشرب الشاى الأخضر وتشرب الشاى الأحمر، ليصبح الشاى الأحمرا رمزا للماضى، بتقاليده المرفوضة، ولماذا لا تشرب الشاى الأخضر، بما يرمز إليه من البداية ، والخضرة، والطزاجة. وبذلك كان السارد يحلم { كنت أدرك اننى سأنام، وكنت عطشان، وكنت أدرك أن أحلامى كثيرة ستأتى}. وها هو الكاتب قد مات بحلمه الذى لم يتحقق بعد.  

وخرج يحيى الطاهر من قرية الأقصر بالصعيد المصرى إلى اتساع القاهرة، إلا انه يحمل معه قريته. ويحمل معها تمرده، كما يحمل معه روح الحدوتة، التى يستخدمها في توصيل رسالته إلى القارئ، وهو ما يتبدى في "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة" والتى صاغها على شكل  متتالية قصصية، يمكن أن تُقرأ كل منها منفردة، وتشكل فى مجموعها رؤية كاشفة عن مجموعة البشر الذين – تجاوزا – يعيشون، فى القاع، والذين لايجدون لحظات السعادة إلا فى لحظات التوهان، تحت تأثير الخمر المغشوش. فيقدم مشهد البداية على النحو الذى يحمل المرار فى أعماقه {حين رأى – وقد أنهكه السير الطويل – وكان يصعد من الأسفل إلى الأعلى( المطعم الفاخر بواجهات من زجاج، والرجل السمين القصير وصاحبته تلبس بالطو من فرو الديب يأكلان: عجلا مشويا وديكا روميا وطاووسا محشيا وحوتا مقليا بعد أن شربا من جيد الخسر تسع زجاجات .. وأمامهما تورتة على شكل شاحنة وبحجم شاحنة). صرخ الرجل – هو الجائع الحافى العارى- صرخته الأخيرة وارتمى فى حضن أمه الأرض ليستريح، عليه سلام الله}. هكذا هى رؤية "إسكافى المودة" أو الشخصية الرئيسية في الدوائر التى تشكل الشكل النهائى للقصة ككل. ذلك الاسكافى، الساخر، الفهلوى، الذى يتحايل على معوقات وصوله للخمر، وسيلته الوحيدة، للهروب من ذلك المشهد (المتخيل) في البداية، وإن لم يكن الفقر وحده، هو المانع من وصوله لمبتغاه. وإنما فى طريقه إليها، يعترضه (الدركى) ليكشف عن ذلك البعد (السياسى) فى الرؤية الكلية، إلا أن شخصية إسكافى المودة، تستطيع التحايل على تلك المعوقات، وكأنها كفاح الإنسان الفرد، بحثا عن سعادته الشخصية، والمواءمة مع طبيعتها، ومن بين تلك الحيل، قدرته على التحول من الصورة الآدمية، إلى اشكال أخرى، كالحجر مرة، ومرة إلى شجرة، وأخرى إلى خروف، وكأننا أمام صور مختلفة للتحايل على المعيشة، التى مات فيها الفقير _جوعا وقهرا، فى مقابل ذلك المشهد الذى صدر به الكاتب قصته.. ففى أثناء عودته من الخمارة إلى بيته، أى بعد أن حصل على ما يمكن أن نسميه (جرعته)، أو خروجه إلى عالم جنته الخاصة، يرى الأشياء ، كأنها جميلة {عجيبة والله: وهل من جائع فى ربوع وادينا الخصيب! هل من عراة فى بلادى وها أنت ترانى يا سيدى الدركى منتعلا.. وها أنا أراك كذلك.. وكلنا منتعلون، وسيد إقليمنا السعيد العادل.. وفى صحيفة اليوم صورة له: يحمل ميزان العدل بيمناه –سلمت يمناه- ويسراه – سلمت يسراه – يلوح لنا نحن جموع شعبه الوفى الأبى الخالد.. باسما بقبضة  من عيدان القمح والسمسم والقرطم الأبيض}. ويستمرالإسكافى ليرى أن يُرىِ الدركى تلك الصورة، التى هو متأكد أنها فى جيبه، يبحث عنها فلا يجدها { سيدى عفوا أحيانا ينسى الإنسان منا حاضره الطيب، فيرتد إلى الماضى الكريه، حين ذاك يشعر بالجوع مهلكا فيأكل كما الجرادة، لكن .. أيأكل الإنسان الصحف؟! عفوا سيدى  هل يتحول الإنسان إلى جرادة؟ لقد كانت الأخبار السعيدة كلها هناك بالصحيفة يا سيدى.. آه ما من خبر سعيد برأسى الآن} فكم من إشارة فى هذه الفقرة، ترسم صورة الوضع فى تلك الفترة، ربما أواخر الستينيات، وربما السبعينيات. حيث خداع الجرائد اليومية، وما تصوره من أخبار سعيدة، ليس لها وجود على أرض الواقع.  ويرى الدركى ذلك المخمور المتكوم على الأرض ، كومة من اللحم، إنسان نائم على الأرض، فيحاول الدركى، إيقافه، بأكثر من طريقة، فلا يفلح، وحينها... {حين ذاك ارتد عقل الدركى إلى الحقائق القديمة، فسار نحو المخمور وأمسكه من كتفه وجره جرا} لنتعرف على (الحقائق القديمة) التى تتضح هنا فى تعامل الدركى (الشرطة) مع الآخرين، وحينها فقط، كان عقل الدركى قد عاد. ويعرض الدركى على المخمور ما ينتظره من عقوبة، فهو على أي الأحوال مذنب، ثم يقول للمخمور ( لا عليك .. اعطنى لسانك وسر فى طريقك سعيدا}، وكأنه يقول له إحفظ عليك لسانك، تسلمْ منى. وحينها يتحول الإنسان – بدون لسانه – إلى ميت.. وحينها يعرف الدركى، كيف يكشف ألاعيب الموتى {أما أنا فغاية الوقت أقضيه بمفردى مفكرا فيما يجب عليَّ عمله أمام هذا الخطب الجلل الذى يخصنى وحدى..أنا الضمير الساهر الحارس لكل النيام.. أنا الدركى الحى اليقظ كل أولئك الموتى وألاعيب أولئك الموتى}. وتتعدد صور (قطع اللسان) بين أن يتركه لدى الدركى، أو أن يعقده ثلاث عقدات. ثم فى مشهد آخر، يبين –أيضا- العلاقة بين الدركى والمواطن، إلى جانب الكشف عن صورة (الحدوتة) التي ينتهجها الكاتب { يقولون أن الدركى رأى وهو فى تجواله رجلا، فما كان من الرجل الذى رأى أن الدركى رآه إلا ان ولى فرارا، وهكذا يجد الدركى ألا مفر من الجرى خلفه، كان الرجل ينزع أعضاء جسمه عضوا عضوا ويرمى بها على قارعة الطريق – حتى يكف الدركى عن ملاحقته، وفى النهاية لم يجد الرجل مخرجا، غير أن يستقيم على ساقيه ويتحول إلى شجرة}. فمثلما استطاع يحيى الطاهر، التحايل للإصال رسالته، والهروب من قبضة الرقابة، كذلك استطاع الاسكافى أن يتحايل للهروب من الدركي، و  (المخفر).    

ويعتبر يحيى الطاهر، من أوائل من تأثرو بانكسار حلم الستينيات، بنكسة يونيو، التى أحدثت شرخا فى نفوس الإنسان المصرى، عامة، وانعكس على كتابات كُتابها، حيث أصبحنا نشعر فى قراءة العمل، بالتيه والتشتت المتمثل فى ضياع التتابع المنطقى فى السرد، وكأننا نتخبط فى أشياء كثيرة تصادفنا، ونحن فى حالة سُكر، وما استتبعه من إختفاء حروف العطف، وما يستتبعها من فقدان التواصل بين الجمل.

ومن نماذج ذلك التحول –عند يحيى الطاهر- بالدرجة الأولى، حيث التحول من (الرحرحة) فى الحكى، والتكرار، إلى ذلك التشتت، وغياب حروف العطف، ما نقرأه في مجموعة قصصه المحدودة المساحة الكتابية، ومنها "فانتازيا العنف القبيح"[2] ، وإن احتفظ فيها بأحد خصائص كتابته،من قبل، وهى تقديم (حالة) أكثر منها تقديم (حكاية). والتى نرى السارد فيها مخمورا، وكأننا نبدأ من البداية بالتعبير عن ذلك الهروب من الحياة، أو من الواقع، كما تمنح الكاتب فرصة التعبير عن التخبط، وعدم الاتزان، فتبدأ القصة { حتى ضرب الباب الزجاجى بقدمه دخل البار، وراح الباب  الزجاجى وجاء، وأمطرت السماء فى الخارج، ينظر للمروحة العاطلة، لا تدور}. وتتكرر الإشارة بأن المروحة لا تدور، وبعد ذلك نقرأ {ينظر للمروحة العاطلة: تدور، ويتذكر أشياء في حياته، يشعر برغبة فى البكاء، ولكنه يقاوم، ويشرب كاسا والمروحة مازالت تدور، يشير للجرسون ويدفع الحساب، وتعاوده الرغبة فى البكاء، يشرب كأسه الأخير ويغمغم: السلفة، ويبصق ويندفع للخارج. يتوقف المطر، والمروحة العاطلة تدور لاتزال}. فإلى جانب ذلك التخبط بين ما إذا كانت المروحة تدور، أو لا تدور، وإلى النظر إلى المروحة ، رغم أن الأمطار فى الشارع فى الخارج، فإننا أمام رؤية رمزية، يفرضها علينا ذلك الجو الذي أشاعه، وضغط به الكاتب على مشاعرنا، وحواسنا، والتى معها يثور الانفعال، وتتأجج الرغبة فى البكا، مثل صاحبنا السارد، الذي يري الأسفلت الأسود، وأعمدة النور الواقفة كالرجال، لكنها لا تبعث ضوءً وإنما هى {واقفة تسقط الظلال على أرض الشارع المبلول الأسود الأسفلتى اللامع}. ثم يدخل بنا فى مشهد آخر حيث { يمشى خلف ثلاث فتيات يلبسن (المينى جيب) واحدة قصيرة وسمراء ونحيلة اسمها (إيناس) طالبة بكلية الفنون الجميلة، بالسنة الثانية قسم الديكور، لا تحب اللوبيا ولا الفاصوليا، تحب (مامتها) جدا جدا وتصارحها بكل شئ، لا تحب الفول الأخضر أيضا، تحب الأطفال حتى سن العاشرة...} ويستمر وصف الفتاة، التى يبدو أن لاشئ عليها، غير طبيعى، وكأنها الحياة العادية، إلى أن يظهر {النسور المدربة يا الله هناك عند المنحنى.. النسور المدربة جيدا يا الله.. كل نسر يا الله قبض بمخالبه القوية على فتاة.. لا يلتهمها بعد.. يطرح فتاته أرضا ويوسع فتاته ضربا .. قابضا على لمة شعرها .. شعرها القصير يا الله .. ويجرجرها على الأرض( إلتم جمع كبير وتحركت عربة الأخلاق.. كسرت الحلقة وتفرق الجمع وأتى الهدوء المعتاد المألوف). ولنربط هذا المشهد بمشهد نهاية القصة ، حيث وقف صاحبنا أمام فاترينة محل بيع الملابس الداخلية النسائية،  وك{تمساح صغير من البلاستيك يزحف ببطء .. ولمح الرجل القصير الأبجر يقف خلفه، وشعر برعدة شديدة لما أشار القصير الأبجر – بصحيفة الصباح التى يمسكها بيده-  إلى شارع جانبي خافت الإضاءة}. ومن وصف ذلك الرجل القصير الأبجر، قد يتوارد للذهن، أن هناك بدايات لقاء جنسي شاذ، وقد ترد صورة المخبر، مستخرجا من شعور صاحبنا تجاهه { وشعر برعدة شديدة لما أشار القصير الأبجر)، غير أن استكمال المشهد، يسير بنا فى إتجاه آخر، لايبعد كثيرا عن ذلك، حيث لم يكن أمام صاحبنا إلا أن { هبط الدرجات  الست ويبلغ مدخل القبو، شعر بالرطوبة، وشم رائحة الرطوبة، وانهزم بصره أمام تماسك اللون الأسود، ظل ينتظر، وسمع وقع الخطوات وعاش التوقع: واحد.. اثنين .. ثلاثة .. أربعة .. خمسة ، ستة ويأتى القصير الأبجر ويضربه بعنف وحقد ، ربما يضربه القصير الأبجر هذه المرة .. حتى الموت}. لنجد أنفسا أمام إشارات ( صحيفة الصباح) وما نتوقعه من بث سمومها المخدرة، والداعية للاستنامة. و (، شعر بالرطوبة، وشم رائحة الرطوبة) وكأنها المقدمات، المؤكدات، التي تقود إلي النتائج. و(وانهزم بصره أمام تماسك اللون الأسود) حيث يدعو استخدام الهزيمة، إلى تدبر الأمر بصورة أوسع من التجربة الفردية، ثم (، ربما يضربه القصير الأبجر هذه المرة .. حتى الموت) فى (هذه المرة) تعنى أن لها سوابق ومقدمات، ثم (حتى الموت). وكأنها القصمة والموحية بأن لا حياة بعدها. وقريب منها كثيرا تلك الرؤية نرتئيها فى قصة "اللكمة"[3] لبهاء طاهر، والتي دخل الغريب وغير المعروف إلى أحد الدواوين الحكومية، ولكم أحد الموظفين، لكمة وخرج، دون أن يعرف أحد من فعلها، أو لماذا فعلها. وهو ما يشير إلى الكثير من الحيل والإشارات التى لجأ إليها الكتاب للتعبير عما جرى فى يونيو 1967. وما أكثر التناول لتلك الواقعة. فنحن هنا أيضا أما تأثير نكسة يونيو، ورؤية المبدع لها، شكلا وموضوعا. فلم تكن تلك (العَلْقة) التى نالت صاحبنا في (القبو)، ومن قبلها ما نال الفتيات الثلاث، من (النسور) برمزية النسر، وإشارته إلي قيادة البلاد في ذاك الوقت، إلا أنها تلك الضربة التى نالت كل مسالم، لم يتوقعها، ومسئولية الحكم عنها، ومدى فداحة وقعها، واستطاع بها يحيى الطاهر من خلال قصة لا تتجاوز الثلاث صفحات ونصف من القطع المتوسط، أن يعبر عن مقدمات الفعل، والفعل ونتائج الفعل، دون أي إشارة مباشرة إلي ما حدث بالفعل، على أرض الواقع.

إبراهيم أصلان ( 3 مارس 1935 – 7 يناير 2012)
فى ستينيات القرن الماضى، وقبل وقوع الكارثة، كان النظام، قد أحكم سطوته، لفرض الاصطفاف، وراء القائد، الذى لا يقبل أى لون من الرأى الآخر –مثلما أشار الكثير من الأعمال الإبداعية- خاصة من أولئك المبدعين الذين يأبون إلا ان يعلنوا التذمر، فكان نصيب الكثيرين منهم، السجون والمعتقلات، فما كان أمامهم، للتعبير عن رؤاهم، إلا ان يلجأوا للرمز، الذى يُحملنه ما يبتغون، هروبا من يد السلطة القابضة. وكان من أبرز من لجأ إلىى ذلك، أحد أبرز رموز مبدعى فترة الستينيات، إبراهيم أصلان.

وإذا كان اسم إبراهيم أصلان، قد ارتبط عند العامة ب"الكيت كات" بعد أن تحولت روايته "مالك الحزين" إلى فيلم سنيمائى باسم المنطقة الشعبية، والتى تحظي بكثافة عالية من السكان "الكيت كات". فإن النظرة الخاصة، إليه لم تكن تبتعد عن ذلك، خاصة أنه سعى- مثلما كان أبو الرواية العربية نجيب محفوظ – إلى البحث عن عمق، وقاع أماكنه التي عاشها، وعاش فيها،، وراح يبحث عن تاريخها. وهو ما تكشف عنه القصة الأولى "الملهى القديم" والتى يرجع تاريخ كتابتها إلى فبراير 1965- كإشارة الكاتب فى نهايتها- ، فى أولى مجموعاته القصصية "بحيرة المساء"[4]، والتى حاول فيها أن يصنع تاريخا لتلك المنطقة "الكيت كات" ليسعفه التاريخ بمعركة مصيرية وقعت على أرضها في العام 1798. ليكون هذا التاريخ هو الضوء الكاشف لعوالم القصة، التى لم يحرص فيها على تقديم الإشباع الكافى لقارئه، بمعنى أنه لم يقدم حكاية، لها بداية ونهاية، وإنما صنع البداية، وترك للقارئ البحث عن النهاية، عن طريق استقراء المشهد المقدم، مستضيئا بذلك التاريخ الكاشف.

تتناول القصة مشهد رجل، شاهدٌ على التاريخ {كان وجهه ضامرا ورقبته مختفية وراء ياقة معطفه الأسود وشعره فى لون الملح، كما كان فمه خاليا من الأسنان ويده اليمنى ترتعش بعود الكبريت، ثبتها باليسرى/ وأشعل سيجارته}، غير أنه الشاهد الصامت، كالمرآة التى تنعكس عليها الأحداث. يجلس أمام أحد أكشاك ميدان الكيت كات، يتجاذب الذكريات مع صاحب الكشك، الذى لديه كتاب ، لم يُعَرَّفْ إلا بأنه "كتاب قديم"، وكأنه كتاب الزمن، أو كتاب الميدان، كما يذكر الرجل صغير الحجم { أنا عندى كتاب. كتاب قديم جدا}. كما توضح الإشارة إلي ساعة صاحب الكشك المتوقفة. ولنعرف من خلال حوارهما المتقطع أنه كان بالميدان (ملهى) غير أن معالمه انمحت {تحرك عسكرى الداورية من تحت البوابة العالية التى تبقت من ملهى "الكيت كات". ثم يذكر الرجل أنه كان يزور ابنته، التى ماتت{والمرة الأخيرة كانت توجد جنينة ينزل فيها العساكر. أيام الحرب} فيرد صاحب الكشك { نعم. نعم. أيام الحرب. كنت صغيرا أيامها. ولكنى أذكر أنها كانت تشغل هذه المساحة كلها}. لتبدأ الصورة فى التكشف، عن أن المكان كان (جنينة) تشغل المساحة كلها. لنتأمل كيف كان المكان، وكيف أصبح.  وعلى خلفية ذلك يمكن النظر إلى تلك المرأة العجوز، التى ترقد عند النهر، المرأة (المريضة). وهنا أيضا لم يحدد صاحب الكشك، أى مرض تعانى منه، { تضع بعض الأقفاص وتنام تحتها بجوار الماء. فوق الزبالة}.  ثم يسأل الرجل صاحب الكشك{ ولكن . كيف تعيش؟

-أولادها يساعدونها.

عندها أولاد؟

-طبعا} ويتشعب الحديث، ليعود إليه الرجل، مما يعنى حرصه وإهتمامه بتلك المرأة:

-هذه المرأة المريضة. أبناؤها يعيشون معها على الشاطئ؟

-لا يعيشون فى البيوت} .

ومن خلال الحوار أيضا، تتكشف بعض جوانب الرؤية التى يسعى إليها الكاتب، حين يسأل الرجل، ذلك السؤال الاستنكاري، حين كان العسكرى يتحرك عند محطة البنزين، والتقى فتاتان، كانتا في طريقما صامتتين، نفهم من السياق، أنهما ابنتا المرأة العجوز، فتأتى الإجابة ، التى يمكن أن تشير إلى الاتجاهين، إلى المكان، وإلي ذلك العسكرى الذى كان قد تحرك لتوه:

  { أين الكيت كات؟ أين راح؟

-لايوجد منه غير هذه البوابة العالية.. لأنها موجودة قبل أن يوجد هنا، وأما هذا السور فقد أقيم من مدة قريبة}.

يتحرك الرجل، الذى يعانى (البواسير)، { وعندما وصل إلى البوابة العالية التى تبقت من ملهى "الكيت كات" توقف تحتها، وراح يقرأ الكلمات البارزة على طول واجهتها الحجرية المقدسة {انتهت معركة الأهرام هنا فى 21 يولية سنة 1798}. تلك المعركة التي دارت بين قوات نابليون  وكل من إبراهيم بك ومراد بك وانتهت بتفوق القوات الفرنسية، لفرق التسليح وإعتمادهم على العلم، الذي كانت القوات المملوكية لاتعرفه، فأدت المعركة إلى فرار مراد بك إلى الصعيد، وإبراهيم بك إلى الشرقية، ومنها إلى الشام. الأمر الذي يشير إلى بداية النهاية للحكم التركي الذى إستمر سبعمائة عام. كما يعتبر البداية الحقيقية لدخول نابليون (الحملة الفرنسية) والتى كانت بداية دخول مصر للعصر الحديث، بما أضافته تلك الحملة إلى مصر.

فإذا كانت قراءة قصة "أصلان" يمكن أن تتوقف عند منح المكان أهمية تاريخية، أو أنها ذكريات الزمن وتاريخ المكان، وكيف يغير الزمن الأماكن، مثلما يغير البشر. إلا ان تلك الإشارة التي ربما يمر عليها القارئ دون إكتراث كبير، تفتح لنا إعادة القراءة برؤية أخري، تكشف عن تاريخ مصر كله، ممثلا في "الكيت كات" ، تلك التى كانت مساحة الخضرة (الجنينة) تفترش المساحة كلها، ومصر تلك السيدة المريضة التى ترقد على شاطئ النهر، (فوق الزبالة). ثم ذلك (العسكرى) الذى لم يكن له دور فى القصة، إلا أنه يعلن عن وجوده الرمزى، الذى كانت مصر عليه قبل منتصف ستينيات القرن العشرين، حيث وجود (السور) الذي يقف عنده (العسكرى)  منذ مدة قريبة فقط. وهو ما يُخرج القصة من إطار الرؤية المحدودة، أو الفردية، إلى الهم الجماعى، خاصة وأن إبراهيم أصلان لم يكن بعيدا عن الرؤية السياسية، كأحد تيار اليسار المصرى المعروفين.

