مقدمة
تجربة المفكر المصري نصر حامد ابو زيد في نقد التراث والنصوص، ومحاولاته التنويريه في تفكيك السلطة الي تستحوذ علي التراث الديني والنصوص الدينية، تجربة ثرية ومتعددة. فهناك محاولات منه ليس فقط للوقوف علي النص الديني، بل لديه رؤية حول تشريح المثقف والنخبة، والابداع والمخيال. ويلاحظ أن البعد النظري والمنهجي في افكاره تأثر بالمنهج الفيمنولوجي والتأويلي الهيرمنيوطيقي، وقد تصدي نصر حامد لتأويل الخطاب القرآني بأدوات لا تقطع الصلة بالتأويل المعتزلي والرمزي الصوفي، البرهاني الفلسفي، وقد اكد نصر حامد علي أنه يريد تأويل القرأن ليس باعتباره نصا ديينا بل باعتباره نصا. فيقول نصر: "وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص، لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن."[i] وذلك يعني أنه اهتم بتأويل ونقد التراث الديني وليس النص القرأني فقط.
وذطالب أبوزيد بالتحرر من سلطـة النصوص وأولهـا القرآن الكريم، الذي قال عنه: القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة.[ii]" وفي اشارات اخري لنصر حامد اوضح أن هذا النص مركزي، ولكنه ليس الوحيد الذي يسيطر، كما أن نصر يشير الي حالات مختلفة خلال العصور الاسلامية تم توظيف هذا النص في اتجاهات مختلفة. وقال أيضا: النص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه. ومثلت آراء نصر حامد تحديا للأزهر، وثار البعض ضده، وايضا مثلت دعوته نحو رؤيته المنفتحه ضد الفكر الديني الجامد تحديا أمام الشعور الشعبي العام المتمسك بالدين، فحتي لو كان هذا الشعور ضد الارهاب والتزمت الديني، إلا أن رؤية نصر تمثل صدمة لهم. ويحاول البحث الالتفات الي بعض ملامح سلطة النص الديني، التي ركز عليها نصر في مشروعه التنويري، وذلك من خلال عدة نقاط منها طبيعة النص نفسها، وعلاقته بالواقع والتفسيرات المتخلفة، ثم يختتم البحث بمحاولة بسيطة لقراءة نقدية متنوعة لافكار نصر حامد:
أولاً طبيعة النصوص والتراث
وفي هذا السياق شدّد نصر حامد على ضرورة الوعي بأنّ جميع النصوص بما في ذلك النصوص المقدّسة هي نصوص لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، بيد أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ إشكاليات القراءة تتمثل في اكتشاف الدلالات في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنص التراثي.[iii] وهنا يربط نصر حامد بين تأويل النص الديني والتراث فهناك جدلية بينهم. ويشير نصر إلي أن العلاقة بين الماضي والحاضر، علاقة جدلية وكذلك العلاقة بين التراث والباحث، لا يكفي ان يتبني الباحث في تراثه الاتجاهات التقدمية الخيرة، بل عليه أن يعي بنفس الدرجة، جدلية علاقته مع هذا التراث، وأن يتخلص من وهم النظرة الموضوعية[iv].
يشير نصر حامد إلي أن التراث ليس مشكلة نظرية فكرية وحسب، وانما هو ايضا مشكلة سياسية واجتماعية، وتبدو لذلك أهمية النقد وضرورته، نقد الثقافة التقليدية السائدة ونقد مفهوماتها، وخصوصا مفهوما للتراث وللماضي بشكل، والمنظور الذي يجب أن نري التراث من خلاله هو ذات المنظور الذي ننظر للواقع الراهن من خلاله. ونظرتنا الي التراث تتم في ضوء جدلية الصراع بين الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي كتلة واحدة.[v] إنّ النص القرآني في تقدير نصر حامد شأنه شأن أي نص آخر مكون من لغة مخصوصة تعبر عن المجتمع المشكل له، وبهذا المعنى فالنص القرآني "منتج ثقافي" أي أنّه تشكل في الواقع الجاهلي خلال عشرين سنة (تقبّل الرسول محمّد للوحي)، وفي ذلك تقويض للطرح التقليدي المهيمن على الفكر الإسلامي القائل بأنّ للنص وجودا ميتافيزيقيا غيبيا سابقا لوجوده في عالم الشهادة. وذلك يعني أن يكون القرآن الكريم وحيا إلهيا فإنّ ذلك لا ينفي عنه أنّه نص بشري بالنظر إلى أنّ الوحي قد تأنس عندما تجسّد في اللغة والتاريخ، مما يجعل "القرآن الكريم" محكوما بجدلية الثبات والتغيّر، فالنصوص ثابتة في المنطوق مُتحركة مُتغيّرة في الدلالات، فالقول بألوهية مصدر النص لا ينفي واقعية محتواه، ولا ينفي انتماءه إلى البشر، وعلاقته الجدلية مع الواقع[vi].
