يرى الدكتور حسن نافعة إن الثورات لا تحقق كل أهدافها بضربة واحدة، داعيا إلى التفاؤل بالمستقبل في حوار معه بمناسبة الذكرى العاشرة لثورة يناير. مشيرا إلى أن التغيير قادم لا محالة طال الزمن أم قصر. ويشخّص الداء، ويحاول مخلصا وضع الدواء، ويقرأ معنا دروس الثورة المصرية، مؤمنا بأن مبادئها ستتحقق يوما وإن طال المدى.
*ـ بعد 10 سنوات من الثورة المصرية «المغدورة» لا يزال الانقسام هو سيد الموقف .. كيف ترى الأمر؟
**ـ الانقسام الحادث بين شركاء الثورة له أسباب كثيرة، بعضها كامن تحت السطح وعميق، وبعضها ظاهر وواضح. فهذا الانقسام ليس أمرا طارئا أو مستجدا تسببت فيه أحداث 30 يونيو أو 3 يوليو من عام 2013، كما تدعي بعض فصائل التيار الإسلامي، ولكنه انقسام له جذور قديمة تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، عمقتها حالة الفراغ السياسي التي شهدتها مصر منذ ثورة يوليو 1952 التي ألغت الحياة السياسية وعطلت نمو المجتمع المدني. ولا شك أن تأثير هذا الفراغ السياسي، وما أدى إليه من شلل للأحزاب وتعطيل لدور المجتمع المدني، كان أكبر وأشد على التيارات الليبرالية التي لا تستطيع أن تزدهر إلا في أجواء الحرية.
أما التيارات العقائدية، خاصة الإسلامية منها، فبوسعها أن تنشط وأن يكون تأثيرها أكبر تحت الأرض وفي الظلام. حالة الفراغ السياسي هذه لم تنقشع نسبيا أو تبدأ في التقلص والانكماش إلا بعد حرب 73 وما تلاها من رغبة السادات في الانفتاح على الغرب. وقتها سمح بنوع من التعددية المقيدة أتاحت الفرصة لظهور حركة حزبية ونشاط سياسي، لكن في حدود ضيقة لم تكن كافية لتمكين كل التيارات والفكرية، خاصة التيارات الليبرالية واليسارية، من بناء وترسيخ قواعدها الشعبية وأطرها التنظيمية.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك ازداد هامش الحريات الممنوح للقوى السياسية المتواجدة على الساحة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، ثم ظهرت حركات اجتماعية وسياسية جديدة معارضة ومتمردة على الأحزاب الرسمية القائمة التي أصابها التكلس، منها «حركة كفاية» و«حركة 6 إبريل»، و«الحملة ضد التوريث» و«الجمعية الوطنية للتغيير» وغيرها. وهذه الحركات هي التي لعبت الدور الأهم في التمهيد لثورة يناير.
ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن بعيدة عن هذه الحركات وسعت للتواصل والتنسيق معها، من منطلق العداء المشترك لنظام مبارك، لكن لم تجر بين التيارين العلماني والإسلامي أي مناقشات متعمقة حول مستقبل الحياة السياسية وشكل النظام السياسي الذي يتعين تأسيسه إذا نجحت التيارات المعارضة في الإطاحة بنظام مبارك. ويلاحظ هنا أن جيل الشباب الذي ينتمي للشريحة العليا من الطبقة الوسطى الأكثر انفتاحا على الغرب، والأفضل إتقانا لوسائل التواصل الاجتماعي، وغير المنخرط في أحزاب أو جماعات سياسية رسمية، هو الذي لعب الدور الأكبر والأهم في تفجير ثورة 25 يناير.
صحيح أن انخراط الأحزاب والحركات السياسية الرسمية في هذه الثورة بعد اندلاعها منحها زخما كبيرا وساهم في تمكينها من إسقاط مبارك، لكن شركاء الثورة الذين توحدوا حول إسقاط النظام القائم، لم يكن لديهم أي تصور مشترك حول الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها النظام القادم، ولذا راح كل فريق يحاول جر الثورة إلى خندقه الفكري والسياسي الخاص. وفي تقديري أن المرحلة الانتقالية التي أعقبت الثورة كانت كاشفة بشكل أكبر عن عمق الخلافات القائمة بين التيارين. وللأسف فإن هذه الخلافات راحت تزداد عمقا، وتتحول تدريجيا إلى شرخ عميق ما لبث أن تحول بدوره إلى مرض عضال، خاصة بعد اندلاع أحداث 30 يونيو و3 يوليو عام 2013.
