(1)
فرضت طبيعتي الجسدية علاقة خاصة مع المحيط الاجتماعي الذي عشت فيه، جسدي هو السور العالي، الذي اختبأت خلفه، ممتنة له في كل مراحل حياتي، رغم الصدمات التي تلقاها نيابة عن عقلي وقلبي. اعتقد كثيرون منذ الطفولة أنني أمارس نوعًا من الرياضات العنيفة، فكانت كل كلمة معي بحساب، وكل خطوة يمكن الرد عليها بالمثل. صنعت المسافة المطلوبة لحمايتي وحماية من يرافقني. كان الأمر مريحًا لصديقاتي البنات، ومثارًا للحقد والتنمر أحيانًا من الشباب المتطفلين. حاولتُ بجدية تعلّم الرياضة العنيفة لتأكيد الانطباع، ولاحتياجي الشديد إليها، بينما تشب في جسدي الفتاة، تمتلك أعضاء أنثوية بارزة، تحتاج المزيد من وسائل الحماية لهذا الجسد المستفز، الذي يربك البعض في تحديد هويته الجندرية.
أحيانًا تكون صورتك عن نفسك هي النقيض لصورة الآخرين عنك. يظل الصراع بين الصورتين متوهجًا ممتدًا. حاولتُ تعلم الرياضة العنيفة وفشلت، اكتشفت في مراهقتي أنني لا أحبها، أغلق عيني في كل مشاهد العنف في الأفلام، لم أشارك قطاعا واسعا حُب مباريات المصارعة الحرة، كل شيء يدفع جسدي للرياضة العنيفة، بينما يكتشف عقلي سحر القراءة ونشوة الكتابة والمسرح والسينما. جاءت الأقدار متعاكسة. انتصرتُ لقلبي، ومارست القراءة والكتابة منذ المرحلة الثانوية، وصدَّرت رسالة جسدي للجميع، نعم أمارس رياضة عنيفة واحذروا. النتيجة الفعلية لأن يتحرك عقلك في اتجاه، وجسدك في اتجاه خسارة فادحة، كانت الاختيارات محدودة، وفي مطلع العشرين ومع اكتشاف العالم، ظل الأضمن لسلامتي الإغراق في الصورة النمطية لهذا الجسد ودلالاته، واستثمار هذا في مهنة لديها صورة نمطية أيضًا مثل الصحافة، زاد الكرب.
في لحظة ما اكتشفتُ طبيعة الحصار الذي فرضته عليّ الحياة هنا، وفرضته أنا بالتبعية على جسدي، بأن يظل تابعًا لشخصية لم أخترها بقدر ما حوصرت فيها. هذه الشخصية التي حاصرها الأهل والمعارف بمديح ثابت لا يتزعزع، «بنت بميت رجل»، يحب مجتمعنا تشبيه البنات بالرجال احتفاءً بهن، كبرت وأنا أبحث عن الذكر المثال الذي يشبهون به كل فتاة مختلفة ولم أدركه! كان احتفاء بالقوة التي يهبها المجتمع إلى ذكوره بشكل استحقاقي، لكن مع الفتيات ظلت مجرد قيمة مضافة، ويا حبذا لو تخلت عنها كل سيدة لذكرها المنشود. مع الوقت، تطور وعيي وطال لساني، قررت صد هجمة المائة رجل في كل مرة تقال، لكن الحصار استمر بطرق مختلفة.
صوتي معركة دائمة. في المراهقة، جرت تحولات متوقعة في طبقة صوتي، لم أدركها بالطبع، لكن الأهل انزعجوا من هذه الطبقة الصلبة التي لا تليق بفتاة. مارست حياتي بعفوية، جسد ينمو بضخامة وصوت يُدوي بصدى مستفز، اضطروا إلى استشارة العلم والذهاب إلى الأطباء المتخصصين في مجال الأحبال الصوتية، سحبوني للطبيب وبعد الفحص والمعاينة قال الدكتور بصرامة لأمي: ما عندهاش مشكلة طبية، هي صوتها كده، ومش حاجة وحشة. تحرجت السيدة وهي تُحضر سؤالها التالي، فهم الطبيب ورد بنباهة: في بنات صوتهم كده وبيغنوا كمان! تحوّل كشف الطبيب إلى مزحة عائلية. قررتُ الغناء بأمر العلم، لمن أحبهم فقط، حفاظا على الثروة القومية.
