الهجرةُ اليهوديةُ الصامتةُ والاستيعابُ الإسرائيليُ المنظمُ
على مدى أربعة سنواتٍ قضاها دونالد ترامب في البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، انشغل العالم فيها بقراراته الطائشة وسياسته الرعناء، واهتماماته المادية، ومعاركة التجارية، وجهله الطبي وغبائه الصحي، أولى خلالها الكيان الصهيوني كل رعايته واهتمامه، وخصه بالكثير من سياساته، ومنحه ورئيس حكومته ما لم يكونوا يحلمون به.
اعترف بالقدس الموحدة عاصمةً لكيانهم، وشرع مستوطناتهم، ومَهَّدَ لبسط سيادتهم على المزيد من الأراضي الفلسطينية، وشطب من التداول ملف اللاجئين ومسألة العائدين، واعترف بسيادتهم على الجولان، وأمدهم بالسلاح الاستراتيجي والتقانة المتطورة، وضمن لهم أمنهم الوطني وتفوقهم النوعي، واشتغل لهم وزير خارجيةٍ، فنظم علاقاتهم، ونسق تحالفاتهم، وفتح لهم قنوات اتصالٍ جديدةٍ، وأجبر عواصم عربية عديدة على الاعتراف بهم والتطبيع معهم، ومَهَّدَ السبيل أمام عواصم أخرى لتلحق بالسابقين وتسير على نهجهم.
فرح الإسرائيليون كثيراً بسياسة دونالد ترامب، الذي عمل معهم في السر والعلن، وحقق لهم غاية ما يتمنون وأقصى ما كانوا به يحلمون، ولكن الإعلام الإسرائيلي والدولي، كما الفلسطيني والعربي، قد غفل أو أغفل الأنشطة الصهيونية التي تتعلق بملف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي ما فتئت مستمرة منذ أكثر من قرنٍ ونصفٍ، إذ نشطت المنظمات الصهيونية على اختلافها، ومعها وزارة الاستيعاب الإسرائيلية بكافة طواقمها، إلى جانب جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية "الموساد"، للعمل ليلاً ونهاراً، في السر والعلن، لجلب المزيد من المهاجرين اليهود للاستيطان في فلسطين من كل البلاد والساحات، خاصةً من الدول التي كان يتعذر خروج اليهود منها بسبب أنظمتها الحاكمة وقبضتها البوليسية، أو تلك التي لا سبيل لخروجهم منها لأسبابٍ لوجستية وأمنية، وهي ما ذللتها المخابرات الإسرائيلية، وسهلتها السياسة الأمريكية.
خلال السنوات الأربعة الماضية توالى وصول مئات المهاجرين اليهود الجدد من دول الاتحاد الروسي، رغم تشكيك الحاخامات اليهود في يهوديتهم، حيث يرفضون الاعتراف بهم، ويتهمونهم بأنهم ليسوا يهوداً بل هم مسيحيون أرثوذكس، يتطلعون فقط للاستفادة من امتيازات المهاجرين اليهود، إلا أن أعدادهم ما زالت في ازديادٍ مستمرٍ، وطوفان هجرتهم لم يتوقف، إلى الدرجة التي أصبحوا فيها هم الجالية الأكبر في الكيان الصهيوني، والأكثر تأثيراً بانضمامهم إلى حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة المتطرف أفيغودور ليبرمان.
أما اليمن الحزين المشغول بجراحه، والمسكون بهمومه، فقد نجح المئات من اليهود من مغادرة عاصمته صنعاء ومختلف مناطقه الأخرى، على متن جسرٍ جويٍ عُقِدَ من أجلهم، رغم العمليات الحربية وفقدان الأمن العام، إلا أن الإدارة الأمريكية مارست ضغوطها على أطرافٍ عربيةٍ وربما فلسطينية، لدفعها للقبول بالتنسيق مع المخابرات الإسرائيلية، لضمان تسيير رحلاتٍ جويةٍ سريةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ، لنقل المهاجرين اليهود اليمنيين إلى فلسطين المحتلة، الذين استوطنوا فيها على عجلٍ، والتحق بعضهم بصفوف الجيش الإسرائيلي، وأبدوا رغبتهم في الخدمة العسكرية والتضحية من أجل "حياة شعب إسرائيل".
يبدو أن ملف يهود الفلاشا لم يغلق بعد، رغم موجة الهجرة الكبيرة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، التي شاركت فيها أجهزة أمنية عربية، وهاجر خلالها آلاف اليهود الأثيوبيين خاصةً والأفارقة عموماً إلى فلسطين المحتلة، حيث نجحت المخابرات الإسرائيلية في الأشهر الستة الماضية في نقل المئاتِ من يهود الفلاشا، الذين دار حولهم لغطٌ شديدٌ.
إلا أنهم حطوا رحالهم أخيراً في فلسطين بفرحٍ، وأظهروا سعادتهم بطقوس العودة إلى "أرض الميعاد"، وشكروا نتنياهو وزوجته سارة، ووزير دفاعه غانتس على حفاوة الاستقبال الذي شاركا فيه شخصياً، علماً أن موجات الهجرة الفردية والصغيرة من أفريقيا لم تتوقف خلال العقود الماضية أبداً، حيث أن وزيرة الاستيعاب الحالية هي مهاجرة أثيوبية سابقة عام 1984، إلا أن الأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود ما زالت تصل إلى فلسطين من أثيوبيا، الذين فاق عددهم حتى اليوم المائة وخمسين ألف أثيوبي.
ما زالت الحركة الصهيونية تصر على مواصلة استكمال مشروع الهجرة التي بدأتها الوكالة اليهودية، ورصد لها مئات الأثرياء اليهود مبالغ طائلة، لتغطية نفقات المهاجرين وكلفة انتقالهم إلى فلسطين المحتلة، ومساعدتهم لبدء حياةٍ جديدةٍ في "أرض الميعاد"، ولكن المهاجرين إليها في السنوات الأخيرة باتوا من أشد المواطنين في بلادهم فقراً وأكثرهم بؤساً، ممن لا يؤمنون بأرض الميعاد، ولا بقدسية المسألة اليهودية، ولا يرغبون في التضحية من أجلها، إلا أنهم يتطلعون إلى تحسين أوضاعهم الاجتماعية، والخلاص من بؤس الحياة وشظف العيش في بلادهم.
علماً أن الكثير منهم ليسوا يهوداً، سواء كانوا من مسيحيي الاتحاد الروسي، أو حتى من فقراء أفريقيا، إلا أن الحركة الصهيونية التي قد تشك في أصولهم، تتطلع إلى أطفالهم وإلى أجيالهم القادمة، حيث أن أكثر من نصف عدد يهود الفلاشا الحاليين ولدوا في فلسطين المحتلة، وتعلموا فيها وأتقنوا اللغة العربية، وانقطع اتصالهم بأوطانهم الأصلية، وباتوا لا يعرفون عن انتمائهم شيئا إلا للكيان الصهيوني.
أما أجيال المهاجرين الأفارقة على اختلافها، فإنها تبقى تعيش في معازلها الكئيبة، بعيداً عن أي مشاركةٍ اجتماعية، في ظل عنصريةٍ مقيتةٍ، وكراهيةٍ لهم شديدةٍ، وحرمانٍ لهم من امتيازات ومكتسبات غيرهم، مما دفعهم وما زال إلى الخروج في تظاهراتٍ عامةٍ، واعتصاماتٍ شعبية، تطورت أكثر من مرةٍ في شوارع القدس وتل أبيب ومدنٍ إسرائيليةٍ أخرى، إلى موجات عنفٍ ومواجهاتٍ مع الشرطة داميةٍ، زادت من عمق الهوة بينهم وحجم الفجوة بين مكوناتهم العرقية.
ومع ذلك تبقى الوكالة اليهودية ووزارة الاستيعاب الإسرائيلية، ومعها مختلف الأجهزة والمؤسسات، تعمل لاستجلاب المزيد من يهود العالم إلى فلسطين المحتلة، أملاً أن تقوى أجيالهم القادمة، عدداً وانتماءٍ، على مواجهة المارد الفلسطيني الصاعد، الذي يزداد عدداً، ويترسخ قدماً، ويتعمق جذراً، ويتمسك أكثر بدياره الفلسطينية أرضاً ووطناً.
تطعيمُ الأسرى الفلسطينيين مناقبيةٌ إسرائيليةٌ أم مخاوفٌ صحيةٌ
شهدت الأروقة السياسية والأمنية والقضائية الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية، جدلاً كبيراً ونقاشاً واسعاً بين العديد من المسؤولين الإسرائيليين الكبار، حول مسألة تطعيم الأسرى الفلسطينيين باللقاح المضاد لكورونا، وذلك عشية وصول أكثر من أربعة ملايين لقاحٍ أمريكي إلى الكيان الصهيوني، وسط مظاهر الفرح والابتهاج التي أبداها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي اعتبر وصول اللقاح بمثابة انتصارٍ شخصيٍ له، ونجاحٍ للجنة كورونا التي يرأسها، وتحدي ساخرٍ من كثيرٍ من خصومه ومنافسيه الذين شككوا في جهوده واتهموه، واستخفوا بإجراءاته وعارضوه.
