لعل المفارقة التي ينطوي عليها هذا النص لا تكمن فقط في المفاجأة المؤجلة بعمد إلى السطور الأخيرة، ولا في تناول كاتب لحياة كاتب آخر، بل أيضًا في كون كاتب هذا النص هو كاتب نوبي سكندري. تتوازى المفارقة مع الإحراج الذي يغمر الشخصية المحورية لحظة التصريح باسمها.

إحراج

حـجّـاج أدول

 

وقف أمام المرآة نظر لنفسه طويلا. ترك المرآة. داخل الغرفة الواسعة عالية الأسقف. يحادث نفسه..    

- يا لي من رجل كامل متكامل. وسيم أنيق وفوق كل هذا مشهور للعالمين. تمام. مستعد للذهاب لأكون في صحبة أشهر فناني باريس، وفي أشهر مقاهيها ثم الذهاب لأرقى مطاعمها. وبالطبع سأكون الألمع والأكثر جاذبية بينهم. سيكونون جميعا في معيتي أنا، والأنظار سواء منهم أو ممن حولنا، ستتركز على أنا الوسيم الأنيق.

خطوات يتخذها للنافذة. ينظر للسماء..

- الجو صحو والشمس مشرقة حنينة. تمام. لا داعي لمظلة فأنا رجل جريء لا أهاب شيئا. هيا.

دقائق يسير الأنيق الشهير وهو يوزع ابتساماته على المارة الذي يتبينونه خاصة الجميلات. ثم.. ثم انقلب الطقس. الشمس توارت خلف سحب تتكاثف وتتحول لدكنة مقلقة، ثم زخات مطر ثم سيول. الأنيق الشهير اضطر أن يتوقف ويحتمي بجدار بيت. ظهره ملتصق بخشب الباب حتى لا يتلوث حذاؤه بالأمطار التي تصطدم بالأرض.

نصف ساعة والأمطار مصرة على الاستمرار مع إضافة برق ورعد. يا للهول. لن يذهب للمقهى ولا المطعم فليس معه مظلته، لو كانت معه، لسار غير هياب حتى لا تضيع منه تلك الصحبة التي يشعر فيها بأهميته القصوى. على بعد خطوات من يمناه نافذة للشقة الأرضية للمبنى، نافذة عريضة عالية ذات ستائر بيضاء خفيفة. لاحظ أن شخصا يراقبه من خلف ستائر النافذة الرقيقة. شبح امرأة تراقبه تأتي وتذهب ثم تأتي وتذهب. أخيرا انفرجت الستارة عن وجه أنثى جميلة تبتسم له! عادي، فالمعجبات به كثيرات وهذا حقه، فمن في المدينة، بل من في البلد كلها من هو في مثل شهرته وأناقته؟ ابتسمت له ثم اختفت مسدله الستارة، ثم سريعا تنفرج الستارة والوجه الجميل ينظر إليه نظرة محايدة وإن لم تفقد ابتسامتها.

-آه. أكيد الجميلة عرفتْ من أكون، وهل بأديب مثلي يُنكر؟! هي في العشرينات، وأزيد عنها عمرا بعشرين، لكن لا بأس، فأنا الأنيق الأشهر. قطعا ستستدعيني تلك الجميلة إن ابتسمت لها بما يكفي، ولتذهب صحبة الأصدقاء في داهية.

     ابتسم لها بما يكفي ويزيد. لحظات وانفتح الباب من خلفه. تلفت فإذا الأنثى ماتزال مبتسمة ابتسامتها الساطعة في هذا الجو الملبد بالغيوم. أنثى ليست فقط جميلة الوجه، بل هي رائعة الجسد. فأجاب ابتسامتها بابتسامة مضادة. مدت يدها له بمظلة متواضعة وهي تحني رأسها احتراما، ثم أغلقت الباب. بقي ساهما..

- لم تستدعني! لكن هكذا الجميلات من النساء، لن تلقي بنفسها عليّ لتكون خليلتي هكذا ببساطة. الأمر يحتاج تمهيدات. وقف في مكانه ينتظر أن تظهر له من خلف الستارة الرقيقة، ظهرت ولوّحت له أي مع السلامة واختفت..

- وقعت في غرامي. سآتيها غدا وبعد غد على الأكثر، وستفتح لي الباب لأدخل بيتها، وتفتح لي الأبواب لتكون خليلتي. فعلا.

     وصل للمقهى وكان اللقاء المشهود. وجد نصفهم ينتظرون والنصف عطلته الأمطار، ثم وصل الجميع. وكان المتأنق الشهير هو كريمة الجلسة سواء في المقهى أو المطعم. استغل دقائق ليشرح لأقرب صديق له في الصحبة، ما حدث مع صاحبة المظلة، وأنه ينتظر وقوعها تحت سطوته خلال أيام. ابتسم لصديقه ابتسامة الدون جوان، فوافقه صديقه بابتسامة المصدق المؤكد.

     اليوم التالي والجو صحو ذهب الوسيم المتأنق لبيت الفاتنة التي وقعت في شباك جماله وشهرته. ذهب ومعه مظلة فاخرة بدلا من مظلتها المتواضعة. وقف وظهره على الباب كما الأمس. الستارة تنزاح والجميلة تنظر له مبتسمة، ثم تنغلق الستارة لتأتي وتفتح له الباب، لكنها لم تستدعه، تبتسم له وأحنت رأسها شاكرة له إعطائها مظلته الغالية. بقي متسمرا في مكانه وهي مستمرة في وقفتها تنتظر ذهابه! قال لها..

- ألن تطلبي مني الدخول؟

- آسفة.

- لكنك.. لكنك. ماذا أقول أيتها الجميلة؟

       شرحت له..

- ظننت أنني وقعت في غرامك أيها السيد الأنيق؟ اسمع..كنت أنتظر حبيبي الشاب الخجول. إنها أول زيارة له لنختلي به. وأنت جئت في ميقات حضوره تماما. فخشيت أن يراك حبيبي الخجول تقف على الباب، فينسحب وأحرم من لقاء أنا متشوقة إليه. أيرضيك أن يفشل لقاءنا الأول وأنا وهو متلهفان عليه؟! واضح إنك لن تبرح بابي طالما الأمطار تهطل وليس معك مظلة. فأتيت لك بمظلة حتى تبرح بابي ويأتيني حبيبي.

     عاد لبيته يتحسر يكاد يفقد ثقته في نفسه تماما. ثم توازن وأخذ يردد لنفسه..

- وماذا إذن؟ هي تعشق من قبل أن تراني. لذا لم تتبين وسامتي وأناقتي كما يجب. ولأنها جاهلة، لم تعرفني وأنا الأديب الأشهر في كل فرنسا. لم تعرف تلك الجاهلة أن من كان على بابها هو بلزاك.

 

كاتب من مصر