لصوتي معارك أزلية. ففي المرحلة الثانوية، حسمتُ رغبتي في الكتابة والعمل للصحافة والإذاعة المدرسية. كنا نعد الأخبار الصباحية ليقرأها أحد غيري بالطبع. لم أكن من المرشحات ذوات الأصوات الأنثوية المميزة، ومع ذلك ورّطني صوتي في أزمات يومية. الأحاديث العابرة الجادة الفكاهية في الطرقات مع زميلاتي، تُحدِث جلبة، المعلمات يكرهن طريقتي في التعبير عن نفسي، ويعبرن عن ذلك بغلاظة وعنف تحت سلطة الأمومة المستحقة.
أما المعلمون الرجال فكانوا فريقين؛ فريق قاطعني نهائيًا لأنهم غير راضون عن خروج طبقة صوت من تلميذة تفوق طبقة صوتهم، وفريق تربص بكل ما أقوم به في الفصل وخارجه. تعرضتُ لممارسات انتقامية من أحدهم، كان مدرسًا أشقر، مزهوًا بكونه ملونًا، ضخم الجثة يمتلك شوارب صفراء بارزة ووجه ينفجر احمرارًا، وصوت تخاف منه الطالبات، لذلك عُين مسؤولًا عن أمن و«كانتين» المدرسة. طالما جرى هذا المعلم خلف البنات، بعصاية طولها نصف متر على الأقل، يضرب ما تصل إليه يده من جسد الطالبة أثناء محاولة الفرار منه في الفناء بعد انتهاء الفسحة. كنا مجموعة طالبات استطعنا رفض هذه الممارسات، فلم يقوَ على معاملتنا بالمثل. كنا بالنسبة للمدرسة شلة «بنات المسرح والصحافة»، ولدينا حظوة حصلنا عليها بالعمل الدائم في مسابقات باسم المدرسة، والفوز في بعضها. كنا نقايض لحظات الشغب بالعمل.
كان هذا المعلم، يمارس التحرش والأبوية في نفس الوقت، يمتلك سلطات واسعة ليس من بينها قدرته أن يكون معلما. كنا نمارس علاقة صامتة حذرة، حتى وجد ضالته، بسبب اشتراكي في تحرير مجلة طلابية تتحدث عن ضرب العراق عام 1998. كانت صور الحرب مروعة، جعلتنا نحرر مع أستاذ اللغة العربية مخطوطة أطلقنا عليها «صوت الطالبات»، تَحفّظ المدرس الأشقر عليّ لفترة في «كانتين» المدرسة بعد إبلاغ الإدارة التعليمية، ثم جمع منفردًا كل نسخ المجلة من الطالبات. خرجت من الـ«كانتين» بعد ساعات، وبعد إصرار الطالبات على إخفاء عدد من النسخ، وإهمال الإدارة الرد عليه، في نهاية اليوم، بخصوص رفدي وفصلي، لأسباب بيروقراطية. اكتشفت على مدار سنوات ثلاث أنه يتحرش بعدد كبير من الطالبات، ولا يستطيع أحد تقديم شكوى ضد المسؤول عن أمن المدرسة، والإدارة التي كانت أغلبها معلمات، كانت تتعامل معه باعتباره راعي القطيع المدرسي.
حملت البغض لصوتي، فهو حقًا يسبب لي المشكلات. كان عليّ السيطرة على هذا الوحش المنفلت، لتتحسن حياتي بلا كدر، حاولتُ خفض صوتي لبضعة أيام، ثم نسيت، ارتفعت النبرة في الحماسة والغضب وحصلت على تعليقات سخيفة مجددًا، يئست من محاولات تغيير ما لا أريد تغييره! دفعت بقسوة إلى هذا الطريق، لكنني عدلت عن المحاولة في المرحلة الجامعية لاكتشافي فعل الهتاف. الهتاف وحده هو الذي قادني لاكتشاف أن الصوت لا يخرج من الحنجرة، يخرج من إحساسي به، من كلمات ننطقها تؤلف قلوبًا وتشعل حماسة، خُلق الجسر في ثوان، من هنا بدأت عملية المصالحة.
