تتأمل الباحثة الجزائرية هنا مسألة قدرة الأدب المعرفية على أن يكون هاديا للإنسان في تلك اللحظات العصيبة التي تمر بها البشرية بجائحة تعصف بالكثير من رواسيها، وتضطرها للتفكير من جديد في كثير من الأمور، وكيف تعامل الإبداع مع الأوبئة في الماضي، وما يرتجى منه في المستقبل القريب.

إبستيمولجيا الأدب تصنع الابداع

في قلب صدمة الأوبئة

سـامية بن يحيى

 

لطالما قدمت لنا مختلف العلوم الاجتماعية، والتاريخ والأدب على وجه الخصوص رؤى وأنطولوجيات مهمة حول كيفية تعامل الناس مع صدمة الأوبئة في الماضي، وها هي اليوم في ظل أزمة كورونا تحاول عرض تفسيرات يتقبلها منطق الفكر البشري واعتقاده الروحي، لكل ما يحدث من طفرات في عالمنا المعولم، والخارجة عن سيطرة البشر. فإذا كان التاريخ يسرد تأثير الأوبئة على مجتمعات بأكملهما، وعلوم الطب تنافس الوقت لإيجاد دواء أو لقاح من شأنه إنقاذ البشرية، فإن الأدب يمنحنا وجهة نظر وإبستيمولوجيا أكثر حميمية على قبول طرح مغاير، عن كيفية فهمنا لمشكلات عالمنا المعاصر من وجهة الميثولوجيا «علم الأساطير» لذا لا بد أن يقودنا بحثنا عن رؤى الأدب نحو استفزاز أكثر للعقل البشري، لكشف الحقيقة الخفية، حيث يمكن اعطاء منحى آخر لفهم أكثر التشوهات الحاصلة في كنه الاعتقاد الذي صاحب صدمة الأوبئة، ومنها أزمة كورونا.

ومن ثم يمكن القول، أن ما علينا سوى انتظار ما سيخفيه المستقبل حول نمط مرحلة ما بعد هذا الفخ الوبائي، وما يمكن للروايات والخيال الأدبي والقصص أن تقدمه كتفسير عن القضايا الأنثروبولوجية في تاريخ الأوبئة، عبر ما تطرحه من إشكالات معقدة تفرض منطقها علينا أبرزها: "ماذا يعني دراسة معنى أن تكون إنسانًا خلال أزمة بيولوجية كبرى، مثل جائحة فيروس كورونا؟ لرؤية جميع إنجازاتك وتحدياتك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتراجع فجأة عن الحقيقة الجسدية البحتة، المتمثلة في المرض والعدوى والموت؟ ما الذي يمكن أن تقدمه الرواية الأدبية لمساعدتنا على النجاة من هذه الصدمة؟ هل يمكن للأدب أن يمنح حياة للإبداع الانساني في ظل أزمة كورونا؟

بطبيعة الحال تأخذنا فلسفة الأدب إلى ما هو أبعد من إحصاءات الوفيات العالمية، ودرجة انتشارها، لإظهار كيف أثرت الأوبئة على حياة الناس وتفكيرهم، ومدى استجابتهم. فقد فرضت أزمة كورونا تزايد التوجه الفكري أكثر إلى الأعمال الأدبية التي تتناول الأوبئة وأشكال أخرى من الأزمات البيولوجية، نذكر منها على سبيل الأمثلة وليس الحصر أعمال جيوفاني بوكاتشيو، ديكاميرون (1353). حيث تكشف The Decameron عن الدور الحيوي لرواية القصص في وقت الكوارث، من خلال مشهد عزل عشرة أشخاص لاجئون من الموت الأسود في فلورنسا في القرن الرابع عشر، في فيلا خارج فلورنسا مدة أسبوعين. وفي سياق عزلتهم تتناوب الشخصيات على سرد قصص الأخلاق والحب والسياسة والتجارة والسلطة. أما أعمال دانيال ديفو "عام الطاعون" (1722) فإنها تقدم سردًا أدبيًا وتاريخيًا للطاعون الدبلي في لندن في القرن السابع عشر.