       وتقع الواقعة، والتى ليس لها من كاشفة، فتسقط المطرقة العنيفة على الرأس، فتدور الأرض، دواراتها العنيفة، ويتخبط المرء ليصطدم بالجدران، وفى هذا التيه، وعدم التوازن، يلجأ أصلان للصيغة الحُلمية، بل الكابوسية، فتتخبط جمله، وتفقد التتابع المنطقي، ليعبر عن الحالة في أبريل 1968ويكتب "اللعب الصغيرة". ليصبح الشكل، هو التعبير عن الحالة. فتبدأ القصة {كنا نجلس علي المنحدر بجوار شاطئ البحر. وكنت أعتمد بظهرى على سياج من الأوراق الخضراء خوفا من أن تأخذنى الرمال الناعمة الصفراء وتهبط بى إلى القاع البعيد}. حيث اختيار الكلمات بدقة شديدة لتعبر عن الحالة، فى صورة ناطقة. فلنا أن نتصور الجلوس على (المنحدر)، وإذا كان الإنسان فى المعتاد أن يسند ظهره إلى حائط، او شئ صلد، فها نحن هنا نرى صاحبنا يستند ظهره إلى {سياج من الأوراق القليلة الخضراء). ثم الشعور بالخوف من أن تسحبه الرمال الناعمة إلى {القاع البعيد}. فهنا التمسك بالحياة، والخوف من الانجراف إلى أبعد مما هو فيه.   ثم يسرى الغموض، الذى يضفيه السرد على الأشياء، فنرى صديقه أتى، وركبا قطارا، إلى أين ؟ لا نعلم. ثم يتوقف القطار عند اللافتة، أىُ لافتة، وماذا عليها؟ لا نعلم. ثم {كانت هناك جداول ماء. ربما كان جدولا واحدا ذا روافد} فعدم اليقين قائم. ثم {جاءت المركبة ووقفت أمامنا}  فاستخدام (ال) فى المركبة، يجعلها معلومة، فهى مركبة محددة، غير أن السارد – ولا نحن – يعلم عنها سوى أن {الجوادان قويين والضباب يندفع من منخريهما}. {وركبنا ثم نزلنا} لماذا وأين؟ { وفتح السائق فمه وأغلقه عدة مرات. لقد رأيته. ولكن صديقى أخبرنى أنه سيعود مرة أخرى. وعندما يدق الناقوس الفضى علينا أن نكون هنا. نركب لنعود. يجب ألا يفوتنا ذلك، وإلا فاتنا كل شئ. واختفت العربة}. ورغم هذا التخبط، يمكن أن نستندج أننا أمام رحلة إثنين من الأصدقاء، تركتهم العربة، ذات الحصانين، فى مكان ما، إنحدرا .. نحو البلدة، وجدا البيوت متراصة، غير أنه السارد اكتشف أنها ليست إلا الجدران الأمامية، وعلى الجانب الآخر كانت مجموعة من الأحجار الضخمة تتراكم بطول الطريق، ولم يكن هناك من حدائق. و{فوق هذه الأحجار كان بعض الناس يجلسون أو يفعلون. بينما البعض الآخر لايفعلون بل يتكلمون}، بما توحيه الألفاظ والكلمات من عمليت التمويه، فالظاهر مرئٌ، والباطن خرب. ووكأنه يصف ما كانت عليه الحال فى تلك الفترة. ويستمر الأصدقاء في السير في البلدة {وأخيرا رأيناها. كانت ضئيلة الحجم وترتدى ثيابا مختلفة. وعندما رأتنا بدورها قامت واقفة وهى تدارى وجهها العجوز وتقدمتنا} تسير بهما العجوز وأدخلتهما أحد البيوت (الحقيقية) وتناولت أجرها وجلست على الأرض. { وأما هى فقد كانت تجلس أمام النافذة على مقعد قديم مغطى بالقطيفة القانية، استدارت واستقبلتنا بابتسامة كاملة}. وهنا تتكشف بعض الرؤيا، فقد سارا مع (قوادة) قادتهما إلى واحدة هم يبحثان عنها{كان لها وجه طفلة وجسد امرأة، فمها مطلىّ باللون الأحمر وكذلك وجنتاها}. { وقالت العجوز: يمكنكما أن تفعلا ذلك أمامى. وقال صديقى: لقد وجدناها. يمكننا الآن أن نعود بها} لتتضح من هى تلك التى يبحثون عنها، تلك التى فتحت درجا، وأخرجت منه {الكرة، والعروسة الصغيرة، والحذاء الرقيق الأبيض، وخصلة الشعر الأسود، وبقية اللعب الأخرى} . غير أن العجوز تثصر ان يفعلاها أمامها، هذا ما فعله كل الرجال الذين أتوا من قبلكم. واصبحوا من أهل البلاد. وينتبه السارد {انتبهت قليلا ولاحظت آثار جرح قديم تحت حاجبها المقوس. وشعرت بقدر لاحدود له من الحنين وبالدموع الدافئة وهى تنحدر من عينى وتغرق وجهى}. لتبرز أمام أعيننا صورة مصر، التي جرحتها النكسة، تلك التى، فعل الرجال بها الفاحشة، فراح السارد يبحث عنها، يبحث عن البراءة، والطفولة، يبحث عن مصر، مصر التى كانت، ولم تعد كما كانت.

ولم يكن نزيف الجرح قد توقف بعد، وحالة التيه والبحث، لم تزل، غير أنها – هذه المرة- غير كل مرة، وهو ما عبر عنه أصلان فى قصته "لأنهم يرثون الأرض"[5]والتى يغلفها – الكاتب – بالغموض، وكأنه الضباب الذى تستتر وراءه الحقائق والرؤية، فغُيّبت الأسماء، وعُمّيت الوقائع، لتبدأ القصة بالألم، وضرورة اللجوء للمسكنات، التى فشلت من قبل، علها تفيد هذه المرة، فيدور الحوار بين السارد ومرافقه، الذى لم نعرف هويته، ولا هوية السارد {"ولكن هذه كلها مسكنات" – سأجربها... – مثل كل مرة؟ ... - لا . هذه المرة ليست مثل كل مرة... .. – وماذا تنتظر إذن؟ ... قلت وأنا أشعر بدوار خفيف: ان يخف الألم ولو بعض الشئ}. ويلعب المناخ دوره فى تجسيد الصورة {كانت الشمس قد اختفت وراء المبانى، البعيدة عن النهر، ولكن مصابيح الطريق الكهربائية لم تكن قد أضيئت بعد} وهو ما يزيد الإحساس بالظلام، والبعد عن النهر (وليس البحر).  ويلتقيا  "بعم عمران" الطاعن فى السن، وكأنه التاريخ يروى ما حدث من قبل، وكأنها المقدمات التى تؤدى للنتائج، والذى يبدأ الحكى{ أنا سألته. ذهبت إلى الكابتن وسألته. قلت يا كابتن لماذا تضعون الجيش المصرى فى الأمام، وتضعون الجيش السودانى وراءه، والجيش الاسترالى وراءهما، والجيش الإنجليزى فى الخلف، لماذا يا كابتن؟ .... الكابتن قال لى، إذا خاننا الجيش المصرى يضربه السودانى وإذا اتفق المصرى مع السودانى يضربهما الاسترالى. وإذا اتفق المصرى مع السودانى والاسترالى، يضربهم الجيش الإنجليزى}. وفى ظل الظروف التى سبقت وقائع النكسة، والتى كانت الرؤية المنصفة، ترى أن الجيش المصرى فيها لابد أن يُضرب، وتحت كل الاحتمالات، على عكس رؤية القيادة، التى انساقت وراءها الجموع المخدوعة، وهو ما ترجمه الكاتب بهذا المثل الذى ساقه. ولا شك أن من أكبر آثار هذه الهزيمة، إحتلال إسرائيل لكل أرض سيناء، ولم تكن هى المرة الأولى، وهو ما يعود بنا إلى بداية القصة والحديث عن المسكنات وقول الرفيق { مثل كل مرة؟}. ثم يعود الكاتب ليشير إلى المرة السابقة، حين كان "عم عمران" في علو الجبل، ووجد حجرات بدون سقف، فى إشارة للواقعة ذاتها، حين ضُرب الطيران المصرى ، ولم يكن له سقف يحميه، وذهب "عم عمران" إلى البحر{ وأنا قلت للقبطان أريد أن أعود إلى مصر.. ولكنه قال لى أن المركب ليست مسافرة إلى مصر.. ولكنها مسافرة إلى بور سعيد. وسافرت إلى بورسعيد، ثم ذهبت إلى مصر} وكأن "عم عمران / التاريخ، ذهب المرة السابقة إلى بورسعيد، إلى حرب 1956، والتى احتلت فيها إسرائيل –أيضا – جزءا من سيناء.  وهناك فى الجبل، أحضر الدروز (الذين يعبدون النار والحجر). رجلا ميتا، وطلب الرجل الطويل من "عم عمران" تغسيل هذا الميت، فسقط الرجل الميت من "عم عمران" فى البئر، ولما حاول إخراجه من البئر، قُطعت رأسه وفُصل عن جسده، ولما حاول مع الرجل الطويل خياطة الرأس مع الجسد { وأحضرنا الخيط والإبرة الكبيرة وركبنا رأسه فى جسمه، لكن رأينا أن الرأس ركبت خطأ. قفاه كان محل وجهه وجهه أصبح محل قفاه}. فإذا كان استدعاء "الدروز (عبدة النار والحجارة) إشارة إلى إسرائيل – غير المسلمة، فلا أدل، واقسي، وصف لمصر وما حدث لها في 67، من ذلك الذى وصفه أصلان. إلى أن يُنهى قصته بضرورة الحل الباتر، وليس فقط المسكنات {ألم أقل لك، لا تكتفى بالمسكنات ولا بد أن تجربها}. ولم يغادر السارد المقهى قبل أن يلقى نظرة على "عم عمران" فوجد ساقيه عاريتان، وقد انحسرت البيجامة عنهما، إلى ما فوق الركبة، فانكشف ما كان مخبوءا، وكأن التاريخ قد أعلن عن كشف ما حاولوا أن يستروه، ليظهر الماء، تحت التبن.   

       ويمر الوقت ويهدأ نزيف الجرح وألمه، فتهدأ النفوس وتتمعن ما جرى،  ما الذى حدث، ولماذا حدث، ومن المسئول عما حدث؟

وقد يجيب عن ذلك الأخير  قراءة قصة "الجرح" - من ذات المجموعة -   المؤرخة مارس 1970.فسنتعرف على  إمرأة تأخذ السارد ليلا وتصحبه فى رحلة مجهولة يمرا فيها بين دهليز طويل، يتبعه دهليز يتبعه دهليز أكثر ضيقا وأقل ظلمة، ثم يصعدا سلالم إلى أن يصلا السطوح وحجرة فوقه يدخلانها، فإذا ب(الرجل الكبير) "- بما لايخفى فى إشارة (الرجل الكبير)- يجلس على كرسيه مشلول النصف، و{كانت يده السليمة ممسكة بجريدة، يتطلع فيها على ضوءاللمبة الصغيرة المعلقة في السلك الرفيع المدلى من السقف، وكانت هذه اللمبة مطلية باللون الأزرق الفاتح..... وكانت الريح تحتك بالجدران الخشبية وتأتى من المدخل المفتوح وتهز زجاج النافذة الذى طلى هو الآخر باللون الأزرق الفاتح}. يقوما بتحميم الرجل الكبير و{مد هو يده السليمة وأدار زر المذياع الخشبي القديم.. وبعد قليل كان صوت الرجل يملأ المكان وهو يتلو نشرة الأخبار الجديدة} وتولى السارد مساعدتها فى إعادة الأوضاع إلى حالها، غير أن رائحة الرجل الكبير كانت متغيرة، وكان المطر يتساقط فى الخارج، واشتد هبوب الريح{كأنها سنابك خيل مذعورة} وكانت نشرة الأخبار قد انتهت، وأتبعها أحد الأناشيد الوطنية و {صبت الماء فوقه وأزالت الصابون عن رأسه ووجهه ولكن عينه ظلت مغلقة. وعندما مالت إلى الناحية الأخرى لطمها بيده على وجهها، وتطلعت بعينيها الكبيرتين الصافيتين ورفعت يدها إلى شفتيها وتحسستهما بأناملها الرقيقة. ورايت أن أصابعها قد تخضبت بالدم}. ورغم ذلك استمرا فى إكمال مهمتهما. لتبرز العلاقة بين الحاكم (الرجل الكبير) والمحكوم. وماذا فعل الأول بالثانى، وكيف كان رد فعل الثانى. المتقبل فى استسلام.

وإن كان اصلان قد حاول التمويه، وخداع القارئ، بما صوره منذ البداية، من محاولة تصوير العملية علي أن لقاءً جنسيا لابد سيحدث . عندما جاءت المرأة ليلا، والسير عبر دهاليز، والصعود إلى سطح البناية الواسع. كما أبدع فى تصوير المرأة بجمالها { كانت تقف بثوبها الأسود اللامع، ووجهها الصغير وعينيها الكبيرتين الصافيتين، وكان شعرها مطروحاإلى الوراء وصدر الثوب مطرزا بشريط أخضر يبدأ من عند الكتفين ويلتقى بين نهديها الممتلئين...}. فأن تأتى إمرأة فى الليل، بهذه المواصفات، وتطرق الباب طرقات خفيفة، وتسأله إن كان جاهزا أم لا، فلا يملك القارئ إلا أن يتجه توقعه لأن لقاء جسديا سيحدُث. إلا ان الإشارات العديدة، التى سربها الكاتب بين حنايا ذلك الوضع. والذى كان كالموسيقى التصويرية مثل (الرجل الكبير، اللون الأزرق الفاتح على لمبضة الإضاءة، وزجاج الشباك، ونشرة الأخبار، والشلل النصفى، وغضبة الريح بالخارج، والأمطار التى تعنى الشتاء والبرودة والانكماش) الذى يجعل كل إشارة من تلك الإشارات لبنة تنضاف إلى ذلك البناء (المجهول، المعلوم) مضافا كل ذلك إلى تاريخ الكتابة (مارس 1970) يدفع القارئ إلى التفكير ليصل إلى أن هذه المرأة ليست إلا مجسم لمصر بعد النكسة، التى تحاول ترميم ما انشرخ، أو جبر ما انكسر، ولم يكن من انكسر إلا  (الرجل الكبير) الذى صعدوا إليه بعد الدهاليز والضيقة والأكثر ضيقا، والعتمة، ذلك الذي لطمها، رغم محاولتها، حتى أن لطمته أدمتها، ولكنها تقبلتها، وحاولت تجاوزها. وهو ما يُذكر مرة أخري بقصة "اللكمة" لبهاء طاهر السابق الإشارة إليها.

وتكشف هذه الرؤية في "الجرح" أنه رغم تأييد اليسار المصرى لعبد الناصر قبل 67، إلا ان ما منحوه له من حب، وتأييد، لم يمنعهم من التعبير عن غضبتهم، ورغبتهم فى تجاوز ذلك "الجرح". وهو ما ظهر حتى الآن لدى بهاء طاهر ويحيى الطاهر عبد الله، وإبراهيم أصلان.

محمود الوردانى  
أحد نجوم اليسار الستينى، عُرف روائيا أكثر مما عُرف ككاتب قصة قصيرة.

ففى الوقت الذى كتب فيه خمس روايات بدءً من العام 1990 وحتى عام 2018، ولم يصدر خلال تلك الفترة سوى مجموعة واحدة "فى الظل والشمس" فى العام 1995، بينما قبل الدخول لفترة الرواية تلك، كان قد أصدر مجموعتين "السير فى الحديقة ليلا" (1984) و "النجوم العالية" (1985). وقد يرجع ذلك لأسباب عديدة، ليس أقلها تسيد الرواية للمشهد الإبداعى، وفرصتها الأكبر فى حصد الجوائز التى نال منها الوردانى، حيث حصل بها على جائزة ساويرس 2013 عن روايته "بيت النار". غير أن من يقرأ فصص الوردانى، لابد أن يحجز له مقعدا في الصف الأول من كتاب القصة القصيرة، فى تلك الفترة. ولا بد أن يجدها ( ورواياته) مكتوبة بحبر الأيديولوجيا. على الرغم من تخفى الرؤية (السياسية) فى الإبداع الصادق، لذا قد لا يلحظه القارئ (غير المدرب) على كشف أبعاد الرمز، ومساحات التأويل.

فإذ ما قرأنا على سبيل المثال قصته " الصرخة" المؤرخة أغسطس 1970 من مجموعته "السير فى الحديقة ليلا"[6]. حيث مشهد يبدو كما لو كان بالصحراء، حيث الريح، والرمل الناعم، وصوت المرأة الحاد الصارم، وحيث الرجل في الخارج (مقتولا) وعلى وشك التعفن، فبينما إمرأة  بالداخل، والتى يبدو كما لو أنها (كفيفة)، تأمر البنت بإحضار الشاى، وتأمر البنت بالاقتراب منها، (رغم أنفاسها (القذرة)، ويبدو أنها تمارس فعل الفاحشة مع البنت.  فمثل تلك الحكاية (المبهمة) قد لايرى فيها ما يقترب من (السياسة). إلا ان الإيهام الذى مارسه الكاتب على الشخوص، فلا نعرف مثلا أى مواصفات للرجل المقتول، ولا لماذا قُتل، ولماذا لم يتم دفنه. ولا المرأة، ما هويتها، وما علاقتها بالرجل المقتول، وما علاقتها بالبنت، ولا البنت ما علاقتها بهما، الرجل أو المرأة، ولا لماذ هم جميعا بالصحراء. وكذلك الفعل، لا فعل القتل، ولا فعل الممارسة (الشاذة) التي مارستها المرأة مع البنت، ولماذا استسلمت البنت للمرأة، حيث أدركت ألا فائدة فى (المقاومة)، ورغم تأففها، وشدة أعصابها؟.  غير أن التأمل في القصة عامة، سيقرأ أحلام تلك البنت الصغيرة، حيث {تقول البنت: يأتى ويأخذنى. وأكون معه وحدى، أرى الألوان المختلفة والبحر. أخلع له ملابسى ويرشنى بالماء، وأنا أجرى أمامه. وأحس بالملح يبلل شفتى، يكون الماء باردا لكننى ما ألبث أن أتعود عليه، يكون الماء كثيرا. ويكون الناس كثيرين: رجال ونساء وأطفال ودخان وأشجار. تكون الألوان كثيرة ومختلفة. ويكون هناك مطر ينقر على زجاج شفاف، ويسقط على بقع الماء، ويُحدث صوتا، وأكون وحدى معه دائما. ويقول لى أن المنزل هناك وراء الأشجار وهو يشير بأصابعه... سأنجب له أطفالا كثيرين. فى الشمس: أكون جالسة القرفصاء وأمشط شعرى وهو ينتظرنى، والماء ينساب بين شعيرات صدره وتحت أبطيه، ويلمع وجهه نديا،  وهو مضيقا ما بين عينيه، يكلمنى ويضحك، وأضحك أنا أيضا}. وأن يستغرق هذا المنولوج، كل هذا الحيز من مساحة القصة التى لا تتجاوز الصفحات الثلاث إلا ببضع سطور، فهو ما يؤكد على أهميته، ودوره الرئيس في الوصول إلى ما بين كل ذلك الإيهام، والإبهام. فإذا ما أعدنا قراءة المقطع مرة أخرى، فسنلمس تلك الأحلام الوردية، التى تحلم بها(أى بنت)، غير أننا نلمس ما فيها من رغبة حسية، (غير متحققة)، لنضعها أمام تلك العلاقة (الحسية) الشاذة، المتحققة من تلك المرأة، المتسلطة، والتى تشعرنا القصة بأن لها يد فى قتل الرجل، المشرف على التعفن، ونرجع إلى لجوء كتاب الستينيات إلى الرمز، هروبا من (السلطة)، ونقرنها بتاريخ الكتابة (1970)، ليتكشف لنا ذلك الوجود الرمزي فى القصة، ولنعرف أن المرأة تمثل (السلطة) الشاذة، المتسلطة، التى أدت إلى غياب (الرجل) بالمعنى الشعبى العام للرجل، فماتت (الرجولة)، المقاومة، فاستفردت السلطة بتلك البنت، التى نرى فيها صورة (مصر) المجبورة، الخاضعة، الخانعة المستسلمة أمام جبروت السلطة حيث { كانت العجوز تتحسس بيدها ما تزال، تقول بصوت قوى، متقطع النبرات، ودفعة واحدة: قربى.. أين أنت؟ تضم العجوز قبضتها وتصيح بصوت أعلى، يعرف طريقه جيدا "اسمعى الكلام". ترفع جسدها إلى أعلى، وتُغرق عينيها الدموع} { تمد العجوز يدها وهى تتنفس بصوت قوى، عندما اصطدمت بالكتف الممتلئ العارى، وتجلس البنت بجوارها وقد سقط رأسها لأسفل}. وإذا كان الكاتب قد صور المرأة كما لو أنها (عمياء). فإنما يمعن فى تشويه صورتها المرفوضة، فضلا عن تصويرها بعدم رؤية الصواب من الخطأ، فقد مات الرجل، ولم يبق إلا البنت (قليلة الحيلة) ، فكان من نتيجتها، ضياع تلك الأحلام الجميلة التى كانت تحلم بها مصر، فقضت الديكتاتورية المتمثلة في سلطة تلك الفترة الفارضة وجودها على الكاتب، على كل أمل، وضاعت الأحلام. فضلا عن تمثيل تلك الرؤية، والسابق توضيحها، بان غضب أبناء ذلك الجيل على عبد الناصر، ليس غضبا من الرجل كشخص، بقدر ما كان غضبا على ضياع حلمهم الذى لازمهم فى فترة الحلم وريعان الشباب. وقد يُعضد تلك الرؤية- أيضا- العودة إلى العنوان "الصرخة" والتى جاء معرفا (ال) فكان التحديد والتشخيص، هو ما صب الصرخة فى الفعل. وكأن (الصرخة) هى النابعة من عمق البنت، طلبا للنجدة.، حتى وإن كانت صرخة صامتة، لم تظهر إلا فى بعض الحركات البسيطة التى نجح الكاتب في جعلها صرخة، مكتومة، تبحث عن ثغرة تنفذ منها إلى العلن.        

       وإذا كان الكاتب قد أخفى رموزه فى قصة "الصرخة"، وما تطلب معه البحث والتنقيب عبر تضاريس القصة، بحثا عنها، فإنه قد أشفق على قارئه واعتمد (الإشارة) الدالة، والتى معها لايحتاج القارئ إلا بعملية الربط بين الإشارات، والتلميحات، التى معها يمكن أن يصل لمرمى القصة، كما فى قصة العنوان "السير فى الحديقة ليلا" المؤرخة (فبراير 1974)، حيث لم تكن جراح حرب أكتوبر 1973 قد إلتأمت بعد. فضلا عن أن جيل الستينيات، الذى عانى من هزيمة يونيو، كان هو الوقود، والذراع التى استخدمها السادات فى حرب أكتوبر، فكانت معايشتهم لويلات الحروب، من جانب، وكانت دعوة السادات، بأن تكون حرب 73 هى آخر الحروب، من جانب آخر. وكلاهما ما حاول الوردانى التعبير عنه في قصته القصيرة، الطويلة، التى جعل منها عنوانا لأولى مجموعاته القصصية، "السير فى الحديقة ليلا"، والتى علينا أن نعيد ترتيب مسيرتها، لنتعرف على القصة التى تتمحور حول رحلة دفن أحد شهداء الحرب.