ثانيا سلطة التفسيرات
يشير نصر حامد إلي هناك تفسيرات جامدة للنصوص القرأنية فهناك التفسير بالمأثور، وهناك ما اطلق عليه التفسير بالرأي اوالتأويل، والنوع الاول من التفسير يهدف الي الوصول الي معني النص عن طرق تجميع الادلة التاريخية واللغوية التي تساعد علي فهم النص فهماً موضوعيا، ام التفسير بالتأويل ينظر علي أنه تفسير موضوعي، حيث يبدأ المفسر بموقفه الراهن محاولاً أن يجد في الرقان سندا لهذا النص، وويسيطر الاتجاه الاول علي التفسيرات الدينية[vii]. وتسيطر ثقافة التفسير بالمأثور علي التفسيرات وبناء المناهجيات التي تدبر الحياة، ويصبح النص ذو سلطة علي الواقع.
وتأتي رؤية نصر حامد متوافقة مع اتجاه الفيلسوف شيلرماخر الذي يري أن النص كلما تقدم في الزمن صار غامضاَ بالنسبة للوعي، وسرنا اقرب الي سوء الفهم لا الفهم، وعلي ذلك لابد من قيام علم او فن يعصمنا من سوء الفهم ويجعلنا اقرب الي الفهم. وهذه دعوة الي التجديد في التفسير حسب المتغيرات، ويؤكد شيلرماخر حول أن مهمة الدين هي مناهضة الاستبداد الذي يفرض فهمه للحقيقة، ويرسم طريقة الخاص للوصول اليها، ويحظر أي شكل للفهم لا يتطابق معها، ويذهب شلايامخر إلي أن اخطر ما يهدد الدين هو احتكار الفهم وانحصاره في فهم واحد، لأن أهم ما في الدين هو تعدديته في الفهم وكراهيته للاسبتداد، ذلك الذي يجدم كل ما لا يتفق معه يحجره، ظناً بأنه سيحافظ علي وجوده[viii].
ومن جانب أخر يشير نصر حامد إلي سيطرة التفسير الصوفي في النص الديني عند الفيلسوف الاسلامي أبو حامد الغزالي، فيشير إلي أن كل تصورات الغزالي للوجود والحياة ولغاية الدين وللنص ولوظيفته. وقد سبق الاشارة إلي أن مفهوم الغزالي للنص قد حوله إلي شفرة خاصة، لا يستطيع مقاربة فك رموزها الا الصوفي العارف المتحقق. ونتيجة لذلك لم يبق للانسان العادي، الا يقنع بالتلاوة وفهم المستوي الظاهر من دلالة النص، وهو المستوي النقلي و/ أو ما عرف بالتفسير بالمأثور. وهنا يعني وجود سلطة للنص علي القاريء العادي، وايضا القارئ الصوفي او القراءة الصوفية لديها سلطة علي الفاهم العادي، فعلي الصوفي العارف أن يزود هذا لاانسان العادي ببعض جواهر النص القليلة، لعله بالنظر اليها دون امتلاكها بالوعي والفهم والتأويل يلمح بعض بريقها[ix].
ومن جانب أخر اشار نصر حامد إلي أن الشافعي اخرج كتب علم الكلام من نطاق العلم الذي حصره في العلم بالكتاب والسنة، وان الشافعي تضاعف نفوره من النظام العباسي، ومن المأمون خاصة الذي تبني المذهب الاعتزالي وحاول أن يفرضه علي العلماء، ويجعله مذهبا للدولة وهكذا تتداخل العروبة بالقرشية وتتوحد كلتاهما بالمنحي الفكري المحافظ الذي يرفض العقلانية وينفر من التفكيرالمنطقي الاعتزالي[x].