لكنه وأغلب مستشاريه وأعضاء حكومته، كانوا فرحين بوصول اللقاح لصالح مستوطنيهم فقط، الذي دب فيهم الوباء واستفحل، وأصاب منهم ما يزيد عن 544 ألف مستوطنٍ، وتسبب منذ بداية الجائحة في وفاة أكثر من 3960 مصاباً، وما زال عداد الموتى والمصابين في ازديادٍ مستمرٍ، في ظل تسجيل أكثر من خمسة آلاف إصابة يومية.
ذكرت تقاريرٌ طبيةٌ إسرائيلية أن المستشفيات الإسرائيلية تشهد حالةً تشبه تلك التي عاشتها في حرب "يوم الغفران"، حيث اكتظت المستشفيات بالجرحى والمصابين، وباتت كل أسرتها مشغولة، ولم يعد بإمكانها استيعاب المزيد من المصابين، مما دفعها إلى فتح عشرات المستشفيات الميدانية، ونصب أسرةٍ في مداخل وممرات المستشفيات، لتلبية الحاجة الملحة من المصابين بالمرض أو خوفاً وهلعاً، ودعوا حكومتهم ولجنة الكورونا المختصة، إلى إغلاق كل الأبواب التي ينفذ منها الوباء، ومنها الرحلات الوافدة من الدول المصابة، والاختلاط الواسع غير المنضبط، وعدم الالتزام بإرشادات وتعاليم الوقاية العامة.
اعتبرت اللجنة العلمية أن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يشكلون بؤرةً للوباء ومرتعاً خصباً للفيروس، الذي إذا أصابهم فإنه سيصيب حتماً قطاع السجون كله، وسينتقل إلى رجال الشرطة والحراس وجنود الجيش، والموظفين الإداريين فيها، وغيرهم من الاسرائيليين الذين يحتكون بالمعتقلين الفلسطينيين ويتعاملون معهم يومياً، الأمر الذي من شأنه أن يرفع من درجة الخطورة، ويزيد من نسبة الإصابة بين المستوطنين الإسرائيليين، ما لم يتم سد هذه الثغرة، وإغلاق هذا المنفذ الشديد الخطورة، وإلا فإن المعتقلين الأمنيين لن يصابوا وحدهم، بل سيصيبون بالعدوى "شعب إسرائيل".
احتدم النقاش بقوةٍ على خلفية هذه المسألة بين المسؤولين الإسرائيليين، بين معارضٍ بقوةٍ لتطعيمهم وداعٍ للمباشرة بهم لأسبابٍ مختلفةٍ، ففي الوقت الذي أصر فيه وزير الأمن الداخلي أمير أوحانا على عدم تطعيم الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وألا تكون لهم الأولوية في اللقاح حتى يتم تطعيم جميع الإسرائيليين، وليس فقط أصحاب الأولوية والحاجة من المرضى وكبار السن، والعاملين في المجال الطبي من الأطباء والممرضين وموظفي الخدمة العامة.
وبعد الانتهاء من حاجة "شعب إسرائيل" كله، يمكن حينها الالتفات إلى المعتقلين الفلسطينيين خاصةً، وإلى مناطق السلطة الفلسطينية عامةً، بل إن من مستشاري وزير الأمن الداخلي من اعتبر أن تطعيم الأسرى الفلسطينيين هو من اختصاص ومسؤولية السلطة الفلسطينية، وليس من اختصاص ومسؤولية وزارة الصحة الإسرائيلية.
إلا أن وزير الصحة الليكودي يولي أدلشتاين، العالم ببواطن الأمور، والخبير بأبعاد الأزمة ومخاطر الوباء، خاصةً بعد ظهور أجيالٍ جديدةٍ من الفيروس، والذي ترد إلى مكتبه مساء كل يومٍ أعداد المصابين والموتى جراء الإصابة بكورونا، فقد أصر على ضرورة تطعيم الأسرى الفلسطينيين ضمن الأولويات الأولى للوزارة، كونهم الأكثر عرضةً للإصابة، والأقل إمكانية للالتزام بضوابط التباعد الاجتماعي وتعليمات وزارة الصحة الصارمة بوضع الكمامات، ولزوم التعقيم المستمر وغير ذلك مما لا يمكن توفره أو الالتزام به في السجون، الأمر الذي يعني أن حراس السجون وجميع العاملين فيه، وأسرهم وذويهم، وكل من يختلط بهم ويجتمع معهم، سيكون عرضةً للإصابة بالفيروس، لهذا فقد كان قراره بضرورة المباشرة بتطعيم الأسرى أولاً، حمايةً للمجتمع الإسرائيلي لا حرصاً عليهم أو خوفاً على حياتهم.
أما المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية أفيخاي منديليت الخبير بالقانون الدولي، والعالم في الشؤون القضائية، الذي يدرك مسؤولية كيانه عن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وسكان الأرض المحتلة الذين يخضعون لسلطة قوة الاحتلال، فقد رأى أن حكومة كيانه ملزمة وفقاً للقانون الدولي، وقوانين جنيف المتعلقة بإدارة المعتقلين وقت الحرب، بتطعيم الأسرى الفلسطينيين والحفاظ على حياتهم، وضمان سلامتهم وتوفير الشروط الأساسية للصحة العامة، وإلا فإنها ستكون مسؤولة أمام المجتمع الدولي عما سيصيبهم في حال تفشي الإصابة بينهم، خاصةً أن الفيروس سريع الانتشار، والعدوى في السجون سهلة نتيجة الاكتظاظ في العدد والاختلاط الدائم بين المعتقلين.
أمام هذا الجدل الذي التحق به إعلاميون كبار، وشارك فيه مسؤولون أمنيون وعسكريون وسياسيون إسرائيليون، فضلاً عن خبراء في وزارة الصحة، وتدخل فيه العامة والمستوطنون، بعد أخذ رأي لجنة الكورونا، فقد اتضح السبب وراء التعجيل في تطعيم الأسرى الفلسطينيين، إذ رأوا جميعاً أن تطعيمهم هو من باب درأ الأخطار، وإغلاق الأبواب أمام فيروس كورونا.
وهو مسألة صحية إسرائيلية بامتيازٍ، يلزم القيام بها لحماية "شعب إسرائيل" فقط، وليس من باب الالتزام بالقانون الدولي، أو الخوف من المساءلة الدولية، أو حرصاً على حياة "قتلة ومجرمين"، "أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء الإسرائيليين"، أو هو من باب الرأفة بهم والخوف عليهم، الأمر الذي يؤكد بوضوحٍ تامٍ أن قرارهم ليس خلقاً قويماً ولا مناقبية عالية، ولا التزاماً دولياً وحرصاً قانونياً، إنما هو منفعة خاصة ومصالح ذاتية، تخلو من القيم والأخلاق، وتفتقر إلى القانون والأعراف.
سقوطُ النظرياتِ الإسرائيليةِ حولَ الأجيالِ الفلسطينيةِ
يشكو الإسرائيليون، ويحذر المسؤولون الأمنيون، والخبراء الاستراتيجيون وعلماء النفس والاختصاصيون الاجتماعيون، من عناد كبار السن الفلسطينيين وإصرارهم، ومن إيمانهم وثباتهم على مواقفهم الأصيلة، وعدم يأسهم وقنوطهم رغم سوء أحوالهم السياسية وتردي ظروفهم المعيشية، وضعف قوتهم وتخلي الحكومات العربية عنهم، ويبدون خوفهم من عقيدتهم الصلبة، وإيمانهم الراسخ، وثباتهم الراسي، ويقينهم الذي لا يتزعزع، وإيمانهم الذي لا يضعف، وأملهم الذي لا يتبدد، ووعدهم الذي لا يفتر، من أن فلسطين لهم، وهي أرضهم ووطنهم، فيها حياتهم وفيها مماتهم، ومنها يخرجون ويبعثون تارةً أخرى، وأنهم على موعدٍ قريبٍ مع النصر فيها والعودة إليها.
يبدي الإسرائيليون قلقهم من تربية الفلسطينيين لأولادهم وتنشئتهم لأبنائهم، ووصاياهم لأحفادهم، وحكاياتهم لهم ورواياتهم عن ديارهم، وذكرياهم القديمة فيها، وقصصهم الكثيرة عنها، ويزعجهم أكثر تمسكهم ببقايا ديارهم، ومفاتيح بيوتهم، وإفادات ملكيتهم العقارية لأرضهم ومنازلهم، واحتفاظهم بمعالم قراهم وأسماء حواريهم، والتفاصيل الدقيقة التي ظن العدو الصهيوني أن الزمن قد طواها والغبار قد علاها، وأن أصحابها قد نسوها، فإذا بها أمامهم تنهض سلاحاً، وتتشامخ جداراً، وترتفع قلعةً، وتتعالى حصناً، وتقف صامدة أمام تحديات الشطب ومؤامرات التغيير والتحريف، ومحاولات التزوير والتزييف، وتثبت قدرتها على مواجهة سياستهم وتحدي روايتهم، ونفي شهادتهم، وتثبت أنهم أهل الأرض وأصحاب الحق.