يقول السارد {ذلك أننى قد جُندت بعد تخرجى مباشرة، وقضيت فترة التدريب الأولى – وكانت شديدة الصعوبة بالطبع، ثم تم توزيعى على أحد التشكيلات فى الصحراء، وخلال ستة شهور، حصلت خلالهم على أربعة اجازات (أربعة أيام لكل أجازة)- تعبت أشد التعب. ولم أكن قادرا على الاستمرار حقا. كما أننى لم أعد قادرا على الإطلاق – على القيام بالأعمال التى يطلبوها منى. ثم اننى أصبت بمرض جلدى غريب، جعله يطفح على جسمى كله، ولقد أصبحت شخصا آخر تماما خلال هذه الفترة، وضقت بكل شئ}. ليرسم المعالم النفسية التي –من المفترض – أن يتهيأ خلالها للمهمات الجسيمة، وربما ساعد فى ذلك الإحساس، وما أصاب العديد من الشباب الذى تم تجنيده بعد 1967 وما قُبيل1973.  هو عدم وضوح المدة التى عليهم أن يقضوها بالتجنيد، حتى قيل عن تلك الفترة (الداخل مفقود، والخارج مولود). وفى المقابل ترك هذا المجند، حيث كانت "أحلام" - المحبوبة – هناك، بما يحمله الاسم من دلالة، والذى لم يكن مجرد اسم فقط، التى كانت رائحتها من النوع الذى يلتصق بالأنف، ولا يفقده المرء بسهولة {حيث كنت أرفع الشعر من وراء وأقبل الرقبة البيضاء الطويلة طولا مفرطا. وأنا أحس بالسخونة والشعر الناعم وهو ينفلت بين أصابعى}.  وكذلك كانت حياة "الصول محمد"، الذى كان {متزوجا من ثلاث نساء، وكان يحكى لى أنه كثيرا ما ينام معهن – الثلاث- فى نفس اليوم: فى الصباح مع المرأة فى "غمرة"، والظهر مع المرأة التى فى "المعادى". وفى المساء مع المرأة التى فى "المطرية"}. على الرغم من أن (الصول) من المفترض أنه لم يصل إلى رتبته هذه إلا بعد انقضاء عدد غير قليل من السنوات في الجيش، وهو ما قد يشير إلى الوضع فيما قبل تلك الفترة المحددة، والتى سنتعرف عليها. بينما هو – المجند – الآن فى مهمته الحالية، فى طريقهم إلى المقابر، لدفن أحد الشهداء، حيث يصف المشهد الخارجى، والذى ينعكس على المشهد النفسي {كان السور الأصفر الطويل يمتد أمامى. الأشجار تترنح فى الريح المشتدة، وتُصدر حفيفا قويا، ولقد كان الشارع مظلما، وكان يبدو خاليا أيضا، وليس ثمة بيوت بوسع المرء أن يراها، كان شارعا فقط، واسعا ومظلما، وكانت السماء التى رفعت عينى إليها، وأنا أحس بالبرد الشديد، حيث لم أكن قد توقعت ذلك}. وحملوه على النقالة ومضوا يسيرون به { وفيما كنت أمضى إليهم، لمحت الشواهد البيضاء المنتصبة التى تغيب فى الظلام رويدا. ولا يمكنك – قط – بلوغ النهاية مهما حدقت، انك لن تتمكن من تمييز سوى الممر الطويل الداكن الأرضية}. ثم يتبين أن الشهيد مسيحى، لذا يجب أن يوضع فى صندوق، ليتفجر الخلاف حول مسئولية الصندوق (كعهدة) ومن سيحملها. وفى إشارة هنا، حيث تبرز فروق المعاملة، حين يبدأون السير نحو اللحد، إذ يقول الصول محمد، أمام الريح الشديدة {ما رأيك.. نرجع ونتركهم يدفنونه هم؟ قلت سيسبب ذلك حرجا شديدا.. على الأقل مع الضابط. قال: يتفلق.. يجلس هو فى الحجرة ويتركنا هكذا}.  ويظهر الحانوتى، "عم مصطفى .. الإمام... { هو الذي يقوم بدفن الشهداء منذ نشأة المقابر .. والله من سنة 1954}. وليصبح هذا التاريخ تحديدا للفعل، وكشفا للرؤية. حيث أنه كان قد تم  عزل الملك فاروق لابنه الرضيع "فؤاد"، وكان الدستور ينص على استدعاء البرلمان لحلف اليمين، والتصديق على الوصاية، غير أن الدستور المعطل منذ حريق القاهرة، زين للضباط بعدم الإلتفات إلى الدستور. وأتموا المهمة دون دعوة البرلمان، فكان أول خرق للدستور، والانفراد بالسلطة. وتم تعيين محمد نجيب رئيسا للوزراء فى 8 مارس ، ثم رئيسا لمصر فى 18 أبريل من ذات العام 1954.

 ولم تكن المجموعة قد انتهت من مراسم دفن الشهيد { وعندما اقتربت، رأيت السيارة اللورى العسكرية مليئة  بجثث مكفنة بأفرولات، واخذوا يحملونهم واحدا واحدا ويغيبون داخل الحفرة. كانوا هم أيضا مكممين بالمناديل، وكانوا يسعلون ويبصقون وهم ينفضون التراب، ثم إننا اقتربنا من الفوهة وتحت المصباح الكهربى: داخل مخروط الضوء الملئ بذرات الغبار الدقيقة، رايت الجثث متراصة بالداخل، وكان بعضها مكفنا بكفن أبيض، والبعض الآخر بأفرولات}. وعند ركوب السيارات للعودة، إلتفت الضابط إليه وقال{ احتفظ أنت بهذه المتروكات معك. ستوقع عليها بعد عودتنا وتحتفظ بها داخل الدولاب. وحملت أنا هذه المتروكات التى تتكون من حافظة جلدية بها مائة وأربع وتسعين قرشا وبطاقة شخصية وبعض الأوراق والصور. ثم علبة سجائر كليوباترا صغيرة (مفتوحة)، وكيس نايلون به بقايا تعيين ميدان، وساعة}. لنقف ونتدبر تلك المتروكات، وذلك العدد غير المحدود من الشهداء. وليقرأ المجند تلك اللوحة والمثبتة على الحائط بالخارج {بسم الله الرحمن الرحيم. تم نقل رفات شهداء حرب فلسطين إلى هذه البقعة الطاهرة من أرض الوطن باحتفال قومى مهيب اشتركت فيه جميع طوائف الأمة وممثلوا الجامعة العربية وفى مقدمتهم اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس مجلس الوزراء وقائد ثورة الجيش المبارك وذلك فى يوم 26 شعبان 1372 الموافق 10 مايو 1953.}.لنصبح أمام لوحة زمنية تمتد بطول عهد الحركة المباركة، التى شُحنت بالحروب والشهدا، الذين لم يعد منهم غير تلك (المتروكات)، متناسين المآسى البيتية، الإنسانية، التى تركها كل واحد منهم، فى أسرة أو عائلة، أو أحلام عاش يحلمها، وضاعت مع الرياح الشديدة، وفى الطريق المظلم، الذى لا يشعر به، إلا بعض الأفراد المكلفين، لبعض الوقت. ولتصبح رحلة "مسيرة" الكاتب  "ليلا" فى حديقة جرداء محفوفة بالأشجار  المترنحة تحت الرياح الشديدة. ليصرخ ، كفاكم حروب، تدمر الإنسانية فى الإنسان، وتحوله لمجرد بضعة متروكات، لا تنبئ إلا بمدى البؤس الذى يعيشه المجند، حيا وميتا.

 عبد الحكيم قاسم (1935-1990)
قد لا يكون عبد الحكيم قاسم، أحد أيقونات مرحلة الستينيات، فقط، وإنما يشير تدوين تاريخ ميلاده، أيضا، إلى وضعه كأيقونة للفترة الزمنية. فإن كانت الأوراق الرسمية تشير إلى أن مولده كان فى يناير 1935، إلا أن المراجع تشير إلى  أنه سأل أمه عن تاريخ مولده، فاشارت إلى أنه كان فى نوفمبر 1934، غير أنه تم تأجيل تسجيله للعام الجديد، وهو ما كان متبعا بشكل كبير فى تلك الفترة، خاصة فى الريف، لتبدأ قصة  عبد الحكيم قاسم مع الحياة بخدعة، وكأنهم يحاولون سرقة بعض الأيام لإضافتها إلى حياته، من خلف العداد، وهو ما انعكس على حياته، ونظرته إليها كخدعة، عاشها باحثا عن الحقيقة، حقيقة الإنسان، وحقيقة علاقته بمن حوله، وحقيقة علاقته بوطنه الذى زرع فى كيانه الخوف والترقب، منذ فترة التفتح. فضلا عن تشابه الرؤى مع كل – تقريبا – ابناء جيل الستينيات، فى النشأة الغير سعيدة، والانتماء للنظرة اليسارية، والأحلام المحبطة، جراء فشل التجربة الناصرية، فى تحقيق طموحاتهم، وأحلامهم، خاصة بعد تجارب السجن والاعتقال التى طالت الغالبية –أيضا - منهم. ما دعى  محمد شعير أن يقول فى دراسته عن رسائل عبد الحكيم، كاشفا عن حياته وإرتباط كتاباته، وجيله، بها[7] { لم تكن حياة عبد الحكيم قاسم فى بيت جده فى ميت غمر سعيدة، فكتب وهو فى سن العاشرة خطابا لأبيه يشكو له من بؤس الحياة التى يحياها، ولكن خاله ضبط الخطاب وصادره... وكانت هذه هى البداية التى تعرف فيها على إمكانيات الكتابة لديه! كما يمكن اعتبار الرسائل (سيرة) ليست فقط لصاحبها، ولكن أيضا سيرة لجيل الأحلام المسروقة. فقد كتب قاسم رسائله ـ معظمها ـ وهو فى غربته فى برلين الغربية التى هاجر إليها فى السبعينيات، تحديدا عام 1974، وظل بها حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى. وتعكس الرسائل الجو الأدبى الذى نشأ وتكون فيه جيل الستينيات، واللحظات الرهيبة التى عاشها الجيل تحت وطأه حكم عبد الناصر، ثم السادات وخاصة بعد كامب ديفيد، مرورا بغزو بيروت، وحرب الخليج الأولى، بل إن قاسم كان قد احتفظ فى أرشيفه الخاص بقصاصات بعض الجرائد التى تناولت غزو العراق للكويت باعتبارها من اللحظات الخاصة فى تاريخ اللحظات العربية التى أنهت كثيرا من أحلام الجيل، ولكن لم يتح لقاسم أن يتناولها فى كتاباته أو حتى فى رسائله، فقد كان قد عاد إلى القاهرة، وكان الموت أسبق منه كذلك... كل هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقا سياسيا واجتماعيا لجيل كامل، ليس فقط لشخص عبد الحكيم قاسم!}.

وعلى غير المتبع فى جيل الستينيات، بدأ عبد الحكيم بكتابة الرواية، حيث كتب روايته الأولى "أيام الإنسان السبعة" فى العام 1969، التى وضعته مباشرة فى مقدمة صفوف الإبداع، الروائى منه خاصة، بينما لم تخرج أولى مجموعاته القصصية "الأشواق والأسى"  إلا فى العام 1984، حيث مثلت "أيام الإنسان السبعة" بظروف كتابتها، أثناء فترة سجنه الذى امتد من 26 ديسمبر 1959 إلى 14 مايو 1964، وهى الفترة التى أجبرته على الهجرة إلى ألمانيا، حيث مكث بها أحد عشر عاما. فكانت كل من تجربتى السجن والهجرة هما الخلفية التى جعلت من الرؤية الصوفية، والسفر، ملمحان أساسيان فى كل أعماله، بدءً من "أيام الإنسان السبعة"، التى تأمل فيها حياة الإنسان، وعلاقته بالحياة من حوله، وبالكون عامة. كما كان "السفر" هو عنوان قصته القصيرة التى نُشرت مبكرا، وقبل أن يُصدر أيا من رواياته وقصصه القصيرة، والتى نشرها فى مجلة الآداب البيروتية[8]، والتى يقص فيها تجربتة الريفية عندما تسافر إلى المدينة (طنطا) ومعاناة الخوف والإهانة، والخديعة التى تواجهها، فى تلك الرحلة، التى تعني السفر –محليا - من عالم، إلى عالم آخر مختلف عنه تماما، أو السفر بين حضارتين مختلفتين، كما أوضحت قصص اخرى، وكأن الرجل قد عاش حياته فى رحلة، وهو دائما على سفر.

فنظرة إلى حياة عبد الحكيم قاسم، يصبح علينا أن نرفع من عمره ستة عشر عاما، خمس سنوات بالسجن وأحد عشر عاما بالمنفى الاختياري، أو الهروب، فضلا عن دورها المدمر لحياة شاب، لتنضاف إلى طفولة مريرة، أراد أن يتخلص منها، بخطاب طفولى يرسله لأبيه، مستنجدا، غير أنه صُودر من قبل خاله، فلم يصل، ليساهم ذلك الإحباط، وتلك المرارات، والتجارب، في صنع المادة الإبداعية عنده، ولتتحول إلى محاولة لجمع تلك الفتافيت، التى خرجت معبرة عن حياة الكاتب، وإنعكاساتها النفسية عليه. كما ساهمت سنوات الغياب تلك، فى احتفاظ الكاتب بصيغة القصة القصيرة (الطويلة) طويلة المساحة الكتابية، وفى كثير من الأحيان المساحة الزمنية. كما قربت الكاتب من نفسه، وانفراده بذاته، فاعتمدت كثيرا على استخراج التجارب من الداخل، فى عملية تذكر، مغموسة بلغة شاعرة، جعلت الكاتب على حق، عندما سمى مجموعاته "دواوين قصصية). 

ولا شك أن تجربة السجن، فى فورة الشباب، وما صاحبها، وأتبعها، من خوف وقلق، واضطراب، تجلى فى أولى قصص مجموعته "الهجرة إلى غير المألوف- ديوان قصصى"[9] والتى تشير منذ البداية إلى "الهجرة" خاصة أن هذا العنوان ليس عنوان قصة داخل المجموعة، ولكنه عنوان، رأى الكاتب من خلاله ، القدرة على التعبير عن رؤيتة فى المجموعة ككل. وحيث – بالفعل – تعالج القصص جميعها، معاناة الغربة، فى الهجرة، الخارجية منها والداخلية على السواء. والتى افتتحها بقصة "الصوت" عن إحدى تجارب الهجرة، حيث يبدأها بتلك السطور المشحونة بذلك الإحساس { أجرى، لا أدرى ما الذى أهرب منه ولا الذى أبحث عنه، لكننى أجرى بكل ما فى القلب من عِزم، وما فى الجسد من مروة}.

وكما هو الإنسان، عندما تضيق به الحياة، ويود الهروب، قد لا يجد إلا فترة البراءة، والانطلاق (الحرية)، فترة الصبا الباكر، التى سعى إليها عبد الحكيم فى قصته التالية من ذات المجموعة، والمعنونة "عطية أبو العينين داود"، والتى يبدأها بالكلمات المشحونة بالدلالات الناطقة بالضجر من الحياة الحاضرة {كلما ازداد صخب هذه الدنيا، زاد صوته فى ذاكرتى جلاء. وكلما تنكرتنى الأشياء وبنت عن ذوقى وعبست فى وجهى، كلما زاد بالسيارات، زاد تعلقى بعربته الأجرة القديمة، عطية أبو العينين داود}. والتى يحن فيها إلى تلك الفترة التى يستيقظ مبكرا، ومنطلقا إلى خارج البيت، حتى لا يفوته حفل (زق) عربية عطية، الأجرة {أندس فى الزحام كالمسمار فى الخشب. ولا أزال أتملص وأتحرك مثل دودة لاهثة مهتاجة حتى أبسط كفى على جسم العربة على المعدن المدهون بطلاء أزرق كاب. وكم كان ذلك رائعا}، حتى تدور محركاتها، و(يتشعبط) مع الأولاد حتى حدود القرية، وبعد أن يصف الكاتب المشهد الخارجى، من حياة الفلاحين وبهائمهم، وطيورهم، يدخل إلى الأعماق ليستخرج ذلك الحنين، وتلك البؤرة المحشورة فى الخلفيىة {لكننا نحن الأعلون. تطير بنا العربة فوق الكيمان وتنزل إلى الوهاد. تدع وراءها الغبار وقدامها يسبقها نفيرها، تتعجب النساء وتحن قلوب الرجال للسفر. يلوح القاعدون يتمنون للعربة السلامة. يا ربى. هذه السويعات السعيدة بين أغلى ما فى جعبتى من رحلتى فى هذه الحياة}. فلم يعد إذن فى حياة السارد من لحظات، يمكن أن نطلق عليها السعادة، غير تلك اللحظات، الطفولية.

 ويظل خارج البيت فى انتظار أوبتها، لمعاودة التشعلق. وممارسة الحرية والانطلاق.. خارج الجدران.

ويظل مدخل القصة، عند عبد الحكيم قاسم، بتكثيفه، وشاعريته، هو مركز الرؤية، الكاشفة عن تجربة القصة، وتجربة الكاتب مع الحياة، حيث تتوحدان، فتمنح تجربة الحياة انفتاحا، وتجربة الكاتب انكشافا. ففى القصة التالية "طبلة السحور" والتى يصنع منها الكاتب أنغام وصدى أعماقه الإنسانية، حيث يمتزج الخارج بالداخل، وتنطق ملامح "الطبلة" بما يعتمل فى النفس { والرجل يمضى بها فى ليل الحارات كتلة من الظل فى شفيف العتامة، والقرية كلها قلوب مشدودة الجلد مسلمة للأصداء العميقة الغليظة، الإيقاع مبهم قادم من أعماق الوقت ومنته فيه، ديمومة مدورة باهظة نابضة، بينما رق الفؤاد المستلب، نهب للصوت وللتذكر} ثم يخرج الكاتب من العموم إلى التخصيص، فتخرج التجربة الشخصية، وما يكشف عن القلق النفسي الذى ينتاب ذلك الذى كان غائبا، خاصة لو كان فى الغياب ما يشين – فى رؤية الآخرين-  {إننى لما رجعت من غربتي الطويلة مشيت بظهر البلد مترددا متحذرا خجلانا، أقرئ السلام مداهنا متزلفا، ويجئ رد السلام مرحبا جهيرا، لكن السمع لا يخطئ جسم الصمت متكورا فى قلب الصخب. تنتكس اللهفة ويبور القصد الحسن}. وبعد الغياب تصبح العودة منفى جديد، فالدور تغيرت ملامحها، والبشر تغيرت طباعهم، فليست حياة القرية، هى حياة قريته التى غادرها، وكأنه محكوم بالهجرة ، منها وإليها. فما أعاد طبلة السحور إلى ذاكرة السارد / الكاتب، إلا رؤيته للشابورى، رفيق طفولته الأولى، وابن الشيخ الذى كان له نصيب فى سحور القرية، وحمل الشابورى المهمة من بعد أبيه، فيسأله السارد، هل يتذكره عندما يمر ببيتهم؟ ليرد الشابورى{ ظننت دائما أنك بخير فى غربتك. تنهدت مَرخِى الجفنين مكسورا أهمس لنفسى أننى لم أكن أبدا بخير فى غربتي}.  

فى آخر الأعمال الصادرة فى حياة عبد الحكم " ديوان الملحقات"[10] مجموعة من القصص، المتجانسة، جمعها عنوان رئيس جامع هو "جدل العنف والوهن"، وضع فيها الكاتب كل خبرته فى القصة القصيرة، وكل رؤيته، التى عبر عنها ذلك العنوان، الجامع، والذى وضع الحياة ، كلها، فى مواجهة بين، العنف والوهن، أو بين القوة والضعف، أو بين القوة وفقدان المقدرة، مؤكدا ذلك فى نهاية قصة "حالات الجسد" . فبعد أن انتهت غارة على سيارة السارد، وتأمله لبقايا مجموعته {ثم قام، وقام من حوله من بقى من جنوده، تأمل حوله، مطروحون على الأرض قتلى ومجروحون يتأوهون من الألم. إنها تلك حالات الجسد، مقتول أو مجروح أو سليم، يعيش يرقب الضرب} ولنلحظ أن (الجسد) هنا يشير إلى الحياة بامتدادها، فوجوده حيا، على أى وضع، يعني أن الإنسان لازال على أرضها، وعندما يفقد (الجسد) النبض، يخرج الإنسان من عداد الأحياء، فحالات الجسد إذن، هى حالات الحياة، بطولها. كما يكشف المقتطف عن حالة الترقب، فالضربة تأتيه من حيث لا يدرى. فتبنت المجموعة، تلك، الإنسان فى حالات ضعفه، الإنسان الفرد، كما فى قصة "صاحبة النُزل"، حيث يستعرض تجربة سيدة فاتها قطار الشباب، راودها أحد سكان بنايتها، فاستسلمت، وتهيأت، غير أنه اختفى، فمات الحلم، أو انهزم الوهن، أمام القوة، أو الشباب.

كما حال الجمع الذى تعبر عنه قصة "انتصار" والذى قد يشير إليه هذا العنوان، من معركة ما، غير أن المعركة هنا كانت من جانب واحد. فقد فاضت المياه، وروت شقوق الأرض العطشي، وفاض الماء{ وأخيرا جاء الماء ورويت الأرض التى حُصد عنها قمحها، وتلك التى بقى بها زرعها المُستَحصد، بما عجز أصحابها عن سداد الإيجار. هكذا طفحت الشقوق، وامتلأت الحقول بالمياه} حيث يلقى هذا المفتتح بالكثير من الضوء على مرمى القصة، التى تبدو – من الخارج – وكأنها حكاية عادية، أو حكاية طفولية. كذلك يمكن تصور غياب العناصر التقليدية للقصة، إلا أن القصة عند قاسم تتوقف عند وصف الحالة. ففى هذه القصة، بعد أن فاض الماء، وملأ الشقوق، خرجت الفئران، بأعداد كبيرة، فرح العيال بها، واستأثر طفل بأربعة منها، ربط كل فأر من قدمه بفتلة، وراح يجرهم، وهم يتمصلون منه، حتى نفقوا الأربعة. وامتلأ الجرن بالمياه، وألقى الأولاد ب(الفيران)، راحت تسبح فى المياه، وكلما حاولت الخروج (للتنفس) قذفها الأولاد بالحجارة، حتى أصبحت جثث (الفيران) تطفو على سطح الماء العكر { والوقت صار إلى اصفرار الشمس، والمغرب وشيك، آب العيال، يمشون فى جماعات، يضحكون، ويلعبون، لكنهم المتعبون، يحكون عما كان من أمر (الفئران). ....  آه يا ولاد .. آآ}.

وتأتى الكلمات الأخيرة { آه يا ولاد .. آآ} لتكشف عن تلك الكلمات التى ينطقها ( المغتاظون) من أناس معينون، عندما يقدموا على فعل (يغيظ). لتنضاف إلى استخدام الكاتب ل(الفيران)، والتى يؤكد أنها ليست خطأ فى الكتابة، حيث استخدمها فى النهاية، بلفظها الصحيح (الفئران)، لنتبين، كذلك، ان هذا الاستخدام هو ما يطلقه العامة على (الجبناء). ولنتبين أن الفيران هنا، ليس إلا استخدام رمزى، لأؤلئك الذين تقاعسوا، حتى أصبحوا ملهاة (للأطفال)، وماتوا فيما هو مصدر الحياة، الماء، ولتنفتح الرؤية عن الجمع، ليشمل البلد بأكمله.