ومن هذه القراءات المختلفة التي اشار اليه حامد والتي تضع سلطة علي النص، يأتي الخطاب الديني المعاص،ر الذي سعي إلي الغاء المسافة بين الذات والموضوع، ويتجاوز ذلك بادعاء ضمني بقدرته علي تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية والوصول الي القصد الالهي الكامن في هذه النصوص، وفي هذا الادعاء الخطير لا يدرك الخطاب الديني المعاصر أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة الحديث باسم الله[xi].
ثالثا النص والواقع:
يهيمن النص الديني علي سلوكيات الفرد واختياراته، وكانت هناك تفسيرات واتجاهات في تفسير القران دعت الي الي شمولية النص الديني، فقد حرص الشافعي علي منح النصوص الدينية صفة الشمولية بعد ان وسع مجالها فحول النص الثانوي الشارح الاصلي واضفي عليه نفس درجة المشروعية، ثم وسع مفهوم السنة بأن الحق به الاجماع كما ألحق به العادات، وقام بربط الاجتهاد بالقياس بكل ما سبق رباطا محكما، تعني تكبيل الانسان بالغاء فعاليته واهدار خبرته. فكانت هذه المواقف تدور في دائرة المحافظة علي المستقر والثابت.[xii] وهذه الرؤية تأتي في موقف ايديولوجي واضح، حيث يكون الانسان مغلولا دائما بمجموعة من الثوابت التي اذا فارقها حكم علي نفسه بالخروج من الانسانية، وهذه الرؤية مرتبة بمفهوم الحاكمية، الذي ينظر لعلاقة الله بالانسان والعالم من منظور علاقة السيد بالعبد الذي لا يتوقع منه سوي الاذعان، ورؤية الشافعي[xiii].
والتحليل النقدي للخطاب الديني وفقا لنصر حامد قائم علي اساس تفرقة واضحة بين الفكر الديني والدين، أي بين فهم النصوص وتأويلها وبين النصوص في ذاتها، وهذه التفرقة تسعي إلي فهم موضوعي للنصوص لا إلي الغاء النصوص، أنها تسعي إلي أن يحتل الدين مكانه الصحيح في الحياة والمجتمع، وفي سلوك الافراد وعاداتهم وأخلاقهم، وذلك بدلا من تحويله إلي مجرد وقود، وأداة للحراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهي تسعي من جهة أخري لنزع قناع القداسة عن فكر بشري وخطاب إنساني يسعي إلي قمعنا واستغلالنا والسيطرة علي عقولنا ومستقبلنا باسم الاسلام[xiv].
رابعا السلطة السياسية
نتيجة لسيطرة النص الديني علي الواقع، يظهر الي السطح السلطة السياسية الدينية التي تتولد عنها استبداد سياسي، ثم يؤدي ذلك الي استبداد اجتماعي ثم الي استبداد ثقافي، ما يعني الي شمولية الاستبداد انطلاقا من استبداد النص الديني، ويعطي نصر حامد مثالا علي ما قام به الشافعي من تأسيس النص الشارع الي نص شمل كل الحياة وسيطر علي الانسان وظهرت الاصوليات والاسلام السياسي، حيث يشير نصر حامد إلي ان أحد ابرز الاسباب الاساسية التي جعلت النص الديني يغمر الحياة يتمثل في العقل الفقهي الذي دشنه الامام الشافعي من خلال تأسيس سلطة للنصوص، تشمل نطاقاتها سائر مجالات الحياة الاجتماعية والمعرفية، بعدما قام الشافعي بتحويل النص الشارح الي الاصلي، واضفي عليه كما يقول ابو زيد درجة المشروعية نفسها، ثم وسع مفهوم السنة بأن الحق به الاجماع، كما الحق به العادات، وقام بربط الاجتهاد بكل ما سبق ربطا محكما، ما يعني في التحليل النهائي وفق ابو زيد تكبيل الانسان بالغاء فعاليته وإهدار خبرته، والسعي الي المحافظة علي المستقر والثابت، وتكريس الماضي بإضفاء طابع ديني أزلي علين وذلك افضي الي ظهور الجماعات السلفية التي تنخرط في ما يسمي بالاسلام الجهادي، الذي يوسم احيانا بالارهاب، لأنه يتوسل أدوات عنيفة تصدر عن تصورات لاهوتية تحث عي تطبيق الاسلام بحد السيف[xv].