تمتد شكوى الإسرائيليين وتكبر، ويتواصل قلقهم من الشيوخ وكبار السن الفلسطينيين، إلى الأطفال وصغار السن والأجيال الطالعة الشابة، الذين ورثوا عقيدة الكبار وعناد الشيوخ ويقين الآباء، فغدوا أكثر تمسكاً منهم، وأكثر إصراراً على حقوقهم من آبائهم، وأصبح بإمكانهم امتلاك أدواتٍ للمقاومة جديدة، وأسلحة للمواجهة فتاكة، غير تلك التي ناضل بها آباؤهم واستخدمها أجدادهم، فأصبحوا في اغترابهم البعيد وشتاتهم القاسي سفراء لبلادهم، وخير جنودٍ لوطنهم، يسخرون اللغات التي يتقونها، ويستغلون العلوم التي يبدعون بها، والمجالات التي يتميزون فيها، ليعبروا عن قضيتهم، ويسلطوا الضوء على معاناة شعبهم، ويشرحوا لغيرهم قصة نكبتهم وأساس محنتهم وملحمة تغريبتهم.
يواجه الإسرائيليون هذه العقيدة الراسخة لدى الفلسطينيين بتراجع الانتماء عندهم، وضعف العقيدة لديهم، وتفسخ المجتمعات وتحلل الروابط بينهم، فقد بدت أجيالهم الجديدة أقل إيماناً بالأرض الموعودة، وأضعف تمسكاً بالأحلام الموروثة والوعود القديمة، وأكثر ميلاً للحياة الرغيدة المرفهة، بعيداً عن الحروب والقتل والمواجهة، وغدوا أقل رغبةً في التضحية والفداء في سبيل شعبهم والدفاع عن قضيتهم، إذ لم تعد لديهم قضية جامعة أو مسألة مشتركة، فأغلبهم يتمتع بجنسيةٍ أخرى، ولديه في بلاده الأصلية مسكناً وعملاً وحساباً مالياً ومصالح تجارية وأخرى شخصية، وإليها يسافر فراراً كلما توترت الأوضاع في الكيان، وأصبح على شفير حربٍ جديدةٍ ومواجهةٍ شاملةٍ.
يعاني الإسرائيليون نتيجةً لتعدد مجتمعاتهم، واختلاف لغاتهم، وتناقض عاداتهم، وتباين تقاليدهم، وتنوع أصولهم، وفقدانهم للتراث المشترك والحضارة العميقة، من اتفاق الفلسطينيين في اللغة والثقافة، وانسجامهم في العيش والمواطنة، وامتلاكهم للقواسم المشتركة والتاريخ الممتد والحضارة القديمة، واستعداد أجيالهم الشابة والكبيرة للتضحية والفداء والبذل والعطاء، يقيناً منهم أنهم يضحون من أجل قضيةٍ عادلةٍ وحقٍ تاريخي، وأنهم يحملون أمانةً ورثوها عن الآباء والأجداد، ويجب عليهم أن يصونوها ويحفظوها، وألا يفرطوا فيها أو يتخلوا عنها، ويساندهم في حقهم إخوانهم العرب، وشركاؤهم في الأرض والوطن من المسلمين والمسيحيين على السواء، الذين يجمعهم الوطن وتوحدهم القضية.
ما زال الفلسطينيون في كل مكانٍ من المعمورة، في الشتات واللجوء وفي ربوع الوطن فلسطين، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، يحملون أسماء المدن والبلدات الفلسطينية، ويعلقون خارطة فلسطين على الجدران، ويزينون بها قلاداتٍ صدورهم، وذهباً تعلقها نساؤهم، ويرسمونها على صفحات كتبهم وأوراق مذكراتهم، ويجعلونها شعاراً لحساباتهم الشخصية وصفحاتهم الاجتماعية، ويحددون عليها بالعربية أسماء بلداتهم، ومواقع قراهم، ويصرون على مدينة القدس في القلب منها، عاصمة بلادهم، وزهرة مدائن وطنهم، ويتمسكون بكل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، ويعيدون رسمها كما كانت، وتثبيتها على الخارطة الأصلية، فلسطينية الهوية وعربية الانتماء والنسب.
وما زالت نساء فلسطين يحتفظن بأثواب بلادهن الزاهية المطرزة، المزينة المتنوعة، التي تنتمي إلى كل المدن الفلسطينية وتنتسب إليها، إذ كان لكل مدينة ثوبها الخاص وعلامتها الفارقة المميزة، وما زالت الصبايا كما العجائز يحفظن الأهازيج الشعبية، ويهدهدن أطفالهن على الأغاني الوطنية، والشبان كما الشيوخ، يحافظون على الكوفية السوداء والحمراء المرقطة، وعلى العقال التقليدي القديم، وما زالوا ينظمون حلقات الدبكة المشتركة، ويرددون المواويل الشعبية، وما زالت "عَلِّي الكوفية" أغنيتهم المفضلة، و"دمي فلسطيني" أغنيتهم السائدة، وغيرهما مما تزخر به الذاكرة الشعبية الفلسطينية، وقوداً فنياً وزاداً تراثياً يصلح للمقاومة والصمود.
لا أعتقد أن العدو الصهيوني مهما بلغ من القوة، ومهما حظي بالدعم والمساندة الدولية، يستطيع أن يطمس الهوية العربية الفلسطينية، وأن يبهت الانتماء ويزور الولاء، ويغير الوقائع ويبدل الشواهد، فهو لن يستطيع أن ينتزع من عقول الفلسطينيين وأدمغتهم ذاكرتهم التاريخية وحسهم الوطني، ولن يتمكن من تجميد الدماء الثائرة في العروق الفلسطينية، أو تجفيف ضروع الأمهات اللاتي يرضعن أطفالهن حب الوطن ويقين استعادته حراً والعودة إليه قريباً، ولن يتمكن من نبش قبورنا واستخراج رفات آبائنا من تراب وطننا، بل سيبقى الفلسطينيون في أرضهم يصبغونها بهويتهم ويلونونها بعروبتهم، ويحلمون بالعودة إليها ما بقي الزيتون والزعتر، وأثمر في أرضهم وأزهر.
العشريةُ الأولى للمقاومِ الهصورِ محمود المبحوح
مضت عشر سنواتٍ على غياب الأسد الهصور والمقاوم العنيد، المقاتل المغوار الثائر الهدار اللواء محمود المبحوح، الذي استحق بجدارةٍ لقب المقاوم وصفة المقاتل، فقد قاتل بشرف وقاوم بصدق وضحى بسخاء، وبذل غاية ما يستطيع لرفعة المقاومة وشرف فلسطين،
وعمل بصمتٍ وهدوءٍ، في السر والخفاء، وبالقوة واللين، وبالإرادة واليقين، وتنقل في كل الساحات وسافر إلى كل البلاد، بحثاً عن طلقةٍ تسعف المقاومة، وصاروخٍ يقويها، وقذائف تثريها، ومتفجراتٍ تلزمها،
فما عرف المستحيل في بحثه، ولا استسلم أمام الصعب في مهمته، بل استهوى التحدي واستعذب المواجهة وتصدى لكل حاجةٍ،
وجلب إلى قوى المقاومة كلها، حماس وفتح، والشعبية والجهاد، وكل من رفع لواء المقاومة غيرهم، وصمم على المواجهة والقتال، كل ما يحتاجونه من سلاحٍ نوعيٍ، وأمدهم بالصواريخ والقذائف والآليات، وعمل إلى جانب أشرافٍ مثله ورجالٍ يشبهونه في دعم المقاومة الفلسطينية بكل السبل الممكنة.
نال محمود المبحوح شرف الشهادة وفضل الانتقاء، وارتقى إلى مصاف الشهداء، مختاراً من الله عز وجل، ومتخذاَ من عنده سبحانه وتعالى، ليكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جانب الشهداء الأطهار الذين سبقوه إلى المجد، وكانوا معه رفاق درب ورجال مقاومة،
وقد كان بنفسه جيشاً لجباً، ولواء مقداماً، وكتيبةً لا تتردد، لا يدخر جهداً إلا للمقاومة، ولا يفكر في استراحةٍ إلا استجماماً بعد عناء معركة وغبار مواجهة،
وقد أدرك أن الشهادة منيته كما هي أمنيته، وكان قد تعرض قبل استشهاده إلى محاولات اغتيالٍ كثيرة، وكان يشعر بأنه مراقبٌ ومتابعٌ، وأنه مقصودٌ ومستهدفٌ، لكنه ما خاف ولا جبن، ولا اختبأ وخنس، ولا هدأ وسكن، بل واصل دربه بقوةٍ، وشد مأزره بعزمٍ، فقائده صلاح شحادة الذي بكاه مُرَّ البكاء قد استعجل لقاءه، كما كان يحثه على الجد والعمل، فارتحل إليه صادقاً وفياً، محافظاً على العهد أميناً.