فقد عاد المجال السياسي للانغلاق تماما، خاصة بعد 2014، وتم الزج بكل رموز الثورة في السجون، وبالتالي لم تعد الفرصة متاحة لأي حوار حقيقي بين الفرقاء يسمح بمراجعة ما حدث إبان ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث، ولم تجر محاولة جادة لا لتشخيص الداء أو لوصف الدواء، وما زال الجميع متخندقا كل في مكانه يتغذى على تبادل الاتهامات.
*ـ وهل من سبيل لرأب الصدع؟
**ـ لا سبيل لرأب الصدع العميق الذي حدث إلا بالحوار، وإجراء الحوار يحتاج إلى مناخ سياسي تتوافر فيه خصائص معينة، في مقدمتها وجود حد أدنى من الحريات، خاصة حرية الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية ممارسة النشاط السياسي، هذا المناخ أصبح غائبا تماما في الوقت الراهن.
وحين يصبح مناخ الحرية متاحا، ستطرح قضية الحوار نفسها تلقائيا على الجميع، وحينها ستبدأ العجلة في الدوران. لكن ذلك سيستغرق وقتا، وسيحتاج إلى جهد كبير لم يثمر بعد رغم محاولات بذلت هنا وهناك.
ـ* لا تزال إشكالية العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين - التي عانت منها مصر- تمثل عائقا كبيرا، وبات العجز واضحا لإيجاد أرضية مشتركة، ما الأسباب؟ وهل غياب الزعامات الوطنية أحد هذه الأسباب؟
**ـ لم تعد الإشكالية القائمة بين العلمانيين والإسلاميين هي الوحيدة التي تعرقل إقامة حياة سياسية سليمة في مصر، وإنما أضيفت إليها إشكالية أخرى لا تقل أهمية وهي إشكالية العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقوى المجتمع المدني.
فيما يتعلق بالإشكالية الأولى فإن عدم التوصل إلى حلول ملائمة لها حتى الآن لا يعود إلى غياب الزعامات الوطنية، بقدر ما يعود إلى الانغلاق الفكري على الذات، وغياب مناخ الحرية الذي يسمح بالحوار بين شركاء الوطن الواحد.
فالعلماني في حاجة إلى أن يدرك أن تيار الإسلام السياسي وُجد ليبقى، وأنه مكون مجتمعي أصيل لا يجوز تجاهله أو العمل على استئصاله، بدعوى أنه تيار رجعي أو غير قابل للإصلاح، واستئصاله أمر غير ممكن بل مستحيل في كل الأحوال.
والبحث عن أرضية مشتركة مع هذا التيار، في سياق كهذا، يجب أن يكون الخطوة الأولى على طريق الألف ميل. المطلوب إذن هو تحديد القواسم أو الأرضية المشتركة والاتفاق على جدول للأولويات، وهذا أمر ممكن.
أما الإسلامي فهو في حاجة أيضا إلى أن يدرك أن الدين لله وأن الوطن للجميع، وبالتالي فليس من حقه أن يمسك بصكوك الغفران يمنحها من يشاء ويمنعها عمن يشاء. من حقه أن يكون له اجتهاده حول المشروع السياسي أو الحضاري الذي يريد أن يقيمه وأن يقدمه للناس، لكن ليس من حقه أن يطرح هذا المشروع باعتباره دينا واجب الاتباع، أو يتعين فرضه على المجتمع بقوة السلاح، بدعوى أن الجهاد في سبيل الله فرض على كل مسلم قادر أن يؤديه. فالدعوة إلى الله شيء، ويجب أن تكون بالحسنى، وفق مبدأ لكم دينكم ولي دين، أما الدعوة إلى بناء الأوطان فشيء آخر له قواعد تختلف عن الحلال والحرام ويجب أن تطبق على الجميع.
والواقع أن مشكلة العلماني مع الإسلامي ليست حول الإسلام وقيمه، وإنما حول التنظيم السياسي الذي يرى أنه يعمل من خلاله. فالشيخ حسن البنا لم يكن يرغب في إنشاء حزب سياسي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما كان يريد إنشاء مجتمع بديل يعتقد أنه هو مجتمع المؤمنين، في مقابل مجتمع آخر قائم هو مجتمع غير المؤمنين، وهذه نظرة خطيرة جدا تؤدي إلى انشطار المجتمعات، خصوصا تلك التي تقطنها أقليات غير إسلامية. مطلوب إذن من الإسلامي أن يعمل من خلال أحزاب سياسية تؤمن بفكرة الوطن والمواطنة وحقوق الإنسان والشعوب كأساس للأرضية المشتركة بينه وبين العلماني.