ومن ملامح الخطاب الديني أنه يمارس سلطة عن طريق النص، واعتبار الاسلام الحقيقي هو اسلام القران والسنة واسلام الصحابة والتابعين، وهو الاسلام الذي يفصح عنه العلماء في خطابهم لأنهم وحدهم القادرون علي فهم الإسلام الصحيح، ومعني ذلك أن سلطة التأويل والتفسير لا ينبغي أن تتجاوز هذه الدائرة، وذلك يعني وجود كهنوت يمثل سلطة ومرجعا أخيرا في الدين والعقيدة، ويشير نصر حامد أن هناك تناقض في الخطاب الديني بين انكار وجود كهنوت او سلطة مقدسة في الاسلام علي المستوي النظري والإجرائي، وبين الإصرار علي ضرورة الاحتكام إلي هذه السلطة واخذ معني الدين والعقيدة عنها وحدها[xvi].
ونري ان السلطة السياسية قد تنحي النص الديني جانبا، في خلال فترة الغزو الصليبي وحملات التتار، سيطرة عناصر غير العربية علي حركة الواقع العربي الاسلامي، وهي العناصر العسكرية من السلاجقة والترك والديلم، وكانت هذه السيطرة العسكرية والاستناد الي القوة كفيلة بالقضاء علي حركة التفاعل الحية بين النصوص والواقع، وذلك حدث تأثيرا علي علاقة النص القرآني بالواقع وتفاعله معه. وقد تحولت موضوعات الفهم والتفسير والتأويل اليي أن تكون أشياء تستخدم للزينة وا لالتماس البركة، وتحول القرأن من نص الي مصحف[xvii].
سلطة النص والتكفير
يشير نصر حامد أن التكفير في الحقيقة يمثل أيضا إلي جانب الحاكمية والنص عنصرا اساسيا في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف علي السواء، غاية الامر أنه واضح معلن في خطاب المتطرفين، كامن خفي في خطاب المعتدلين. وإذا كان من المعروف أن تكفير المجتمع والحاكم، بل كل المجتمعات والحكام والانظمة علي وجه الارض، قد بدأ في عالمنا العربي المعاصر في كتابات سيد قطب استنادا إلي مفهوم الحاكمية فقد كان فكر قطب في جانب كبير منه، بمثابة رد علي ما عتبره الاخوان المسلمين انذاك انفراداً بالسلطة والحاكمية من جانب ضباط الثورة، فالتكفير ظل مبدأ محايثاً للخطاب الديني المعاصر يكمن حيناً ويظهر حيناً أخر، اعتماداً علي قرب المتحدثين به، أو بعدهم من جهاز السلطة[xviii].
سمات وملاح في ابعاد النقد في خطاب نصر حامد
لسنا هنا بصدد رؤية شاملة فاحصة لنقد خطاب نصر حامد ابو زيد، فمشروعه ضخم ومتنوع لدراسة ونقد النص الديني وسلطته والتراث، ولكن بصدد بعض التساؤلات الحيوية والملاحظات الايجابية التي استشفها الباحث خلال بعض القراءت الكشفية لنصر حامد، تجاه هذا الخطاب المتشبع، ونبدأ ببعض التساؤلات:
متطلبات الواقع: هل خطاب نصر حامد لديه نجاعه لمتطلبات الواقع المعاصر، وهل تغلب الجانب السياسي والرؤية العلمية للخطاب الديني المعاصر تلبي حاجة التنوير، فأين وعي الفرد العادي والنقد المباشر الذي ينفذ الي الحياة اليومية، واحتياجات المواطن العادي، فدائما في كلمات نصر حامد نجد تشريح ما هو سياسي في سلطة النصوص علي التراث وعلي النصوص الدينية، وهل يمكن وصف هذا الخطاب بأنه اصبح خطابا نخبويا بشكل كبير بعيدا عن فهم الجماهير الغفيرة، وبذلك يصبح حاله مثل حال الكثيريين من المفكرين التنويريين.