في مثل هذا اليوم قبل عشر سنواتٍ، التاسع عشر من يناير/كانون ثاني عام 2010، تآمر على اللواء محمود المبحوح ما يزيد عن أربعين رجلاً وامرأة من العدو الصهيوني، المجهزين بالوسائل التقنية، والمدربين على مختلف الفنون القتالية، وقد سبق لهم الجريمة إذ قاموا بمثلها كثيراً،
وقد وصلوا إلى دبي من أكثر من مكانٍ، يحملون صورته ويحفظون اسمه، تكالبوا عليه بكثرةٍ، واجتمعوا ضده بغلبةٍ، وتعاونوا مع أجهزة الأمن القذرة مثلهم، ليتمكنوا من مواجهة رجلٍ يعرفونه أسداً، ومقابلة مقاومٍ يعلمونه هزبراً، شجاعاً لا يجبن، ومقداماً لا يتردد، وقوياً لا يضعف،
تآمروا على قتله، ووضعوا مختلف الخطط لاغتياله، واستخدموا الخدعة والحيلة في الوصول إليه، إذ كان الخوف يسكنهم، والرعب يهز أوصالهم، والفشل يطاردهم، فهم يعلمون أن محمود المبحوح لا يهزمه رجلٌ واحدٌ ولا عشرة، ولا يقوى على صرعه كتيبة الرجال، أو الوقوف فيه وجه والتعرض لقبضته الفولاذية وغضبته المضرية، فلهذا تكاثروا عليه، وأعدوا لمواجهته عدتهم الخبيثة وسمومهم القاتلة.
علم الإسرائيليون أن وجود محمود المبحوح خطرٌ عليهم، وأن استمراره في مهمته يقلقهم ويعرض أمنهم وسلامة مستوطنيهم للخطر، فقرروا التخلص منه وإزاحته من طريقهم، بعد أن رسخ في أذهانهم أنه عازمٌ بقوةٍ وماضي بلا تردد، وسيواصل عمله بلا توقف، وقد أعد الخطط جيداً ورسم المسار واتفق مع تجار السلاح ومهربيه،
وبات تسليح المقاومة في ذهنه برنامجاً يجب أن ينفذ، وهدفاً يجب الوصول إليه، أياً كانت الصعوبات والعقبات، أو التحديات والمخاطر، ففلسطين التي عاشت في قلبه وطناً وبات تحريرها في وجدانه أملاً وهدفاً، تستحق منه ومن كل الشرفاء كل تضحيةٍ وفداءٍ، فهانت دونها الصعاب ولانت أمامه التحديات.
آمن المبحوح بضرورة خلق معادلة توازنٍ رعبٍ جديدةٍ مع الكيان الصهيوني، يحسب حسابها ويخاف منها، ويحترمها ولا يقوى على خرقها، رغم فارق القوة واختلاف القدرات والإمكانيات، إذ لا يكفي أن يواجه الفلسطينيون غاراته الهمجية وعدوانه المستمر عليهم، ببنادق بسيطة وعبواتٍ صغيرة، لا تكفي للنيل منه وإيذائه، أو صده ومنعه من العدوان عليهم، وفي كل عدوانٍ عليهم يكبدهم خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، إذ لا يجد ما يصده أو يمنعه، أو يقاومه ويردعه، ولا يحسب حساب رد الفعل والانتقام، ولا يخشى من وجود سلاحٍ رادعٍ قادرٍ على الرد والأذى، ولهذا سعى المبحوح لتغيير المعادلة وفرض شروطٍ جديدة، قوامها أسلحة فتاكة وصواريخ قادرة على الوصول إلى أبعد مدى في الكيان الصهيوني، وقادرة على إصابة أي هدفٍ مهما بَعُدَ بدقةٍ وقوةٍ، وتستطيع أن تلحق في صفوفه أذىً وضرراً بالغين.
في الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد محمود المبحوح، الذي لن يذهب دمه هدراً بإذن الله، إذ ما زال مرتكبو جريمة قتله يتوارون عن الأنظار، ويخفون شخصياتهم، ويموهون حركتهم، ويتنقلون بحذرٍ في الأماكن التي يظنونها آمنةً بالنسبة لهم،
لكنهم وغيرهم يدركون أن هذا الدم الطاهر سيثور، وجمر ناره الكامنة ستتقد ناراً ولهباً، وهذا السيف البتار سيخرج من غمده لينتصر له، ويثأر من قاتليه وينتقم له ولكل الشهداء، ولعله بعد عشر سنواتٍ ما زال حياً بيننا، قضيته حاضرة وشهادته شاهدة وقامته شامخة ورأسه مرفوع، وروحه الطاهرة بيننا تسري، وهو يروي بسيرته الطيبة وذكره العبق أرض المقاومة، ويحدو رجالها، ويمسك من عليائه بخطام الركب المبارك نحو النصر الأكيد والوعد المكتوب والعودة المأمولة.
سلام الله عليك ورحمته وبركاته أخي أبا العبد الأغر، أيها الفارس الذي ترجل، والجندي الذي سبق، والمقاتل الذي ما مَلَّ، والفلسطيني الذي ما يأس ولا تعبَ، سلام الله عليك أيها المحمود في الخالدين، طبت حياً وطبت شهيداً، وطوبى لك جنان الخلد والفردوس الأعلى، وهنيئا لك النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم رفيقاً، وصحابته الأخيار وشهداء أمتنا الأطهار، وإننا وإياك لعلى موعدٍ بإذن الله، نرفع البيارق ونعلي الرايات، وندخل بخطىً ثابتة واثقة أبواب القدس وأعتاب المسجد الأقصى المبارك.
قصةُ بني إسرائيلَ بقرةٌ وأزمةُ كيانِهُمُ بقراتٌ
كأنه قدرهم منذ آلاف السنوات، أو هي جبلتهم العفنة وفطرتهم الخربة، وعقلهم السقيم وفكرهم المريض، أن يرتبط تاريخهم ببقرة، يصفها لهم نبيهم وحياً من السماء ليعرفوا بها حقيقة ما خفي عنهم، فوصفها لهم نبيهم موسى عليه السلام ببساطةٍ، وقد ظن أن قومه عقلاء، يسمعون ويطيعون، ويصغون ولا يعترضون، لكنهم جادلوه بصفاقةٍ وعاندوه بقلة أدبٍ، ولسان حالهم لا يصدقه ولا يؤمن بما جاء به، فقال لهم أنها لا فارضٌ ولا بكرٌ عوانٌ بين ذلك، وأتبع ذلك بأنها صفراء فاقعٌ لونها تسر الناظرين، ولما ضيقوا على أنفسهم وهم يبحثون عنها، رغم أنها كانت قريبة منهم وفي متناول أيديهم، قال لهم موسى عليه السلام، إنها بقرةٌ لا ذلولٌ تثير الأرض ولا تسقي الحرث، مسلمةٌ لا شية فيها، فقالوا له الآن جئت بالحق، وكأن ما قاله لهم قبل ذلك كان باطلاً أضلهم ومشتبهاً أضناهم.
عاد بنو إسرائيل ليربطوا أنفسهم بالبقرة من جديدٍ، ولكنهم اختاروا هذه المرة من بين الأبقار عجلاً له خوارٌ، اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله عز وجل، فضلوا السبيل وأخطأوا الطريق، وخالفوا أمر نبيهم وعصوا رسوله، واتبعوا السامري الذي استخف بعقولهم وسفه أحلامهم، وصنع لهم عجلاً من ذهب لا يضر ولا ينفع، وقد غره الصوت الذي يخرج من منخريه خواراً، فطغى بمن معه على هارون عليه السلام، وأمر قومه بعبادة العجل والسجود له، فما نفعتهم عقولهم إذ عبدوا عجلاً، ولا نصحهم حكماؤهم إذ فضلوه على الحق، وخالفوا تعاليم الذي أنجاهم من الموت وأنقذهم من الرق والاستعباد.
اليوم يعود الإسرائيليون من جديدٍ بعد آلاف السنوات إلى البقرة نفسها، وإن تغير زمانها واختلف موضوعها، وكأنهم يصرون على الاقتران بها والارتباط معها إلى الأبد، إذ أقدم جيش كيانهم الذي يوصف بالقوة والقدرة والحداثة، على سرقة سبع بقراتٍ، وإجبارهم بالقوة على اجتياز الحدود اللبنانية إلى فلسطين المحتلة، وهم يرون أصحابها بالقرب منها، يقفون غير بعيدٍ من الخط الفاصل بين البلدين، فلسطين ولبنان، ولكن جنود العدو الإسرائيلي يصرون بغباء ويتمادون بسفاهةٍ ويصرون على احتجاز الأبقار السبعة، ويظنون أنفسهم قد حققوا كسباً وأنجزوا عملاً، وواجهوا المقاومة اللبنانية وانتزعوا منها فيئاً وغنيمةً.