في حين تعرض قصة كاثرين آن بورتر "حصان شاحب، راكب شاحب" (1939) وهي قصة قصيرة صورة عن جائحة الأنفلونزا الكبير في 1918-1919. ورواية أحمد علي "الشفق في دلهي" (1940) وهي رواية أخرى عن جائحة الأنفلونزا 1918-1919. ولا ننسى ألبير كامو (1947) في رواية عن (الطاعون) في الجزائر، ورواية غابرييل غارسيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" (1985)؛ وهي رواية للكاتب الكولومبي تستكشف أوجه التشابه بين الحب والعاطفة والمرض، وأعمال كولسون وايتهيد "المنطقة الأولى" (2011) يعرض فيها صورة لمدينة نيويورك باعتبارها ديستوبيا ما بعد نهاية العالم، والذي يحول الطاعون سكانها إلى زومبي، وقصة إدغار آلان بو القصيرة، "قناع الموت الأحمر" (1842)، وغيرها من الأمثلة لا يسعنا المقام لذكرها جميعا.

فما يهمنا هو ماذا يمكن أن تعلمنا مثل هذه الأدبيات عن تأثير الأوبئة البشرية، وكيف يمكن لمثل هذه القصص والروايات في زمن الوباء المستجد أن تمتص الصدمة المصاحبة لفيروس كورونا، وكيف يمكن تجاوزها بشكل آمن من باب التنفيس، وتقديم طرق معالجة المشاعر القوية، وبذلك لا يمكن تقزيم الدور الحيوي للأدب في تأطير استجابتنا لوباء Covid-19 وتقديم تفسيرات تنطلق من واقع معاش إلى خيال يعكس أرقى مشاهد الابداع الانساني بدءًا من الكلاسيكيات إلى الروايات المعاصرة.

فإذا غصنا مثلا في رواية ماري شيلي التي صدرت عام (1826) حول نهاية العالم بعنوان "الرجل الأخير" والتي تحولت إلى فيلم في عام (2008) تعرض تفاصيل حياة ليونيل فيرني، الذي أصبح "آخر رجل" بعد وباء عالمي مدمر، حيث تركز الرواية على قيمة الصداقة، بين الانسان والحيوان، وهو تذكير بأن الحيوانات الأليفة قد تكون مصدرًا للراحة والاستقرار في أوقات الأزمات، أما القصة القصيرة لإدجار آلن بو عام (1842) بعنوان "قناع الموت الأحمر" فإنها تصور إخفاقات شخصيات السلطة في الاستجابة بشكل مناسب وإنساني لمثل هذه الكارثة. وفي القرن العشرين جلب طاعون ألبرت كامو من عام (1942) وكتاب ستيفن كينج The Stand من عام (1978) انتباه القراء إلى الآثار الاجتماعية للأوبئة الشبيهة بالطاعون، لا سيما عزلة الدولة وفشلها في احتواء المرض، أو تخفيف حدة الذعر الناتج عن ذلك. أما في رواية Fever لعام (2016 )، قام المؤلف الجنوب إفريقي Déon Meyer بتفصيل التداعيات المروعة لفيروس مُصنَّع بأسلحة وهندسة بيولوجية، وبالتالي تقدم لنا مثل هذه النماذج من الروايات كيفية التعامل مع الأوبئة من خلال نظرة الأدب، وهنا يجدر بنا التوقف من أجل البحث أيضا في واقعنا الحالي عن ما يمكن أن يتضمنه فحوى القصص التي قد نرويها عن فيروس كورونا.

ذلك يجعلنا نستشهد بكتاب Homo Deus "موجز لتاريخ الغد" عام (2017) حيث جادل يوفال هراري بأن الأوبئة أصبحت الآن إلى حد كبير شيئًا من الماضي قائلا: "لقد انخفض معدل حدوث الأوبئة، وتأثيرها بشكل كبير في العقود القليلة الماضية".. و"ترجع هذه المعجزة إلى الإنجازات غير المسبوقة للطب في القرن العشرين، والتي زودتنا باللقاحات والمضادات الحيوية وتحسين النظافة وأدبيات طبية أفضل بكثير". كما أشار هراري إلى أنه بعد انتشار الذعر الأولي على نطاق واسع، تم احتواء تفشي مرض السارس (2002-2003) والإيبولا (2014) بسرعة، حيث توفي أقل من 1000 بسبب السارس وليس أكثر من 11000 من الإيبولا، معظمهم في إفريقيا، بل حتى الذي قتل 30 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، لم يعد قاتلاً في معظم الحالات بفضل عمل العلماء.