ومن ثم يأتي دور الفن والادب في الاقتراب من وعي المواطن العادي، ولكن الصلة بين الخطابات التنويرية وبين منتجي الفن والادب كيف نضمن انها تسير في مسارها السليم، فهناك انفصال بين هذه الخطابات التنويرية العلمانية وبين النخبة المثقفة والفنية والادبية، والدليل علي ذلك، واقع الانتاج الثقافي الردئ في وقتنا المعاصر، فهناك خطابات تنويرية بكثرة ولكنها لم تتواصل مع النخبة المنتجة للثقافة التي تتحاور مع وعي المواطن العادي، أو أن تقوم تفاعلية للواقع نفسه بدون وسيط.
الادوات المنهاجية: استعان نصر حامد بكثير من الادوات المنهاجية المتعلقة بالحفر في التراث، والمناهج التأويلية والهيرمنيوطيقية، والفيمنولوجية واللغوية والادبية في تفكيك النص الديني، ومناهجية الخطاب، في تشريح الخطاب الديني المعاصر، وهي مذاهب وأدوات غربية، نشأت في بيئة فلسفية غربية، قد لا تناسب التراث العربي والاسلامي، او يجب تبيئتها خاصه انها منهاجيات ونظريات لديها خصوصية في النشأة والاستيعاب والتطبيق، وعلي النقيض من ذلك كانت لنصر حامد دعوات من نصر حامد بعدم التأثر الحرفي بالغرب، وتأكيده ان ذلك يمثل أزمة بمعني الكلمة، لأن التأثر بما هو غربي آفة ثقافية تؤثر بشكل سلبي علي الوعي الفردي وعلي الثقافة بشكل عام، وقد التفت نصر ابو زيد الي ذلك ودعا الي الحوار الجدلي مع هو غربي، وليس التعامل والاكتفاء بالاستيراد والتبني[xix].
ويمكن الاشارة إلي أن المشروع الاجتماعي عند نصر أبو زيد أثّر سلباً على المشروع العلمي. فالتأويل المجازي - وإنْ كان يعتمد على تفعيل إنجازات اللسانيَّات الحديثة في دراسة النصّ الدّيني -يتعامل مع النص نفعيَّاً لإنجاز هذا التأويل. ويستهدف تحقيق مصلحة اجتماعيَّة ما خارج النص والحقيقة كلتيهما. التأويل يستعمل النصّ ليواجه السلطة دون الاهتمام بالحقيقة ووجودها، وبرغم تضمُّن التنظير المنهجي النصريّ للمعنَيين اللذين للعلميَّة: علميَّة التناول (القراءة) وعلميَّة المضمون (التأويل)، أنَّ العلميَّة الحقّة تستبعد أيَّ عنصر غير علمي في التنظير والتطبيق. ولمَّا كان للعلميَّة هذا المعنى المزدوج المتناقض في تنظير نصر المنهجي، فالمتوقع أيضاً أن يكون لها معنى منفصم في التطبيق، ممَّا ينفي عن نصر سمة العلميَّة في قراءة التراث في هذه المرحلة الفكريَّة من عمره على الأقل[xx].
كارزمية الخطاب الفكري
تميز الخطاب التنويري لنصر حامد بكارزمية، بعيدا عن القراءة النقدية لعمق ما كتبه، فلديه تأثير لغوي وفكري، علي القاريء، وكتاباته شديدة الصلة بالواقع خاصة البعد الديني، فهناك اشباح جذابة في الكتابة لديه تجعل القارئ والواقع ينغمسان معها حتي التفاعل الحر والانسجام السلس. فقد تناول كثير من الافكار بشكل متشبع وبانورامي، ولكن هل هذه السلالة والكارزمية تؤثر علي الناحية العلمية لتشريح افكار الدين، او تؤثر علي اقناع القارئ بافكاره دون اتخاذ مساحة منها ورؤية نقدية ما.
الرؤية الفوقية: اهتم نصر حامد بتشريح السلطات والاتجاهات التي غزت الخطاب الديني وتأثيره علي الواقع والتراث، مثل افكار الغزالي التي اكدت علي تغليب النصوص واستبعاد العقل، وايضا التأثير الاشعري والشافعي، وايضا التفسير الكلية للخطاب الديني، دون تشريح واقع المسلمين، ومدي استجابتهم لهذا الخطاب، وما هو الذي ادي تصويغ هذه الخطابات والافكار التي هيمنت علي النص الديني، واعطت له توجه واحد للتفسير، وايضا لم يتطرق للتأثيرات الثقافية الهامشية، وافعال المقاومة لهذه.