لكن المقاومة اللبنانية التي باتت تقوى على بز العدو الإسرائيلي ومنازلته، وتستطيع صده ومنعه، وردعه ولجمه، وترغمه على احترام الاتفاقيات والالتزام بالمعادلات، تأبى أن ينال منها ولو في دابةٍ وبهيمةٍ، أو في شجرةٍ وصخرةِ، فتتصدى له إذا اجتاز الحدود بدوريةٍ أو آليةٍ، وترده بالقوة إذا غامر وعبر، وتجبره على التراجع والانكفاء، ولا تسمح له بقطع سلكٍ أو خلع شجرة، أو تسوية شارع وتعبيد طريق، بل تقف لآلياته وجرافاته، وعرباته ومدرعاته، فتردهم خائبين، وتجبرهم على التراجع صاغرين، وتضيق عليهم الخناق فلا يجدون سبيلاً غير رفع أصواتهم بالصراخ والعويل، والشكوى والنواح لدى القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، تطلب منهم كف يد حزب الله عنهم، ومنعه من الاقتراب من مواقعهم وتخويف جنودهم وتهديد أمنهم.
لم تسكت المقاومة اللبنانية عن البقرات السبعة، ولم تسلم للعدو الصهيوني بالغنيمة، ولم ترض بالهزيمة وتسكت عن الإساءة وتتقبل الإهانة، بل اعتبرت أن قضية البقرات قضية سيادة وكرامة، وأن ما قام به جنود العدو الإسرائيلي إنما هو عدوانٌ واغتصابٌ، وجريمةٌ وإساءة، لا يمكن السكوت عنها أو القبول بها، ويخطئ العدو إذا ظن أن جريمته ستمر بصمتٍ وهدوءٍ، وباستخذاء دون ردٍ، وبهوانٍ دون مقاومة، إذ أن الصمت يغريه والقبول يزيد في غيه وعدوانه، فلزمه القوة ليرتدع، والحزم ليفهم، والإرادة ليعي، فالكرامة واحدة لا تتجزأ، والسيادةٌ كلٌ لا تنتقص، ولا فرق فيها بين الحجر والبشر، أو الشجرة والدابة، أو المياه والغاز، أو الأرض والسماء.
قد يلعن الإسرائيليون أنفسهم ألف مرةٍ ومرةٍ إذ أقدموا على احتجاز البقرات وسوقهن بالقوة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما انصبت عليهم لعنة البقرة الأولى وضلال العجل القديم، فقد أهانوا أنفسهم وأذلوا كيانهم، وشوهوا صورة جيشهم وأظهروا صغاره ودونيته، وكشفوا للعالم كله كيف يتصرف وبم يهتم، وقد ألحقت به المقاومة إهانةً ولطمته على وجهه درساً، إذ أجبرته بالقوة على التراجع والاعتذار، والخضوع والخنوع، وأرغمته على فتح البوابات وإعادة البقرات إلى أصحابها، بعد مفاوضاتٍ مخزيةٍ مع قوات اليونيفيل، ضمن خلالها أمنه خلال عملية التسليم، فبدا الجيش أمام شعبه مكسوراً، وظهرت قيادته ذليلة، وانكشفت حقيقته أمام العالم صريحة.
قد يكون العدو قد أدرك هذه المرة أن أرض لبنان باتت عليه في ظل المقاومة محرمة، ولم تعد أرضاً رخوة، ولا المعركة فيها سهلة، كما كان يظن قديماً أنها فسحة وسياحة، فهي عليه مستعصية حجراً وشجراً وبشراً ودواباً، وسماءً وبحراً وماءً وغازاً، فقد جعلت المقاومة كلفة العدوان عليها صعبة وضريبتها عالية، وعرفت كيف تكبده خسائر فادحة، وتجبره على التراجع والانكفاء، وإعادة التفكير وإلغاء المشاريع والخطط، وإلا فإنه سيدفع ثمناً غالياً، وقد لا يكون هذه المرة أرواحاً ومادياتٍ فقط، بل سيكون حتماً اجتثاثاً وإزالةً، والدخول إلى فلسطين وتحريرها، فهل يدرك العدو الذي انصاع للبقرات، واستسلم للشجرة، وهان أمام الصخرة، أنه لا يقوى على مواجهة مقاومةٍ أقسمت على النصر، وتعاهدت على العودة والتحرير، أم أن البقرات قد فتحت بوابة خاتمتهم، آذنت بإطلاق صافرة زوالهم.
الإسرائيليون يشترون بالتطبيعِ الوهمَ ويخسرون بالسلامِ الأملَ
تتعرض اتفاقيات السلام الأخيرة الموقعة بين الكيان الصهيوني وعددٍ من الدول العربية، بما فيها اتفاقية "أبراهام" التي باتت الأشهر والأكثر أهمية، إلى انتقاداتٍ شديدةٍ ومعارضةٍ واسعة من أطرافٍ إسرائيلية عديدةٍ، رغم أنها اتفاقياتٌ استراتيجيةٌ، وانجازاتٌ هامةٌ في المشروع الصهيوني الممتد لأكثر من قرنٍ ونصفٍ مضيا، إلا أن مجموعة من المفكرين الإسرائيليين ومعهم فريق غير بسيط من مؤيديهم الأمريكيين، يعارضون هذه الاتفاقيات وينتقدونها، ويرون أنها اتفاقيات ضعيفة ومهزوزة، ولا ترتكز إلى قواعد ثابتة وأرضية صلبة، ولا يوجد ضماناتٌ لاستمرارها، أو تأكيداتٌ لصمودها وبقائها.
فشعوب هذه الدول بلا استثناء تعارض الاتفاقيات الموقعة، وترفض الاعتراف بإسرائيل، وتحرم التطبيع معها، بل وتدعم المقاومة الفلسطينية، وتساندها وتساهم في ثباتها وصمودها، وقد أقدمت أنظمتها الحاكمة على الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه لحاجةٍ لها ومصلحةٍ عندها، فأغلبها تواجه انتقاداتٍ واسعة من شعوبها، وتلقى عدم قبولٍ منها، وتتعرض لاضطراباتٍ داخلية تقلقها، وتعاني من حالة عدم استقرار حكمها مما يهدد باحتمالية سقوطها، وبعضها يواجه شعبه بالحديد والنار، ويقمع حراك أبنائه بالقوة والعنف، ويواجه مطالبهم بالرفض والإهمال، فضلاً عن التشويه والاتهام والاعتقال والمحاكمة.
ومن جانبٍ آخر فإن هذه الدول الموقعة لاتفاقيات السلام، لا تشكو من احتلال إسرائيل لجزءٍ من أرضها، وهي لا تجاورها ولا تشترك معها في حدودٍ، ولا تقاتلها ولا تشتبك معها، ولا يوجد لديها معتقلون في سجونها، ولا تعاني من أي قضايا عالقةٍ معها، وبالتالي فإن الاتفاقيات معها ضعيفةٌ ولا ترتكز إلى قواعد صلبة وأسس متينة، إذ لا تشبه تلك التي وقعت مع مصر في كامب ديفيد، أو مع الأردن في وادي عربة، حيث جرت بموجبهما انسحاباتٌ عسكرية إسرائيلية من أراضي مصرية وأردنية محتلة، واستعادت الدولتان سيادتهما عليها، فكان انسحابه من أرضهما المحتلة ثمناً للاعتراف بها، وأساساً للسلام والتطبيع معها، وبهذه الانجازات تمكنت حكومات البلدين ولو صورياً وشكلياً، من تمرير اتفاقهما والدفاع عنهما، ورغم معارضتهما الشعبية الكبيرة فقد صمدا لأكثر من ثلاثة عقودٍ.
بينما الاتفاقيات الجديدة الموقعة مع الدول العربية، فهي على أهميتها لا تستند إلى قواعد صلبة، ولا إلى أسس متينةٍ، تمكن حكوماتها من الدفاع عنها، وليس أصلب من الأرض المحررة واستعادة الحقوق الوطنية وسيلةً للدفاع عن الاتفاقيات، أما الأثمان التي تلقتها بعض الدول كالاعتراف الأمريكي على جزءٍ من ترابها الوطني المختلف عليه، أو شطب اسمها من قوائم الارهاب، أو رفع الحصار المفروض عليها، أو التعهد بحماية أنظمتها والدفاع عن عروشها، فإنها مكتسباتٌ غير شعبية، بل هي منافعٌ سلطوية تخدم الأنظمة ولا تعود بالنفع على الشعوب، التي قد تضاعف مع الأيام من حجم عدائها لإسرائيل ونقمتها عليها.