رأيت الرجال يهتفون في المظاهرات، لهم الغلبة والهتافات الذكية المتطورة ذات الإيقاع، يُستدعون فوق الرؤوس كمشايخ طريقة ثم تندفع موجات الشباب الراغب في قيادة صوت الجموع، كانت المساهمات النسائية حاضرة بمحدودية، حتى ظهر جيلي من الفتيات المستعدات للمنافسة. بنات يهتفن. وجدت صوتي بينهن مستعدًا للانطلاق، فعلها، وكنت في لحظة احتفاء خاصة. المتعة الجديدة التي تحصلت عليها أفسدتها التيارات الاسلامية، ومن بينهم الإخوان، إذا قرروا المشاركة في أي مظاهرة قبل الثورة، الرافضون للهتاف خلف امرأة، كلما ارتفع صوتي حاول صمتهم المفاجئ هزيمتي، ليصعد صوت الذكر يقود عشيرته، فيعود صوت الجموع زاهيًا بعد الفقرة الاعتراضية! لكن هذا كله تغير، حين جاءت اللحظة، لم تعبأ الجماهير في غضبتها بجنس من يقود الهتاف. تقابلت أنا وصوتي في أقرب لحظة تماس بينهما، ففي مثل هذه الأيام من يناير، قبل عشر سنوات من الآن، هتفت لمن لا أعرفهم ولا يعرفونني، وسمعنا أصوات النساء متوهجة في كل طريق يؤدي للميدان، فكانت من علامات الثورة.
(2)
بدأت العمل بالصحافة من نفس المنطق، أرفع الأسوار بيني وبين الزملاء في المهنة التي كتب جزءًا من سيرتها الكابوسية فتحي غانم، (الرجل الذي فقد ظله) وُلد عشرات المرات في ليالي الصحافة السوداء، ورث جيلي من المتدربات سيرة صعود عدد من الصحفيات على أكتاف عشاقهن من فطاحل المهنة، هذه القصص المسمومة، تطارد كل صحفية ناجحة استطاعت الحصول علي مساحة في النشر والشهرة. كأنه اعتراف ضمني أن الصحفية ليس لديها سوى جسد تقدمه لرجال هذه المهنة، وفي المقابل تنحسر فرص النشر للصحفيات المبتدئات.
رأيت بعينيّ كيف تتم المقايضة، أحدهم يكتفي بالحصار عبر ابتسامة صفراء، آخر ينفرد بالصحفيات في مكتبه، يحيط بهن بأسنانه، مستعدًا للانقضاض إذا حصل على ضوء أخضر، وغالبًا دون أن يحصل. الصحفيات الصغيرات يجلسن أمام مرؤسيهم من الذكور في ارتعاد وحيطة، بعضهن يناور وبعضهن يرفض دون تجريح، تظل المناورات المكشوفة في أروقة الجرائد، صالات الأخبار تتلاسن على الصحفيات الفاتنات، غرف الديسك تضج بأصوات الذكور وكأنهم في حلبة مصارعة لتقييم أجساد الصحفيات الجدد، يجلس أحد رؤساء الأقسام المشغول بالكتابة عن قضايا المرأة في قسم التحقيقات، وحوله جوقة من ذكوره المحررين، لمعاينة أجساد الصحفيات أثناء مرورهن في طرقات الجريدة. كان من الصعب أن تخترق صحفية كل أعشاش الأعضاء الجنسية المتربصة لها في كل ركن.
