يربط الكاتب اللبناني المرموق هنا بين مجموعة من الظواهر التي صاحبت الأيام الأخيرة لترامب، ويكشف عن القاسم المشترك بين الفضيحة الأخلاقية والسياسية التي عبرت عن نفسها في اقتحام مبنى الكونجرس، وبين أيديولوجية الاستيطان الصهيوني العنصري في فلسطين، ولهذا فقد كان علمها حاضرا في عملية الاقتحام.

احتفال جنائزي لترامب

إلياس خوري

ما العلاقة بين خليل حرّانين والسيدة ماري ميلر؟ وكيف استطاع دونالد ترامب خلال غزوة أنصاره لتلة الكابيتول في واشنطن يوم 6 كانون الثاني-يناير الجاري أن يكشف العلاقة بين الاثنين؟ ما جرى في الولايات المتحدة أكثر أهمية من أن يكون مجرد مسلسل تلفزيوني. رأينا باتمان، ورأينا الرجل ذا القرنين، وشاهدنا كيف يتصرف الفاشيون، وسط مشهد يمزج مأساة الضحايا الخمسة الذين ماتوا بملهاة الاحتفال. لكن المسألة كانت أكثر عمقاً من مجرد عرض حي تسلّى به سكان الكرة الأرضية، وألهاهم عن الانشغال بوباء كوفيد 19 القاتل، ولو ليومين.

المسألة لها اسم الفضيحة السياسة والأخلاقية التي أسدلت الستارة مؤقتاً على مشهد عصابي ذي لكنة فاشية صنعته الترامبية الآفلة.

من الواضح أن أمريكا كانت أمام مشهد انقلابي بلا انقلاب، مشهد للغرائز المتفلتة التي أطلقتها لغة دونالد ترامب. فنهاية ترامب تشبه سنوات حكمه في كونها لحظات هوجاء، لا تملك أي قوام، سوى كونها مجموعة من ردات الفعل على انهيار مكانة الرجل الأبيض. لم يكن ما جرى يوم 6 كانون الثاني-يناير 2021 انقلاباً، بل كان تعبيراً عن العجز عن القيام بانقلاب. فالحشد النيو – نازي، كان مثيراً، كأن الذين استطاعوا أو سمح لهم باحتلال مبنى الكونغرس كانوا مجرد كومبارس في أحد مشاهد تلفزيون الواقع. وكانت المشهدية مقززة ومثيرة للاشمئزاز.

بدأنا بالسؤال عن علاقة راعٍ فلسطيني يملك حقلاً في وادي الرحيم في خراج بلدة يطا، الذي يقع قرب قرية خربة سوسيا الفلسطينية في الضفة الغربية، وبين ماري ميلر عضو الكونغرس الأمريكي عن إلينوي؟ والحقيقة أن الراعي لم يسمع باسم النائبة الأمريكية، كما أن السيدة ميلر التي خطبت في أحد التجمعات التمهيدية التي قادت إلى اجتياح الكونغرس، ليست في وارد سماع حكاية الراعي الفلسطيني الكهل، لأنها كانت مشغوفة بالتمتع بمشهد العلم الإسرائيلي الذي رفعه الرعاع، وهم يحملون شعارات التمجيد بأوشفيتز. السيدة ميلر قالت أمام الحشد إن «هتلر كان على حق حين قال إن من يمتلك الشباب يمتلك المستقبل» فصفق المتظاهرون لهتلر.

اجتمعت معاداة السامية بالولاء لإسرائيل في مشهد واضح المعالم، وفي مفارقة عجيبة حاولت الحركة الصهيونية إخفاءها طويلاً، فأتى دونالد ترامب ليكشفها ببساطة ويعلن أن العنصرية واحدة لا تتجزأ. فالعنصرية البيضاء ضد السود والهيسبانيين والمسلمين والعرب والفلسطينيين لا يمكن إلا أن تكون أيضاً معادية للسامية. السيدة ميلر معجبة بهتلر وبإسرائيل، وزعيمها لم يكتف بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، بل ورّط تابعيه من مستبدي العرب في صفقة هدفها الوحيد هو شطب فلسطين عن خريطة الوعي في العالم وفي بلاد العرب.