 وهى الرؤية التى تؤكدها قصة أخرى بعنوان "الخوف" والتى تلقى سطور البداية – أيضا- الضوء، على ذلك التعس، الخائف، محدود القروش، والمضطر لإحتساء الخمر الرخيصة {كنت مخمورا أحاول جاهدا أن أستجمع وعيى، سائق التاكسى رصين الكتفين، والعربة تمرق على الأسفلت المبلول المضاء بمصابيح الطريق، يبدو أننى مريض بالكبد، كمية الخمر الرخيصة، معدتى تثقل على وعيى مثل كلكل الجمل، لكننى يقظ وعارف، ومن طرف خفى أرقب تتابع الأرقام فى عداد التاكسى}  فصاحبنا إذن ، ليس مخمورا حقيقى، لكنه فى وعيه وإدراكه، وما خمره الرخيصة إلا محاولة ، مفتعلة للتغلب على الخوف. فعندما يصل صاحبنا إلى بيته، يفتعل الهدوء، حتى لا يلحظ السائق أنه مخمور { بعينين ساجيتين متعاليتين ألقيت نظرة على العداد، أنا أعرف ما فيه سلفا، لكننى حريص على أن أبدو طبيعيا، بأناة خلعت قفازى ودسست يدى فى جيب معطفى وأخرت ورقة ذات خمسة جنيهات، عليه أن يرد لى ثلاثة جنيهات}. غير أن السائق يطلب منه أن ينتظره حتى (يفك) الخمسة جنيهات، ويعود له بثلاثة منها. وينطلق سائق التاكسى، وينطلق صاحبنا إلى البيت ، مذعورا، وخائفا، وقبل، ورغم عودة السائق ومناداته عليه، إلا انه لم يستجب لندائه، حتى يئس السائق، وانطلق راجعا و{هدر صوت العربة راحلا، أحسست بالخلاص. لابد أن الشارع الآن ساكن تماما، عيناى مغمضتان، الحذر يضغط على وعيى يدوسنى بأقدام ثقال، ذلك الامتداد الأسفلتى المضاء بمصابيح الطريق، فتحات أبواب الدكاكين امتداد شاسع، يوغل فى البعد حتى لأحس بالدوار، مستطيلات واقفة متتابعة  فيها مسوخ شائهة. ناس، أو هى جثث فئران هائلة هائلة متآكلة. ظلام تام ما عدا هذه المستطيلات المضاءة التى تقف فيها هذه الأشكال المخيفة. فى داخلى تسح دموع دافئة} ولتكشف الجملة الأخيرة أن الخوف المنبعث من كل المشاهد الشائهة بطول الشارع، هو ما يعكسه أعماق السارد، الخائف، الذى يشعر بأنه مطارد، والهرب .. حتى من الحصول على حقه (الجنيهات الثلاث).

وهكذا يستطيع عبد الحكيم قاسم، ترجمة إحساسه المعيشى، والمترتب على تجاربه الحياتية، من سجن فى بدايات العمر، ادى للهروب إلى الخارج، أحد عشر عاما، وليطارده الخوف والترقب ما تبقى من عمره القصير، إلا انه ترك لنا إبداعا حقيقيا، مغموسا بالمرارة والمعاناة، بعيدا – كل البعد – عن المباشر الزاعقة، مستخرجا عصارة ما تركته السياسة، فى حياته العامة، ليحفرها حروفا، تنبض بالحية، وتنطق بالوجع.  

محمد حافظ رجب { 1935}
إذا كان التشتت والضياع، هو الإحساس النفسى الذى سرى في أعمال جيل الستينيات، نتيجة الضغط الجمعى الذى عاشه ذلك الجيل، فإن محمد حافظ رجب قد وصل بذلك التشتت والضياع، إلى أبعد مدى، وتميز عن غيره بلغة ووسيلة، قد عُرف بها، وانعزل بها عن القارئ العادى (غير المتمرس) الذى فقد متعة الاستمتاع ، ودخل دوامة التشتت، وفقد راحة الوصول، حيث ضاع منه الطريق، فقد وصل محمد حافظ رجب، ليس إلى فقدان التواصل مع الواقع، أو فقدان التتابع المنطقى، بين الجملة، وما تلاها. وإنما انقسم الإنسان نفسه عنده، وتفتت إلى مجموعة من الأجزاء، المستقلة، والتى لها حياتها الحرة. فنرى ، الرأس مرة، ونرى الذراع مرة ، والرجل أخرى، فنراها تنفصل عن الجسد ويستمر الجسد فى حياته، بينما تعيش كل وحدة من هذه الوحدات حياتها هى الأخرى.

ولا شك أن الحياة الشخصية لحافظ رجب، والمعاناة التى عاشها، بحثا عن لقمة العيش، وصيغة للحياة، يستطيع بها أن يعيش كالآخرين، ولم تكن مُيسرة، وهو ما وضحه في أحد حوارته القليلة[11]  حيث يقول عن يوسف السباعى { عرضت عليه كتاباتي لم يهتم بها في البداية، ثم التقيته في فندق فلسطين بالإسكندرية وطلبت منه العمل، وحكم علي بالعمل كموظف في أرشيف المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب براتب يكاد يكفي للفرار من وحشية والدي، لكن قبلت ذلك لكي أؤمن وجودي بالقاهرة}. استسلم رجب للمسار الجديد الذي رسمه له السباعي، وكان يوزع الملفات على الموظفين ويعود لجمعها رغم إبداعاته الأدبية!.

وقد ترجم الكاتب تلك المرحلة التى لم تستمر طويلا، فى قصته "رجل معلق فى دوسيه""[12]. حيث روتين الحياة فى الدواوين، ليتحول الجالس على المكتب، إلى جزء منه.. وقبلها، يأتى غريبا إلى ضجيج العاصمة، ليشعر بما شعر به كل النازحين من الأقاليم إلى أضواء وضوضاء العاصمة، فتلفه الغربة، ويغلفه الانكماش، الذى يعبر عنه بطلب الونس {بدأ يكتب لأهله البعاد عنه سطور اللهفة: صرخاته المكتوبة تتشبث بهم.. تحضهم على حمل أجنحتهم .. ليطيروا فوق المسافات حتى يصلوا سطح البيت.. فيحفرون فيه طاقة .. تسقط منها عيونهم عليه وهو قابع داخل حجرته}.ويتكرر ذهابه إلى الديوان، ليكتشف شيئا جديدا { وفوجئ بالرجال المكاتب وقد ظهرت لهم أرجل خشبية زائدة. كل واحد صار له 4 أرجل وفى داخل قلبه ثقب لمفتاح يدور. سألهم كيف حدث لكم ذلك؟ قالوا : ما هو الذى حدث؟ لم يحدث ذلك لنا .. كل ما حدث إنك لم تعد مثلما ذهبت}. فقد تعودوا تلك الجلسة على المكاتب، وليعود بنا الكاتب إلى جوانية السارد، ورؤيته الرافضة لذلك الروتين، حيث ما يراها ليس إلا ما يشعر به، فيتبدى مدى الانفصال عن الواقع الذى يعيشه { وأدركته كمية زائدة من التعاسة .. فبكى . سأقطع أرجلى الزائدة.. لكى لا أصير مكتبا.. سأخلع قلبى وأدفنه لكى لا يصير ثقبا مفتاحه يدور فيه من الثامنة إلى الثانية}. وشعر العاملون بما يعتمل فى نفسه، الأمر الذى قد يوحى بتعاليه علي العمل، فما كان منهم إلا ان أغرقوه  فيه { لكنهم كانوا قد قرروا أن يضعوه فى جيبهم السرى. احضروا ملفا .. أدخلوه فيه.. علقوه فى داخله.. وتمكنوا من طى الملف بالشئ الذى في داخله ودسوه  بين الملفات.. بدأ يشتغل.. دار على الأقسام الأخرى يوزع أوراقه.. عاد من جولة توزيع أوراقه مرهقا.. بعد دقيقة دقت طبول الضجة  خارج حجرته.. وسمع المنادى يصيح "عليكم الحضور إلى القاعة الخضراء.. للاجتماع بالسيد المدير والعقاب لمن لا يحضر.... فى القاعة قال المدير: كذا .. كذا .. فاهمون؟ قال الرجال المكاتب : كذا كذا .. فاهمون}. فكان الوضع الأسلم ، لمن تلك شخصيته، ان يقرر الرحيل، فيكتب فى النهاية {اشترى مدادا وأوراقا من مكتبة الحظ السعيد .. فى حجرته جلس يكتب سطوره إلى أهله فى البلد: مهما صرت مكتبا. وقلبى محشوا بأوراق الألم. وألبس أربطة عنق زاهية مثلهم.. فأنا لا يمكننى ترككم}. وليترك محمد حافظ رجب، القاهرة، وتجربة القاهرة التى استمرت نحو سبع سنوات، وعاد إلى الأسكندرية من جديد. متأثرا، ومتألما لما عايشه، ووجده فى الديوان {وجدت أدباء يدورون في فلك يوسف السباعي، وآخرين أصبحوا عبيدا للنظام الحاكم، وأنا لم أكن أيا من الفريقين}.

وهكذا كانت لحياته، بخشونتها، دور فى تلك الصيغ، أو الشظايا، التى جاءت عليها كتابته للقصة القصيرة،   حيث أكد بنفسه ذلك المعنى المزدوج في ذات الحوار{القصة تعطيني سرها، فتخرج من داخلي مشاعر الشعور بالغبطة والصراع والانفجار، لذا هي لم تأخذ شكل السرد التقليدي، والمشاهد الوحشية هي نتيجة ما عايشته من عنف قاهر.. فالوحشية هنا كانت بحثا عن الحل والاستقرار النفسي}. وإلى جانب تلك المعاناة النفسية الشخصية، كان التيه والهزيمة التى تنبأ بها قبل وقوعها، وعبر عنها، عندما سُئل عن أثر تلك الهزيمة، وما حدث من نصر بعدها في 73 على كتابته، فأوجز رؤيته، فى {أنا كنت شايف الوضع جيدا عام 1963، وتنبأت بما سوف يحدث سنة 1967، وقد عرضت لحم الإنسان من الداخل فكان بشعا، فالهزيمة كانت موجودة فى المجتمع المصرى رغم الانتصار، وهى هزيمة إنسانية وشخصية، وروحية}.

كما عبر عن تلك الحياة، الشخصية، والجمعية، فى بداية قصته "مخلوقات براد الشاى المغلى"[13] {أنا رجل تكتنفنى الغربة فى كل مكان.. توقفت عن المسير مؤقتا.. أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رف..أعرض فوقها الحظ معلقا فوق حبل: أوراق النصيب.... أبصق ذراتها فوق أرض المقهى وأفر .. لكن إلى أين؟} ليضعنا الكاتب منذ البداية فى أجواء عوالم سارده النفسية، المحبطة، متصورا نفسه داخل علبة سجائر، وهو ما يوحى بقزميته، أو على الأقل هكذا تكون رؤيته لنفسه، وعلبة السجائر موضوعة فوق (رف) وحذف الكاتب (ال) التعريف، ليؤكد شيئيته، فلم يعد غير شئ موضوع على رف، وهو ما يمنح الإحساس بالإهمال. ويعرض (الحظ) فى أوراق النصيب، وكأنه يعلن أن هذا الشئ معرض للهواء، الذى يمكن أن يرفعه. ويمكن أن يخسفه. فلا استقرار، ولا أمان. ويتصور الآخرون أنه بما يحمل من أوراق اليانصيب، يتصورون أنه يعرف أى الأوراق تحمل الحظ. فعندما يظن البعض أنه يحمل فى جرابه أوراقا جديدة من الحظ  يقول { ماذا سيفعلون بى إن لم يجدوا فى الجراب  سوى الوهم والملل والتذمر والغضب من طول العقم؟} ثم يتبدى ذلك الانفصال، عندما يغادر السارد ضمير المتكلم الذى بدأ به القصة، ليأتى بعد قليل ضمير الغائب، وكأن السارد انفصل عن نفسه، واصبح شخصا آخر {ويبقى الذى تكتنفه الغربة من كل حانب: يحرس الفاترينة}. ثم يعود مرة أخرى إلى نفسه، ولكن بصورة مختلفة، فيعود ضمير المتكلم، ولكنه ذلك الإنسان، الكل، {مللت العلبة: أريد أن أغيرها.. أفر.. أبحث عن علبة أخرى}.ثم يعود إلى ضمير الغائب، وقد عرفنا من البداية عنه {أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رف} ليأتى الحديث هنا وقد أصبح ثالثاً {سألت سجين العلبة: من هو؟ سائق أكثر احتراما من سيده؟}.

وكما كانت صيغة القصة القصيرة عند محمد حافظ رجب، لا تخضع للصيغة التقليدية، المتعارف عليها، فإنه لم تكن كذلك تخضع لباقى مواصفاتها، والتى منها محدودية الشخوص فيها، ففى هذه القصة، نستطيع التعرف على العديد من الشخصيات، التى صبغ الكاتب كل منها، بصبغة محددة، أو صفة محددة، وغالبا ما تكون وصفا لتلك الشخصية، والتى تُغنى عن الكثير من الوصف فى الصيغة التقليدية، وهو ما اقترب بإسلوبه من السريالية، المعتمدة على الخطوط، دون الظلال. مثلما نجده فى هذه العبارة الكاشفة، عن الشخصية، وعن إسلوب الكاتب فى ذات الآن {ضغطت فوق أنبوب الانفجار فصرخت: أوراق الحظ المقتول.. كفن الرجال.. أنا لا أريد أن أكون بائع الكفن وحامل المقتول.. لليونانى المكسور.. والمتسول المقهور.. ولعويس فردة الحذاء.. وللسيد: جذع النخلة المقطوع بلا سعف ولا ثمار.. ضلوعى صارت خشبا.. سمروه فى الفترينة.. تحيلنى يونانيان: فانجلى صاحب أرض البراد.. وفاسيلى صاحب  أرض علبة سجائرى . سأحرق جذع النخلة المقطوع.. وأمزق فردة الحذاء البالى.. وأهشم العكاز.. واضع رماد الحريق وهشيم الخشب فى لفافة أدخنهاعن آخرها من ضغط السرقة اليونانية}.  ورغم ذلك التخبط، بين من يمت ثم بعد ذلك نجده يمارس الحياة، ومن يدخل براد الشاى، ويُحمل جلده ليُنشر على حبل الغسيل، ليجف.. ثم نراه يمارس الحياة، إلا أن الكاتب – أى كاتب – لا يمكن أن يكتب مجرد هذيان، ويدعى أنها قصة،  ومحمد حافظ رجب، الذى أخلص للقصة القصيرة –بداية من مجموعته الأولى "الكرة ورأس الرجل" (1968) مرورا بمجموعته الثالثة "مخلوقات براد الشاى المغلى" (1979) وصولا إلى مجموعته الثامنة "عشق كوب عصير الجوافة" (2003) -  وقيل أنه كتب رواية، غير أنها لم تظهر، تماما  كما فى حالتى كل من سعيد الكفراوى، ومحمد المخزنجى، اللذين أخلاصا – أيضا – للقصة القصيرة - فانتزع إعجاب وتأييد يحيى حقى، ونازع يوسف إدريس نفسه، لا يمكن أن تُؤخذ قصصه على أنها مجرد هذيان، فرغم إختلاف طريقة السرد، ورغم ازدحام الشخوص.إلا ان خيط القصة الرفيع السارى عبر سطورها، يضعنا أمام صورة نفسية متحركة، من خلال دقات الساعة، التي لم تتخل عن الصياغة الرجبية {الساعة التاسعة والثلاثون.. لكن الساعة الأربعين تقترب .. الساعة المنذرة تضج ..  لكن الثالثة والأربعين تخترق سور احتمالى.. خطواط الساعة الرابعة والأربعين تقترب .. ظهيرة الساعة الخمسين .. ليل الساعة الخمسين قادم.. ضجيج الواحدة والخمسين مقبل} ثم فى النهاية {احتوينى يا دقات الساعة} وكأنها دقات الساعة التى تطارد العمر، وتدفعه إلى الموت، فوجد الموت  فى الحياة {قال :يُخرجنى من داخل تجويف ساقه: هلا اخترت لى بيدك ورقة لا تصدم أملى.

-لا.. يجب أن أفر منه.. فدقائق الثانية والأربعين تقترب متوهجة كفن الساق أوراق النصيب.. أنا لم أكفن بعد .. الفرار طريق الخروج من تعاريج ساقه.. قلت انتظرنى دقائق}. فحيث ضجر السارد من بؤس العيش، وسوء الحظ، فذهب إلى المقهى يتلمس الونس والسلوى،  تخفى في عدة أشكال، اختبأ فى علبة السجائر،  دخل الساق المقطوعة، داخل الفاترينة، وخرج منها وتجول، داخل براد الشاى (المغلى) فخرجت منه فقعات الهواء، مقطوع الساق، والمتسول، وماسح الأحذية، وكل ينتظر لحظة الحظ { -رد إبراهيم مقطوع الساق: اخبرنا أين رقم العمر الذى تنتظره يا أخ!

-لو عثر إبراهيم على الرقم التائه يشترى ساقا جديدة من لحم حقيقى .. ويبتاع حياته المسروقة من سوق الكانتو. لكن أين الرقم الأعمى الحظ؟ أين عيناك} وكأنه يسأله أين عيناك يا هذا لترى كيف حالى ؟ فلو كنت أعلم. لنفعت نفسى.{ وددت لو تخلو المقهى من الأموات.. وينصرف العكاز والساق المقطوعة فى رفقة صندوق مسح الأحذية .. مع فردة الحذاء البالى.. وساق النخلة المقطوعة}.  فصاح فيهم جميعا {وقفت أرتجف لحظة.. وبدأ صوتى يخرج  بلا ارتجافة: يا أصحاب السيقان المقطوعة.. يا متسولى الشوارع الخلفية.. يا أصحاب صناديق مسح وجوه الأحذية. جئت إليكم من بعيد لأمزق حياة الغموض الذي يقيدنى.. لكنى وجدتكم تبكون جثة ميت معلقة فوق حبل غسيل.. جئت أبحث عنكم .. فصرت جلاد انتظاركم}.

ولنضع تلك الفقرة فى مقابل فقرة جاءت فى بدايات القصة {منذ ستة وثلاثين ساعة كنت بلا علبة.. فى السابعة والثلاثين ملأت كراهيتى علبة الماتينيه والرف.. فى الثامنة والثلاثين انتشر دخان مقتى للمكان.. .. ترقبت من داخل علبتى حضور الزبائن لأسألهم عن سبب كراهيتى للمقهى} لنتبين حياة السارد، الكاره للحياة، وربما كان السبب ما يجده على الجانب الآخر، حيث كان اليونانى صاحب المقهى، وابنه الذى جاء فوق حصانه، وكانت {السرقات اليونانية}. ويعيش اليونانى، بعيدا عن الكراهية، وبعيدا عن الكآبة {تلفت حولى .. نسيت كراهيتى للمقهى مؤقتا.. درت أبحث فيه عن مخلوق حى أحادثه.. لكنى لم أجد.. وعثرت فى طريقى على جثة تتكئ فوق مقعد.. فكرت أن أوقظها .. وأناوله سيجارة بلا ثمن.. تدخنها وتنتعش  .. وتفكر أن تحادثنى .. وقبل أن أفعل هدرت الدمية اليونانية العجوز وألقت بكوبها فوق وجه الكآبة .. فتناثرت شظاياه.. وصار علينا أن نجمع بقاياه}. ويعلن السارد كراهيته لليونانى {ورفعت المشرط لأمزق لحمه فاستوقفنى:

  • ماذا يعذبك؟
  • -إغفاءة الظهيرة.. وخوار الثور فى أنفك.. وكرة اللحم فى مؤخرة رأسك.
  • -لا تأبه بى .. لاتحزن.
  • واتجه إلى حبل الحظ المشنوق على واجهة المقهى والتقط كل أوراق اليانصيب عملها ليطرد تعاستى.. وتركنى وعاد إلى البراد}.

فإذا كان اليونانيون أحد من استوطنوا الأسكندرية، فيما قبل 1952، وعرفوا بثرائهم، وامتلاكهم للمال، فى الوقت الذى يجسد السارد الفقر والعوز، فهو ما يجسده في المقابلة بين الفقرتين المتباعدتين فى مساحة القصة القصيرة، تعبران عن المواجهة بين طرفى المعادلة (الصراع). حيث نتبين فى فقرة البداية، والتى تصور السارد، او الجانب المصري { أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رف..أعرض فوقها الحظ معلقا فوق حبل: أوراق النصيب}. فى مقابل الوجه الآخر، اليونانى، بل بالتحديد إبن اليونانى، حيث كان السارد فى مثل سنه – تقريبا - {فانجلى يخرج نقوده من جب داخل لحمه ثم يتلفت حوله.. ويتناولها بسرعة ويدفنها فى أرض الكف المفتوحة .. الآن ينصرف "استيليو"  إلى نادى اسبورتنج ليقابل  أصدقاءه: الخيول والجوكية. ليدعوهم إلى الجلوس فى مقهى أبيه.. ليخبره باسم الحصان الذى سيفوز.. وينصرف الجوكية بخيولهم ضاحكين وتضيع نقود فانجلى فى أرض السباق}، فكلاهما – السارد وابن اليونانى- يلعبان بالحظ، الأول بورق اليانصيب، والثانى بأحصنة السباق. ويخرج الكاتب بتلك الرؤية إلى النور، فى تلك المقابلة الهزلية الكاشفة، بين السارد واليونانى "فانجلى"، حيث يقول السارد {اغتصبت ابتسامة.. قل لى هل تتبادل أنت وأبى مكانكما؟ وأصير أنا كرة اللحم فى رأسك الصلعاء .. ويصير ابنك أنا .. ويصير أبى صينية القهوة .. وتصير أنت أبى .. وأصير أنا أبى .. وتصير أنت...}.

 وأمام تلك المقابلة، الفقر أمام الغنى، والقهر أمام القدرة، يصبح الأمل، فى استيلاء الأول على أموال الثانى، غير أن ذلك لم يكن يسيرا، فأصبح الأمنية. عبر عنها الكاتب فى حكاية "عويس" صاحب المغامرة المجهولة، واليونانية التى ضاق صندوقها بالمال، فقررت ورقة منها الهروب من حبسها، ليلتقطها "عويس" {وصرخت اليونانية : سرق نقودى يا اوباش .. جريت إليها : من السارق يا دمية؟  قالت : فردة الحذاء عويس .. – كم سرق منك يا شحاذة .. – ورقة خضراء. .. غدا عندما تحملها العربة إلى مدافن الشاطبى سأقتحم أنا وعويس المقبرة ونهشم الصندوق  ونحمل أوراق العملة الخضراء، ونعود إلى المقهى فنطرد الرأس الصلعاء ونبعثر علب اللفائف الباردة وندوس كل أحذية الرجال التى تدوسنا}. ولنعود – من جديد - إلى الرؤية الأفلاطونية للمجتمع. وكأن الكاتب قسم مجتمع المقهى(المجتمع) إلى طبقتين، طبقة السارقين، وطبقة المطحونين.

وهى الرؤية اليسارية للمجتمع، والتى إن أخذت الشكل الاجتماعى، إلا أنها فى النهاية تصب جام غضبها، وتضع المسئولية فى عنق السياسة.