سمعت من رموز الجيل الحالي من الصحفيين، حكايات ووقائع جنسية لكبار المهنة على سبيل التعلّم من الخبرات المدهشة. ساقوا لنا كل أشكال التحرش والاعتداءات الجنسية والعلاقات الغرامية على جثة زوجة مخدوعة، أو أخرى فاز بها أحدهم بعد مطاردتها لشهور وسنوات، باعتبارها إرث يستحق الزهو، بعد ذلك سمعت هؤلاء يقولون في وداعة بعدما انفجرت نافورة الاعترافات مؤخرًا، لم نكن نعرف التحرش على أيامنا! كان لا بد أن يأتي اليوم الذي تنهار فيه منظومة قيم الاستغلال والنكران، قيم الصحافة المصرية.
حكت لي صديقتي السبعينية حكايتها المؤلمة، وكيف أنها أحبت الصحافة وتعلقت بها ومارستها قليلًا بعد الجامعة، ثم توقفت بعد زواجها من زميلها الصحفي الأقدم منها في المجلة، لأنه كاتب لامع، ومهما فعلت من جهد في العمل، سيقولون إنها صعدت على أكتافه، تركت حلمها محاصرًا هناك، في طرقات الصحف، إلى يومنا هذا.
في بداية علاقتي بالسياسة والصحافة، لم تكن قضايا الاعتداءات الجنسية تأخذ منحنى جديا في النقاش العلني حتى بين المناضلات. كانت تجربتنا لا تزال خضراء، يشوبها مثالية متوقعة، هتفنا ضد السجن الذي لا نعرفه، كما هتفنا للحرية دون أن ندرك أثمانها الغالية حينئذ. ورثنا تاريخًا نضاليًا بعضه لا يقبل التشكيك، مع الوقت تبين أن لكل مناضلة حكايات سوداء مع رجال الحركة السياسية، بداية من الاستغلال الجنسي، وصولًا إلى الخيانات الزوجية المركبة، لكن الأكثر وضوحًا حينها، أن النساء لا يتبادلن هذه الحكايات مع بعضهن أبدَا، تظل سرًا كبيرًا كأنها وصمة تتحملها النساء وحدهن، حتى أضحت غالبية الحكايات مصدرها الرجال، احتكر الرجال سردية العلاقات كاملة، بينما تُركت النساء في جزر منعزلة حتى عن رفقتها.
كان بديهيًا بعد احتكار الرجال الحكاية، أن تظل قضية الاعتداءات الجنسية والاستغلال الجنسي قضية مهجورة، بل وبدأ الترويج أن إثارة هذا النوع من القضايا ما هي إلا أداة إلهاء للمشتغلين بالعمل العام والنضالات السياسية، وهو ما تجدونه ينضح في تعليقات آباء وأمهات حركة اليسار السبعيني. كلما نُشرت شهادة اعتداء جنسي وشَغلت الناس لأيام، وهذه فلسفة تجمع الناصريين والشيوعيين في خندق واحد أخيرًا. أتصور أن أمهاتنا في الحركة لم يفتحن خزائن أسرارهن للعلن، كما تفعل نساء هذا الجيل. نساء قليلات منهن عبّرن عن أزمتهن وأزمة جيلهن، في القلب كانت أروى صالح، هوت من شباك عالٍ، لكنها تركت سرديتها في وجه جيلنا القادم على أنقاض التجربة. فكرتُ كثيرًا، هل رحلت أروى صالح لقدرتها علي البوح؟ هل يقتلنا الكلام أم ينقذنا؟
عدد كبير من سيدات هذا الجيل اختبأن في علاقة زواج معلنة وأسرة مستقرة ظاهريًا منفجرة داخليًا، بذلن الجهد في إرساء النمط الشائع والتقليدي في العلاقات رغم الدعاوى التقدمية في الأفكار السياسية، ربما حوصرن في الدفاع عن أنفسهن، ولتحطيم الصورة النمطية عن أن الشيوعيين منحرفين جنسيًا، كما تحب أن تروج السلطة المحتكرة للفضيلة. المعركة الوحيدة التي عاصرتها واهتم فيها رجال المعارضة بقضية الاعتداءات الجنسية، كانت مع أحداث التحرش الجنسي على المتظاهرات في نقابة الصحفيين فيما أطلق عليه الأربعاء الأسود 2005، حين قررت الناجيات والمتضامنات معهن تفجير القضية محليًا ودوليًا، لكن حياة الضحايا تحولت إلى جحيم بسبب إصرارهن على ملاحقة الجناة.