وفيما يتعلق بالإشكالية الثانية فمن الواضح أن العلاقة القائمة حاليا بين المؤسسة العسكرية وقوى المجتمع المدني ليست علاقة صحية في إطارها القائم حاليا. ومن ثم يجب أن تتغير وأن يعاد تصحيحها ووضعها في سياقها الطبيعي. فمهمة الجيوش ليست إدارة الأوطان والمجتمعات، وإنما حمايتها من الأخطار والتهديدات الخارجية التي قد تتعرض لها. صحيح أن من حق المؤسسة العسكرية أن يكون لها دور في صياغة سياسة الدولة والمجتمع، لكن هذا الدور يجب أن يرسم من خلال المشاركة العامة لكل مؤسسات الدولة، شأنها في ذلك شأن بقية المؤسسات، وباعتبارها جزءا من السلطة التنفيذية، وليس من خلال الهيمنة على الدولة نفسها، أو باعتبارها مؤسسة فوق المؤسسات. ولا شك أن صيغة العلاقة القائمة حاليا بين المؤسسة العسكرية ومؤسسات المجتمع المدني، القائمة على الهيمنة، تثير إشكالية أكثر تعقيدا؛ لأن حلها لن يتأتى إلا من داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وحين تتوافر لهذه المؤسسة قيادات تدرك كنه العلاقة الصحيحة بينها وبين قوى المجتمع المدني وتعمل على ترسيخها لصالح المؤسسة العسكرية نفسها، ولصالح المجتمع ككل في الوقت نفسه.
*ـ بعيدا عن نبش الماضي يرى البعض أن عزل مرسي كان نصيحة مسمومة قُدّمت للجيش تتحمل وزره جبهة الإنقاذ؟
** ليس لدي أي معلومات موثقة حول هذا الموضوع. فأنا لم أكن عضوا في جبهة الإنقاذ، ولم أشارك في أي من فعالياتها، وبالتالي لا أعرف إن كانت قدمت للجيش هذه النصيحة «المسمومة» أم لا، وبافتراض أنها قدمتها، هل العيب هنا يقع على عاتق الجهة التي قدمت النصيحة، أم على الجهة التي عملت بها دون إدراك لطبيعتها «المسمومة». وأنت تعرف أنني لم أشترك في أي نشاط يقوده الدكتور البرادعي منذ خلافي معه في نهاية عام 2010 وهو الخلاف الذي أدى إلى استقالتي من منصب المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير، قبل أسابيع قليلة من اندلاع الثورة.
وربما تعرف أيضا أنني كنت المبادر بالاتصال بالدكتور البرادعي، وصاحب فكرة الحوار معه، ونظمت اللقاء الذي جمعه بقيادات العمل الوطني، وقدتُ بنفسي الحوار الذي دار في منزله في فبراير 2010، وأسفر عن تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير والتي حلت محل الحملة الوطنية ضد التوريث، التي كنت أشغل منصب منسقها العام أيضا.
لكني أستبعد شخصيا، على مستوى التحليل، أن تكون جبهة الإنقاذ قد تقدمت بهذه النصيحة. فالعلاقة بين جماعة الإخوان والمؤسسة العسكرية كانت على ما يرام خلال الشهور التي أعقبت ثورة يناير، ولم تتدهور إلا بعد أن خالفت الجماعة ما سبق أن التزمت به، وقررت خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح من عندها. وقد راحت العلاقة تزداد سوءا بين الطرفين منذ ذلك الحين، خاصة بعد فوز الدكتور مرسي في هذه الانتخابات. وحين وصل الخلاف إلى حد إقدام الرئيس المنتخب على إقالة كل من المشير طنطاوي، وزير الدفاع، والفريق سامي عنان رئيس الأركان، ووقع اختياره على اللواء عبد الفتاح السيسي ليكون وزيرا للدفاع، بعد ترقيته إلى رتبة الفريق، متخطيا بذلك العديد ممن هم أقدم منه؛ ربما لأن الدكتور مرسي اعتقد أن الفريق السيسي هو الأكثر تدينا، وبالتالي الأكثر تعاطفا مع الجماعة!! ولا أظن أن الفريق السيسي كان في حاجة إلى نصيحة من أحد، بما في ذلك جبهة الإنقاذ، ليقوم بما قام به بعد ذلك!! فما قام به كان عن اقتناع تام من جانبه، بل لا أستبعد أن يكون قد خطط له مسبقا قبل أن يقدم عليه.