سيد قطب : ذكر كثيرا سيد قطب كمفكر له تأثير في الحاكمية ولم يذكر ما جدوي وجوده في هذا الخطاب فيعرف انه متاثر بالمثالية الالمانية وهي لا تتكيف مع الثقافة الاسلامية والعربية، وايضا بالعدمية السياسية وما ووصفه كثير من المفكرين العرب. فرغم تأثيرات سيد قطب في الواقع من ظهور عمليات ارهابية تعتقد في الفكر الجهادي والاسلام السياسي، الا أن الفاعلية الحقيقية لسيد قطب بأنه نموذجا للسيطرة علي الخطاب الديني، يجب ان نضعها في تساؤل لم يثره نصر حامد، فإلي أي مدي يكون سيد قطب مؤثراً في الخطاب الديني والواقع بشكل حقيقي؟ الا يكن هذا التأثير غير حقيقي وغير فعال الا في منطقته الخاصة وممارسته لسلطة ما لا تأتي من ذاتيته ولكن بتوظيفها من جهات مختلفة واطراف متعددة كتجاذبات اقليمية وعالمية، او توظيف محلي لهذا الفكر القطبي؟
ايديولوجية التاريخانية:
توغل نصر حامد في التاريخية لدراسة النص والتراث، ولم يركز علي الواقع المعاصر حتي لو بشكل خطاب متعالي، فكانت الرؤية تاريخية، وليست رؤية ثلاثية تجمع بين المستقبل والماضي والحاضر وهو ما أكده علي اهميتها مارتن هيدجر وذلك لاستيعاب الحاضر لابد من التاريخ، والتاريخ يحتاج الي الحاضر والمستقبل. وكانت رؤيته للواقع حول امثلة معتادة وليس عميقة، كما انه لم يربط هذه الازمان الثلاثة.
المتصل والمنقطع في السلطة:
أشار نصر في كتابه (مفهوم النص) الي دخول العناصر غير العربية في المناطق العربية، ودخولها في النسيج الاجتماعي ونظم الحكم والبعد العسكري والسلطوي، وايضا خلال هذه الفترة كانت هناك مخاطر صلبية والتتار، علي الامة العربية والاسلامية، ولذا تحول المصف والديني الي زينة، فكان تأثير النص الديني علي الواقع بعيدا، حيث العسكرة وحماية الامة من المخاطر كانت الاولوية الكبري ضد هذه الهجمات، ولذا يجب دراسة الانقطاع والاتصال في تأثير النص القراني علي الواقع والثقافة وحيث تصنع هناك تشابكات وتراكمات لهذه المراحل، فالانقطاعات والاتصالات لديها تراكمات في تأثير هذا النص الديني علي الواقع، وذلك بدراسة التاريخ السياسي الاسلامي والثقافة الاسلامية، ومعرفة علاقة النص بالمجتمع والواقع والناس وكل شئ، وذلك للوصول الي التأثير المعاصر لهذا التراكم المتتالي للنص، وفهم تشابكاته، فهل الانقطاع لا يؤثر في مرحلة حصل فيها تأثير للنص، وهل تتشابه مراحل الانقطاع مع بعضها ومراحل الانقطاع وملامحها مع مراحل الاتصال وملامحها .
مرايا ايجابية
يمكن النظر إلي أنه تجربة نصر حامد ابو زيد يتخللها جانب جمالي، فاتباعه المنهج الفيمنولوجي ، وسيطرة النظرية الادبية في تفسيراته تؤكد جماليات فكره، لذا النظرية الاستطيقيا المعاصرة سيطرت علي مفردات خطابه التنويري، لذا تذوق افكاره وهضمه يجب ان يكون من منحي جمالي تخيلي، فالمتخيل الذي يسيطر علي افكاره التنويري، اشبه بمحاولة تنويرية اثيرة تذكرنا بمحاولات التنويرية في في حداثة اوروبا.. فنقده للشافعية واثبات علاقات ايدولوجية بين دوافع الشافعي نحو اثبات الوضع القرشي في تفسيره للنصوص، هو تداخل الثقافي المرتبط بالتفسير مع الايدلوجي السياسي، وهنا تأتي الربط التخيلي، الذي اشار اليه تيري ايجلتون، ان الثقافي في بعض الاحيانه يتم عبر مراخل تخيلية ان يساعد في تمظهر الوجود السياسي وتبلور ملامحه.