اجتمع النقيضان، إسرائيل وهتلر، في إقامة احتفال جنائزي للترامبية، وكان احتفالاً يليق بالرجل، لأنه يدغدغ مخيلته المحشوة بشهوتين: شهوة الربح والتسلّط، وشهوة القيامة الإنجيلية. أما الراعي الفلسطيني وأولاده الذين يملكون أرضاً في خراج بلدة يطا ويزرعونها قمحاً وشعيراً، فلم يفهم سبب هياج مستوطني سوسيا ومعهم شبيبة التلال وإصرارهم على التحرش به وبأولاده، مدعين ملكيتهم لأرضه.
جدعون ليفي وأليكس لوفاك كتبا تقريراً مفصلاً عن معاناة خليل حرّانين مع المستوطنين الذين يتمخترون في أرضه، يحملون البنادق والمسدسات والعصي ويعتدون عليه وعلى أولاده بالضرب والتهديد. (هآرتس 8-1-2021). فالرجل يعيش في ظل نكبته المستمرة بهؤلاء العنصريين. تماماً مثل هارون أبو عرام في خربة الركيز الذي أطلق الجنود الإسرائيليون النار على عنقه فأصابوه بالشلل، لأنه قاوم محاولتهم سرقة مولد الكهرباء الذي يملكه. هذه الهمجية اليومية تشير إلى فائض عنصري يستند إلى الأسطورة الدينية. هذا هو جديد الترامبية والإنجيلية الصهيونية. استلال النصوص العنصرية من الكتب الدينية، من أجل استعادة عالم آفل.

هذا المزج هو أحد إنجازات الصهيونية في قمة انحطاطها الأخلاقي، صحيح أن التصحيحيين بزعامة جابوتنسكي لم يخفوا يوماً تأثرهم بالفاشية والنازية، وهو يستعاد اليوم مع أحفادهم في الليكود والتيارات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، غير أن الحركة العمالية التي أسست إسرائيل نجحت في تغليف همجيتها والتطهير العرقي الذي مارسته بغلاف الضحية وبلغة التنعّج التي أخفت طموحاتها الاستعمارية عن الرأي العام الغربي الذي كان غارقاً في عقدة الذنب التي صنعتها الهتلرية.
هذا الغلاف يتمزّق اليوم أمام عيوننا، يكفي أن نستمع إلى القس المعمداني رفائيل وورنوك الذي فاز مؤخراً بعضوية مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا وهو يقيم توازياً بين حياة السود وحياة الفلسطينيين، ونشهد معه كيف انكشفت الخدعة.
الاحتفال الجنائزي الوحشي الذي أقامه العنصريون بشعاراتهم وشعائرهم في قاعات الكونغرس كان إعلاناً صارخاً بأن العنصرية واحدة، هناك في أمريكا وهنا في فلسطين والعالم العربي، وأن مقاومة الاحتلال هي في جوهرها مقاومة للوباء العنصري الذي يهدد القيم الإنسانية بالزوال.
تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست» لمعاداة السامية، الذي أقرته برلمانات أوروبية، يبدو اليوم رثاً وخارج الموضوع. ففي هذا التعريف يصبح نقد إسرائيل معادياً للسامية، وهذا يعني ضمنياً أن سياسات إسرائيل العنصرية والتوسعية يجب أن لا تُنتقد، لأن الدولة التي أقرت «قانون القومية» وهو قانون تمييزي عنصري، هي فوق النقد.
إن ما يربط اليمين الإسرائيلي بالفاشية هو هذا الشعور بالتفوق التمييزي، الذي ليست معاداة السامية سوى أحد وجوهه.
هل شاهد خليل حرّانين الاحتفال الجنائزي الترامبي؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه ويعرفه خليل ويعيشه الفلاحون الفلسطينيون في حياتهم اليومية هو التجسيد العملي للعنصرية التي يقاومونها بأجسادهم وإصرارهم على البقاء.