"إلى جوليو" .. بهذا الإهداء الموجز، لكن البليغ، اختار صديقي الباحث الإيطالي الشاب، فرانشيسكو دي ليل، أن يخطّ الكلمة الأولى في أطروحته للدكتوراه، التي ناقشها في جامعة نابولي للاستشراق (نابولي أورينتال) قبل أقل من ثلاث سنوات. وهي بالإنكليزية، بعنوان "اليسار والمسألة الفلاحية: تفكير نظري وممارسة سياسية من إصلاح عبد الناصر الزراعي إلى 2015".
تعرّفت إلى فرانشيسكو في القاهرة في غضون إعداده الأطروحة، حيث زارني في )الأهرام(، بعدما نشرت على صفحاته في سبتمبر/ أيلول 2014، ووقتما كان ممكناً، (وبصعوبة أعقبتها مشكلات لا مجال هنا للخوض فيها) مقالاً بعنوان "حكاية فلاحي قوتة قارون". وهي قرية في محافظة الفيوم، وجدت في النزاع الممتد على الأرض بين مزارعيها الفقراء وعائلة والي الإقطاعية، التي كان أحد أبنائها يوسف والي، من أعمدة نظام الطاغية، حسني مبارك، مرآةً تلخص تحولات الصراع الاجتماعي في ريف مصر منذ الإصلاح الزراعي إلى سلب الأرض من الفلاحين؛ كأحد آثار تبنّي سياسات النيوليبرالية المتوحشة في عقد التسعينيات، وإلى استردادهم أرضهم عندما شاهدوا عبر شاشات الفضائيات انهيار القبضة البوليسية القمعية يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011. ووصولاً إلى الانقضاض على القليل مما تحقق من مكتسبات لهؤلاء الفلاحين (بما في ذلك التنظم في نقابة) والتنكيل بهم باستخدام أجهزة الدولة المختلفة انطلاقاً من صيف 2013.
وقد سعى المقال إلى دفع استنتاجات زيارة ولقاءات ميدانية للقرية، كي تتحدّى قطاعاً مؤثّراً بين النخبة، يسارية وليبرالية، يلمع حينها تحت أضواء إعلام موجّه بعناية وإلحاح، وبالقول نصاً في ختامه: "لعل ما رويت من طرف حكاية الصراع الاجتماعي حول الأرض في قوتة قارون يشكك في الرهان على إنجاز التحولات الديمقراطية من أسفل، ودون الالتفات إلى ضمان الديمقراطية في قمة السلطة ذاتها، وإشاعة الحريات في مجمل النظام السياسي والمجتمع بأسره".
يمكن لأي مهتمٍّ بالبحث العلمي في العلوم الاجتماعية تصور حجم الصعوبات التي تغلب عليها باحث إيطالي، يعمل على قضايا الفلاحين المصريين. علمت لاحقاً أن فرانشيسكو غادر مصر متعجلاً مرعوباً، وعلى حد علمي لم يعد إليها، بعد أيام معدودة من اختطاف جوليو ريجيني يوم 25 يناير 2016، رفيقه ومواطنه ومجايله، الذي كان يُعدّ في مصر رسالة دكتوراه في جامعة كامبريدج البريطانية عن نقابات العمال المستقلة؛ وفور الكشف عن قتله بعد تعذيبه بوحشيةٍ تركت آثارها على الجثمان. ويمكن لأي مهتمٍّ بالبحث العلمي في العلوم الاجتماعية تصور حجم الصعوبات التي تغلب عليها باحث إيطالي، يعمل على قضايا الفلاحين المصريين، كي يستكمل وينجز أطروحته الأكاديمية من بعيد. وهذا سواء على مستوى المراجع، وكذا استحالة إتمام المقابلات مع مصادر الدراسة كافة. وهذا فضلاً عن الضغط النفسي المتولّد عن ذكرياتٍ تتداعى بلا نهاية عن مصير جوليو، ومعاناة متابعة تطوّرات قضيته من إيطاليا.