لا ينكر الإسرائيليون جدوى الاتفاقيات الموقعة وأهميتها الاقتصادية بالنسبة لهم، وآثارها النفسية والمعنوية على شعبهم، ودورها في تحسين صورتهم ودمج كيانهم في المنطقة، والاعتراف به مكوناً أساساً فيها، يحظى بالشرعية والقبول، ويتمتع بالاعتراف والاحترام، فضلاً عن تداعياتها المباشرة على القضية الفلسطينية، التي قد تدفع الفلسطينيين يأساً وقنوطاً وإحساساً بالعزلة والضعف، للقبول بالحلول المطروحة وعدم رفضها، وإلا فإن أحداً لن يقف معهم ويؤيدهم، أو يدعمهم ويساندهم.
إلا أنهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه محاسن الاتفاقيات الموقعة، فإنهم لا يرون لها أهمية تذكر ما لم يتم توظيفها في خدمة مسار حل القضية الفلسطينية، واستخدامها في تطويع الفلسطينيين وإقناعهم بالقبول بالحلول المطروحة، إذ لا سلام يستمتعون به ما لم يكن مع الفلسطينيين أنفسهم، ولا أمن يتوقعونه في المنطقة ما لم يكن الفلسطينيون جزءاً منه وأساساً فيه، ولا استقرار لكيانهم أو تحسين لصورتهم ما لم يشارك الفلسطينيون فيه، فهم الأقدر على إعادة رسم الصورة، ورفع الشبهات وإزالة الاتهامات عن كيانهم، والمجتمع الدولي يصغي إليهم ويؤمن بعدالة قضيتهم، ويتطلع إلى التوصل إلى اتفاقٍ ينهي معاناتهم، ويحقق أحلامهم ويلبي رغباتهم وطموحاتهم في دولةٍ مستقلةٍ ووطنٍ حرٍ.
يشعر الإسرائيليون بقلقٍ شديدٍ من تبعات هذه الاتفاقيات ومن سرابهما الزائف، ويخشون من إمكانية انقلابها عليهم وانعكاسها السلبي على أمنهم واستقرارهم، فهي قد تشعر الفلسطينيين بالوحدة والعزلة، والخذلان والإهمال، وقد تخلق فيهم يأساً وقنوطاً، يدفعهم نحو تطرفٍ أكبر ومقاومةٍ أشد، ويساعدهم في ذلك رفض الشعوب العربية للاتفاقيات الموقعة مع حكوماتهم، وقد بدا هذا الأمر جلياً من خلال اتفاق القوى الفلسطينية سلطةً ومعارضةً، حيث كان للاتفاقيات الموقعة دورٌ في لقائهم واجتماعهم، وفي اتفاقهم ووحدتهم، وهو ما قد يؤسس لمرحلةٍ من الصراع جديدة، يكون الإسرائيليون فيها هم الأكثر ضرراً وخسارةً.
يقول الإسرائيليون أن أساس المشكلة في المنطقة كلها هي القضية الفلسطينية، فهي سبب الأزمة وعنوان الصراع، والفلسطينيون هم أصحاب القضية وسكان الأرض، وهم الذين تلتقي عليهم الشعوب العربية وتتفق، وعلى المجتمع الإسرائيلي أن يدرك أن مشكلته هي مع الفلسطينيين لا مع غيرهم، وأن أزمته الحقيقية معهم لا مع المغرب والبحرين، والسودان ودولة الإمارات، كما لن تكون مع غيرهم.
يؤمن هذا الفريق أن أزمة كيانهم هي مع الشعب الفلسطيني كله، في الشتات واللجوء وفي مناطق السلطة، ومع هذا الجيل ومع الأجيال اللاحقة، فهم وحدهم من يملكون مفاتيح الاستقرار في المنطقة، وما لم يرضوا ويقبلوا، بقناعةٍ ودون قهرٍ، فإن السلام لن يستقر والأمن لن يكون، كما لا ينوب عنهم أحدٌ، ولا يتحدث باسمهم نظامٌ ما لم يفوضوه ويوكلوه، وهو ما لم يحدث، وما لا يتوقع أن يكون، وسيورثون أجيالهم يقينهم وحقيقة موقفهم، ولهذا حذاري من شراء الوهم وتصديق السراب، وإلا فإن الحصاد وهمٌ مثله وندامةٌ تشبهه.
مواقفٌ كويتيةٌ تجاه القضيةِ الفلسطينيةِ قوميةٌ رائدةٌ
تأبى دولة الكويت وشعبها العربي المسلم، وأهلها الأباة النشامى الكرام، وهي التي تأذت يوماً من الموقف الرسمي الفلسطيني، وعانت فترةً بسبب قرار القيادة الفلسطينية، التي أخطأت التقدير وضلت الطريق، وفقدت الحكمة وجانبها الصواب، فآذتها وأساءت إلى ماضيها الأصيل، وجحدت فضل الكويت القديم عليها، وعضت اليد التي أكرمتها واحتضنتها، عندما تحالفت ضدها وانقلبت عليها، واصطفت مع عدوها عليها، وصدقته وناصرته، ودعمته وأيدته.
رغم ذلك فإن الكويت تأبى إلا أن تحافظ على صدق مواقفها، ونبل أخلاقها، وطهارة انتسابها، وأصالة انتمائها، وأن تكون وفيةً لمبادئها، ومحافظةً على أخلاقها، وصادقةً مع نفسها، ولا تقبل أن تتخلى يوماً عن فلسطين، أو أن تتأخر عن نصرة الشعب الفلسطيني والوقوف معه، ومساندته ودعمه، وتأييده في حقوقه ومقاومته، لإيمانها أن فلسطين هي قضية الحق ورسالة السماء، وأن نصرتها واجبة والدفاع عنها عبادة.
بقيت دولة الكويت للفلسطينيين رغم الجرح الغائر في تاريخها الحديث الوطن الرؤوم، والحاضنة الأولى للثورة الفلسطينية، والأم الحنون لقادتها التاريخيين، الذين أقاموا وعملوا فيها، وأسسوا على أرضها ثورتهم المعاصرة الأولى، التي عاش فيها وانطلق منها أغلب القادة التاريخيين للثورة الفلسطينية المعاصرة، ومنهم ياسر عرفات وأبو إياد وأبو جهاد، وعشراتٌ آخرون من قادة الثورة الفلسطينية، وفيها نشأت قيادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الأولى، ومنها انتشرت واتسعت، واشتد ساعدها وقويت شوكتها، وغدت حركة مقاومةٍ قويةٍ، باعها طويل، وبأسها شديد، وعطاؤها ممدود وتضحياتها بلا حدود.
في كل يومٍ تظهر دولة الكويت موقفاً جديداً يضاف إلى سجل مواقفها الخالدة، ويندرج تحت سياستها الأصيلة، يعلي مقامها ويرفع درجتها، ويسمو بها وشعبها، فهي لم تكتفِ فقط بمواقف وتصريحات، وكلمات وخطابات رئيس مجلس أمتها النارية، الذي اعتاد على الانتصار لفلسطين وأهلها في كل المحافل الدولية، ودأب على مهاجمة الكيان الصهيوني وتعريته، واعتاد على ادانتها وتوجيه الاتهام لها، والإصرار على أنها دولة احتلالٍ عنصريةٍ قاتلةٍ، ينبغي عزلها ومحاسبتها، ومحاكمتها ومعاقبتها، بسبب جرائمها الفاحشة وسياستها الظالمة ضد الشعب الفلسطيني، حتى غدا رئيس مجلس أمتها مرزوق الغانم رمزاً للأمة المقاومة ونوابها الثوار.
ومن قبل كان أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، وكل أمرائها السابقين كما الجديد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، يؤيدون القضية الفلسطينية ويدعمون أهلها، ولا يتأخرون عن نصرتها وتقديم العون لها، ويصرون على العمل من أجلها والدفاع عنها، والقيام بواجبهم تجاهها في السياسة والإعلام، وفي الأرض والميدان، وفي الوطن والشتات، وفي تقديم الدعم المادي والرعاية الأخوية، فاستحق شيوخها من الشعب الفلسطيني كل حبٍ وتقديرٍ ووفاء، وهو ما أبدوه صادقين عند وفاة أميرها، إذ حزنوا لرحيله، وفتحوا سرادقات العزاء من أجله، وزاروا سفارات بلده في أغلب الدول لتقديم أصدق آيات العزاء بوفاته.