ورغم أن المعارضة استخدمت هذه الواقعة سياسيًا بهدف إحراج النظام، لكنها لم تصبح يومًا قضية محورية على جدول أهدافنا السياسية والنضالية، قدموا لنا درة فقه الأولويات الذي يجعل من قضايا الاعتداء على المرأة قضية ثانوية في مدرسة النضال المعاصر. وليس من المستغرب أبدًا حالة النكران الواسعة التي جمعت المعارضة بكل أطيافها مع شكاوى فتيات من الاستغلال الجنسي لهن من قبل أفراد حقوقين وصحفيين بارزين وفنانين، سيتهمون السيدات بالتآمر والعمل مع الأمن والتخريب، كتهمة تعفنت ولا ملل من استخدامها.
ففي أكبر التجارب الحزبية في بلادنا المحسوبة على اليسار أو التيار الليبرالي منذ إطلاق الأحزاب في نهاية السبعينيات، لم تتضمن اللوائح الداخلية أي عقوبات على جريمة الاستغلال والاعتداء أو حتى التحرش الجنسي على عضوات الحزب، أغلب الظن أن هذه القضايا لم تأخذ منحنى جديا في النقاش وتعديل اللوائح الداخلية لبعض الأحزاب إلا منذ سنوات معدودة، بعدما تجاوزت النساء مرحلة السكوت والعفونة الناتجة عن التطبيع مع الصمت.
في لحظة تسيدت فيها الشعارات السياسية للثورة، بزغ جهد مئات من النساء المؤسسات لمجموعات متعددة ضد التحرش في الميدان أثناء وقائع الثورة، تعاملت المجموعات الثورية بعدائية مع هذا الملف، البعض أنكر لدرجة القول إن هذه الممارسات تصدر لتشويه صورة الميدان، ونقاء الثورة النظيفة، لكن مع ارتفاع وتيرة العنف ضد النساء خلال وقائع عديدة في الميدان والشوارع المحيطة به، لم يستطع أحد النكران بعد أن شهدنا وقائع نتمني تلاشي صورتها من وعينا للأبد.
أتذكر الآن، ليلة في نقابة الصحفيين، حين أعلنت المعتقلات لأول مرة عن «كشوف العذرية» التي وقعت لهن على يد عناصر الجيش المصري، كان هناك نساء تحملن قسوة هذا الكشف المرعب وسط الحالة الثورية، تعرضن للتشكيك والتشهير والنكران، لولاهن لما خرجت هذه الجريمة للنور، وما أدركنا هول ما دفعته النساء ثمنًا للمشاركة في الثورة المصرية. ومن علامات الهول الذي تواجهه المرأة المصرية في محنتها الحالية، أن الرجل الذي دافع عن تنفيذ أكبر انتهاك جنسي تتعرض له النساء عقب الثورة، صار رئيسًا للبلاد، رافعًا كل رايات الفضيلة في أن يقتحم رجاله فروج السجينات المصريات.
وفي اللحظة الآنية، يخوض نساء هذا البلد معاركهن على جميع الجبهات، أكبر حالة مصارحة وبوح للتعبير عن ذواتهن ومشكلاتهن، لم تكن بالأمر الهين، يدفعن الثمن بالتشهير والسجن لأنهن خرجن عن منظومة القيم الزائفة للأسرة المصرية. وفي ضوء التفاعلات الجديدة، فُتحت النقاشات حول العلاقات الرضائية، والاغتصاب الزوجي، وضبط مفاهيم التحرش والاستغلال الجنسي، وهي موضوعات لم نكن نجرؤ على مناقشتها في العلن، لكنها من العلامات الكبرى، على أنه مرت من هنا ثورة.