وقد أشار فرانشيسكو في صفحات الأطروحة (تفضل مشكوراً بإرسالها إليّ عبر البريد الإلكتروني) إلى أنه قرّر حجب أسماء المصادر المصرية من نشطاء وصحافيين تمكّن من مقابلتهم، علاوة على أماكن هذه اللقاءات، محتفظاً فقط بنشر التواريخ والمدينة بصفة عامة (القاهرة). وثمة كتابات، بعد عام 2011، تقارن بين الثورتين، المصرية والتونسية، فتميز بين الأولى التي انطلقت واستمرت وتركزت في المدن، وبخاصة القاهرة (اختصاراً بميدان التحرير) والثانية التي جاءت واختمرت أولاً في المناطق الريفية الداخلية (انطلاقاً من ولاية سيدي بوزيد). وفي كل الأحوال، ظل الفلاحون المصريون مُقصَين منسيين من سرديات ثورة 25 يناير.
ولعل في هذا ما ينسج على قناعةٍ أراها وغيري، مع الوعي بخطأ التعميم غير العلمي وجناية الانحياز إلى الطبقات المهيمنة المتسلطة، عن سلبية الفلاح المصري ومحافظته وخنوعه أمام السلطات. لكن أطروحة فرانشيسكو، (ومقال علمي نشره نهاية مايو/ أيار2020 بالإنكليزية في مجلة متخصصة في الاقتصاد السياسي لأفريقيا) تعيد الاعتبار لإيجابية فقراء الفلاحين المصريين وثوريتهم. وتضعهم، مع الصراع الاجتماعي في الريف، ضمن متن سردية موضوعية نادرة عن ثورة 25 يناير، تستحق أن تكتب عن "الناس اللي تحت" وبأصواتهم هم.
استقصت أطروحة فرانشيسكو دي ليل محاولات تنظيم صغار المزارعين في مئات القرى في نقاباتٍ بطول مصر وعرضها، فضلاً عن حركة التقدّم بالعرائض الجماعية والاحتجاج أمام السلطات. وللأسف، لم يقدّر للباحث الإيطالي القادم من خارج مصر، ويتميز بالموضوعية والانحياز إلى فلاحيها ونضالاتهم، أن يذهب إلى القرى، وينقل أصواتاً كهذه على نحو مباشر. ولكن أطروحته الأكاديمية تقدّم رواية علمية ونقدية لنضالات الفلاحين ومشاركتهم في الثورة، من خلال أعمال استرداد الأراضي من العائلات الإقطاعية المتنفذة المدعومة من قوى النظام، وقد وثقت مجرياتها في عشرات القرى. واستقصت الأطروحة أيضاً محاولات تنظيم صغار المزارعين في مئات القرى في نقاباتٍ بطول مصر وعرضها، فضلاً عن حركة التقدّم بالعرائض الجماعية والاحتجاج أمام السلطات (كمكتب النائب العام في القاهرة ومقارّ المحافظات ومجلس الوزراء... وغيرها).
وتؤرّخ أطروحة فرانشيسكو دي ليل، عبر مصادر وأدبيات في الظل لمجموعات مدينية متضامنة مع الفلاحين (في الأغلب ليساريين غير الذين يجرى توظيفهم في بروباغاندا وسائل الإعلام الجماهيرية المملوكة للدولة والخاصة، دعماً للسلطة ولحكم الفرد وزمرته وطبقته) لتحوّلات الصراع الاجتماعي في الريف قبل25 يناير وفي أعقابها. وهي بحقّ تحولات درامية سريعة. إلا أن هذا التأريخ، اعتماداً على مصادر كهذه، وتركيزاً على تفاعلها مع نضالات الفلاحين، لا يخلو من فرز للاتجاهات بينها، ونقد لأدوارها وأخطائها، وتقييم مفيد من أجل مستقبل مصر أكثر تحرّراً وتقدّماً وإنصافاً لمواطنيها المنتجين المقهورين مسلوبي الحقوق والحريات.
