يقدم الباحث الهندي هنا استعراضا لمسيرة المستعرب الإيطالي مع دراسة الفلسفة الإسلامية، والتي قادته إلى اعتناق الإسلام والعمل على بلورة صورته الصحيحة في الفكر الغربي، خاصة وقد تتلمذ على يد مفكرين مصريين بارزين في هذا المجال: حسن حنفي ونصر حامد أبوزيد.

رحيل المستشرق الإيطالي ماسيمو كامبانيني

المفكر الذي كرّس حياته للدفاع عن الإسلام

محمد رافع كوتوفادمي

 

فقد مجتمع الأكاديميين والفلسفة العربية الكلاسيكية الإسلامية أحد أعلامها بوفاة المؤرخ الفيلسوف المفكر الأكاديمي المترجم المستشرق الإيطالي الأستاذ (ماسيمو كامبانيني) عن عمر ناهز الـ 66 عامًا؛ الذي اختتم حياة علمية وعملية حافلة بمتابعة الحركة الإسلامية بالعطاء والبذل للفكر الإسلامي.

ويعدّ أبرز المؤرخين الإيطاليين المعاصرين وأكثرهم احترامًا للعالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة، وكان ممن كرس جلّ حياته للدفاع عن الإسلام والتعريف به في أوروبا، واستطاع بمجهوداته الخاصة أن يقرّب الإيطاليين من تعاليم دين الإسلام السمحة، وعلاوة على ذلك فقد ترك بصمة جليلة في الفكر والتاريخ الإسلامي، كما قام بترجمة العديد من كتب الفلسفة الإسلامية إلى الإيطالية؛ خاصة كتب الإمام الغزالي وابن رشد والفارابي.

السيرة والمسيرة
وُلِد ماسيمو كامبانيني في ميلانو عام 1954م لأسرة مسيحية؛ حيث نشأ وترعرع في ذلك الجو المسيحي حتى الثلاثينيات. وقد أنهى ماسيمو دراسته الابتدائية والإعدادية، وكانت ملامح شخصيته الثقافية والفكرية الإسلامية والفلسفية وبواكير سماتها قد بدأت تتبلور، وبعدها توجه إلى الدراسة العليا وتخرج في الفلسفة من جامعة إيطالية عام 1977، ومن هنا بدأت مسيرة أكاديمية طويلة.

كان الأكاديمي الراحل أستاذا للحضارة الإسلامية والتاريخ والفلسفة في العديد من الجامعات الإيطالية العريقة، ومن بينها جامعة تورينو، وجامعة نابولي أوربينو، وجامعة فيتا سالوا سان رافايل.

وهذه العقود الأكاديمية لعبت دورا محوريا في حياته، وتسببت في اتساع أفكاره وانبساط آفاقه عن الإسلام، غير أن الأمر الذي أداه إلى الفكر الإسلامي وتشبثه به إنما هي رحلاته إلى البلدان العربية، فقد زار خلال حياته الأكاديمية أربعة بلدان عربية (تونس، المغرب، مصر، اليمن، إضافة إلى تركيا).

ومن الجدير بالذكر أن زيارة مصر دغدغت أحاسيس قلبه، وتركت فيه تجربة روحية رائعة وعميقة، فكانت رحلته المفضلة رحلته إلى مصر، وهو يعتبر أن مصر منبع الثقافة والحضارة الإسلامية، ولها بصمة تاريخية؛ خصوصا بفضل جامعة الأزهر الشريف، ومسجد ابن طولون، وقد توقف مدهوشا أمام المعالم التاريخية المصرية.

واكتشف القرآن والأحاديث النبوية، وقام برحلة إلى مصر مرتين، ولكن رحلته الأولى كانت متعلقة بدراسة مصر القديمة فقط، أما الرحلة الثانية وهي التي حولت حياته الباقية حتى اعتنق الإسلام، فقد عاد (كامبانيني) إلى مسقط رأسه مليء القلب، وفي ذهنه فكرة متقدة لدراسة الإسلام بعمق ودقة.

البحث عن الإسلام
بعد العودة من مصر استقطب انتباهه القرآن ودين الإسلام، فجعل يدرس مواضيع الإسلام ومفاهيمه الجميلة ومبادئه الجليلة، وقرر أن يبدأ بالقرآن لكونه دستور المسلمين، ومصدر الإسلام كله، فاشترى أول نسخة من القرآن الكريم بالترجمة الإيطالية للأليساندرو بوساني، وكان الشراء فاصلا في دخول نور اليقين إلى قلبه، ودافعا له لتعلم اللغة العربية، فغاص في عمق معاني القرآن وأفكاره الثمينة؛ حتى تخرج باللغة العربية في جامعة جيوردانو برنو عام 1980.

وقد وفقه الله عز وجل إلى أن يستنبط بتأملاته في القرآن الكريم العديد من الأفكار التي ترجمها على أرض الواقع في شكل فلسفة وفكر إسلامي.

لقد أعلن اعترافه بأن القرآن الكريم أجابه عن المشاكل اللاهوتية -التي لم يكن راضيًا عنها في ظل المذاهب المسيحية بشأن التثليث والتجسيد- بل وكشف القرآن الكريم له المعنى الحقيقي للتوحيد، وهو الذي توقف كثيرًا طويلا عند آيات بعينها خاصة سورة الإخلاص ... وعلى الرغم من أنه اعترف بأن العقل والوحي لا يمكن أن يكونا في تناقض إطلاقًا؛ حاول (ماسيمو) تأويل القرآن على منهج الفلسفة، فلم يكتف في بحثه بمجرد علوم القرآن، بل بدأ بمطالعة كتب مفكري الإسلام المعاصر، وجعل القراءة أكثر عقلانية، وساعدته في ذلك العلوم الغزيرة الوفيرة عن دين الله ورسوله.