 ولم تكن الهزيمة بغائبة عن المشهد، ليس فى الشكل الذى انتهجه فقط، وإنما فى صورة هزيمة "عويس"، الذى إلتقط ورقة العملة من اليونانية، فبلا مقدمات، يصرخ السارد {لم أحتمل ما حدث.. وصرخت ماذا لو تكررت هزيمة عويس؟) وهو ما يعود بنا إلى رؤية حافظ رجب، لهزيمة النكسة، وكأنه استحضرها فى هذه اللحظة، لتتحول الرؤية إلى الصراع بين المصريين والأجانب، حين نُحِلُ الإسرائيليين محل اليونانيين. لتخرج الرؤية الخاصة إلى الرؤية العامة. ويصير الضغط على السارد مضاعفا، الضغط الاجتماعى، والضغط السياسى، الذى كان على وعى كامل به، حين أطلق مقولته عن كل من (ثورتى) 1952، 2011 بأن الأولى كانت ثورة حظ، أما الثانية فكانت ثورة حق { ولكنها تفتقد القائد والتنظيم والكاتب الثوري الذي (يزغد) الثوار ليفيقوا من غيبوبتهم}.وهو ما يكشف عن وعى كامل، لابد أنه انصهر فى إبداعاته، وهو ما يعطينا الحق فى الذهاب بالتأويل إلى ذلك. وخير دليل على ذلك من نستشعره، ونعيشه فى قصة "حديث بائع مكسور القلب"[14]. فعندما يُصاب الإنسان فى حادث ما، ينحصر كل اهتمامه ويتمحور العالم، كله، فى محيط ما يصرخ فى جسده من ألم. وتقول سيرة محمد حافظ رجب، أنه كان يعمل بائعا سريحا، فى محطة الرمل، التى استحضرها – كجزئ – من محتويات رأسه التى حملت كل هموم العالم، والإنسان، عندما فكروا، وشرعوا، فى حفر نفق بالمحطة، وهو ما عبر عنه فى بداية قصته ، التى يحمل عنوانها – على غير المعتاد عن حافظ رجب – نوعا من التعاطف، أو محاولة خلق التعاطف (مكسور القلب)، وحيث تتجمع كل مشاكل العالم فى رأسه {محطة الرمل فى رأسى.. رأسى واسع.. لكن محطة الرمل لا تملؤه. هاوية عميقة. محفورة حديثا وعربات لها عجلات تحمل التراب.. ومعاول تحمل رجالا يشقون بطن المحطة}. ثم يجسد ذلك الإحساس فى {مددت يدى وحككت جلدة رأسى فوقعت عربة.. وسقط فاعل يحمل قفة تراب فوق كتفيه .. فانحنيت لأساعده.. فدخَلتْ من فتحة – خلف رأسى- عربة لورى.. ودون أن أحس راحوا يحملون التراب فوقها.. وملئوا (ملأوا) العربة. ولم أنتبه إليهم إلا عندما بدأوا يحفرون من جديد.. وهوت معاولهم تنزع شعر رأسى فبدأ يتساقط}. فإذا كان حفر النفق قد هدد مصدر رزقه، فإن حفر النفق بدا كما لو أنه حفر فى رأس السارد، والعربات اللورى تدخل وتخرج من رأسه، حيث الرأس فى هذا الموقف هو المفكر فى الكارثة التى حلت، وتهدد سبيل العيش، بل سبيل الحياة. ومن هنا جاء تجسيد مالا يُجسد، نابعا من حياة منزوعة ، إجبارا من طبيعة حياة الكاتب، فنجد، على سبيل المثال { أزحت التردد جانبا ، تراجع القهر يستبد، يتلصص على حيرتى، جريت إلى الأمس}، فلم تأت هذه المنحوتات من خيال، أو تصوير، بقدر ما جاءت تعبيرا، منحوتا من صخر الواقع، ومكتوبا بعرق المعاناة، الفردية، المتأثرة بقرارات، وقوى (سلطوية) فوقية، وقاهرة، يخضع لها الإنسان (الفردى) فى حياته.

وتبدو الصورة أكثر وضوحا فى قصة "جولة ميم المملة" – من ذات المجموعة- عندما يبدو سلطة الماضى، الممثلة فى السلطة الأبوية، التى هى إشارة إلى كل السلطات (السياسة) العربية. وتظهر ثورة الكاتب عليها، عندما يبدأ القصة بالصرخة المستنكرة {تدحرج "ميم" داخل المأزق المجنون.. رياح تندفع من كل الثقوب تدحرج.. ظل يتدحرج .. يتدحرج ملتاث العقل .. راح يصرخ: لابد أن أعود إلى الأصل.. لتمت الحيرة، ولينته الوقوف المؤلم فى المنتصف.. لابد أن أعود .. لابد.. لكن كيف هل العودة سهلة كأى قرار بسيط، يقفز إلى التروللى وهو سائر مثلا؟ .. رد عليه الصدى من كل ركن: العودة مستحيلة.. استحالت العودة الآن.. أين كنت وقتها؟ وقت أن كانت العودة فى متناول يدك. برتقالة تدفع ثمنها.. تصبح فى متناول فمك.. عاد يتدحرج من جديد.. وتذكر كلمات أبيه له فى الماضى يا ابنى .. أنت قاتلى.. وقاتل أبنائك وأبنائى.. صرخ فى أبيه: اصمت .. أصمت .. يجب أن أذبحك لأتحرر.. وليتيتم الأولاد.. لا يهم .. حريتى: الهدف خروجى من العادة.. إن عطست أقل لك: "يرحمكم الله" والمنديل فى يدى}. بل لا يكتفى السارد هنا بموت الأب، بل يتخطاه لقتل الجد أيضا. ليلقى بكل الأوزار، ليس على الماضى القريب فحسب، وإنما على الماضي البعيد أيضا. فيصيب كل صور السلطة، ومعها العادات والتقاليد التى تفرض سيطرتها على الإنسان { دس يده فى صدر أبيه.. أخرج قلبه.. مد السكين وذبحه.. وارتمى الأب فوق بلاط الدكان.. فداس جثته ومسح الدماء من السكين.

  • الآن تحررت من البكم.. تحررت يا سجناء} فهى ثورة على الصمت، وثورة للتحرر والخروج من سجن الصمت، وذل الانقياد، ودعوة للجميع للخروج، وللبوح، ولعدم الخوف.

 ويقترب بها من التجربة الفردية، ومعاناتها من جراء تلك (السلطات) حين يقول {الدكان سجنه.. بناه الأب .. لتظل للأسرة مقبرة مفتوحة.. تأتى منها بدراهم المحسنين}، حيث بدت ثورة أيضا على الفقر وشُح أسباب الحياة، حيث الدكان هنا، والذى بناه (الأب) ظانا أنه فتح مصدرا للرزق، غير انه لم يكن إلا مصدرا لتلقى هبات المحسنين.  وهو ما يترجم تلك الحالة التى لازمت حياة الكاتب، فى فترة الفتوة والتفتح، والأحلام. وظلت ضاغطة، وفارضة سيطرتها، على حياته. خاصة إذا تفهمنا رمزية "ميم" هذا، وإشارته إلى الاسم الحقيقي للكاتب، ووصفها ب"المملة".

ويستمر ذلك الإحساس، وتلك الرؤية، من الكبت والحرمان، حتى من نظرة حب، مشتهى، فى مطلع قصة "مذاق اشتهاء رائحة الشواء" التى ينضح فيه هذا العنوان، بالحرمان حتى من "رائحة الشواء" وليس الشواء نفسه. {عائد.. مرآته  مشروخة.. شرخها سقوطه المتدلى من أعالى سحابات عابرة تائهة فى بحار السماوات.. إلى أعماق الحضيض الساقط هو فيه. حملق فى وجه المخلوق الغائص فى المرآة أمامه.. وجده شيئا يثير التقزز والاحتقان. من داخل تليف وذل إحباط عاد. كرة عمياء يشوطها تلاميذ فترة المساء.. و(فله) واقفة فى المجهول .. تحادث زميلة.. بلا أذنين كانت.. التهم الترقب أذنيها .. تراقبه بعيون يطق منها شرار.. خارج من هزيمة منكرة.. شرطى وقح يقف فى داخله ممسكا بأذنيه لئلا يفر}. وإن كان لنا أن ننظر إلى تلك الصورة التى رسمها "مشروخة ومقززة" لنفسه كفرد، وذلك الحرمان من "فله" المعزولة عنه، ليصبح الإنفصال انفصالين. إنفصال عن النفس، حيث رؤية السارد لنفسه فى المرآة، كشخص آخر. وانفصال  عن المحبوبة التي {تحادث زميلة .. بلا اذنين كانت} وكأنها لا تراه، ولا تسمعه، وهو انفصال آخر. ثم يأتى ما يُفسر على أنه الخلفية الدافعة لكل هذا الانفصال، والذى يشير الكاتب إليه بألفاظ منتقاه (هزيمة)، و (شرطى) {خارج من هزيمة منكرة.. شرطى وقح يقف فى داخله ممسكا بأذنيه لئلا يفر} حيث ينطق هذا الإيجاز بالمعانى الكثيرة المستخرجة. حيث تشير (الهزيمة المنكرة) تلك إلى هزيمة  يونيو في العام السابع والستين، الفارضة وجودها داخل النفس، وتقف حائلا بين السارد والتحقق، أو بينه وبين الاستواء،( يقف فى داخله)، فكأنه الحاجز النفسى الرابض فى الأعماق. فاصبح الانفصال هو النتيجة، واصبحت الهزيمة، ليست هزيمة عسكرية فقط، وإنما هى هزيمة نفسية، وقعت على الأفراد، الذين يشكلون فى النهاية .. (المجتمع). 

 إلا أن نظرة كلية إلى قصصص محمد حافظ رجب، بصيغته التشتتية، كانت تتطلب المزيد من التركيز، وتقليل المساحة الكتابية، حيث جاء الكثير من التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، ساهمت بقدر أكبر فى تشتيت القارئ. فعلى سبيل المثال، في قصة "رجل معلق فى دوسيه" جاءت التفاصيل التى تشير لتجربة الكاتب الشخصية، دون أن تضيف جديدا إلى رؤية القصة العامة، مثل ذِكر "أمونة"{ حاميته العجوز.. أصابها السرور بالاستسلام.. فحملت لحمها وعلبة السعوط ودهاء جدتها وطرحتها السوداء وسجادة الصلاة.. وركعات الصلاة.. وأخفتها فى الدهليز الواقع بين منطقة ثدييها الرجراجين.. وانصرفت تزور أقاربها فى المساكن الشعبية "بالكيت كات"}. حيث استسلم الكاتب للوصف الذى لم يظهر له دور فى بناء القصة، فأصبح زائدا.

وكذلك الإشارة إلى معركة الأهرام{ المماليك سادة الموقف.. الألفى هو المنتصر.. المنتصر أو المهزوم .. لا يهم.. نابليون فين وعرابى فين}. وهو ما لم يكن له أى دور في القصة، فزاد فى عملية التفتيت، والتشتيت، والمساحة الكتابية، دون مبرر فنى.

ضياء الشرقاوى  (   1938 -   1977)
ذلك المصباح الذى انطفأ قبل أن يُتم عامه التاسع والثلاثين من عمره، وكأنه كان فى سباق مع الزمن، فأراد أن يترك بصمته، فى ثلاث مجوعات قصصية "رحلة قطار كل يوم 1966 ، "سقوط رجل جاد" 1969، "بيت فى الريح" 1978. بخلاف ثلاث روايات، جاءت أولها بعد أن كان قد أصدر مجموعتيه الأوليين. وهى سمة الغالبية من كتاب الستينيات. غير أن ضياء كان قد بدأ فى نشر قصصه، عبر المنصات المختلفة قبل عام 66. ومنها قصة "البطل"[15]في العام 1963، والتى تكشف الستار عن جوهر المجتمع المصرى المخفى، فى الوقت الذى كانت كل الأجهزة الإعلامية، تسعى جاهدة فى طمس الحقائق، وتلميع وجه السياسة المخفى، قبل أن يُرفع عنها الستار في يونيو 67.

تتحدث قصة "البطل" عن تهميش الإنسان المصرى، الذى لا يشعر أحد بقيمته، وأصبح صفرا على الشمال، فى ظل الحكم الشمولى الذي كان سائدا منذ نهاية الخمسينيات، وإلى ما بعد منتصف الستينيات. فتبدأ القصة {أريد أن أكون إنسانا ذا أهمية.. ذا خطورة .. كم يبلغ بى العذاب حينما أرى أن وجودى كعدمى تماما}، غير أن من كانت له الخطورة، ومن تسمع كلمته، بل وإشارته، لم يكن – السارد – واحدا منهم. فشطحت به أحلامه أن يكون رئيس دولة، وهو الطريق المسدود فى وجهه، رغم استعداده للتضحية { لو كانت هناك طرق إلى المكانة العظيمة تتيسر لى لاندفعت إليها ولو كلفتنى حياتى..... ولكن كل الرؤساء من ذوى المكانات العالية أبناء النبلاء أو أمراء أو أولياء عهد... او ضباط كبار فى الجيش}.

جاء السارد ليعمل مع ابن عمه، الذى يبيع الجرائد والمجلات، فاعتمد علىه ابن عمه إعتمادا كليا، وترك له العمل كاملا، بينما انصرف صاحب (الكُشك) لأعمال ليست ذات قيمة. وبعد فترة ماتت الأم، فالتحق الأخ الأصغر للسارد للعمل معه، مقابل الطعام والإقامة. ليلقى الكاتب الضوء على علاقة العمل، غير السوية، المتبعة فى ذلك الحين، والتى تحيل العامل إلى آلة، خالية من الأحاسيس والرغبات والطموحات، بينما صاحب العمل( الدولة) فى غياب لما ليس ضروريا، ولا مهما { كأننا قد اصبحنا فى عالم لم يعد للإنسان فيه قيمة تذكر} فالكاتب يبحث عن الإنسان، الرغبات والطموحات، يبحث عن دور مؤثر له. فيفكر أن يطلب من ابن عمه ترك العمل { وذهبت إلى ابن عمى أريد أن اسحقه، كأن لا أهمية له مطلقا فى هذه الدنيا.. يمضى أيامه فى نوم وأعمال تبدو مضحكة.. .. وقد نظر إلىَّ بلا اهتمام، وهذا ما ضايقنى.. إننى أريد أن اثيره .. أن أفزعه.. أن أجعله يفكر فىّىّ باهتمام ولو للحظات ويحس بخطورتى وأهميتى فقلت له: سأترك عملى معك. ونظرت إليه فى تدقيق أفحص ما يطفو على وجهه من خواطر. ولكنه قال بلا اهتمام: لماذا؟. قلت فى مرارة وضيق : هكذا .. قال كأنه صخرة لا يثيرها شئ: ليست لديك أسباب؟ ..- لا.. وأجبته فى كبرياء تليق بالأبطال، وقد سرت النشوة فى كيانى دافئة لذيذة.

-وأخوك أيضا سيترك العمل؟

وأحسست ببعض  الضيق لذلك السؤال.. إنى مجبر أن أقول له نعم لكى أثير فزعه.. وهذا معناه أن هناك من يشاركنى البطولة ويقاسمنى فيها.. إنه سيستخدم أخى إذا ما تركته وبذلك  لن أثير فيه شيئا... تحاملت على نفسى وقلت له: لا .. لن يترك أخى العمل. فقال فى كسل : إذن اذهب كما شئت. وأصبحت كتلة هائلة من الغضب والحقد..  لم أعد ذا قيمة، وصحت فيه وقد رضيت أن يشاركنى أخى تلك البطولة، من أجل أن أنتقم من هذا الإنسان: نعم سيترك العمل. وبسهولة تغيظ قال: كما تريدان}.  وانطلق الأخوان هائمين علي وجههما، حتى ناما فى الحديقة، وحتى المساء، لم يكونا قد تناولا شيئا من الغذاء. جاعا، حتى فكر فى العودة إلى ابن عمه. غير أن رغبته فى أن يكون ذا قيمة، منعه. فسعى للعمل، وأسعده أن قد أصبح مسئولا عن أخيه الأصغر، غير أن هذا الأخير سرعان ما استقل بنفسه، وبدأ فى إعالة نفسه. ومن جديد استشعر عدم الأهمية، غير أنه فكر، ما دام قد سعد بإعالته لأخيه، فلما لا يفكر في إعالة عدد أكبر، لماذا لا يتزوج، ويصبح عائلا لزوجة وأولاد، إنه يريد المسئولية، يريد أن يكون له دور، وأهمية {فكم كنت أحس بالسعادة وأنا مسئول عن أخى الأصغر فقط.. فما بالك وقد أصبحت مسئولا عن أسرة كبيرة العدد .. سيكون هذا أعظم عمل بطولى ذى خطورة وأهمية بالغة. واحسست بقلبى يهتز طربا لذلك الخاطر} وهكذا وصل أمر السارد إلى الزواج، وكأنه ينساق وسط القطيع، يفعل ما يفعلون، ويعيش كما يعيشون، بلا طموح ، وبلا رغبات، مقنعا نفسه أن ذلك غاية المراد، من رب العباد. وحينها { سعيت إلى ابن عمى لأخطب اخته}. فهكذا كان وضع الإنسان وما تكشف بعد ذلك بسنوات، فكان ضياء الشرقاوى أسبق فى الوصول إليها، وفى كشف النقاب عن الحقيقة، التى يدفع ضريبتها الإنسان المصرى.. حتى اليوم.           

ويسارع ضياء ، بالتأكيد على ذات المعنى، في قصة "الجمهورية والمركب" المنشور فى ذات المجلة، وذات العام( الآداب البيروتية نوفمبر 1963) والتى نتعرف فيها على رجل يعيش فى كوخ، أى أنه لا يعلم عن حركة الضباط شيئا، ولديه ولدان، الأكبر منهما سكير، لا  يفيق من سكره، ويتحين  فرصة وفاة الأب لبيع المركب الذى عزم الأب أن يمنحه لابنه الصغير، فهو المحب للمركب، وللصيد، يدخل عليهم ثلاثة من الجنود الإنجليز، يتحينون الفرصة لقتل الصغير، لما أعلن سخطه من تصرفهم، وعندما صرخ فيهم "كلاب" عاجلة القصير من بين الثلاثة برصاصة أردته قتيلا، وفى المساء، يحمل الرجل ابنه كى يدفنه، فيقابله شخص غريب فى الطريق، ويسأله عن وجهته، فيخبره بما حدث، ويذهب معه لدفن الإبن، وعندما يصلون إلى المقابر يطلب  الغريب أن يدفنه فى هذا المكان، فالقبور مليئة، وبعد الدفن، يكتشف الرجل أنه لم يعرف مكان قبر ابنه، لتظهر أول العلامات، التى يبتغيها الكاتب، ويصر الغريب على عدم أهمية مكان القبر. يصارحه الرجل برغبته، وإصراره على الانتقام من الجنود الثلاثة، خاصة القصير منهم، الذى قتل ابنه. ويسأل الرجل مرافقه عن نوع البندقية التى يعلقها على كتفه، فيخبره أنه مدفع رشاش، ويسأله أن يأخذه  للثأر من قاتل ابنه فيرد المرافق { يمكن أن نعطيك مثله.

  • من؟ .. أنت؟
  • - لا .. نحن
  • - انتم
  • -نعم  .. ويمكننا أن نعطيك مدفعا على شرط.
  • - ما هو هذا الشرط؟
  • أن تقسم يمين الولاء

قلت بضجر : أنت تعطلنى أيها الأخ. وقال الرجل: إن القسم بالولاء سيتيح لك الانتقام بحق.. ولكن إذا ذهبت وحدك هكذا فلربما قتلوك أنت الآخر دون أن تحصل على هدفك.

  • وما نوع هذا القسم؟
  • ستقسم بالولاء للجمهورية.
  • الجمهورية؟
  • - نعم}

ويسأل الرجل لماذا بالجمهورية؟ فيجيب الآخر :هكذا أمرونا بأن نقسم. ويسأل من جديد: من هم؟ ليجيبه الآخر: الضباط. ويعلم أن هؤلاء الضباط ليس لديهم أولاد يريدون الانتقام لهم، وإنما هم يريدون أن يُنقذوا الجمهورية الوليدة. 

يوافق الرجل على القسم، ما دام ذلك سيمكنه من الانتقام لابنه. وأمام الضابط، يريد الرجل أن يقسم بابنه، غير أن الضابط يصر أن يكون القسم بالجمهورية، فيقول لنفسه {لابد أن الجمهورية شئ عزيز لديهم مثل المركب من نفسى تماما}. وينتظر الرجل مع آخرين فى انتظار القيام بمهمة الانتقام. لكنه يتذكر أن ابنه الكبير لابد قد عاد للكوخ، ولما يرى الدماء سيعرف أنه مات، وسيأخذ المركب ليبيعه، ويشتري الخمر. فيذهب إلى الكوخ بصحبة اثنين، ويصر الإبن الأكبر، أنه لا يفكر فى بيع المركب، وأنه سينتقم لأخيه، ويقسم الإبن برأس أبيه أنه سينتقم، فيعاجله الأب بأنه سيقسم بالجمهورية وليس برأس أبيه، فيتعجب الإبن { بالجمهورية؟.. أى جمهورية؟}. لكنه يذهب معهم إلى الضابط {مُعَكر المزاج}، الذى يكلفه مع آخرين بالذهاب مع رجلين لنسف مركز من مراكز الإنجليز، ويسأل الصياد بعفويته، وفرديته، وذاتيته { هل فى هذا المركز الرجل القصير وزميلاه؟. تجهم الضابط وقال : لاافهم سؤالك.

  • إن ولدى لا يعرف شكل الجنود الثلاثة الذين قتلوا ولدى الصغير. قال الضابط بصرامته: لقد وهبنا أنفسنا من أجل الجمهورية فلا يجب أن نفكر خارج هذا الأمر}.

 وكأنه يعلن انسحاق، المشاعر والرغبة الفردية، والتماهى فى الشعار الجمعى. ويُصرع الأبن الأكبر فى العملية، ليقول الضابط، بنفس الصرامة {إنه فخر أن يموت ولدك من أجل الجمهورية، فخر يود أن يناله كل أب} . وليردد الصياد لنفسه، فى لحظة كشف عن رؤية القصة { لم أكن أحسب أن هذا الولد بالذات سيكون مصدر فخر لى.. والمركب والجمهورية صارا شيئا واحدا}. وكأن الجمهورية(المصرية) صارت هى المركب التى تعيل المصريين، فعليهم أن يتناسوا كل المشاعر الذاتية، والتخلى عن إنسانيتهم الفردية، ويقفوا صفا واحدا للدفاع عن "الجمهورية".

وقد أتصور أن نشر ضياء الشرقاوى للقصتين، فى هذا التوقيت المتقارب، خارج الحدود المصرية، هو ما كون لدي السلطات فى ذلك الحين، فكرة عن فكر الرجل، فكانت وراء وقف مجموعته الأولى "سقوط  رجل جاد" ولم يُفرج عنها إلا في عام 68، عندما بدأـ الإفاقة، ومحاولة تضميد الجراح. أو كشف الغطاء.