يخلص فرانشيسكو، عبر رحلته البحثية العلمية في ظروفها الصعبة، إلى أن العامين 2011 و2012 عرفا تبادلاً غير مسبوق للخبرات بين النشطاء والفلاحين، ومن خلال بناء النقابات، وأدى إلى حالة من التعلم المتبادل من بعضهم البعض"، وأنه "بحلول صيف 2013، عرقل القمع الشديد للاحتجاج السياسي والاجتماعي تطوّر حركة فلاحية جنينية كانت ناهضة، وواجهت نقابات صغار المزارعين – بشكل أبكر من نقابات العمال المستقلة – مصاعب أكبر وأخطر. وظلت بقايا محدودة منها تنشط بصعوبة، خصوصاً أنها لم تتمكّن من التكتل، وحل مشكلاتها التنظيمية والمالية. ومع غياب تقاليد الديمقراطية الداخلية وضعفها، وبفعل تعقيدات وتشوهات ناجمة عن تعامل قيادات هذه النقابات مع المانحين وفرص السفر للخارج والظهور في الإعلام ومؤسسات الدولة".
سألتُ مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان، كرم صابر، (المركز من أبرز المنظمات المتفاعلة مع الحركة الفلاحية منذ تأسيسه عام 1996)، فعلمت بأنه لم يبقَ اليوم إلا نقابتان اثنتان فقط من بين إجمالي 53 نقابة، ساعد المركز فقراء الفلاحين والصيادين على تأسيسها مع ربيع 2011. وهكذا، ضاع كثير مما حققه الفلاحون، كما الأرض التي يفلحونها. وقد استرجع معظمَها أصحاب النفوذ الجدد، وبقايا العائلات الإقطاعية، في قصص مأساوية استجدّت وتوالت مع صيف 2013، وخلّفت شهداء ومحبوسين وهاربين من القرى، ملاحقين من السلطات بين فلاحات وفلاحين منسيين. وحتى مقر مركز الأرض في القاهرة أصبح مغلقاً، بعدما تعرّض لمداهمات بوليسية تكرّرت هذا الصيف.
ولعل قراءة أعمال أمثال فرانشيسكو تفيد بأهلية التمييز الواعي وضرورته، بين المتورّطين في "اختراق مجتمعاتنا" لأغراض الهيمنة، وباحثين وكتّاب وصحافيين أجانب منحازين إلى الشعوب وحرياتها وحقوقها ومخلصين للعلم والعقل. وهؤلاء غالباً، وإن لم نقل دائماً، مستبعدون، وخارج مؤسسات التوظيف الكولونيالي الحكومية والمخابراتية والمرتبطة بمصالح "البزنيس" والشركات العملاقة، وبخاصة متعدّدة الجنسيات. وأعرف يقيناً عدداً منهم يقتات بالكاد من أعمال الترجمة والكتابة الصحافية بالقطعة، مع أنهم من حملة الدكتوراه، وأنتجوا تراثاً علمياً بحثياً محترماً. بل أستطيع القول إن هؤلاء المثقفين البحاثة الأفاضل الأجانب أقرب إلينا، وأحرص علينا، من مواطنينا الجلادين والمزيفين للوعي، ممن يركبون مع صعود الاستبداد والقمع والفساد موجة رُهاب الأجانب والآخر (الإكسنوفوبيا).
وبالمناسبة، مَن ينسى أهمية كتاب الأب هنري عيروط عن الفلاح المصري وأخلاقه وعاداته، بين التراث العلمي عن الريف، وهو بالأصل رسالة دكتوراه أنجزها هذا السوري الأصل اليسوعي الكاثوليكي في فرنسا قبل أكثر من ثمانين عاماً، وما زالت ترجمتها إلى العربية تصدر في طبعات، لتنير للباحث والقارئ طريقاً لمعرفةٍ تسهم في تغيير واقع الريف المصري. وأظن آسفاً أن هذا المقال هو أولى الكلمات التى تنشر باللغة العربية عن الإيطالي فرانشيسكو دي ليل، وجهده البحثي العلمي المقدّر، وددت أيضاً بهذه الكلمات، على تواضعها، المساهمة في إحياء ذكرى جوليو ريجيني، وثورة المصريين، ولفت الأنظار إلى نصيب فلاحيها المنسيين في مجرياتها معاً. وأخال أن اقترانهما، الثورة واختطاف الباحث الإيطالي في اليوم ذاته 25 يناير، لم يكن محض مصادفة بريئة.