سلالة الاسلوب:
وعلي جانب أخر نلاحظ ان الاسلوب الذي اتبعه نصر حامد جاء نسبيا سهلا، ولغويا جميلا يشد القاريء، وهو ما يناسب القاريء العادي رغم التخصص، ولكن قد لا يكون اهتمام من القراء العاديين، ولكن جاءت الافكار واضحة وسلسلة، ورغم المصطلحات العلمية والفكرية الرصينة، والجدليات الفكرية. وقد استطاع نصر حامد مناقشة موضوعا رغم نخبويته الا أنه موضوعا خطيراً للغاية، يتعلق بسلطة النص الديني، والذي انتج عنه كثير من الخراب علي البلاد العربية، وسيطرة تأويل واحد علي الواقع والحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
الانفتاح والتعدد:
معظم كتابات نصر حامد وافكاره تأتي في اطار التحاور والانفتاح، فهو يريد للنص القرآني ان ينفتح علي الواقع واحتياجاته، فنهاك اشارة دائماة لخبرة تأويلية متعددة للنص لا تنغلق، ولا تكون هناك قدسية . وينتقد نصر حامد بشكل دائم التحول الذي طال الخطاب الديني حيث تحول من فكر حرّ إلى فكر منغلق يرفض الانفتاح على الواقع ويسعى دائما إلى كبح جماح العقل البشري من جهة، ولم يتوقف نصر حامد علي نقده للخطاب الديني بل اهتم بفهم بمحاولات مفكّرين معاصرين أمثال أدونيس وحسن حنفي ومواقف تيارات فكرية مثال اليسار الإسلامي محاولا من خلال تلك الأمثلة الوقوف على مسلمات القراءات المعاصرة التي سعت الي تفكيك الخطاب الديني محدّدا أسباب فشلها[xxi].
سلطوية النص:
كانت لنصر حامد افكار كثيرة حول وجود سلطة داخل النص نفسه تكونت من الياته الدخلية ومن نشأته، فمثلا هناك تفسيرات ومنها تفسير الباقلاني بأن النص القرأني يتمازيز عن أن نص اخر، ولا يمكن مقارنة بلاغته بقدرة الشعر العربي علي التعبير او النصوص الاخري، وان الدال والمدلول بداخله، فهو لم ينزل كمعجزة امام الشعر، فهو معجزة في ذاته، وايضا تفسيرات الغزالي بأن الظاهر في القران هو التفسيرات والقراءت والجانب الاصطلاحي وكل ذلك يعني الظاهر في القرأن ولكن الباطن معني اخر يتجدد لا يمكن الاحاطة به.
اشار نصر حامد إلي أن العرب تصوروا امكانية الاتصال بين البشر والجن، لكن البشر القادرين علي الاتصال بالجن لا بد ان يتمتعوا بصفات خاصة تؤهلهم للتواصل مع هذه المرتبة الوجودية المختلفة. ويقول حامد بناءا علي ذلك ان ارتباط ظاهرتي الشعر والكهانة بالجن في العقل العربي، هو الاساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها، وذلك ساعد في استيعاب العقل فكرة الوحي، والتي لا تعتبر ظاهرة مفارقة للواقع فهي جزء من التكوني العقلي للعرب، ولكن حدث احالة تغير لوجود للجن في النص القرأني، أن صار الجن في النص جنا مؤمنا مسلما يدين سلوكه السابق،، وايضا وصف الجن بأ،ه وسواس خناس، وذلك يعني ان النص الذي ثمل الواقع الذي ينتمي اليه يعيد تشكيل هذا الواقع من خلال الياته اللغوية الخاصة[xxii]. وذلك يعني ان نصر اشار الي سلطة ذاتية في النص، فطبيعة النص انها سلطوية تحول ما يصب في مصلحتها، وذلك يعني أن هناك ايديولوجية خاصة بالنص بعيدا عن سلطة النص في الواقع المتغير، ولكن في نشأته كون سلطته الخاصة وأيضا يشير نصر حامد إلي مفهوم النص وحد بين دلالته اللغوية وبين ذات المتكل، حيث تم ربط تعدد مستويات الدلالة بالأصل الالهي والوجود الازلي للنص أدي الي استغلاق معني النص نتيجة استحالة النفاذ إلي مستويات معانيه في نهاية الأمر. وذلك تحول النص من الدلالة اللغوية الي الدلالة السيموطيقية يوصف النص بأنها ايقونة[xxiii].