أما إيما باترسون فإنها تعتقد أنه يمكن أن يكون هناك المزيد من الرغبة في رواية القصص الكلاسيكية، والتركيز على القصة وبناء عوالم أخرى، لا سيما عوالم الماضي، وتضيف إيما - الوكيل الأدبي في آيتكن ألكسندر- "أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك المزيد من الرغبة في سرد «القصص الكلاسيكية والتركيز على القصة وبناء عوالم أخرى، لا سيما عوالم الماضي، حيث هناك راحة في البداية والوسط والنهاية» وتضيف: "توفر الخلفيات التاريخية الغامرة والشاملة أيضًا الهروب الذي تشتد الحاجة إليه على الرغم من الاختلافات القابلة للجدل في الجدارة الأدبية،إذ هناك أيضًا أوجه تشابه بين هذه الروايات". في حين تعتقد المؤلفة الانجليزية مارينا وارنر، أن الابتعاد عن "ثقافة المكتب" نحو مكان عمل يحركه الإنترنت يمكن أن يساعد في إضفاء الطابع الديمقراطي على عالم النشر النخبوي تاريخيًا، وبالتالي توسيع نطاق الروايات المقدمة للقراء.

أما في أدبنا العربي والإسلامي، رغم شح الكتابات العربية عن الأوبئة، إلا أنه من المجحف انكار بعض المساهمات التي خلدها التاريخ الأدبي العربي على غرار كتابات المؤلف المصري أحمد العدوي في كتابه "الطاعون في العصر الأموي، صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية" والذي بين كيف أثر الطاعون على الدولة الأموية، نجد أيضا مجموعة من القصائد العربية تسرد تأثير الأوبئة أمثال الأديب عمر المعرّي الكندي المعروف بابن الوردي في قصيدة كتبها عن الطاعون الذي كان سببا في وفاته بعد ذلك، وقصيدة عن الكوليرا في مصر للشاعرة نازك الملائكة، ورواية السوداني أمير تاج السر"إيبولا 76" والتي يصف فيها كيفية انتقال الوباء إلى السودان.

ما يمكن قوله في ختام مقالتنا طالما أن التنبؤ بالمستقبل الأدبي يخضع للتوقعات النسبية، سيستغرق الأمر عدة سنوات حتى يتم كتابة ونشر روايات- في قيمة الروايات الماضية - مستوحاة مباشرة من فيروس كورونا، وبذلك سيظل الشاغل الأكثر إلحاحًا في الوقت الحالي، هو الحفاظ على ديناميكية المكتبات ودور النشر، وهو ما يزيد أكثر السيناريوهات تفاؤلا الاستمرار في اقتناء الكتب، سواء عبر الإنترنت أو غير ذلك، من زاوية أخرى تميل الأوبئة التي تصيب خيال المؤلفين والمخرجين إلى جعل نهاية رواياتهم، أو قصصهم مخيفة أكثر من تصور ما يمكن أن تؤول إليه أزمة كورونا بحد ذاتها، ومع ذلك يمكن أن تحمل الروايات والقصص التي سنرويها للأجيال القادمة عن وباء كورونا نهايات أكثر ايجابية وأكثر إلهامًا من واقعنا الحالي، بل لعلنا نقدم صورا معيارية تصبح نماذجا قد يُحتذى بها سواء على مستوى استجابة صناع القرار السياسي، أو على مستوى الأفراد، لكن الدرس الأكبر الذي يمكن تعلمه من روايات الأوبئة مفاده أن الطبيعة البشرية هي نفسها في كل مكان ودائمًا، وأن تلك الأوبئة قد تبرز أفضل وأسوأ ما في البشرية.

 

باتنة – الجزائر

البريد الإلكتروني :  samia20171935@outlook.fr