وقد نلحظ حرص ضياء الشرقاوى علي الحبكة المحكمة، والتي تحرص على ألا تأتى تفصيلة زائدة، وأن تكون كل كلمة، أو إشارة، هى لبنة تنضاف إلى غيرها لاستكمال البناء الفنى، للقصة. فعلى سبيل المثال، إشارته إلى (الكوخ) الذى يعيش فيه الصياد، سنجده يوحى بالفطرة، التي عليها الصياد، ومنها تنبع رؤيته، ويتركز اهتمامه، ليقف فى مواجهة مع فعل الضباط، الذى يمحى تلك الفطرة، بإلغاء المشاعر الإنسانية. وكذلك ذهاب الأبن الأكبر، السكير، إلى موقع الضباط (برجليه)، وما يشير إليه من نوعية من استسلموا لذلك التيار، وذلك المحو، الطامع فى تحقيق الأمانى السريعة، حتى لو تغلفت بغلاف شرعى.  كما جاء إصرار الصياد، على حمل (المركب) والذهاب به إلى مركز الضابط، متصورا أنه الآمن، وليمتزج المركب والجمهورية، معا، وغاب مصيرهما فى النهاية، وكأنما ضاعت الجمهورية بضياع مركب الصياد. ولتتأكد رؤية الكاتب الذى استشف الواقع المستتر فى تلك الفترة، الخاضعة لتنفيذ الأوامر، دون تفكير، مثلما سأل الصياد عن الجمهورية، فيجيبه الحارس بأنهم أمروه بهذا (الضباط). وليظل الشرقاوى، شاهدا إبداعيا على العصر.  وإن كنت أفضل أن يقتصر العنوان على "المركب" فقط، حيث أرى أنه بهذا كان يمكن أن يبتعد قليلا عن الوضوح الزائد، الذى يبدو من الصيغة الحالية له "الجمهورية والمركب".  

وفى ستينيات القرن العشرين، كانت قد تعالت كثيرا شعارات، الحرية والعدالة الاجتماعية، فيما رأى الكاتب أنها وقفت عند حدود "الشعارات"، بينما يموج المجتمع بالنماذج المناقضة، فكتب قصته "ناس فى الليل"[16]. التى تُعرى المجتمع "فى الليل" أى وراء الستار، وبعيدا عن الضوء، فنواجه ذلك الوجه البائس، عم بيومى، الذى يذوب فيه العديد من تلك الوجوه، ونعرف أنه يعمل سايس سيارات، على باب أحد الملاهى الليلية، والذى ترك ابنته "سميحة" الطفلة، مريضة، قد عجز عن توفير الدواء لها، لأنه يتكلف (جنيه) كامل. استطاع تدبير 35 قرش منه، ويمنى نفسه في العربات الثلاث المتبقية فى الملهى، والتى تأخرت حتى ساعة متأخرة، على أمل أن السيارتين الصغيرتين، ستمنحه كل منهما (قرشين) بينما السيارة الكبيرة، لابد ستمنحه خمسة قروش، فيقترب تحقيق الأمل والوصول إلى الجنيه. وبعد طول انتظار، يخرج صاحب السيارة الكبيرة، بصحبة إمرأة ليل، تعودت الخروج مع الزبائن فى نهاية السهرة. يدور صاحب السيارة حول سيارته، ثم يصرخ مناديا على الرجل، ليسأله فى غضب: {أين فوانيس العربة يا لص؟. كأن لكمة قوية سقطت فوق رأس الحارس فأفقدته وعيه} ويبدأ صاحب السيارة فى المناداة على العسكرى {وازدادت ثورة الرجل، وقال: لابد أن آخذه إلى القسم. لم يسرق الفوانيس أحد غيره .. اللص}. وتجمع الناس من حولهما، ليسأله أحدهما عن ثمن الفوانيس، فيجيب (ثلاثة جنيهات). ويصيب الرجل الرعب، من المبلغ، ومن أنه لو ذهب إلى القسم فسوف يحبسونه، ولا يستطيع الذهاب لسميحة، ابنته المريضة. وأمام إصرار صاحب السيارة، يبدأ الرجل فى البحث عنما فى جيبه، ويمد يده إلى (جيب سميحة) . ويشعر المتجمعون بفقر الرجل، وقلة حيلته، فيبدأون فى تجميع ما معهم من قروش {وتوقفوا جميعا ملتفين حول الحارس.. وواصل أحدهما: إن الرجل فقير.. وصاحب عيال.. وسندفع لك النصف ولتتحمل أنت النصف.. هذا عدل.  قال الرجل بإصرار وهو يهم بمواصلة الطريق إلى القسم: ثلاثة جنيهات أو القسم}. ويتم تجميع جنيهان، والرجل يصر على الثلاثة {لابد أن نؤدبهم .. ولعل هذا يكون درسا نافعا. وانفجر عم بيومى يبكى فجأة.. وأزاح أحد الرجال قبضة الرجل الضخم بعيدا عن كتف الحارس.. وأمسكت الفتاة بذراع الرجل وقالت: يكفى هذا.. يكفى هذا.. إنه رجل مسكين}. وليتكاثر الرجال والفتاة على صاحب السيارة، ويجبروه على السير، لتفتح الفتاة شباك السيارة، وتمنح عم بيومى، خمسون قرشا. وليواصل ضياء الشرقاوى، رؤيته السياسية، عبر حكايات، قد تبدو عادية، متسلسلة ، سهلة الصياغة، كسطح البحر، الذى يخفى فى أعماقه الكثير من المحار، والأحياء التى لا نراها. مبتغيا من ورائها  انتصار الإنسان على الخوف والضياع والهزيمة وكل ما يهدد كرامتة.
وهى الرؤية التى يمكن استخلاصها –أيضا – من القصة المُلغِزة "النمر"[17]والتى سيطر عليها الحوار (المبتور) فكانت أقرب إلى التجريد منها إلى التجسيد، فاحتاجت إلى أكثر من قراءة لفك شفراتها، وهو الإسلوب الآخر الذى لجأ إليه كتاب الستينيات، هروبا من الإمساك، الشرطى، الذى تعبر عنه القصة، التى نقرأ فيها حوارا - أو ما يشبه الحوار – بين رجل وامرأة، لا نعلم عنهما شيئا، ولا ماذا تكون العلاقة بينهما، وبين شخص مجهول آخر، فى الحجرة الداخلية، عاد بعد سنين، مدعيا أنه كان على علاقة ب(هندية)، ومعه (نمر) متروك بالحديقة، يكره النور، فيمزق المقاعد، ويفتح حنفية الماء، فيكاد يُغرق الحديقة. وتنتهى القصة دون أن نعرف شيئا عن هؤلاء، ولنفتح نافذة التأويل، الذى نبنيه على بعض (الإشارات) التى وردت بالقصة، مثل:. {رأى الماء يتدفق فى القناة} {هو الذى فتح الماء} {لماذا أنتِ خائفة ؟ - أنا لست خائفة.  – أنتِ خائفة منه} { - هل تعتقدين أنه غرر بالهندية؟ - أعتقد أنه غرر بها} { همهمت : لاتفتح له النافذة. ابتسم وقال بصوت عال: إنها تأمرنى بألا أفتح لك النافذة} {قالت غاضبة: قل له لماذا تأتى اليوم بعد كل هذه السنين بكذبة، لايمكن أن....

قال لها: ولماذا لا تصدقينها؟

قالت: كل الأمر أنه التقط النمر من أحد الموانئ.

قال: تعنين أنه سرقه؟

قالت غاضبة: ولماذا يأتى به إلى هنا؟

  • ربما ليخيفك
  • - ولماذا يخيفنى
  • ضغط زر النور، فتدفق الضوء، وانعكس على زجاج باب الغرفة الداخلية}.

ولم يكن زر النور الذى أضاءه ذلك الشخص، هو ما جعل النور يتدفق، ولكنها إضاءة الكاتب للعتمة التى فرضها على القصة، وكأنه يجسد الحالة التى أراد أن يعبر عنها، والتى يراها فى ذلك العصر، الذى انفتحت فيها مصر على الهند، أو فتاة الهند، بما تحمله الفتاة من رومانسة حالمة، حين كان السعى نحو سياسة عدم الانحياز، والتى تعنى فى باطنها السلم، والأمان.غير أن الطرف الثانى (هى) لم تر فى الفتاة الهندية، إلا كذبة، وأن النمر لم يكن من الهند، وإنما أتى ذلك المجهول (المعلوم) به من أحد الموانئ، أو من أحد العواصم الأخرى، التى تعتمد الخوف (النمر) سياسة لإخافة الشعوب، والسيطرة عليها. وقد تتضح الرؤية كذلك من الإشارة {رأى الماء يتدفق فى القناة ....هو الذى فتح الماء} حيث سيتساءل القارئ : من هو الذى فتح القناة؟ لتتضح الصورة ، ومن هو المَعنِى بالإتيان ب"النمر" ليخيف (الشعب)، ولينصب المعنى الكلى، على تصوير تلك الفترة التى إعتمدت على القوة ، او التخويف فى إدارتها، والتى أصرت (مصر) على عدم فتح الشباك (للنمر)، الذى لم يأت من الهند، فلم تكن العلاقة بفتاة الهند إلا (كذبة) ظاهرية تُخفى وراءها حقيقة الوضع{قالت: هل أفهمته أننا نعرف أنه يكذب وأنه لم تكن هناك فتاة هندية"؟   قال: إنه يعرف أنك تصدقينه. قالت : يجب أن تفهمه ذلك}. {قالت : وأنا لن أفتح النافذة.

  • ماذا سيقول حينما نفعل ذلك؟ قالت: قل له لن نطفئ النور من أجل النمر}. وتتكشف حقيقة النمر { قالت : اسمع... لقد بدأ يُعمل مخالبه فى أغطية المقاعد.. سيمزق .....  قالت بعصبية : اطفئ النور ... سيمزق أغطية المقاعد. قال وهو يجلس على المقعد أمامها: أنا .. لا أستطيع .. أن ...}.

 ليتكشف خوف (الشعب) من قول الحقيقة، التى طلبت منه (مصر) أن يعلنها، وكأن الخوف، أو النمر، قد تسلط على الناس، فاخرس ألسنتهم، وشل حركتهم، فتركوه يفعل، فى الظلام، ما تتكشف عنه الحقائق فى قلوب الأنقياء من المثقفين، وليعبر ذلك الإسلوب الذى انتهجه ضياء الشرقاوى ، فى هذه القصة، عن روح المرحلة، وليساهم الشكل، فى إبراز المضمون.

كما أن ثمة إشارات، خفيفة، تضئ الطريق أيضا، تأتى فى تلك البداية، التى نبدأ فيها التعرف على وجود "النمر" حينها {توقفت حركة الأوراق والأغصان الصغيرة، برهة، كان ينظر خلال زجاج النافذة إلى الحديقة} وكأن الحياة توقفت، أو كأن الدنيا تعلن غضبتها. وعندما بدأ ما يمكن أن يعبر عن المقاومة { بدأ الهواء يتحرك، وعادت الأوراق والأغصان الصغيرة تهتز}.

محمد مستجاب (1938- 2005)
فرض محمد مستجاب نفسه على الحياة الثقافة، باتساع تجربته، واتساع ثقافته، وشخصيته المتميزة، خاصة وقد حول بيته إلى ملتقى كل مبدعى مصر، فتحولت جلساته إلى منتدى أدبى وفنى مفتوح بطول العام. ورغم توقف مسيرته التعليمية عند سنواتها الأولى، ودخوله مجال العمل فى سن مبكرة. إلا أنه ثقف نفسه بالثقافة اللغوية، التى أهلته للعمل بمجمع اللغة العربية، فيما بعد، وحتى خروجه للمعاش. كما كان عاشقا للموسيقى الكلاسيكية، والفنون التشكيلية التى كان لها التأثير الواضح فى قصصه، التى تميزت بعنف الظاهر، ونعومة الباطن.

وكما هو المعتاد، لم يقدم مستجاب، مجموعته القصصية الأولى "ديروط الشريف" إلا فى العام 1984، إلا أنه كان قد بدأ النشر، كقصص منفردة بالمجلات من العام 1969 والتى جمعها كمجموعة "القصص الأخرى" فى العام 1985، من نفس الناشر (مكتبة مدبولى). والتى تبدأ بأول قصة نُشرت له بمجلة الهلال(أغسطس 1969) "الوصية الحادية عشرة"، والتى تنبئ بكل سمات مستجاب، الحياتية، والإسلوبية. حيث عمل فى بداية حياته بالسد العالى، وهو المشروع (القومى) الذى تبنته القيادة، وصبت كل وسائل الإعلام، حينها، كل اسلحتها على تضخيم صورة القيادة، وهو ما أثر بالضرورة على رؤية مستجاب لتلك القيادة، فضلا عن عمله بالسد العالى، بعد انهيار تجربتها فى يونيو 1967، فحاول المتمسكون بها رؤية التجربة، بما يُبعد المسئولية عن الرجل، وإن لم يستطيعوا نكران الواقعة، وما أتبعته من خرق كونى، عبر عنه مستجاب –فى تلك القصة – فى {همست لى أمى بأن الجبال التى تحيط بالساحة أو الصالة أو الملعب الرومانى لم تكن شاهقة من قبل كما هى شاهقة الآن، لقد كانت الشمس يا بنى تلعب مع النجوم دونما نظر إلى ليل أو نهار، ولكن –وأشارت – لقد إرتفعت الجبال فحجزت خلفها النجوم، وصلب الأشرار الشمس فى صدر السماء، وتحولت هذه الساحة مذهلة الاتساع إلى خراب أصفر مزعج تطن خلاله خفافيش سوداء محزنة وكأنها بيت من بيوت مختار شلقامى}. و"مختار شلقامى" هذا لابد أنه أحد البيوت المهجورة فى القرية، تعود مستجاب أن يدس مثل هذه الإشارات، التى توقظ ذهن القارئ، وتدفعه للتفكير فيها، وكأنه (ينغز) قارئه (خليك معايا). إلا أن التساؤل الذى لابد يُثار، أمام ذلك المشهد، بحثا عن أولئك الأشرار الذين صلبوا الشمس، وحجبوا النجوم، فيجدهم القارئ فى {ولكنى استطعت أن ألمح على البعد آخرين غيره، لم تكن لديهم مقاعد، إنما هم أناس يتحركون، وعندما ركزت نظرى عليهم اتضح أنهم ليسوا فقط يتحركون بل شفاههم فقط، بل اذرعهم وأفخاذهم، هم يرقصون ويثرثرون ويتشاجرون ويتخاطفون أشياء ويتبادلون كلمات بذيئة وقصائد شعرية ويحتسون مشروبات لا لون لها، عالم غريب بدأ يملآ الساحة ويدوس على رمالها مما أزعج أمى، الكل يصطدم بالكل والأقدام تخبط فى الأقدام والألفاظ تتهشم فى الأفواه، والغبار يثور من بين الأقدام والملابس تتساقط على الأرض}. ووسط تخبط المصالح، والصراع على المكاسب، والرقص على الحبال هذا، استطاعوا أن يحددوا إقامة الأسد فى عرينه، وأن يجنبوه رؤية المشهد، فبعد أن كان {ولقد جاءت أيام طويلة على صاحبنا لم يكن هناك سواه}. فأصبح {بدأت ألمح – صاحبنا- الذى حدثونى عنه من قبل، فى شمال الساحة مذهلة الاتساع كان هو – لايزال – جالسا، ليس بالتحديد – جالسا – وإنما مربوطا على مقعد قديم، نوع من الحبال القديمة المتماسكة يلف صاحبنا فى مقعده ويثبته به ويصنع منهما كتلة واحدة، والأغرب من ذلك أن المقعد – بمن عليه – قد ثبت فى الأرض بمسامير حديدية صدئة- مسامير غليظة منفرة يوشك  تداخل ظلها أن يرسم على الأرض طرقا ووديانا، ولقد أزعجنى أن صاحبنا لم يكن يتحرك، وقالت لى أمى أنها لا تدرى إن كان نائما أو متناوما، ولكنه بالتأكيد – مثلا – ميتا}. إذن فقد نجح الطبالون، والراقصون، وأصحاب المصالح، أن يضعوا العوازل حول (صاحبنا) وراحوا هم يفعلون ما يشاءون. وعند هذه الرؤية كان يمكن أن تُقرأ القصة على أنها إدانة لحكم تلك الفترة، وكان اللوم، كل اللوم سيقع على المسئول الأول فيها – صاحبنا – وكانت القصة ستكون تعبيرا عن تلك الهزة، أو الإفاقة التى استيقظ الناس عليها في يونيو. غير أن استمرار القصة، يكشف عن التعاطف مع – صاحبنا – ولم يكن مستجاب، فى الواقع،  يُخفى حبه للرجل وتأثيره فى حياته- كاشفة أنه كان فقط فى إغفاءة نوم، استيقظ- مع الآخرين- على هولها. فمثلما كاد السارد أن يصرخ عندما رأى{واحدا منهم –أنا متأكد أننى رايته قبل الآن يبيع صورا عارية فى حوارى القاهرة- تقدم من صاحبنا النائم والمتناوم والمثبت على مقعده، وإذا بالصمت يغمر الكل} وليهمس هذا، فى أذن صاحبنا، فى شبه تحذير، أو إنذار {قلنا لك لا تحاول .. إن أى حركة منك تعنى أن يصطدم رأسك بالسكين فتمزقه}. فها هو الآن يتحرك، ويرفض الإنذار {ولقد حاول صاحبنا أن يتحرك، وحاول قبل أن يتحرك أن يفتح عينيه، وحاول أن يؤرجح ذاكرته إلى الخلف وأن يتذكر عالمه الخاص (سوسن) وهى تطل من البلكونة فى فجر كل يوم عندما يملك حقيقة، عالمه، وعالمها المندمجان معا ليتحولا إلى دقائق صغيرة متوترة من الأمل والشوق والصدق والبراءة}.ومن يعرف حياة مستجاب، يعرف ما لسوسن من وقع نفسي، يحمل البراءة والأمل فى المستقبل، فاستحضار (سوسن) هنا، يكشف عالما مخبوءا، شديد النعومة، وراء السطح الصاخب، والعامر بالخدع والمؤامرات. وهو ما يكشف عنه {نزح –صاحبنا- بعد ذلك ليجلس جلسته ولتتحول{سوسن)إلى ارتباكات تملأ عالم الآخرين إلا عالمه، سرقها منه الآخرون، حنطوها وجففوها ووضعوها داخل زجاجات يتسلون بالاحتساء منها، ولقد تأوه صاحبنا تأوه هذه الآهة المدفونة فى الضلوع، والتى تخرج ملتهبة مشحونة بكل ألوان الأسى، تأوه ليضغط بكل جسده على الرباط فيصنع فى الساحة الواسعة ما يشبه الزلزال} فقد أفاق صاحبنا من غفوته، أو استنامته، ليستعيد عرشه، وليرتعش الآخرون، إلا ان استفاقته لم تطل ف{المحزن، ان صاحبنا بعد وقفته الفجائية سقط على الأرض} ولولا أن القصة منشورة في العام 1969، أى قبل موت – صاحبنا- (سبتمبر 1970) لتمت قراءة القصة على أن هذا السقوط على الأرض، هى الوفاة، إلا ان التواريخ تتحكم فى الرؤية، لتزيد الأمر وضوحا، لما ذهبنا إليه من تعاطف مع – صاحبنا – الذى أحبه مستجاب، ولتصبح الإفاقة قبيل 67، فجاءت متأخرة رغم زلزلتها، فكانت السقطة هى سقطة النكسة.غير أن مستجاب، الذى يجيد التلاعب بالقارئ، يضع بالهامش ما يمكن أن يستسلم له القارئ فى المتن. فإن كان المتن يعبر عن التعاطف مع –صاحبنا- ، فإن سطرا واحدا يضعه فى الهامش، يُعيد الأوضاع إلى وضعها الطبيعي، فيلقى بالمسؤلية على عاتق صاحبها – صاحبنا- وإن لم يعف الجميع منها، فكتب فى الهامش، وببنط أصغر كثيرا عن بنط المتن{يقال أن سقوطه كان بسبب جلسته الطويلة التى أعقبها دوار عند وقوفه الفجائى}. فكان قد مر على صاحبنا على الكرسي خمسة عشر عاما.

ويستمر - مستجاب- فى التلاعب الساخر، الذى يدفع القارئ دفعا، للتأرجح وفتح كل المسام، لتلقى كل الضربات الآتية من عدة إتجاهات، مع ضرورة الربط بين تواريخ الكتابة – أو النشر – لتحديد وجهة نظر القصة، فى قصته "فصل من قصة

حب"[18]، حيث يشير تاريخ النشر إلى ما قبل وفاة (صاحبنا)، الأمر الذى يدير مؤشر الرؤية إلى وجهة أخرى، فى محاولة الربط بين هذه القصة وسابقتها"الوصية...". حيث يستيقظ السارد، فى قصة الحب هذه، على شخص بالخارج يطلبه. فيخرج لملاقاته، فيجده طويلا، للحد الذى يشعر أمامه بأنه قزم، فينحنى السارد ليسلم عليه. لنواجه مباشرة بالتناقض –المقصود- بين طول القادم وانحناء السارد للسلام عليه. وهو ما يفجر حاسة التأويل، فى أن الطول ، ليس طول القامة، وإنما هو طول القيمة، خاصة حين يرفض الطويل أن يترك السارد لتغيير ملابسه، ويسير وراءه، لعدة سنوات{بعد عدة سنوات وصلنا إلى مبنى مهشم الوجه، ضيق المدخل معروق الجدران، أقسم أن هذا المبنى ليس غريبا عنى، أو رايته مرات، ولكن مخى تليف ولم أستطع تحديد مواصفاته أو صفته} ثم يحدد السارد النافذة الشرعية التى يمكن أن يكون عليها بناء الوطن، {مدرسة – ربما – أو سينما أو مسجد أو مذبح أو نقطة شرطة، أو مقام شيخ عظيم} وهنا يتمهل الطويل، ولأول مرة يضع الطويل يده فى يد السارد. وفى هذا المبنى(المتهالك) يبدأ استجواب السارد، عن اسمه : هل أنت فلان الفلانى، نعم أنا فلان الفلانى، هل تعرف فلانة الفلانية} لينفجر سيل من الذكريات، والتعريف بفلانة الفلانية، التى يبرز فيها –أيضا- الرمز، ذلك الذى بدأ استخدامه مع كتاب الستينيات { ومن لا يعرف فلانة الفلانية، ادخل قريتى يا سيد، ادخلها تحت لفح الشمس أو منتصف الليل، تسلل إليها أو اقتحمها، ستجد كل مبنى، فى كل حارة، فى كل شارع، تحت كل لسان، فى مجال كل بصر، تحت طبلة كل أذن شيئا عن فلانة الفلانية، البنت الحلوة الرخصة الدسمة المصنوعة من منسوجات النور}.. ورغم أنها كانت حلم كل غلمان القرية {فوجئنا جميعا، فوجئنا يا سيد بفلانة الفلانية تباع لجربوع أزرق منتفخ الأوداج، وتُزف إليه ذات مساء مصنوع من الحزن، تُزف إليه وتُصبح عروسا بيضاء منجلية لامعة، وبتنا ليلتها – نحن شبان القرية يا سيد – ويد كل منا متجمدة على كتل باردة من حزن قاس وعنيف، الخنزير أخذ حبيبتنا، أخذها دون حصان ودون جهاز حقيقي}. ويفاجأ السارد بخروج فلانة الفلانية، التى نعرف أنها طلبت السارد بالإسم ليتسلمها، ويسير فى الشارع، غير مصدق، ويسأل الناس جميعا أن يروه وهو بجوار فلانة الفلانية{أنا فلان الفلانى أسير بهدوء مثقل الفرحة وفى ظلى تسير حبيبتى، أو أن أصارع السباع وأن أمتطى ظهور الجوارح، أود أن أؤلف المواويل وأن أنشد المزامير وأن أجعل كل أيام الكنيسة أرغول الأحد، الخضرة فى الوديان والزهور تتماوج وتتراقص وتملأ الدنيا نغمات ملونة من الفرح، هذه هى فلانة الفلانية يا سادة}. وإذا كان الرمز لا يغيب عن فلانة الفلانية، أو يحتاج الأمر للتأويل، وكذلك عن فلان الفلانى، وما يشير إليه من آحاد الناس المصريين العاديين. والجالس خلف الحاجز، الذى تتضح رمزيته – أيضا - فى {أعوام طويلة وصاحبنا الجالس خلف الحاجز الخشبى يستمع إلى وجهة نظرى، يقال أن ثمة ضحكات كان يرد بها الرجل على كلماتى، ويقال أنه بكى مرة أو مرتين، ويقال أنه تعمد أن يسجل كامل عجزى فى موضوع يميل هو إلى أن أكون عاجزا فيه} وليصبح الجالس خلف الحاجز الخشبى يستمع، ويسجل، ليس إلا التاريخ. إلا ان ذلك الخنزيرى الملامح، مختطف فلانة الفلانية، دون حصان، أو جهاز حقيقي، يظل مبهما، ليخضع للتأويل، الذى يجعل منه إشارة تاريخية، بينما يظل مفتوحا بالنص كله، إلى الرؤى التى تتوافق ورؤية القارئ، اى قارئ ، فى أى زمان. والذى يمكن أن نقرأ فيه مجموعة الضباط أصحاب يوليو 52، الذين أنقذوا مصر من مختطفيها (المماليك)، واسرة محمد على، وهو ما يقترب من رؤية مستجاب الشخصية. خاصة أن هذه كانت ثانى قصص مستجاب –المنشورة -. كما يمكن القراءة وفقا للتاريخ المكتوب، وبما يتمشى مع القصة السابقة – أولى قصصه المنشورة – على أن المختطِف ليس إلا مجموعة المنتفعين، الذين ربطوا صاحبنا بالحبال على الكرسي، فجاءت انتفاضة من كان نائما، أو متناوما، هى عملية تخليص مصر من حبسها، وعودتها إلى أهلها الحقيقيين. وأيا كانت الرؤيا، والتأويل، فإن القراءة السياسية لا تغيب عن قراءة محمد مستجاب، حتى وإن تخفت السياسة وراء إسلوبه الساخر، الساحر، أو كلاعب أكروبات، يشد عين المشاهد(القارئ)، وكأنه يخرج العصفور من القبعة. خاصة أمام حدث كبير كانتصار أكتوبر 73، الذى وقف جيل الستينيات أمامه، إما بالإنكار، أو الخيانة والعمالة، وإما بالتجاهل، مثلما فعل مستجاب، الذى نشر في العام 1974 أكبر عدد من القصص القصيرة، بينما كان العالم كله، وليس مصر فقط، يتحدث عن ذلك الانتصار، غير أننا لا نجد أثرا مباشرا له فى تلك القصص.