ـ* بمَ تبرر الاحتفاء النخبوي اللافت بذكرى ثورة يناير في الوقت الذي كفر بها غالبية الشعب؟
**ـ لا أظن أن غالبية الشعب كفرت بثورة يناير. ربما يكون حكمك هذا متأثرا بالنغمة السائدة في أجهزة الإعلام، وهي أجهزة لا أظن أنها تعبر عن الشعب
*ـ نالتك سهام البعض بعد مقالك الأخير الذي واصلت فيه الهجوم على الإخوان وحمّلتهم مسؤولية وأد الثورة؟ في الوقت الذي هاجمت التيار المدني برفق؟
**ـ لم أتابع تفاصيل هذا الهجوم، لكني لا أستبعده على كل حال. لكن الحقيقة أنني لم أهاجم الإخوان بالذات في هذا المقالK ولم أحملهم وحدهم مسؤولية وأد الثورة، وما قلته في هذا المقال عن الإخوان وعن غيرهم هو ما قلته إبان الثورة وبعدها. ولي مقالات كثيرة منشورة تُحمّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المسؤولية عن سوء إدارة المرحلة الانتقالية بالتعاون مع الإخوان. والواقع أن ما جرى للثورة مسؤولية تقع على عاتق الجميع، وليس على فصيل بعينه، فالكل ارتكب أخطاء، لكن هناك فرق كبير بين الأخطاء التي ترتكبها نخب لم تشارك رسميا في تحمل مسؤولية القيادة في أي مرحلة ونخب تولت هذه المسؤولية ولو لفترات قصيرة.
فقد حصل التيار الإسلامي بقيادة جماعة الإخوان على أغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية وسيطر على البرلمان الذي استمر لمدة ستة أشهر سيطرة كاملة، غير أن أداءه خلال تلك الفترة لم يكن مرضيا على الإطلاق؛ ولم يعبر عن طموحات الثورة. صحيح أنه تم حله بقرار تعسفي، بعد دخول الخلاف بين الجماعة والمجلس العسكري طورا مستعصيا. وصحيح أيضا أن الدكتور مرسي، يرحمه الله، لم يتمكن من قيادة البلاد إلا عاما واحدا، لكنه ارتكب خلالها أخطاء كبيرة جدا. وما أقوله اليوم عن أخطاء الإخوان والدكتور مرسي هو نفس ما كنت أقوله أيام حكم الإخوان. فبنفس الطريقة واستنادا إلى نفس المعايير، انتقدت الطريقة التي أدار بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة. ويجب ألا ننسى حقيقة أن الإخوان وصلوا إلى السلطة في المرحلة الانتقالية، التي كان يقودها المجلس الأعلى للقوات المسلحة!
*ـ بعض شهادات حمدين صباحي وأيمن نور والبرادعي أكدت دعوة مرسي لهم لمشاركته في الحكم؟
** ليس لدي معلومات موثقة عن هذه الشهادات، فكل مسؤول أمام الله وأمام المجتمع وأمام نفسه سواء، عن شهادته أو عن حقيقة الأسباب التي دفعته لعدم التعاون مع الدكتور مرسي، إن كان قد طلب ذلك بالفعل. وأنا شخصيا لا أصدق كل ما يقال وكنت شاهدا بنفسي على زيف الكثير منه. وعلى أي حال فالمسألة ليست دعوة أشخاص بعينهم لمشاركة رئيس منتخب في الحكم، خصوصا وأنه ما كان بوسع الرئيس المنتخب أن يصل إلى السلطة إلا بفضل ثورة فجرها شباب وطني غير حزبي.
لذا فقد كان المطلوب من اي حاكم يدعي أنه يمثل الثورة، وجاء وفقا لإرادتها، أن يعمل على توحيد صفوف شركاء الثورة، وأن يكون قريبا من جيل الشباب الذي فجّرها، وأن يستند إلى قوى الثورة لتصفية بقايا النظام واستئصال جذوره؛ قبل أن يشرع في وضع مشروعه السياسي الخاص، أو المشروع السياسي لجماعته، موضع التنفيذ. وهذا لم يحدث.
فالواقع أن الجماعة فضلت التحالف مع القوى السلفية على التحالف مع شركاء الثورة، وهذه القوى هي نفسها التي ورطت الجماعة في ارتكاب العديد من الأخطاء التي أسقطت حكمها في نهاية المطاف.
ـ* ما هي الآفة التي تتمنى أن تتخلص منها المعارضة المصرية؟
**ـ ليس لدينا معارضة حقيقية منظمة في مصر، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، التي تلقت ضربة كبيرة وتوجد كوادرها إما داخل السجون أو في المنافي. قوى المعارضة الأخرى هي أقرب ما تكون إلى صالونات فكرية أو تجمعات عائلية أو مصلحية منها إلى الأحزاب السياسية وفق المعايير الموضوعية لهذا المفهوم.