(3)
عشت سنوات تحت جلد الفتاة التي يمكن أن تضرب أي أحد في أي وقت، وفي أي لحظة. كان جسدي تدرب علي الاشتباك، جرت له عملية تشريس يومية من التعامل في الشارع والمترو وصولًا لمجال التحقيقات الصحفية في الشارع، لم أبخل في إنفاق طاقتي الجسدية إذا شعرت أنا ومن حولي بالتهديد، ثم أدركت أنها لم تكن أفضل حالاتي، لم تكن اختياراتي المريحة، فعلت كل هذا وأنا اضغط على جسدي، وأجعله يشتبك في معارك ثقيلة أحيانًا، يخرج منها منهكًا وغير قادر على فهم ما جرى من عنف. احتاج عقلي سنوات ليفهم كل الوسائل الدفاعية لهذا الجسد.
أثناء إعادة رسم الحكايات المشتركة مع الأصدقاء، اكتشفت أني بعد كل حادثة عنيفة، تنتابني حالة من الإظلام السريع لما جرى. الشهود من أصدقائي يروون وقائع قمت بها ولا أتذكرها. يسقط عقلي في حالة إنكار لكل ما فعلته، وحين أحاول استدعاء اللحظة، أرى داخلي فراغ أسود لا قاع له. وحده جسدي يتذكر ويحتفظ لنفسه بشومة فوق الظهر أو كتف موجوع. أدركت أني أعامله كدرع واقٍ من الألم الحقيقي، لكن الجسد يخزن الألم الحقيقي ليخرج في لحظته المناسبة المختارة، وحين يحدث لا تصلح معه كل المسكنات، حين يتحدث الجسد، يتعرف الإنسان على حقيقته، يستدعي الصدمة التي خُزّنت في اللحظة الماضية وتصور أنه تجاوزها.
الآن، يتذكر وعيّ بعض من لحظات الانفعال هذه، أشعر بهزتها الكبيرة، لأنه وكما قال الكاتب الفيتنامي فو تران «إن ما يُنسى بسرعة جديرًا بالتذكر أكثر». هل هذا يعني أنني نجوت كليًا من تداعيات وقائع التحرش الصادمة؟ بالطبع لا. هذه أمور تتعامل معها المرأة بكل أنواع الدفاعات الممكنة، بداية من محاولة نسيان الحادث كأنه لم يكن، وحتى ظهورها بعد مرور السنين، كأنها بعثت من جديد بكل تفاصيلها المؤلمة. يحتاج الأمر منا إلى رحلة طويلة لا نعرف علي وجه اليقين كيف سنخرج منها، هل نخرج بالمكاشفة وعلاج مناطق الألم، أم تزداد الأمور قتامة وتستمر المعاناة في صمت.
ربما نجوت من الصيغة الرسمية للتحرش في الجامعة وأماكن العمل، هذه النجاة لها مقابل لا يقل فداحة، التنمر والتريقة والوجوه المندهشة بلا حياء من هذا الكائن الغريب، الذي يمر وسط عاصفة من البحلقة والتفرس المفترس، العيون تفتش في جسدي علي صفات الأنوثة لكن صوتي يدمرها. تزداد الحيرة إذا تصرفت بتلقائية وثقة، يتصورون إن الإقدام والاقتحام للرجال، لا بد أن تكون الأنثى خجلي وتنتظر العون والإنقاذ، عندما يحسمون أمرهم في كشف النوع نكون قد وصلنا لمرحلة «بنت بميت راجل» في حالة الإعجاب أو «بنت مسترجلة» كتعبير عن الإدانة والغرابة. كانت نجاة بإحساس الغرق.
ذاكرة الجسد غائمة، تنطوي على بعض الأحاسيس دون صورة كاملة للمشاهد، مجرد أيادي تعبث بكل مناطق الجسم الحساسة بعنف ووحشية، لحظة لا تتلاشى ولا تفقد تأثيرها مع السنين. في كل مظاهرة تنقلب إلى اعتداءات من قبل القوات الشرطية؛ يُضرب الكافة، لكن أجسادنا تفوز باعتداءات مضاعفة، كل معتدي يعرف كيف تُجرح النساء، وكيف تُجرح ذكورة رجالهن، وكيف يُصبح التعتيم علي هذه الوقائع حلًا ذهبيًا للتخلص من وطأة اللحظة. هذه الدائرة الجهنمية لا يزال العمل على تدعيمها ساريًا وفعالًا، رغم أننا وكنساء عايشن غالبية الأحداث السياسية خلال العشرين عامًا الماضية، لم نشهد تجمعات آمنة في هذا البلد، حتى في عز نشوتنا الجماعية ليلة خلع مبارك! ليلة انتهاء اليوتوبيا وبداية المرحلة الجديدة، الأكثر عنفًا وهلاكًا.