ففى قصة "سعاد لن تسافر أبدا" (مجلة القصة- سبتمير 1974) حيث يوحى العنوان، بفقدان الأمل، إذا ما تصورنا أن السفر، رحلة وأمل، وإذا ما سلمنا بأن الرمز هو السمة الغالبة، التى اعتمد عليها هذا الجيل، للتعبير عما يمكن أن يُخضع الكاتب لسيف الرقيب، أو مقصلة الاعتقال الذى أشار إليه، واعتبره – مستجاب – هو الفضاء المكانى الذى تدور فيه قصة "التتويج" (الثقافة – فبراير 1974) آخر قصص مجموعته "القصص الأخرى" والتى سنعود إليها لاحقا.

يجلس السارد، فى بيته، يكتب قصة عن "سعاد"، والحياة تسير سيرها الطبيعي، فهو يتناول قهوته، والتليفون يرن (نمرة غلط) وطرق على الباب(ابنة الجيران تسأل عن الجريدة لأن أباها يريد أن يقرأ عن حادثة ديروط الشريف) ثم يُطرَق الباب ( ريفى قادم من البلد يخبره بأن امرأة عمه ستأتى فى المساء لزيارة زوجها المقيم فى مستشفى الجذام، وعليه استقبالها فى محطة القطار).بينما يتأرجح –السارد- بين الواقع والخيال، فوسط هذه الحياة السائرة، يفكر فى مصير "سعاد" بطلة قصته، التى عاش معها أحلى اللحظات { فى المرات القليلة التى اصطحبت فيها "سعاد" إلى الفراش كانت تمنحنى نشوة ليس من السهل التعبير عنها هنا، وفى ساعات الفجر السحرية كانت قد أباحت لى مرتين أن أمتزج ببدنها، ولم أستطع تكرار التجربة رغم إعترافى بسحر التجربة فى سحر الفجر}. طلبت "سعاد أن تقوم برحلة نيليلة، فاستأجر السارد زورقا، وأجلسها فى مقدمته { وبدأت اجذف، واتضح أنى لا أجيد التجذيف، حملنا التيار عشرة أمتار ودار القارب حول نفسه، ثم انغرست مقدمته فى فجوة عشبية ... قررنا أن نخرج والكمد يتلوى فى أعضائنا، قفزت "سعاد" أمامى وقفزت خلفها، لكنى سقط فى الطين}. ولا يخفى المعنى (السياسى) الكامن وراء ذلك المشهد، إذا ما سلمنا برمزية "سعاد" وما يعكس رؤية الكاتب للمرحلة.

 تقرر "سعاد"، أو يقرر لها الكاتب (الضمنى)، ان تسافر إلى بيروت، ويعيش معها – بخياله وتخطيطه – كل مراحل السفر، وفى بحثها عن مقعد، يستعرض السارد بعضا من ركاب الطائرة، في بحث "سعاد" عمن ستجلس بجواره " وسعاد" جلست فى الطائرة بجوار مجهول غير مرغوب فيه، ولا مكان له فى قصتى ... لابد من الإيجاز لبطلتى أن تترك مكانها وتجلس بجوار الرجل الجالس فى مؤخرة الطائرة، كى تتسامر معه وتتعلق به حتى تصل القصة إلى عنفوانها، هذا الرجل بالذات زعيم عصابة، خبيث ماكر متهور يمكنه أن يحتفظ بثروة ممنوعة داخل سراديب جسده، هنا مكمن الخطر حيث تتعاشق البراءة مع الشراسة والسطوة والشر}. وهنا نُحجم عن (التفسير) الذى يوحى به هذا المقطع، الذى نسقطه على ظروف المرحلة، خشية رفض البعض، ممن يرون أن القصة تُقرأ لذاتها، لا لدلالاتها، وهو مالا أرفضه كمرحلة للقراءة، إلا ان مسألة الفن للفن، قد ماتت من سنوات، وارتبط الإبداع بالمجتمع، وأصبح قراءة له.

تتحرك الطائرة وتبدأ صعودها للجو لتسأل "سعاد" جارها عن ميعاد وصول الطائرة إلى بيروت، ليندهش جارها ويعلن لها أن الطائرة متجهة إلى "روما". وليعلن –مستجاب، أن الطريق الذى سافرت فيه "سعاد" برمزيتها" ليس هو الطريق الصحيح، بل الطريق الخطأ.

وفى قصة "التمهيد لقتل أحمد عبيدة" (الثقافة- أكتوبر 1974). وهنا أيضا يجب أن نلحظ رمزية "أحمد عبيدة"، وكما يشير "التمهيد" أنه ليس قتل، ليتحول القتل من القتل الفعلى، إلى القتل المعنوى، الذى ينطلق فيه مستجاب بإسلوبه الساخر –الساحر- بالسعى نحو إذابة الفعل فى اللافعل، ودس السم فى العسل، حيث تبدأ القصة، التى لا تستغرق سوى تسعة دقائق، للتركيز على ضغط الواقع على الجوانية، فيزيد الإحساس بالمرارة والثقل. فقبل أن تبدأ الدقائق، وكأنه يُجهز(للطبخة): العناصر: ثلاث جرائد شريحة لحم ضأن – فنجان قهوة فارغ- عواء كلب- كبريت – خدعة- فصول من التاريخ المعاصر- كلمة حلوة – ضابط شرطة – خيزرانة} ثم {إقتراح: يمكن استبدال الجرائد، أو كتب التاريخ بقليل من السم}. حيث تكشف الجملة الأخيرة، بتساوى (الجرائد وكتب التاريخ المعاصر) بالسم، لتتحدد وجهتنا، فيما يرمى إليه الكاتب. ثم نعود إلى الرؤية الأفلاطونية، التى تقسم المجتمع، إلى مجتمعين، الغنى والفقير، فيما يقدمه مستجاب بتلك الخلطة، عند الدقيقة 12.56، والتى تعكس التعبير عما يعيشه "أحمد عبيده، من صهد الواقع، فى مقابل المجتمع الآخر، الذى لا يشعر بالأول {إنهد الحيل وتمطى الإرهاق وبدأت الصخور تنهمر، وقفت يمامة تشدو على غصن جاف يخلو من الثمر، استيقظ "أبو عبيدة" من قرن} ويجب أن نلاحظ المعنى الذى يسربه الكاتب فى( استيقظ من قرن) والذى يقرب للقارئ المعنى الرمزى الذى يعنيه{ احتسى فنجان القهوة- باردا، فقدت شمس الظهيرة حنان الصباح} كما يجب أن نتوقف مع كل كلمة يكتبها مستجاب، فرغم هذا التخبط (الظاهرى) إلا انه يتخير كلماته المشحونة الدالة. ففنجان القهوة (الفارغ) وفقدان شمس الظهيرة للحنان، يضفيان الفراغ والجفاف والصهد الذى يعيشه "أبو عبيدة" {تجمع الصهد وهجا وأشعل أبو عبيدة السيجارة، ارتفع الحزن ذراعا مرتعشة متصلبة، استمرت الجريدة ملقاة تحت القدمين تبتسم فى تخاذل أحمر غليظ الحروف} ونعود إلى البداية التى تتضح أبعادها هنا، حيث الجريدة ملقاة تحت القدمين، فى تخاذل {مرق الصهد المتوهج من النافذة واجتاح أبا عيبدة) ووسط هذا الصهد المتوهج فى حياة أبا عبيدة، نجد على الجانب الآخر {مرق فى شارع الهرم رتل سيارات ضاجة سعيدة نشطة، وضعت ممثلة – ذات حظوة من شهرة وجمال – كمية من أوراق نقدية فى حقيبة. فى قاعة فندق فخيم تقابل ناشر كتب لبنانى مع كاتب مصرى وبدءا يتسليان بإسقاط مكعبات الثلج فى الكؤوس} ثم نعود إلى أبا عبيدة مرة ثانية، وكأن الحديث عن الجانب الآخر ، حديث عابر، أو هامشي، فرغم وجوده، إلا ان صاحبنا لازال يعيش فى ضنكه {ظلت الدنيا ساكنة وقمم النخيل تلهث عطشا، تحرك "أحمد عبيدة" من الفراش ودار حول نفسه وتأوه ، مد يده إلى قطعة خبز اخضرت سحنتها، حتى المهازل يمكن أن تكون ذات لون أخضر، وأجمل الكلاب أكثرها شبها بالذئاب، فتت أبو عبيدة قطعة الخبز فى فمه وسحب من السيجارة نفسا}. ويستمر الحال هكذا، دقيقة بدقيقة، لندخل فى مواجهة بين الثقافة والجهل، بين العمق والسطحية، عند الدقيقة 12.59 {آخر مرة ألقى فيها "أبو عبيدة" أشعاره كانت فى شبين الكوم، اقتادوه بعدها إلى قسم الشرطة، تلمس بطرف إصبعه بقايا شريحة اللحم، ناعمة دهنية عفنة، الكاتب الأول: شرح "ميمية المتنبى" الثانى "أفلاطون يحاور، الثالث" الرواقية. الرابع:ذكريات مستشفى الأمراض العقلية، الخامس : لا أعرف فقد تمزقت الأغلفة والتوت السطور وانهارت الكلمات. الجلوس أرحم من الحركة الدائبة فى المساحات الضيقة –( تحرك جرسون في الميرلاند وأشار لأحد الثراة أن يتبعه. همس مخادع فى أذن مثقف أحمق: هناك بوادر انهيار. اللون الأسود يجمع بين الضباع والجاموس) محاولة الفهم فهم كامل، ظلت الحرارة تجتاح الحجرة، و"أبا عبيدة" والفراش وشريحة اللحم العفنة والكتب وبقايا كسرة الخبز}.  وعند الدقية 1.05 {هش "أحمد عبد العليم عبيدة" اليمامة من فوق تل الكتب، وقف مكانها شامخا... ثم أشعل فى الدنيا النيران}. فإن كان "أحمد عبد العيلم عبيدة"الذى تم ذكره كاسم كامل –أخيرا_ وكأن الكاتب يُنزله من عليائه، إلى الواقع الكرية، وكأنه يهبط بالخيال إلى أرض الواقع، فإن كان ، لم يُقتل، - فى الظاهر – كما يقول العنوان، وإنما قتل نفسه، أو انتحر، إلا أن فاعلا خفيا يظل هناك قابع فى المجتمع، المنقسم إلى مجتمعين، وكأن حربا وانتصارا لم يتم منذ عام بالضبط، ولا وقع لها، ماديا كان أو نفسيا.

   وقد تكون قصة "حكاية هادئة"(الثقافة – يناير 1975) أكثر كشفا لما نراه، حيث يستيقظ السارد من نوم ليلة العرس، والتى، كما تقول القصة {لو كانت صباحية عرسنا هذه فى القرية لأيقظنا الأهل بالزغاريد والصخب وأمطرونا بسعف النخيل والبسكويت والتحسس الخبيث لاستدراجنا كى يطمئنوا على سلامة تفاصيل فعلتنا} وهو ما لم يحدث هنا، بل وجد السارد نفسه يخرج فى(الصباحية) ليجد أن الشارع ضاج بالحياة، والعادية {استقبلنى الشارع بلسعة برد وخزت أذنى وأنفى، رجل يسمع وآخر يهمس وقد انتحيا ناحية خرابة، طفل دامع مسحوب من ذراعه خلف امرأة مسرعة، بقعة مياه، عجوز وقف فى منتصف عرض الشارع منهمكا فى لف كوفية حول أذنيه}. وفى الشارع تدهمه الإعلانات المزدحمة معلنة عن أن الحياة تسير سيرها الطبيعى {الكتاب الذى قلب موازين السياسة الدولية. الأسبوع الخامس بنجاح عظيم: وامرأة مستلقية أسفل رجل مع ملاحظة أن الفيلم ممنوع لأقل من ستة عشر عاما. وفى كل سنبلة مائة حبة: التوفير، لاتسرع فإن أولادك فى انتظارك، الرجل الذى قتل مدينة دون مسدس ( ولايوجد فى الإعلان سوى المسدس)، عشاء راقص وروليت وبكاراه، وكونكان بدون رسم دخول، تبرعوا لبناء مسجد النور}. ويستمر السارد فى سيره، حتى يفاجأ بصديق قديم، ورغم أن الأشياء العادية التى تدور فى مثل تلك المواقف، إلا أن إشارتين تأتيان فى الحديث بين الصديقين ، تدفعنا للرؤية الرمزية، وما يعنيه، ذلك العرس" الذى مر، كأى ليلة عادية : قال صديقى أنه يُعد بحثا للحصول على الماجستير فى مذبحة "المماليك"، وسألنى إن كنت أستطيع تزويده ببعض المراجع، أجبته بأننى قد أفشل فى ذلك، كان ذراعه لايزال متشابكا مع ذراعى، قال أنه يُعد الآن بحثا عن الليبرالية والأحداث الراهنة، ظللت صامتا متوقعا أن يوضح، غير أنه عاد يغمرنى بأشواقه}. وقبلها كان السارد قد أشار إلى رؤيته جبل المقطم أثناء سيره وقبل أن يلقى صديقه القديم، وهو ما يستحضر تاريخ تلك المنطقة، التى تحتوى جامع محمد على، صاحب مذبحة المماليك، أو مذبحة القلعة. كما يستحضر البحث الثانى "عن الليبرالية" الاتجاه الجديد الذى كانت تعيشه، أو بدأت تعيشه مصر بعد أكتوبر 73. وهو ما يعنى، استحضار الماضى (المماليك) للحاضر (الليبرالية) لخلق العلاقة بين الماضى والحاضر، حيث الربط بين موقعة المماليك، وثورة التصحيح التى حدثت فى 1971، والتى تخلص فيها السادات من أتباع عبد الناصر، والذى اتجه إلى انتهاج الليبرالية، متخلصا من النظام الشمولي السابق، خاصة إذا قرأنا قصة ذلك الصديق (المثقف) الذي تشير إليه القصة {استمر دهرا  يطارد حبيبته المتأدبة، بعد عامين وافقت أن تبادله رسالة، بعد شهر التقى بها فى ندوة سياسية، بعد إسبوع اخترق بها مسرحا فكاهيا، الخطوة التالية: أن يلتقى بها فى شقته الصغيرة}، استدرج الصديق صديقته، إلى بيته، وفى الليلة الموعودة، جاء والد الصديق، فارتبك هذا الصديق، غير أن الأب جلس وتعرف على الصديقة و{صب البيرة وقص على الحبيبة الحلوة جزءً من ذكرياته فى السجن، انفكت العقد وانهمرت الضحكات وأفلست المائدة، فأخرج والد صديقى خمسة جنيهات، وطلب منه أن يمون الجلسة....  ثم يصمت صديقى عن إبراز نهاية مناسبة، واصفا حبيبته بالعهر والامتهان وقلة الشرف..... و... كانت قمة جبل المقطم  قد ظهرت مرتين}، وإذا استحضرنا ما أُشيع عن السادات حينها من أنه (صاحب مزاج) فإن حضور الأب هنا تستدعى صورته الرمزية، بصفته "السلطة" كما يراها الكاتب، الذى تعمد أن يذيب رؤاه، بين ثنايا السخرية، حيث اختطف (صاحب المزاج) الغنيمة من (المثقف)، وهو ما يمكن أن نقرأ معه بداية القصة، "ليلة العرس"، على أنها إشارة إلى انتصار أكتوبر ، الذى لم تدم فرحته، كثيرا، ومر كأن لم يكن، والتى وصفها – الكاتب – بأنها "حكاية هادئة".

ونعيش نفس ليلة العرس فى آخر "القصص الأخرى" مع قصة "التتويج (الثقافة – فبراير 1974)، التى يستدعيها السارد على دقات طبول تحقيقات النيابة، التى تبدأ كما لو أن السارد قد وصل لمرحلة الجنون، فتبدأ بالأسئلة التى تُسأل لاختبار مدى قدرات المريض عقليا:

{- وبعد الأثنين"

- الثلاثاء.

- حسنا، هل يمكن أن تعد من واحد لغاية عشرة؟؟}

  ويصف السارد زفة (الفرح) وموصافات العروس: ثم تأتى دَقةٌ أخرى:

{- ولماذا لم تكمل دراستك؟

  • ولماذا اكمل دراستى؟}. ثم وصف، ثم دَقةٌ أخرى:
  • {- ومن الذى قتل أباك؟
  • -لا أدرى، أعرف فقط أنهم وجدوه فى قاع ساقية قديمة مجذوذ الرأس مبتور الأطراف}.

ثم وصف ، ثم دَقةٌ أخرى وأخرى، وكأننا نسير على دقات الطبول الجنائزية، لتصبح هذه الدقات هى خلفية مشهد العرس. ليصنع التقابل الرؤية التى تتضح فى مشهد النهاية، والذى جعل النيابة، أو التحقيق يشك فى قوى السارد العقلية. فبينما الأمور تسير وفق ما يقتضى العرس، وفى النهاية {احتويت حبيتى ولثمتها فى رقبتها، ألقيت بها على الفراش وتحسست بأسنانى رقبتها، ناعمة دافئة ضاحكة، حروف المتعة المنسابة خلال حنجرتها ودغدغت رغبتى فى أن أظل ضاغطا، بعدها: انغرزت أنيابى فى زورها، وصرخت حبيبتى فظللت ضاغطا فرفط جسدهاالفائر فى الهواء ثم تخبط على الفراش، خلعت أنيابى من الرقبة الهائجة الدافئة وغرزتها فى صدر حبيبتى مرة أخرى، انزلقت رأسى على بطنها فأحسست براحة قصوى تشملنى لم أجربها منذ خمسة وعشرين عاما، عدت لاحتوائها بين ذراعى والدم يغرقنا، أراحنى أن تنفسها المتوتر الصارخ المتحشرج قد توقف وأن جسمها سكن وأن جمالها قد اكتساه الهدوء}. وكأنه التعبير الداخلى، عن شعور كل جيل الستينيات –إلا من رحم ربى – عن التجربة الساداتية، وعُرسها الذى تم في أكتوبر 1973.

أحمد الشيخ  (1939 –2017)
على الرغم من إحتلال الرؤية السياسية، فى إبداعات كل جيل الستينيات، مكانا مميزا، وأساسيا، إلا أنه فى كل أعمال أحمد الشيخ، علامة لايمكن تجاهلها.

ورغم كثرة ما كُتب عن الريف، خاصة بين أبناء جيل الستينيات، تقف كتابة أحمد الشيخ، متفردة بينها. إذ لم تقتصر على تناول بعض مشاكل القرية، أو نماذج من تخلفها، وإنما أتاح لفلاح القرية مساحة تمتد بمساحة كتابته، التى امتدت لما يقرب من أربعين عملا إبداعيا، بين الرواية والقصة القصيرة – بخلاف ما أنتجه فى مجال الكتابة للطفل- . فقد يصعب ألا نجد عملا من أعماله، دون أن نعايش الفلاح، بشحمه ولحمه، مجسدا، ومتحركا،.حتى يمكن القول بأن أحمد الشيخ، وجد فى حياة الفلاح، وصيغة معايشته للحياة، الرؤية المحلية التى يستطيع أن ينطلق منها إلى القطرية، أو أن من الخاص، ما يعبر عن العام، حتى في صياغته لأعماله، التى تُشعرنا بأنه جلس بنا على المصطبة، أمام الدار، وقد إلتف حوله العديد، يستمعون إلى تاريخ الكفر، وناسه. وكأنه الحكواتى الذى يُغلف الحكاية بالكثير والكثير من التحابيش، والبهارات، بالسخرية مرة، وبالتورية مرات، بدءً من العناوين التى تحمل السخرية المريرة.