ففي مصر الآن رسميا حوالي مائة حزب، لكن عدد قليل جدا منها استطاع أن يكون له تمثيل في البرلمان. وباستثناء عدد قليل جدا من أعضاء البرلمان الحالي، ممن يمكن اعتبارهم معارضة حقيقية، ولهم ثقل شعبي، يلاحظ أن أغلب الأعضاء جاءوا عبر اختيارات أمنية أو بالتعيين. وأظن أنه لن تكون هناك معارضة حقيقية إلا إذا سادت أجواء الحرية، وجرت انتخابات حرة نزيهة على كل المستويات. فالمعارضة تتشكل عبر معارك انتخابية، وليس عبر الصالونات الفكرية أو اللقاءات السياسية المغلقة. وعموما فإن آفة الشخصنة وتغليب المصالح الفئوية على المصالح الوطنية هي أكثر ما تعاني منه المعارضة في مصر الآن، بافتراض وجودها.
ـ * وهل صحيح أن عينها على الحكم و ليس على الشعب؟
**ـ عينها فعلا على الحكم وليس على الشعب، لأنها تتكون في الغالب الأعم من أشخاص طموحين، وليس من أحزاب لديها رؤى وخطط وبرامج سياسية، تستهدف وضعها موضع التطبيق حين تصل إلى الحكم. وعندما يصل أشخاص طموحون إلى الحكم يصبح اهتمامهم مركزا على السلطة، أو على الثروة، أو على كليهما، وليس على اي شيء آخر. أما الأحزاب والقوى السياسية الحقيقية فتتطور وفق منطق آخر ومعايير أخرى.
ـ* عاصرت ثورة يناير وشاركت فيها، تُرى ما الشعار الذي كان أكثر وقعا على نفسك؟
**ـ ثورة يناير رفعت شعارات «الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية» وصرخ الثوار في كل الميادين: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وكلها شعارات غير قابلة للتجزئة، وقد عشت معها جميعا بكل جوارحي ونبض عروقي.
وحين أتذكر الأيام الثمانية عشر للثورة، وأستحضر صورة الشعب وهو يقف موحدا بكل فئاته وتياراته حول هذه الشعارات: المحجبة إلى جوار السافرة، والغني إلى جوار الفقير الكادح، والعلماني إلى جانب الإسلامي .. الخ، أشعر بالفخر، وأستعيد إيماني بالقدرات غير المحدودة لهذا الشعب العظيم الذي يستحق أفضل مما هو فيه. والواقع أنني لم أكن أتصور أبدا أو أحلم أن أعيش بنفسي هذا المشهد الرائع والمهيب في ميدان التحرير. لذلك أشعر بالرضا التام عن نفسي، رغم كل ما حدث من انتكاسات لاحقة، ورغم دخولي المعتقل بعد ذلك. فالثورات لا تحقق كل أهدافها بضربة واحدة، وعلينا أن نتفاءل بالمستقبل رغم كل الصعوبات.
وعموما فعلى المستوى الشخصي لا أستطيع أن أنسى أبدا مشهد بعض الشباب وهم يحملون في ميدان التحرير لافتات كتبت عليها بعض عناوين مقالاتي المنشورة حينئذ في المصري اليوم في زاوية «وجهة نظر»، أو مشهدهم وهم يحملونني على الأعناق ويتجهون بي إلى إحدى المنصات المقامة لألقي كلمة في الحشود المتجمعة في الميدان. لقد عشت آنذاك أحلى أيام حياتي.
*ـ في ظل مناخ استقطابي حاد، ما المهمة المطلوبة الآن، ومن تعوّل عليه؟ وهل التغيير في مصر بات مستحيلا؟
**ـ حالات الاستقطاب هي بطبيعتها حالات مؤقتة، أحيانا قد تطول بعض الشيء لأسباب ذاتية وموضوعية، لكنها حتما ستنتهي، فلا يستطيع مجتمع أن يعيش لفترات طويلة بنصف طاقته أو بنصف قوته أو بنصف موارده .. لذا أظن أن التغيير قادم لا محالة طال الزمن أم قصر.
وعلى أي حال فالثورات لا تندلع في ظل حالات الاستقطاب الحاد، وإنما في فترات التخمر التي تستشعر فيها الفئات الاجتماعية المختلفة أنها تواجه عدوا واحدا، يحاول فرض إرادته بقوة الفساد والاستبداد. والشباب هم دائما عماد كل تغيير قادم. لكن على الجيل الراهن، والأجيال القادمة أن تدرس ما حدث لكل الثورات السابقة، وليس لثورة يناير وحدها، ليستخلص الدروس التي تعينه على صنع مستقبل أفضل.