تتوالى مواقف دولة الكويت الرائدة، الناصعة الصادقة، فهي في زمن التردي والانحطاط الرسمي العربي، الذي تتدافع فيه الأنظمة العربية نحو الكيان الصهيوني اعترافاً وتطبيعاً وتعاوناً، وقبولاً وتفضيلاً ورعايةً، فإنها ترفض تقليدهم واتباع خطواتهم، وتصر على مواقفها الأصيلة ومبادئها الثابتة، التي تأبى الاعتراف بالكيان الصهيوني، وترفض الاعتراف به أو التطبيع معه، وتصر على مواقفها وتدافع عن سياساتها، رغم أنها تدين بالكثير إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاونت معها وخدمتها، وساهمت في تحريرها واستعادتها، إلا أنها ترفض أن تدفع لها الثمن من عفتها وكرامتها، وتصر على الحفاظ على شرفها القومي وطهرها الوطني.
تصر دولة الكويت حكومةً وشعباً، وقوىً ونواباً، ونخباً إعلامية وثقافية، على رفض استخدام مفردة "إسرائيل"، والإصرار على تسميتها بالكيان الصهيوني، وتصفها دائماً بالعدو الغاصب المحتل القاتل، وهو ما دعا مؤخراً صحيفة القبس الكويتية، إلى تقديم الاعتذار الصريح والشفاف، إلى شعبها الكويتي وأمتها العربية والإسلامية، وإلى الشعب الفلسطيني الشقيق، عن الخطأ الذي ورد سهواً في صفحاتها، ضمن خبر قائمة الدول الأسرع تطعيماً ضد وباء كورونا، حيث ذكرت من بينها "إسرائيل" بدلاً من "الكيان الصهيوني"، وقد ساءها كثيراً الخطأ الذي وقع فيه محرر الخبر، رغم أنه نقله عن وكالات الأنباء العالمية.
وما زالت الكويت ترفض المشاركة في أي محفلٍ يشارك فيه إسرائيليون، وتقاطع كل نشاطٍ سياسي وإعلامي، وفني وثقافي، ورياضي واقتصادي، يدعون إليه أو يشاركون فيه، وتتنازل عن كل المباريات والأنشطة التي تأتي القرعة بهم معهم، ويصر أهلها على عدم زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى في ظل الاحتلال، ويتمسكون بحقهم في زيارتها والصلاة في مسجدها إذا تحرر وتطهر، وهم في موقفهم القومي الرائع سواء، سنةً وشيعةً، متدينين وعلمانيين، ففلسطين في ثقافتهم إيمانٌ، وفي دينهم عقيدة، وفي حياتهم عهدٌ ووعدٌ.
إنها الكويت واحدةٌ من القلاع العربية الأصيلة، التي بقيت على مواقفها، وحافظت على أصالتها، في زمن الانهيار العربي المشين والانحدار الرسمي المعيب، فألف تحيةٍ لها، وكل الشكر والتقدير منا جميعاً، عرباً ومسلمين وفلسطينيين، لأميرها وشعبها، ونوابها ونخبها، ونسأل الله عز وجل أن يحفظها وأمنها، وأن يبقيها وأميرها، وأن يجعلها سخاءً رخاءً، أرض الجود والكرم، وبلاد الخير والعطاء.
هبةُ اللهِ ربِ الناسِ للرئيسِ محمود عباس
قَلَّ من الحكام من يكرمهم الله عز وجل في أواخر أيام حياتهم بالتوبة، ويشرح صدورهم بالإنابة، وينير قلوبهم بالخير، وييسر لهم سبل المحاسبة والمراقبة، ويمنحهم الفرصة لتغيير مسار حياتهم، وتصويب مسيرتهم وتعديل منهجهم، وإعادة النظر قبل ملاقاة الله عز وجل فيما مضى من عمرهم، ومحاولة استدراك ما مضى والتعويض عما سبق، بالإكثار من صالح الأعمال وخير الأفعال، والإقلاع عن الأخطاء والمعاصي، ومعالجة العيوب والمساوئ، فيختم حياته بالخير، ويزينها بالطاعات، ويجعل خير أعماله في خواتيم أيامه، فَيَجُبَ بها ماضيه، ويصنع بها مستقبله، ويدب بها الغيبة عن نفسه، ويجعل ذكره بين الناس في الدنيا عبقاً، وعند الله عز وجل طاهراً، وينسى الناس بها مرَّ أيامه، وتتجاوز له الأجيال بؤس سياسته، ولا تحفظ عنه إلا نهاية عهده، وحكمة قراره، وصدق خياره، الذي به سلم الأمانة، وأفضى إلى الله خالقه صادقاً مقبلاً، واثقاً راضياً.
لعل الانتخابات الفلسطينية على اختلافها، وهي التي تأخرت كثيراً وتعطلت، وخُلقت لها العقبات وتأجلت، نعمةٌ من الله عز وجل، ومنحةُ منه سبحانه وتعالى، وهبةٌ يمتن بها على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو في هذا السن المتقدم والعمر الطويل، الذي يتطلع بعده إلى ملاقاة الله عز وجل، والمثول بين يديه راجياً عفوه وآملاً غفرانه، خائفاً يترقب من هول الحساب وشدة المساءلة، فقد حمل أمانةً عظيمةً، وتسلم إدارة قضيةٍ مقدسةٍ، وكان مسؤولاً عن شعبٍ مجاهدٍ صبورٍ، قدم وأعطى، وبذل وضحى، وما زال على العهد وفياً، وعلى الدرب ماضياً، يتطلع إلى النصر والعودة والتحرير.
إنها فرصة الرئيس محمود عباس التي نظنها –والعلم عند الله- الأخيرة، أن يقدم على بعض الخطوات التصحيحية، وهنا لا أتحدث عن جريمة أوسلو ووجوب التخلص والتطهر منها، فهذا لعمري أمرٌ لا يقوى عليه الرئيس أبو مازن، ولا يؤمن أصلاً بأنها طريق الضلال وسبيل الهلاك، بل يرى أن بذرة أوسلو كانت بذرة خيرٍ، ولكن رعاتها أفسدوها، فجاء ثمرها مراً وجناها فجاً، ولكنه ما زال يأمل في العودة إلى أصلها، وتصحيح مسارها، ومشاركة المؤمنين بها والموقعين عليها، وما علم أن من وقع عليها واعترف بها لا يؤمن بها، ولا يقبل بتطبيقها، رغم أنها أقل بكثيرٍ مما يحلم به الفلسطينيون.
هل يقدم الرئيس محمود عباس في هذه الأيام المشهودة والمناسبات الموعودة، على خطواتٍ شجاعةٍ وقراراتٍ جريئةٍ، فيجري انتخاباتٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ، تتنافس فيها البرامج السياسية بشرفٍ، وتتقدم فيها القوائم الوطنية بأشخاصها وبرامجها، فلا يتدخل بها تأثيراً أو تزويراً، ولا شطباً أو تثبيتاً، ولا يساهم مع غيره في الضغط على الشعب وترهيبه، وتخويفه وتحذيره، بل يتركه يختار حراً وينتخب سيداً، دون ولايةٍ عليه أو وصايةٍ، وبغير قيدٍ أو شرطٍ، فالشعب الفلسطيني شعبٌ حرٌ عزيزٌ، مثقفٌ واعي، يدرك مصلحته ويعرف منفعته، ويستطيع أن يميز بين الغث والثمين، وبين الفاسد والصالح، والكاذب والصادق.
عليك سيدي الرئيس أن تتم الانتخابات على أكمل وجه، فلا يعتريها نقصٌ ولا تشوبها شائبة، ولا تقم ببعضها وترجئ أخرى، بل امض فيما عزمت عليه، ونفذ القرارات التي أصدرتها والمراسيم التي وقعتها، ولتكن انتخابات تشريعية، يختار فيها المواطنون الفلسطينيون في الوطن، من ينوب عنهم ويمثلهم، ومن يتحدث باسمهم ويراقب عمل حكومتهم، وفيها يمنحون الثقة ويجددون الشرعية لمن يرون أنهم لها أهل ويستحقونها، فقد آن الأوان للتغيير ومحاسبة من فرط وقصر، وأخطأ وأفسد، ومكافأة من ضحى وقدم، وصدق وبذل ومحض النصح ومارس الرقابة، وعلا صوته ناقداً ورافضاً كل انحرافٍ وفسادٍ، وأبى الخضوع للإغراءات أو الامتثال للتهديدات، وبقي مثالاً حياً للرائد الذي لا يكذب أهله.
وأهم من ذلك كله، فإن المطلوب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يترفع عن الانتخابات الرئاسية، ويسحب اسمه من التداول، ويرفض ترشيح نفسه، ويفسح المجال رحباً أمام غيره من المتنافسين الوطنيين الأشراف، الذين يرتضيهم الشعب ويختارهم، ولا يسمح للاحتلال ولا لأي قوةٍ أجنبيةٍ أو عربيةٍ، أن تبسط رأيها وتفرض مرشحها، وتصر عليه مرشحاً وحيداً منقذاً، فقد بلغ من العمر -الذي نسأل الله عز وجل له فيه حسن الخاتمة- ما يجعله يتنحى ويقدم غيره، فالمهمة كبيرة والمسؤولية عظيمة، ويوجد في هذا الشعب العظيم من يقوى على حمل الأمانة، ومواصلة المسيرة، ولكن عليه أن يفسح الطريق لهم، ويتنحى من أجلهم.