بدا أحمد الشيخ رحلته مع القصة القصيرة، بمجموعته القصصية الأولي "دائرة الانحناء" في العام 1970، و يعد أحد أبرز كتاب الستينيات. عاش تجربتها المريرة وانكوي بنارها، وانصهرت أحاسيسه بلظاها، فاصطبغت كتاباته بصبغتها. وتضخم الشموخ في أعماق شخوصه، تلك الشمخة التي أحسها كل المصريين، إحساسا بتاريخهم البعيد، وأحنت الانكسارات هاماتهم، فتضخم الصراع في الأعماق، في دائرة الإنسان المحدود، فأصبح كالبركان يحتجز لهيب القشرة الخارجية، وتضغط لمنع الفوران، فأصبح الإنسان، خاصة فلاح القرية، بشموخه وإبائه، وإنكساره، هو عالم أحمد الشيخ، لا في قصصه القصيرة فقطـ وإنما في رواياته العديدة أيضا. إلي جانب استخدام المفهوم المبسط للقصة القصيرة، الدائرة في نطاق اللحظة، أو الزمن المحدود والشخوص المحدودة العدد ذات الأثر الفعال في تحريك الحدث، بإسلوب السرد المتتابع المتصاعد، في كثير من الأحيان، والمتشظي في بعض الأحيان، كَسِمة أساسية لكتاب الستينيات.

كما حملت كتاباته أيضا، فرصة توسيع دائرة الدلالات والتأويلات، التي توسع من فضاء القصة، وإمكانية قراءتها علي أكثر من مستوي.  

 وقد وضح كل ذلك في قصة "دائرة الانحناء"، التي حملت المجموعة اسمها، وجاءت في الشكل الإدريسي (الدائري)، الأقرب لاحتواء إمتدادات وتشعبات القصة، في الوقت الذي تحافظ به علي خاصية القصة القصيرة.

أتت قصة "دائرة الانحناء" تحمل السلاسة والشاعرية والتمنع عن البوح المباشر، أو التأويل السريع. وإذا كانت القصة بالدرجة الأولي علي أحد مستويات القراءة تعتبر فلسفية، فإنه – أيضا- يمكن قراءتها علي المستوي الاجتماعي والسياسي.

تأتي القصة ، صرخة مكبوتة، ضياع في عالم مزدحم، توق للخضرة والبراءة والطهر. إنكسار الألم الشامخ، حيث أتت القصة في أعقاب الانكسار المهين في أعقاب 67، لذا فَفهمْ التجربة علي المستوي السياسي هو الأقرب لرؤية الكاتب. حيث تبدأ بالأمر، أو النهي أو الرجاء ، فهي تحتمل كل ذلك، { لا تطأ النبت الأخضر بالأقدام} قالتها الأم {لشيخ البلد لما داس بنعليه قيراط الحنطة الوليد}. حيث يمثل شيخ البلد "السلطة"، في تلك القراءة ، قالتها – الأم - وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة علي فراش الموت للإبن. الذى هو المستقبل، فكانت النهي أو الرجاء. وعلي الرغم من شموخ الأم التي عاشت مرفوعة الرأس، كما ماتت، فإن الأبن أو السارد جاء منحنيا، محدودب الظهر، وإن كان لا يدري متي بدأ ذلك. لكننا نستطيع تصور ذلك في رؤيتنا السياسية، حيث تمثل الأم في حالة الرؤية وجه مصر، التي عاشت عزيزة مرفوعة الرأس، بينما جاءت النكسة علي رأسه هو فأطاحت باستقامة عوده وأضاعت نظارته السميكة العدسات التي يقرأ بها كتب التاريخ - التي تتحدث عن شموخ الأم/مصر- فأصبح عاجزا عن الرؤية، وتكاثفت أمامه جدران الضباب فأصبح يتخبط في الجدران وتتقاذفه الأمواج ليسقط في دائرة الحيرة، وعندما يفيق من غفوته يكتشف أنه (صفر كبير) لكنه صفر علي الشمال لايؤثر في الأرقام الشامخة التي تهدده باستعلاء {إن لم يصمت تتهشم أسنانه} فيقرر السكوت، علي مضض، فأعماقه تغلي بالأفكار وتطن في رأسه كألف ذبابة عربيدة شقية، وفمه مملوء ببصقة متمردة تحلم بلحظة الانطلاق، وعندما يفقد أمه.. يبحث عنها في المرأة السمينة الساقطة ، إلا أنها هي الأخري تلفظه، فلم تجد فيه الرجل الذي تبتغيه، ويبحث عنها في عيون محبوبته التي {تطل علي العالم من خلال نافذتين خضراوين في لون البرسيم} وعندما تظنه يرسم قلوبا مرصوصة يفاجئها بأنه يضع {علامتي استفهام معكوستين جنبا إلي جنب فتبدوان لمن يراهما كأنهما قلب} فإذا كانت البنت ذات العيون الخضراء تحلم وتبحث عن القلب والحب فإنه هو يبحث عن الجواب، الجواب عن تلك الأسئلة الزاعقة في الأدمغة عن ما حدث، ولماذا حدث، وكيف حدث.

و إذا ما إكتفينا بالرؤية السياسية للقصة فسنكتشف مقدرة القاص في تقديمها بلغة أبعد ما تكون عن المباشرة أو الصراخ التي تبدو في كثير من أعمال آخرين، بل وقع فيها أحمد الشيخ نفسه في قصص أخري. كما ساعد علي تقبل تلك الرؤية (الحادة) التي تواكب أغلب الكتابات التي تتناول الموضوعات السياسية، تغليف القصة باللغة الشاعرية، التي تضعنا أمام قصيدة (نثر) تئن بالوجع، وتنضح بالمرار. كما في: { كنا يا أم رفاق الصفحات الأولي في درس التاريخ، علمنا ذات الأستاذ، وتنفسنا من ذات الأنفاس، وزفرنا جبنا وصمتنا، وضحكنا ، لكني لا أملك إلا الخوف ووجودا مترددا ومعالم حرص أجوف ، إزداد الحرص بقلبي يا أماه، ما عدت عنيدا وجريئا،  وإزداد الحرص فذبح الكلمات علي طرف لساني، بقيت خطوة لأكون جبانا ممسوخا محني الهامة، أعمي يتخبط ما لم يتحسس وقع الأقدام، وأدور، وأدور في ذات الدائرة المغلقة الجدران}.

كما جاءت قصة "مربع الامتهان المباح" تتهم الشعب الذي إنساق وراء القيادة المتمثلة هنا في الأم، ووصلت السخرية مداها علي أن صاحبنا لم يكن مستسلما للأم ومسلما القياد لها فقط، وإنما تبدو السخرية عندما فكروا في استخدامه لنقل {السباخ من الزريبة} لراس الغيط، فسار ذيلا للحمار، حيث أصبح الحمار هو من يسوقه. حتي وهو عائد من وداع الحبيبة، حاول أن يتبع واحدا من المدعوين العائدين ليسير وراءه { شد علي يدها واستدار في آلية، في أثر واحد من المودعين مشي، وعندما استدار الرجل الذي اختاره ليتبعه، كاد أن يستدير مثله تماما مثلما كان يستدير في أثر ذيل حمارهم الشهير}. ولتصبح نبرة اللوم والتحفيز على الفعل، هى من أحد العلامات البارزة فى كتابة أحمد الشيخ.

مثلما فى مجموعته القصصية " نصف الساعة السعيد من حياة س س"[19] التى نقرأ فيها قصة "بغلة المواطن غالب المنصور" والتى تحمل المفارقة، حيث يعيش المدعو "غالب الدباغ" (البغل) المهزوم المسحوق، الذى فى غَفْلةٍ من التاريخ والجغرافيا، سمى نفسه  "غالب المنصور" فلا كان غالبا، ولا كان منصورا، فى يوم من الأيام. ذلك الذى عاش، على الصحف، التى سعت إليه، أكثر مما سعى هو إليها، ومؤمنا بأن كتابها، ناس أحبوا الوطن، وهو يحب الوطن، من خلال كتاباتهم. جاءته شجاعة (البوح) ليحكى ما جرى له فى ليلة من الليالى {اغفروا لى تلك الجسارة التى أصابتنى وتملكتنى ودفعتنى دفعا أن أبوح لكم ببعض ما جرى لى فى تلك الليلة الغريبة التى أختلط فيها كل شئ بكل شئ إلى درجة أربكتنى وأوعزت لى بأن أتشكى من تلك المدينة التى كنت حسبتها صَفَتْ وراقتْ، أو على الأقل  خففت من كراهيتها لى بعد زمن طال لازمتها خلاله. أكابد منها وأقاوم وأحرص على قراءة الصحف، حكايتى مع الصحف يطول شرحها ولعلنى لو أسعفنى الوقت وطاوعتنى الألفاظ أحدثكم عن غرامى بتلك الأوراق التى اصفرت بفعل الزمان ... كنت أقول لروحى وقد تزايدت الأوراق وزحفت إلى كل مكان: حافظ عليها يا ولد فهى عصارة عقول نذرت نفسها لمن يعشقون الوطن، وأنت عاشق للوطن} فقد أخذ صاحبنا يحتفظ بالصحف، حتى اصفرت أوراقها، وتراكمت. ليعلنت الكاتب إدانته لما يحدث فى هذا الوطن، حيث ساهمت – الصحف-، مع غيرها من أجهزة الإعلام، فى خديعته الكبرى {وليس هناك فى الدنيا أفضل من إيمان الرجل بعقيدة يزداد رسوخها أو وطن يُغَنىَ فى عشقه..}. ويرسم لنا –الكاتب- كيف كان هذا المواطن، يتحمل تكاليف الوجبات المتكررة {فول وجبن وفلافل وعدس ولحوم وأسماك وبامية وقرع ومخللات وسلطات....} ورغم تواضع تلك الوجبات المتكررة، فقد {كان الجوع يأتى قبل الوجبات وبين الوجبات، وكنت تحسه أحيانا أثناء الوجبات. جوع متواصل لا سبيل إلى الخلاص منه}. ويخرج الكاتب من وصف الحالة الفردية إلى الحالة الجمعية {كنت أتحدث إلى نفسى بصوت مسموع، هى عادة قديمة على كل حال. .. فى السابق كنت أخفض من صوتى بحيث أسمعه وحدى، الآن لم أعد أهتم، ربما لأننى لست وحدى الذى يكلم نفسه بصوت مسموع، أصبح لى شركاء  وأكاد أعرفهم وأعرف الشوارع التى يستخدمونها وفى أى الأوقات يمكن أن ألتقى بهم، أرقبهم ولا أتبادل معهم أى حوار.. هم على كل حال نوع آخر من البشر، نوع فاقد السيطرة على تصرفاته اللائقة}. ويبدو أن تخطى الحالة، من الفردية إلى الجمعية، ما أدى إلى الإفاقة من غيبوبة الاستسلام المطلق، والتسليم الأعمى {ويلزم أيها السادة أن أتراجع قليلا ما دمنا قد حددنا سلفا أن تلك الليلة الغريبة التى اختلط فيها كل شئ بكل شئ كانت هى البداية، ولا حق لى أن أتخطاها لأحدثكم عما جرى بعدها وما استكشفته تباعا من أمور السادة الذين كنت أكن لهم  كل توقير وإجلال، كنت أقدس اسماءهم وأرددها بحماس المؤمن  بكل ما يطرحونه من أفكار حتى حدث ما حدث، وخرجت غير آسف من دائرة الانبهار والتبعية المطلقة إلى منطقة الشك والرغبة فى المراجعة، مراجعة الأفكار والآراء والأساليب والمصائر، والورق أس البلاوى} فقد أفاق صاحبنا مما أصابه من جراء اتباع وتقديس الورق ومن يصنعونه، ومن يسودون صفحاته. ويدلف بنا السارد، إلى مرحلة الطفولة، حين فشل والده فى إيقاظه من النوم ليلحق بصلاة الفجر، بعد أن عايره الشيخ الضرير، غير أن صاحبنا لم يكن يمانع، للممانعة، ولكنه الطبع- الذى يغلب التطبع – والذى أدى إلى أن والده لم يعد يناديه إلا ب"البغل" ف{فى الدنيا ناس لهم أدمغة مثل أدمغة البغال أو الحمير الحصاوى، هؤلاء الناس البسطاء يعجزون عن الاستجابة لأطنان النصائح، وليس فى الأمر رغبة فى العناد أو العصيان} ولم يكن ذلك النداء نداءً عشوائيا، بقدر ما أنه إشارة رمزية يعنيها، الكاتب، تحديدا، ويوضحها فى الشرح الموحى، والساخر، حيث البغال{عندهم رغبة فى الطاعة مع استحالة تحقيقها......} وقد كنت فى تلك الفترة {مجرد بغل  أو حمار حصاوى عاجز عن تأدية طقس الصحو المبكر ليرتاح أبى ويهدأ، يرد كيد العدو.................  وكل بغل فى هذه الدنيا مزود بجهاز الطاعة العمياء والاحتمال، راضيا ووديعا، تركبه وتضربه وتنخسه ولا يكاد يكل أو يمل} .. ولقد (جاء –البغل- إلى الدنيا بفعل الصدفة المدبرة عندما إلتقى حصان وأتان أو فرس وحمار فى لحظة شبق ضد قانون النوعين ليطلع الهجين ..... و... رغم كونه بغلا ، تستعين به وتشقيه وتأخذ حصيلة جهده العمر كله، سخرة بكماء لقاء حبات من الفول وحفنات من التبن. وعندك الكرباج تسوطه إذا تباطأ أو بدا لك أنه تباطأ} و لنلجظ هنا أن أحد عناصر غذاء البغل، هو الفول، والفول أيضا أحد عناصر الوجبات المتكررة لذلك الإنسان المتواضع، كما سبق الإشارة.  و{ صدقونى يا سادة إن بغال العالم ، كل بغال العالم تتألم، وتتوجع وتكتم الوجع....}.  ويستمر الكاتب فى وصف خبايا (البغل) الذى أُطلق على صاحبنا صغيرا، وهو يكاد أن يرفع اسم (الأبن هذا) ويضع مكانه (الشعب المطحون) والذى يُعامل معاملة ذلك البغل، الذى يعانى السخرة، والحرمان من كل الحقوق، خدمة لأسياده ممن يملكون (الكرباج)، بل إنهم يسلخون جلدها، حتى وهى حية. وينتقل الإسم "البغل" مع صاحبنا فى المدرسة، مقرونا بأربع عصيات على اليدين، حى أصبحت التسمية، والعصيات، روتينية، غير مؤثرة، وكأنه إعلان اليأس من التغيير المنشود.

ويبدأ الكاتب فى الكشف عن خباياه، أو فك رموز إشاراته، بالربط بين (الصراصير) عدوة الورق، أو آكلة الأوراق، والصحف، التى تحمل فى طياتاه {وفيها أقرأ كل شئ عن الوفد والنحاس وكتابات عن الشباب الذين خرجوا فى مظاهرات وهتفوا "الجلاء بالدماء" وكتابات عن الاستعمار قبل أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل، وبعده عن القناة التى تأممت  والسد الذى انبنى ومقبرة الغزاة، فيها إعلانات عن الحديد والصلب والوحدة والانفصال والنكسة والعبور والصلح والانفتاح والمنصة ومحادثات طابا واكتمال النصر.........} فتاريخ ممتد مما قبل 1952، وما بعد 1952، باحلامها وطموحاتها، غير أن (البغل) ظل بغلا طوال ذلك التاريخ، فلا يوما أصبح حصانا، ولا يوم اصبح حمارا. بينما الصراصير، تزحف وتُصر على قرض، ومحو، ذلك التاريخ، ليفكر السارد فى العودة إلى الدار التي أورثها له أبوه بالطوب اللبن، وإما أن يظل قائما بالمدينة باحثا عن مركب جديد يستطيع به التخلص من الصراصير، الزاحفة على التاريخ، الزاحفة على الشعارات والأحلام. فهو –إذن- لازال قادرا على الاختيار، فيتخير لنفسه اسما جديدا "غالب المنصور"، وكأنه يعلن عن تخلصه من (البغلنة). وليضع –الشيخ- الحل فى يد المواطن، حين يُمَلِكَهُ حرية الاختيار، إما أن يظل بين جدران البغلنة، وإما أن يعلن الثورة عليها والخروج منها، بالبحث عن الجديد والمطور، الذى به يقضى على (الصراصير).

وإذا كان أحمد الشيخ، قد رفض فى "بغلة المواطن غالب المنصور"، رفض السلبية المتمثلة فى "البغلنة" التى جعلت منه يستقبل الظلم والاستغلال، فى صمت، إن لم يكن بترحيب، فإنه يقترب من رفضها بصورة أوضح فى ""ضرب المواطن فاضل التلاوى". فالمواطن فاضل التلاوى، شخص مسالم، يعمل لاستكمال ومناقشة رسالته للماجستير، بحيادية تامة {دون تعصب لفكرة أو لعقيدة أو لطبقة. يكفينى أن أقوم بعرض النظريات بحياد العالم فلا حماس لليمين أو لليسار...... موقفى هو عرض المواقف، إننى باحث متواضع وليس لى فكر يخصنى}.تحير المواطن كثيرا فى اختيار موضوع الرسالة، وبالتحديد عنوانها {جاهد أن يكون العنوان سهلا وغير مرتبط بأى فكر أو قضية، أعجبه تماما أن يجعله "العنف كظاهرة – دراسة مقارنة بين المجتمعات الصناعية وغير الصناعية" لعله ارتاح بعدها أنه حرص تماما على تأكيد حياده التام وهو ما حرص عليه تماما}. فإذا كانت القصة قد نشرت فى العام 1991، أى أن الكاتب قد عاصر  بعضا من الحياة قبل 52، وكل التحولات التى حدثت بعدها، ورغم تلك التحولات، فإن المواطن، ظلت نظرة القيادة إليه واحدة، ونظرته لنفسه لم تتغير، رغم تغير الشعارات، التى لازمت كل فترة من تلك الفترات. وهو ما يؤكده نشر هذه القصة فى العام 91، رغم أنه تناول ذات الرؤية، أو قريبا منها، عندما انتقد السلبية أو الحيادية المزعومة فى قصته المنشور عام 1977 " ضرب المواطن فاضل التلاوى".

غير أن واقعة ما، تحدث للمواطن (الحيادى) تُغير رؤيته ونظرته للحياة، وللمجتمعات، وتوضح كيف أن التصرفات والمواقف العامة، يمكن ، بل بالتأكيد، تساهم كثيرا فى تحديد، أو تغيير رؤى الإنسان إلي المجتمع، بسلطاته، وإلى الإنسان بصفة عامة.

يمر المواطن فاضل، بميدان التحرير، ويقف أمام كوبرى المشاه الذى إعتاد وإعتاد الكثيرون عبور الميدان عن طريقه. وجد مجموعة صغيرة تتحفز لعبور الميدان أرضا، دون صعود سلم الكوبرى، فيسير فى مؤخرتهم، وكأنه فى حالة تردد، ليوقفه عسكرى المرور، ويأمره بالرجوع وصعود الكوبرى. يتساءل المواطن فاضل، لماذا يتخيرنى هذا العسكرى، دونا عن الآخرين، فيأخذه العند، ويصر بعدم العودة، ليتولد العناد فى رأس عسكرى المرور، الذى يتلفظ بلفظ جارح يطال (أم) المواطن فاضل، الذى تثور ثورته، ويظن أنه أمسك على العسكرى ما يمكن أن يدينه ، ويأتى مساعد الشرطة، ودون أن يطيب خاطر المواطن فاضل، لتنتهى المشكلة، تجاهل الأمر آمرا إيه بالعودة وصعود الكوبرى. ليزداد غضب المواطن، وهنا يظهر "شخص" – لايدرى أحد من أين ظهر - قوى البنية، يطلب من العسكرى والمساعد أن يتركاه له، ويهوى بالصفعة على وجه المواطن، وينهال عليه لكما ورفسا، ليعترض بعض الموجودين على ما يحدث، فيمسك الشخص بأقربهم، وبطريقة مدربة، ينهال عليه هو الآخر بالضرب والركل، ثم يختفى الشخص فجأة مثلما ظهر فجأة، ليضعنا ذلك الشخص، الذى لم يعرفه أحد، حتى العسكرى والمساعد، ليعلن لنا – ضمنيا- على أنه القانون، أو السيف المسلط على الرقاب. وكأن القصة تدعو لرفض العشوائية، وتحكيم القانون، الذى عنده يمكن أن يتحول السالب إلي موجب. فتتغير حياة، وأفكار، ورؤى صاحبنا، ويغير عنوان رسالته {تعب المواطن فاضل التلاوي كثيرا وأتعب معه الأستاذ المشرف على رسالته، بسبب إصراره على تغيير عنوان الرسالة ليصبح "نظرية العنف فى المجتمعات النامية" ولقد بدا غريبا على هيئة التدريس ذلك التغير المفاجئ فى أراء فاضل، وبدا غريبا أيضا سلوكه غير المحايد الذى أصبح طابعا بارزا على غير ما كان مألوفا منه... ويؤكد أنه لابد للإنسان  من موقف يختاره وأنه ليس هناك باحث حقيقى بلا موقف ينطلق منه فى بحثه}. فهو إذن يرفض الحيادية السلبية، التى تعيشها البغال، وأن على المواطن (السوى) أن يكون له موقف، أن يكون إيجابيا، أن يكون فاعلا، ومؤثرا، ولن يتأتى ذلك إلا بإعمال القانون، الذى يحفظ الحقوق، ويُصبح هو السيد.

 

 

[1] - يحيى الطاهر عبد الله – ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1970.

[2] - يحيى الطاهر –  مجلة الهلال – أغسطس 1970 ، ومختارات من قصص يحي  مجلة الثقافة الجديدة مايو 2005.

[3] - بهاء طاهر – من مجموعة الخطوبة – مطبوعات الجديد -العدد السابع – سبتمبر 1972.

[4] - إبراهيم أصلان – بحيرة المساء – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مختارات فصول – 1994 وكانت قد صدرت في طبعة أخرى أواخر الستينيات.

[5] - إبراهيم أصلان – جاليرى 68 -  السنة الأولى  العدد الأول – ابريل- مايو 1968.

[6] - محمود الوردانى – االسير فى الحديقة ليلا – سلسة القصة المصرية القصيرة – دار شهدى للنشر – ط1 1980.

[7]  - مجلة الكلمة – العدد 2 –  فبراير 2007.

[8]  - السفر -  الآداب البيروتية – نوفمبر 1965.

[9]  - عبد الحكيم قاسم – الهجرة إلى غير المألوف – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع -  ط1 1986.

[10]  - عبد الحكيم قاسم – ديوان الملحقات -  الهيئة المصرية العامة للكتاب –  ط1  1990.  مكتبة الأسرة 2001.

[11] -  حوار محمود قنديل – جريدة الأهالى -  3 سبتمبر 2019.

[12]  - محمد حافظ رجب – مجموعة "مخلوقات براد الشاى المغلى" – دار ومطابع المستقبل بالفجالة -  ط1 1979.

[13] - المصدر السابق.

[14] - محمد حافظ رجب – مجموعة "مقاطع من جولة ميم المملة" – أصوات أدبية- الهيئة العامة لقصور الثقافة- مارس 1998.

[15]  - ضياء الشرقاوى – مجلة الآداب البيروتية  - أغسطس 1963.

[16] - الآداب البيروتية – مارس 1965.

[17]  العدد الأول من مجلة القصة – سبتمبر 1974.

[18]  - الهلال – يناير 1970.

[19]  - أحمد الشيخ – نصف الساعة السعيد من حياة س س –الهيئة العامة لقصور الثقافة – أصوات أدبية – العدد 190- يناير 1997