استفاد من تلك الكتب القيمة مثل كتب الغزالي وابن خلدون والفارابي، وبالتالي فضل أن يرى الإسلام بعيون المسلمين وليس بعيون المستشرقين.

لم يكن (ماسيمو) باحثا في القرآن وحسب، بل كان أيضا محاضرا في النقاش العام حول الإسلام في إيطاليا وأوروبا والعالم الإسلامي. غالبا ما كان يُدعَى من قبل منظمات المجتمع المدني الإسلامية وغير الإسلامية للمشاركة في المناقشات، خاصة في شمال إيطاليا ومنطقة ميلانو.

لقد كان ينتقد بشدة المركزية الأوروبية والهيمنة الغربية والعنصرية والإسلاموفيا، ولم يكن مكتوف الأيدي أمام هذه المشاكل، فدافع عنها كجبل شاهق بأدلته الدامغة وبراهينه القاطعة الممزوجة بالفلسفة والفكر الإسلامي، واستطاع (ماسيمو) التعريف بالإسلام في الأوساط الأوروبية وإزالة مفاهيم خاطئة عن الدين الإسلامي من قلوبهم.

هذا الداعية الإسلامي قلما يوجد له مثيل في إيطاليا، ولذلك يصير فراقه ثلمة لا تُسَد للمجتمع الإسلامي الأوروبي. في غضون فترة وجيزة تمكن أن يربط الصلات بالعباقرة في العالم (أليساندرو بوساني) و(حسن حنفي) و(نصر أبو زيد)، فقد كان يعرفهم شخصيا، وغالبا ما يزورهم؛ فيتبادلون الأفكار عن الإسلام في جلساتهم. علاوة على ذلك، تعلم (بوساني) أن ينظر إلى الإسلام بموقف متعاطف، ولكن واعٍ علميًّا. ساعده أبو زيد على تحسين تلاوة القرآن؛ ومما تأثر به أيضا كتاب لمحمد إقبال الهندي.

اهتمامات كامبانيني ومساهماته الوافرة
تركزت اهتمامات كامبانيني. البحثية والعلمية على أربعة محاور: (1) الدراسات القرآنية، (2) الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى والحديثة، (3) الفكر السياسي الإسلامي، (4) التاريخ المعاصر للدول، مع اهتمام خاص بالحركات الإسلامية والاشتراكية. أول مساهماته التي تخرجت إلى النور عبر ترجمة أعمال علماء الإسلام (الكلاسيكية) مثل الغزالي والفارابي، وفي خلفية الدراسات السياسية المعاصرة يسلط الضوء على دور النخب العسكرية في تشكيل دول الشرق الأوسط ما بعد براثن الاستعمار وقضايا العلاقة بين الإسلام والديمقراطية.

كان كتابه الأول (1986) قد تناول شرحا فلسفيا للمعتزلة وترجمة لسورة الكهف، ثم توالت إسهاماته القيمة في هذه المجالات المختلفة بعد تقاعده من الجامعات، وظل أكاديميا نشطا في أوساط أوروبا، وشارك في مؤتمرات دولية ومحلية، وأضاءت الجلسات بشخصيته القيمة وأبعاده الفريدة.

أعماله المشهورة وأفكارها الرئيسية
وفي كتابه (مقدمة في الفلسفة الإسلامية) يعرض (كامبانيني) الفلسفة الإسلامية وتطورها وتنميتها في العصور الوسطى، ويتقصى آراء فلسفة الإسلاميين ونظرياتهم الفلسفية المختلفة، ويتناول هذا الكتاب قضايا فلسفية من قبيل نشأة الكون، ومسائل الجبر والاختيار وغير ذلك من القضايا التي تصنف باعتبارها (علم الكلام) في الفكر الإسلامي.

وفي كتابه (تاريخ مصر الحديث؛ من النهضة في القرن التاسع عشر إلى مبارك) الذي ترجمه عماد البغدادي؛ مع أخذ الكاتب في الاعتبار الدور الرئيس والثقل السياسي والثقافي والاقتصادي لمصر في العالم العربي، وفي منطقة البحر المتوسط؛ يعبر (كامبانيني) المراحل البارزة في تاريخ مصر الحديثة.

وكان كتابه الأخير (دانتي والإسلام؛ سماوات الأنوار) الصادر في 2019 بالإيطالية؛ حاول فيه (كامبانيني) تتبع علاقة الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م) ومؤلفه الأبرز (الكوميديا الإلهية) بالتراث الإسلامي، وهي علاقة يمكن اعتبارها واحدة من الجذور الإسلامية للفكر الغربي الحديث، وهذا الكتاب مهد الطريق لنقاش جاد في المجتمع الغربي، ولعله أبرز كتاب من تأليفاته.

وفي السنوات الأخيرة من حياته كثف العمل في دراساته القرآنية؛ محاولا تقديم مقاربة فلسفية للتفسير القرآني في اتجاه أسماه (علم القرآن الفلسفي).

وفاته
في التاسع من أكتوبر 2020 انتقل ماسيمو كامبانيني المفكر الإسلامي الكبير إلى جوار ربه بعد معاناة مع المرض.

 

باحث في اللغة العربية في جامعة معدن الثقافة الإسلامية بولاية كيرالا)