مثل كثيرات تعرضن لإصابات خفيفة أو ثقيلة في الاشتباكات، غاز مسيل للدموع، خرطوش، تحرش، مضايقات لفظية تصل معي في بعض الأحيان للاشتباك الفعلي. في السنة الرابعة بعد اندلاع الثورة، بدأ جسدي يصدر أنينًا واضحًا ومتكررًا، تصورت في البداية أن الجسد يمرض كل فترة ولا غرابة في ذلك، تعاملتُ بتعالٍ يصل إلى حد النكران مع طبيعة الأمراض ومواقيتها، كنت متصورة أن تناول الأدوية العادية خلال أسابيع كفيلة بإصلاح ما جرى من عطب. لكن هذا لم ينجح، تعطلت حياتي وعجزت أحيانًا حتى عن القيام من السرير دون مساعدة، اكتشفت بالتدريج ثلاثة أمراض مزمنة (الضغط العالي- الانزلاق الغضروفي- حساسية الجيوب الأنفية) وكنت في بداية العقد الثالث!
ظللت لفترة غاضبة من وهَن جسدي، ظللت رافضة عجزه وسقوطه في شبابه، لكنها لم تكن حالة خاصة، كل من حولي يعاني بحق، لم يكن له تعريفًا أدق من «كرب ما بعد الصدمة»، وها هو الجسد ينطق بما عجز عقلي عن تفسيره سريعًا. راقبتُ الأمر، وبالتذكر الإجباري لبعض الوقائع، بدأت أتلمس مصادر الألم الحقيقية.
عندما اشتدت آلام الرقبة، صرت أتحسس كل ضربة تلقيتها فوقها، عادت إلى بشكل مباغت لحظة معينة، ألقيتها في قاع الذاكرة، حين حاوطني مجموعة مخبرين وأمناء شرطة على مدخل قصر إسماعيل المفتش في المنيرة أثناء مظاهرة خالد سعيد، وانهالوا علي بالضرب، حاولتُ النزال ثم قررت صد الهجوم فقط وحماية رأسي وملابسي التي تمزّق بعضها، تحملت فقرات الرقبة مسؤولية كل الضربات، وخزنت ذاكرة جسدي هذا المشهد دون أن يرسله للعقل الذي حاول نكرانه، من خلال هذه الصورة المستدعاة، راقبتُ حركة جسدي حينما يتعرض لهجوم، أدركت أن فقرات الرقبة حملت لسنوات تبعات دخولي في أي اشتباكات عنيفة.
قياسًا على هذه الواقعة، أدركت عمق باقي الانتكاسات الجسدية، فعدت إلى روحي أحاول ترميمها أولًا من ذكرى الاعتداءات التي تصورت أنني هضمتها. فيما مضى، كانت لدي رحلة طويلة، عاونتني فيها صحبة وشبكة دعم مبهرة، وخبرات مشتركة في تجاوز الألم، كانوا ولا يزالوا الحصاد الوحيد لكل سنوات الديكتاتورية العجاف.
أدرك الآن، ما أنفقته على الثورة، وما وهبته هي لي على سبيل التعافي، وأنه لولا كل التفاعلات المدهشة التي جرت ولا تزال، كأصداء مباشرة لمحاولة تثوير هذا المجتمع منذ يناير، لسجنت في جسد لا أعرفه، وداخل فقاعة العمل السياسي عديم الجدوى، الذي لا يرى أن حرية هذه البلاد تبدأ من سلامة وحرية جسدي. في ذكرى الثورة العاشرة، أجدني في حاجة إلى ترسيم الحدود بين لحظة فاتت بلا رجعة، وأمل لا ينتهي في لقاء قريب مع صوتي الجديد.
عن (مدى مصر)