نقد الايديولوجية:
حذر نصر حامد من خطر التشويش الايديولوجي في تناول النصوص الدينية والتراث، ومنع الوعي من الانزلاق إلي مهاوي التحليلات الايديولوجية، وذلك يجافي الحق المجرد، وكان دائما ما يشير نصر حامد الي التأثير الايدولوجي في سلطة النص، وكان كتابه المعنون بتأسيس الايديولوجية الوسطية للشافعي، حيث انحاز الشافعي الي فئة معينة وهي القرشية في تناوله للنص، وانحاز لسلطة النص بشكل ايديولوجية، فكانت الايديولوجية محور نصر حامد في تفكيك النص، حيث دائما ما يتم توظيف القرأن ايديولوجيا.
المصادر والمراجع
- عبد الوهاب عجروم، مشروعية التأويل عند نصر حامد أبو زيد (2-2)، مارس 2017، موقع اضاءات الفكري
- حسام خليل، نصر حامد أبوزيد ..معركة العقل بين التنوير والردة، صحيفة الحياة نيوز، يوليو 2017.
- حامد نصر ابو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، 2005.
- محمد أدريس، قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري (1943 ـ 2010)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
- فريديريك شلايرماخر، عن الدين : خطابات لمحتقريه من المثقفين، ترجمة: أسامة الشحماني، دار التنوير، بيروت، 2017.
- نصر حامد ابو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القران، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2014.
- نصر حامد ابو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، القاهرة، سينا للنشر، 1992.
- نصر حامد ابو زيد، نقد الخطاب الديني،سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1994.
**الكاتب محمد الغريب: باحث في فلسفة وجماليات السينما، وكتب في عدة دوريات ومواقع سينمائية ,وثقافية وادبية.
[i] عبد الوهاب عجروم، مشروعية التأويل عند نصر حامد أبو زيد (2-2)، مارس 2017، موقع اضاءات الفكري.
[ii] حسام خليل، نصر حامد أبوزيد ..معركة العقل بين التنوير والردة، صحيفة الحياة نيوز، يوليو 2017.
[iii] حامد نصر ابو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ، 2005، ص6.
[iv] اشكاليات القراءة واليات التأويل، المصدر السابق، ص228.
[v] السابق نفسه، ص235.
[vi] محمد أدريس، قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري (1943 ـ 2010)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
[vii] نفس المرجع. ص16.
[viii] فريديريك شلايرماخر، عن الدين : خطابات لمحتقريه من المثقفين، ترجمة: أسامة الشحماني، دار التنوير، بيروت، 2017، ص11.
[ix] نصر حامد ابو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القران، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2014، ص10.
[x] نصر حامد ابو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، القاهرة، سينا للنشر، 1992، ص18.
[xi]نصر حامد ابو زيد، نقد الخطاب الديني،سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1994، ص78.
[xii] تأسيس الايديولوجية الوسيطة، مصدر سبق ذكره، ص111.
[xiii] السابق نفسه ، ص103.
[xiv] نقد الخطاب الديني، مصدر سبق ذكره ص31.
[xv] مفهوم النص : دراسة في علوم القرآن، مصدر سبق ذكره، ص د.
[xvi] نقد الخطاب الديني،مصدر سبق ذكره، ص82.
[xvii] مفهوم النص، مصدر سبق ذكره ص12.
[xviii] نقد الخطاب الديني، مصدر سبق ذكره، ص72.
اشكاليات القراءة واليات التأويل، مصدر سبق ذكره، ص14[xix]
[xx] كريم الصياد، منهج الحفر الايديولوجي عند نصر حامد ابي زيد، مؤسسة مؤمنون بلا حدود. ص12.
[xxi] محمد أدريس، قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري ، مصدر سبق ذكره.
[xxii] مفهوم النص، مصدر سبق ذكره ص35.
[xxiii] نصر حامد ابو زيد، مفهوم النص، ص44.