سيدي الرئيس لست بحاجةٍ إلى من يذكرك بالحراك الجزائري الأخير، خلال الانتخابات الرئاسية الجزائرية، فقد خرج محبو الرئيس عبد العزيز بو تفليقة إلى الشوارع، وطالبوه بالتنحي وعدم القبول بترشيحه لعهدةٍ رئاسيةٍ خامسةٍ، وهو الرجل الذي عرفتموه وعملتم معه، عندما كان وزيراً لخارجية الجزائر ثم رئيساً لها لأربع دوراتٍ متتالية، وتدركون عظم دوره وكبير مكانته، ومدى تأثيره في الجزائر، ولكنه أدرك أنه ليس رجل كل المراحل، وليس الوحيد بين شعب الجزائر، ولا يستطيع أن يواصل الحكم والرئاسة من المهد إلى اللحد، بل آثر أن يكون لحده وطنياً ووداعه شعبياً، فتنحى لغيره وتنازل لسواه.
سيدي الرئيس إنك بخطواتك هذه مجتمعة، وفي المقدمة عنها ترفعك عن الترشح شخصياً، وانسحابك من معركة المنافسة على رئاسة السلطة، ووقوفك على الحياد التام بين جميع المرشحين، وقيامك برعاية الانتخابات كلها وتنظيمها بنزاهةٍ، وضمان احترام نتائجها والالتزام بمخرجاتها، فإنك تكون قد أحسنت صنعاً، وأنهيت صفحةً من حياتك بشرفٍ يحسب لك، وفضلٍ ينسب إليك، وتكون آخر أيامك أفضلها، وأصدق أعمالك خواتمها، فاربأ بنفسك واسمُ بها، وانجُ بروحك وخلد بالخير ذكرك، واعلم أنه طوبى لمن طال عمره وحَسُنَ خاتمة عمله.
تحية تقديرٍ وإجلالٍ للمدافعين عن مولد كهرباء الركيز
قد لا يكون قد سمع بها من قبل أحدٌ، أو انتبه إليها وانشغل بها، أو قلق عليها ودافع عنها، أو يعنيه أمرها ويهمه شأنها، إذ لا يعرفها أغلب الفلسطينيين في الأرض المحتلة، فضلاً عن العرب الذين لا يعرفون غير أعلام المدن وحواضر فلسطين الكبرى، فهي لا تتميز عن غيرها، ولا تتفوق على سواها، وليس فيها ما يقدمها أو يفضلها، إلا أنها شغلت الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي في الأيام القليلة الماضية، وأصبحت حديث الإعلام والسياسة، إذ كشفت عن حقيقة معدن الشعب الفلسطيني، وأصالة دفاعه عن حقوقه وتمسكه بها، وعدم تفريطها بها أو تنازله عنها تحت ترهيب السلاح وتهديد القتل والتلويح بالقوة.
الركيز ... إنها قريةٌ فلسطينيةٌ صغيرةٌ، تقع إلى الشرق من بلدة يطا جنوبي مدينة الخليل المحتلة، ويسكنها بضعة مئاتٍ من الفلسطينيين الذين يعتمدون في حياتهم على الري والزراعة، وعلى الرغم من أنها صغيرة المساحة وقليلة السكان، إلا أنها لم تسلم قديماً من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، إذ هدمت سلطات الاحتلال بعض بيوتها، وخلعت أشجار زيتونها، وخربت زروعها وحرثت بساتينها، وذلك بهدف طرد سكانها وتفريغها من أهلها، تمهيداً لمصادرتها والسيطرة عليها، وبناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية عليها، ولم يمنعها من تنفيذ سياستها والمضي في اعتداءاتها اعتراضُ دول الاتحاد الأوروبي الرافضة لمصادرة أراضي الفلسطينيين.
فقد قدمت بلجيكا إلى الحكومات الإسرائيلية أكثر من اعتراضٍ وشكوى على ممارساتها المنافية للقوانين بحق سكان بلدة الركيز وأرضها، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى هدم وتدمير عددٍ من المشاريع التي مولتها بلجيكا وأشرفت على بنائها، وأقدمت على تدمير البنى التحتية للقرية، وحرمت أهلها من مياه الشرب النقية، وتسببت في تلويث القرية بسبب تعطيل عمليات الصرف الصحي فيها، مما دفع بالحكومة البلجيكية إلى مطالبة الحكومة الإسرائيلية بالتعويض على السكان، والتعهد بعدم الاعتداء عليهم من جديدٍ، إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي غضت الطرف وأصمت آذانها، واستمرت في تنفيذ سياساتها.
إلا أن حادثة سرقة مولدة الكهرباء الصغيرة في قرية الركيز، التي تعود ملكيتها إلى بعض سكان القرية، قد أثارت الانتباه ولفتت الأنظار إلى أكثر من جانبٍ، فقد أقدم مجموعة من الجنود الإسرائيليين، بسلاحهم الرسمي وزيهم العسكري وسيارتهم العسكرية، على محاولة سرقة مولدة الكهرباء الصغيرة، وانتزاعها من أصحابها وأخذها عنوةً منهم، مستغلين سلطتهم العسكرية وأسلحتهم النارية، وقد وثقت كاميرا الحدث كاملاً، وأظهرت بلا يحتمل التأويل أو الإنكار، قيام جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي بالسرقة والاغتصاب، والاعتداء بالقوة وإطلاق النار من مسافة الصفر على أصحاب المولدة المدنيين العزل من أي سلاحٍ، وإصابة أحدهم إصابةً بالغةٍ، مما سهل عليهم انتزاع المولدة منهم، والهروب من المكان والتواري عن الأنظار بسرعةٍ.
أظهرت هذه الحادثة جانباً من عمليات السطو المسلح التي يقوم بها جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذين اعتادوا على سرقة البيوت التي يداهمونها، والسيارات التي يفتشونها، حيث يأخذون منها ما صَغُرَ حجمه وغلا ثمنه، ورغم الشكاوى العديدة التي يقدمها الفلسطينيون ضد ممارسات جيش الاحتلال، إلا أن قيادتهم تنفي التهم الموجهة إليهم، وتبريء جنودها من تهم السرقة والسطو والغدر والاحتيال.
لكن الجانب الأهم الذي وثقته الكاميرا، وسجلته عدسة المصور الذي سرب الصور ونشرها، هو ما أظهره الفلسطينيون من شجاعةٍ واستبسالٍ في الدفاع عن مولدتهم الكهربائية الصغيرة البسيطة، والتمسك بها، ومحاولاتهم العنيدة لانتزاعها من بين أيدي جنود الاحتلال، ومنعهم من أخذها بالقوة منهم، رغم تهديد الجنود لهم بالقتل، وضربهم بالبنادق وركلهم بالأقدام، إلا أنهم قاوموا بعنفٍ، ودافعوا عن حقهم بشرفٍ، بلا خوفٍ ولا جبن، ودون حسابٍ لمعايير القوة وعواقب التصدي لها، وهو ما أرعب الجنود وأربكهم، إذ كيف يتصدى هؤلاء الفتية العزل للبندقة المشرعة، ولنوايا القتل المُبَيَّتَةِ، غير آبهين بأذىً محققٍ أو قتلٍ مؤكدٍ.
لعل حادثة قرية الركيز الفلسطينية الصغيرة، وما قام به شبانها وفتيانها وكل أهلها، يصور حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني الغاصب، ويكشف عن جوهر الشعب الفلسطيني المقاوم، ويظهر حقيقة تمسكه بأرضه ودفاعه عن وطنه، واستعداده للتضحية بحياته في سبيل قضيته.
فالفلسطينيون لا يتركون أرضهم، ولا يتخلون عن حقوقهم، ولا يتنازلون لعدوهم عن وطنهم، ولا يخافون بندقيته ولا يخشون سلاحه، ولا يجبنون عن مواجهته والتصدي له، وما أمر المولدة الكهربائية إلا كأمر الوطن لو كان العدو يعلم، إلا أنه غبيٌ لا يفهم، وجاهلٌ لا يعي، ومتغطرسٌ لا يعقل، فما رآه من مقاومةٍ أبداها الشبان، وعنادٍ أظهره الفتية، واستبسالٍ في الدفاع، ليس إلا صورةً مصغرةً عن جوهر شعبنا وأصالته، وحقيقة طبيعته وصدق انتمائه، فهنيئاً لقرية الركيز أهلها، وطوبى لها شبانها، ومرحى بها قريةً في وطننا، وبلدةً في بلادنا، وبشرى لشعبنا أننا بمثلها ننتصر، وبشبانها الثائرين وأهلها المقاومين نحرر الأرض ونستعيد الوطن ونحقق الأمل.